منتديات الأستاذ التعليمية التربوية المغربية : فريق واحد لتعليم رائد

انحنــــــــــــــــــــــــاء

مدخل البيت الذي أتخذه مسكنا ..و مطبخا.. و مكتبا ..و حماما.. و قاعة استقبال و إيواء ..هنا بمقر عملي بين فجاج سفوح جبال الريف يتميز" بخذه " الواطئ و هيكله المنحدر ،الأمر الذي يرغمني دوما على الانحناء تفاديا لصدمه مؤذية بجبهتي العريضة أو أعلى رأسي الأصلع ... باب منزل زميلتي " حنان " هو الآخر شديد الانخفاض ... معدل علو الأبواب هنا بالدوار لا يتجاوز المتر و النصف.. هي مسألة اقتصاد ربما .. أو قصر قامات.. أو سوء هندسة و تقدير ...
أكاد أنحني بل أكاد أنطوي على اثنين في اليوم أزيد من عشر مرات و أحيانا لاتنين وعشرين مرة عندما تصاب " حنان " بوعكة صحية طارئة ..أو عندما يصاب لاقط جهازها الفارز بخلل ... اكتسحني فعل الانحناء لدرجة بت معها أنام منحنيا.. و آكل منحنيا ..و أحلم منحنيا .. و أقف من سجودي و ركوعي منحنيا ...
باب قسمي يقارب علوه المترين و بالرغم من ذلك أدلفه بمقدمة رأس متقدمة و مؤخرة متأخرة وتوحيمة فحمية شحمية مترهلة ... باب مـنزل الـعائلة بـمدينـتي الأم اكـتشفت لون فسيفساء أرضيته بعد عشرين سنة من النوم بين جدرانـه و تـأمـل سـقـوفـه و شرفاته ومصابيحه ...
لقد ألزمني إشراط الانحناء باكتشاف عالم سفلي حافل بمخلوقات و كائنات تأبى أن تنحني ... و منحني هذا السلوك فرصة قياس طول قدم شيـخ الـدوار العجيبة.. و رصد عادة المدير السيئة في نفت بصاقه ومخاطه على أرضية ساحة المؤسسة ..و عادة رفيقة عملي السيئة في نتف زغب ذقنها و شواربها و نثر أظافرها المقلمة أسفل مكتب فصلي ...هنا حيث أجلس الآن عادا ألوان طلاءات أظافرها محاولا التخلص من هذا الإشراط السلوكي المقيت الذي سكن قامتي ...
طرقات خفيفة على باب الفصل وصل صداها الضعيف لسمع المعلم ..اندفع فاتحا إياه ليطالعه " المكي " رفقة أبيه حاملين فوق كتفيهما رأسين مائلين ... مد يده ليعدل من وقفتهما المنكسرة و استفسرهما مستغربا : ما الخطب؟ رد الوالد هامسا : جئت لأستعطفك كي تمنحني ابني طيلة هذا الأسبوع . فكما تعلم فلقد تزامن موسم جني الزيتون مع موسم الحرث ... و صحتي كما ترى على قد الحال ... و ما كاينش اللي يعاوني ... وراك عارف اللي تما ... " أجاب الجيلالي متأنيا :
- سيدي ... إنك لا تعرف خطورة تصرفك على وضع ابنك المستقبلي و على وضع أسرتك الاجتماعي المائل ككل ... أرجوك دع ابنك و شأنه و تدبر أجيرا أو بديلا لمسألة الجني و الحرث ...
جحظت عينا الأب ورفع خده في السماء متحديا : أسمع السي الجيلالي ...هو ابني أحببت أم كرهت ... و سيرافقني للحرث رغما عنك ... و عن المدير ،..و عن الوزير ... الفهامة كلشي كيعرفها ... و الزيتون حتى واحد مكيصدقو علي ...
وجد الجيلالي نفسه مرغما على الإمساك برأسي المكي ووالده و إعادتهما إلى وضعهما المنكسر السابق ... انتشل المكي من أمامه و صفق الباب في وجه الأب صفقة قوية اعتقدها المسكين صفعة أفاقته من طمعه و تواكله و نواياه المبيتة الخبيثة ... تساءل الجيلالي منزعجا :
- لماذا تظل رؤوسهم على الدوام مطأطأة أمام رجال الدرك ..و موظفي الإدارات ..و ممرضي المستشفيات ..و كل رجالات السلطة و المخزن.. ويصل الأمر للمؤسسة ليبرزوا أنيابهم و يقللوا من تأدبهم و احترامهم ؟؟
تساءل من جديد:لعلني من يجب أن يعلمه رفع رأسه ... و نصب هامته.. و قامته.. و أنفه ... ولعلني من يجب ألا يكثرت بصراخه ..و زعيقه..واحتجاجه.. و تمرده .. هذا دوري أنا معلم أبناء هذا الوطن.. و رجال هذا الوطن ... وهذه مسؤوليتي و علي تحمل تبعاتها ...
عاد ليفتح باب الفصل من جديد.. أعاد رفع رأس الأب.. سلمه ابنه مبتسما ..قبله من جبينه.. أمسكه بقوة من كتفيه و خاطبه بحماسة ملتهبة : خذ كل تلاميذ الفصل لو أحببت .. فقط دع رأسك على الدوام منتصبا ...