جدل الصيام الموحد بين مختلف الأقطار حين رؤية الهلال في أي من البلدان الإسلامية هذه المسألة فيها خلاف بين أهل العلم على عدة أقوال ، وهي المسألة التي يُعبر عنها أهل العلم بعبارة : هل اختلاف مطالع القمر معتبرة أم أنه لا عبرة باختلاف المطالع ؟: 1- من أهل العلم من يقول : إنه إذا ثبتت رؤية الهلال في بلد إسلامي وجب على جميع المسلمين في جميع أقطار الأرض الصيام ، ولا عبرة باختلاف المطالع أو اتفاقها ؛ و معنى اتفاق المطالع : أنه إذا خرج القمر في بلد يُعلم أنه قد خرج في البلد التي توافقها في مطلع القمر ، ومطالع القمر تتحد و تختلف باتفاق علماء الفلك ، ولا خلاف في هذا بين علماء الفقه ، وإنما الخلاف هل تُعتبر أو لا تعتبر. و هذا القول هو مذهب الجمهور ، فهو قول المالكية ، وبعض الشافعية ، وقول الليث بن سعد ، و أبي حنيفة ، وأحمد كما في "طرح التثريب"، وأحد القولين لشيخ الإسلام ابن تيمية كما في (مجموعة الفتاوى 25/63-64) ، وقال به من المعاصرين العلامة الألباني ، و استدلوا بدليل وتعليل : أما الدليل : الحديث الذي رواه الترمذي وغيره عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (( الصَّوْمُ يَوْمَ تَصُومُونَ وَالْفِطْرُ يَوْمَ تُفْطِرُونَ وَالْأَضْحَى يَوْمَ تُضَحُّونَ)). قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ . و عند البيهقي بلفظ : (صومكم يوم تصومون وأضحاكم يوم تضحون). و كلاهما صححه المُحَدّث الألباني-رحمه الله تعالى- . و أما التعليل : قالوا : إن صوم المسلمين جميعا في مشارق الأرض ومغاربها فيه توحد المسلمين واجتماع كلمتهم ، فصومهم واحد ، و فطرهم واحد. 2- أن الناس تبع لإمامهم ، فكل من له ولاية على أرض فإنه يجب على كل من تحت و لايته أن يكون صومهم واحدا ، و فطرهم واحدا من أجل ألا تتفرق الأمة ، وحتى لا يحصل النزاع و الشقاق و التفرق. و هذا قال به : ابن الماجِشون من المالكية كما في : (بداية المجتهد). 3- أنه لكل رؤيته ، و هذا هو مذهب القاسم بن محمد ، وسالم بن عبد الله ، وإسحاق بن راهويه. واستدلوا بحديث ابن عباس في صحيح مسلم الآتي ذكره - إن شاء الله تعالى - . 4- إذا اتفقت مطالع القمر وجب الصوم على كل قوم اتفقت مطالعهم ، سواء كانت الولاية واحدة ، أو ليست بواحدة . و استدل أصحاب هذا القول بالكتاب و السنة والقياس والواقع. فاستدلوا بقوله تعالى : { فمن شهد منكم الشهر فليصمه }. (شهد منكم) : أي : من كان حاضراً. قال العلامة الإمام ابن القيم في كتابه البديع : (بدائع الفوائد) : (شهد في لسانهم لها معان: أحدها: الحضور ، ومنه قوله تعالى: { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } ، وفيه قولان: أحدهما: من شهد المصر في الشهر. والثاني: من شهد الشهر في المصر ؛ وهما متلازمان. والثاني : الخبر ؛ ومنه: "شهد عندي رجال مرضيون ، وأرضاهم عندي عمر ، أن رسول الله نهى عن الصلاة بعد العصر ، وبعد الصبح". والثالث: الإطلاع على الشيء ، ومنه: {والله على كل شيء شهيد})اهـ. إذاً استدلوا بقوله تعالى : { فمن شهد منكم الشهر فليصمه }. هذا منطوق الآية ، و المفهوم أن من لم يشهد فلا صيام عليه ، ومثلهم من كان في حكمهم ، و يكون في حكمهم إذا اتحدت المطالع مطالع القمر ، بحيث إذا خرج في بلد عُلم أنه قد خرج في البلد التي توافقها في المطلع. و من لم يكن في حكمهم ، و هو الذي اختلف مطلعه معهم ، هذا لم ير الهلال لا حقيقة ولا حكما ، فلا يدخل في عموم الآية. و استدلوا بالسنة : بحديث الباب : ( إذا رأيتموه فصوموا) . و بالحديث الذي رواه مسلم عن كريب أنَّ أُمَّ الْفَضْلِ بِنْتَ الْحَارِثِ بَعَثَتْهُ إِلَى مُعَاوِيَةَ بِالشَّامِ ، قَالَ: فَقَدِمْتُ الشَّامَ فَقَضَيْتُ حَاجَتَهَا ، وَاسْتُهِلَّ عَلَىَّ رَمَضَانُ وَأَنَا بِالشَّامِ ، فَرَأَيْتُ الْهِلاَلَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ ، ثُمَّ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فِى آخِرِ الشَّهْرِ ، فَسَأَلَنِى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - ثُمَّ ذَكَرَ الْهِلاَلَ ، فَقَالَ : مَتَى رَأَيْتُمُ الْهِلاَلَ ؟ فَقُلْتُ : رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ. فَقَالَ : أَنْتَ رَأَيْتَهُ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ ، وَرَآهُ النَّاسُ وَصَامُوا وَصَامَ مُعَاوِيَةُ. فَقَالَ : لَكِنَّا رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ السَّبْتِ ، فَلاَ نَزَالُ نَصُومُ حَتَّى نُكْمِلَ ثَلاَثِينَ ، أَوْ نَرَاهُ. فَقُلْتُ : أَوَلاَ تَكْتَفِى بِرُؤْيَةِ مُعَاوِيَةَ وَصِيَامِهِ؟ فَقَالَ : لاَ هَكَذَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. فهذا فهم حبرُ الأمة وترجمان القرآن ابن عباس - رضي الله عنهما- و هو من هو في علمه وجلالة قدره. و أما القياس: فقاسوا الشهر على اليوم ، قالوا: الْهِلَالُ يَجْرِي مَجْرَى طُلُوعِ الشَّمْسِ وَغُرُوبِهَا ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ لِكُلِّ بَلَدٍ حُكْمَ نَفْسِهِ ، في مواقيت صلواتهم ، وفي إمساكهم في نهار رمضان في كل يوم ، و في إفطارهم ، و كذا الهلال ، فكما أننا لا نلزم الناس أن يفطروا في بلد على غروب شمس غيرهم ، مع أن شمسهم لم تغب بعد ، فكذا هنا ؛ و لا فرق بين التوقيت الشهري والتوقيت اليومي و هذا هو القول الراجح ، وهو قول الشافعي - رحمه الله تعالى - و قول أكثر الشافعية ، وهو أحد القولين لشيخ الإسلام ابن تيمية ، نقله عنه صاحب الفروع ، قال ابن مفلح-رحمه الله تعالى - : (وَقَالَ شَيْخُنَا : تَخْتَلِفُ الْمَطَالِعُ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِهَذَا ، قَالَ : فَإِنْ اتَّفَقَتْ لَزِمَ الصَّوْمُ وَإِلَّا فَلَا ، وِفَاقًا لِلْأَصَحِّ لِلشَّافِعِيَّةِ )اهـ. و هذا هو ترجيح العلامة العثيمين في البلوغ. وأما حديث :(صومكم يوم تصومون) فإنه إنما يراد به أهل البلد الواحد لئلا يختلفوا واختلافهم يؤدي إلى اختلاف قلوبهم فيكون بعضهم صائم وبعضهم مفطر . وهذه المسألة مسألة اجتهاد - فإذا قال الحاكم فيها بأي قول وجب على أهل ذلك البلد أن يعملوا بحكمه . و هي كسائر مسائل الاجتهاد في مسائل الفروع المختلف فيها ، فاختلاف الناس فيها ، وكون هذه البلد تصوم قبل هذه أو تلك فهذا لا يجوز أن يُجعل محلا للولاء والبراء ، و لا أن يكون سببا لاختلاف المسلمين وانشقاقهم، وجعل البعض هذه المسألة مقصودة للشارع خطأ ، فليست هي مقصودة للشارع بذاتها ، و إنما مقصود الشارع توحد الناس في أصول الدين ، و في فروعه مما جاء فيه النص ، أما الخلاف السائغ الجائز فليس من مقصود الشارع ، و كثير من الناس يهتم بمسألتنا هذه أكثر مما يهتم بالتوحيد! وسائر أصول الدين! و أنقل للقارئ هنا كلاما غاية في الفقه و الفهم و المعرفة للعلامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ من (فتاويه) ، يرد فيه على خطاب جاءه من بعض الجهات : ((أفيدكم أن هذه مسألة فروعية ، والحق فيها معروف كالشمس . والفصل في ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم- : (صوموا لرويته وأفطروا لرويته ، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين). الخلاف في تطبيق مدلول هذا الحديث وغيره بتأويل ـ اجتهاداً أو تقليداً ـ مثل نظائره في المسائل الفروعية ، وجنس هذا الاختلاف لابد منه في المسائل الفروعية ، ولا يضر . إنما الهام هو النظر في الأصول العظام التي الإخلال بها هادم للدين من أساسه ، وذلك : مسائل توحيد الله تعالى بإثبات ما أثبت لنفسه في كتابه وأثبته له رسوله -صلى الله عليه وسلم- من الأسماء والصفات : إثباتاً بلا تمثيل وتنزيهاً بلا تعطيل . وكذلك توحيد الألوهية ، وتوحيد الربوبية . وكذا توحيد الاتباع ، والحكم بين الناس عند النزاع : بأن لا يحاكم إلا إلى الكتاب والسنة ، ولا يحكم إلا بهما ؛ وهذا هو مضمون الشهادتين اللتين هما أساس الملة : شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، بأن لا يعبد إلا الله ، ولا يعبد إلا بما شرعه رسوله -صلى الله عليه وسلم- ، وأن لا يحكم عند النزاع إلا ما جاء به رسوله -صلى الله عليه وسلم- . هذا هو الحقيق بأن يهتم به وتعقد المجالس والمجتمعات لتحقيقه وتطبيقه . لذا لا أرى و لا أوافق على هذا المجتمع الذي هو بخصوص النظر فيما يتعلق بأهلة الصوم والفطر ونحوهما . وقد درجت القرون السابقة وجنس الخلاف في ذلك موجود ولم يروه من الضار ، ولا مما يحوج إلى الاجتماع للنظر فيه . والسلام عليكم))اهـ. فلله دره ما أفقهه - رحمه الله تعالى - . والحمد لله رب العالمين. |
الساعة الآن 00:12 |
جميع المواد المنشورة بالموقع تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع ولا يتحمل أي مسؤولية عنها
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd