2012-01-21, 23:12
|
رقم المشاركة : 12 |
إحصائية
العضو | | | رد: أنواع الصفات الإلهية عند السلف و الخلف | الصفة السابعة عشرة: صفة الساق لله تعالى على ما يليق به: ورد ذكر صفة الساق في القرآن الكريم في موضع واحد في قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ}598. والملاحظ ورود هذه الصفة مُنكّرة دون أن تضاف إلى الله بخلاف الصفات الأخرى، التي جاءت مضافة إلى الله ومختصة به، ذلك الاختصاص الذي يزيل الإشكال، أو دعوى المشاركة بين الخالق والمخلوق في حقائق الصفات. وهذا التنكير هو الذي جعل الصحابة والتابعين يختلفون في المراد (بالساق)، هل الساق صفة من صفات الله كالوجه واليد والقدم؟ أو للساق معنىً آخر. روي عن ابن عباس قوله: إن الله يكشف عن قدرته التي تظهر بها الشدة. وأسند البيهقي الأثر المذكور عن ابن عباس بسندين كلاهما حسن599 اهـ. وجاء عن أبي موسى الأشعري في تفسير الساق "عن نور عظيم". وقال ابن فورك: معناه ما يتجدد للمؤمنين من العفو والألطاف. ويروى عن المهلب: كشف الساق للمؤمنين رحمة ولغيرهم نقمة600. وذكر ابن القيم اختلاف الصحابة في المراد بالساق، ويرى أنه ليس في ظاهر الآية ما يدل على أنه صفة لله تعالى، لأنه سبحانه وتعالى لم يضف الساق إلى نفسه بل ذكره مجرداً ومُنكّراً كما تقدم601. ويرى ابن القيم أن الذين يثبتونه صفة لله، إنما يثبتونه بدليل خارجي، وهو حديث أبي سعيد الخدري المتفق على صحته، وهو من أحاديث الشفاعة ويميل ابن القيم إلى أن الساق صفة من صفات الله مثل الوجه واليد وغيرهما، وتنكيره للتعظيم والتفخيم. ويرى ابن القيم أن حمل الآية على الشدة لا يصح ويعلل ذلك لأن في لغة العرب إنما يقال كُشِفَتْ الشدة عن القوم، ولا يقال كشفت عن الشدة، مثل قوله تعالى: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ}، فالعذاب هو المكشوف في الآية وليس هو المكشوف عنه. ويرى ابن القيم أن سياق الآية يوم يكشف عن ساق لا يدل على ما قيل إن معنى الساق الشدة. فلذلك يرى أن تُفسّر الآية بحديث أبي سعيد الخدري الذي أشرنا إليه، فيصبح معنى الآية - في ضوء الحديث المذكور: "يوم يكشف الله لعباده عن ساقه فيدعون إلى السجود فيسجد المؤمنون الذي يسجدون لله مخلصين له الدين، أما المنافقون المراءون الذين كانوا يسجدون رياء وسمعة فلا يستطيعون السجود، إذ تصبح ظهورهم طبقاً واحداً فلا يستطيعون الهبوط للسجود". وفي حديث أبي سعيد الخدري جاء قوله عليه الصلاة والسلام: "فيقال لهم: ما يحبسكم وقد ذهب الناس؟ فيقولون: فارقناهم ونحن أحوج منا إليهم اليوم، وإنا سمعنا منادياً ينادي: ليلحق كل قوم بما كانوا يعبدون وإنما ننتظر ربنا. قال: فيأتيهم الجبار على غير الصورة602 التي رأوه فيها أول مرة فيقول: أنا ربكم فيقولون: أنت ربنا. فلا يكلمه إلا الأنبياء فيقول: هل بينكم وبينه آية تعرفونه بها؟ فيقولون: (الساق) فيكشف عن ساقه، فيسجد له كل مؤمن، ويبقى من كان يسجد لله رياء وسمعة فيذهب كيما يسجد فيعود ظهره طبقاً واحداً ثم يؤتى بالجسر فيجعل بين ظهراني جهنم"الحديث. فانطلاقاً من هذا الحديث الصحيح الذي يثبت لله ساقاً نرى أن الآية من آيات الصفات المفسرة بالسنة لأن الآية جاءت محتملة المعنى حيث جاء الساق مجرداً عن الإضافة المخصصة فجاءت السنة مبينة بأن المراد بالساق هو ساق الرحمن. فنسلك في إثبات الساق مسلك السلف الصالح الذي سلكناه من قبل، وهو إثبات بلا تمثيل ولا تشبيه، وتنـزيه بلا تعطيل. فالكلام في صفة الساق كالكلام في صفة اليد والوجه مثلاً. فكما أن اليد والوجه والقَدَمَ والبصر والعين صفات تليق به تعالى، وليست جوارح وأعضاء وأبعاضاً وأجزاء كصفاتنا بل هي صفات خبرية ثابتة ينتهي علمنا فيها عند المعنى العام دون تكلف لمعرفة كيفيتها، فكذلك الساق صفة لله ثابتة ثيوت تلك الصفات، وعلى غرارها إذ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}، ولأن الكلام في الصفات الخبرية كالكلام في الصفات الذاتية يحتذي حذوه. وأما الخلاف والنزاع الذي جرى بين الصحابة والتابعين فينبغي أن نعتبره منتهياً بعد ثبوت حديث أبي سعيد الخدري الذي نعده تفسيراً للآية المجملة، ثم نعده فيصلاً في هذه القضية. هذه هي طريقة أهل العلم قديماً وحديثاً، إذ لا يلتفتون إلى أقوال أهل العلم الاجتهادية وآرائهم بعد ثبوت السنة، ولا سيما إذا كانت السنة قد جاءت مفسرة أو مفصلة لما أجمل في القرآن وهذا ما نحن بصدده. وبالله التوفيق. الصفة الثامنة عشرة: صفة العين لله تعالى على ما يليق به سبحانه العين صفة لله تعالى بلا كيف، وهي من الصفات الخبرية الذاتية الثابتة بالكتاب والسنة، وقد جاء ذكر العين في القرآن الكريم على حالتين: 1- ذكرت العين مضافة إلى ضمير المفرد. مثل قوله تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي}603. 2- ذكرت العين بصيغة الجمع، مضافة إلى ضمير الجمع مثله قوله تعالى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا}604. وذكر العين مفردة لا يدل على أنها عين واحدة فقط، لأن المفرد المضاف يراد به أكثر من واحد. مثل قوله تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا}605، فالمراد نعم الله المتنوعة التي لا تدخل تحت الحصر والعدّ. وقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ}606، فالمراد بها جميع ليالي رمضان. ولو قال قائل: نظرت بعيني أو وضعت المنظار على عيني. لا يكاد يخطر ببال أحد ممن سمع هذا الكلام أن هذا القائل ليست له إلا عين واحدة. هذا ما لا يخطر ببال أحد أبداً607. قال الإمام ابن القيم: إذا أضيفت العين إلى اسم الجمع ظاهراً أو مضمراً فالأحسن جمعها مشاكلة للفظ، كقوله تعالى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا}608، و{فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا}609، وهذا نظير المشاكلة في لفظ اليد المضافة إلى المفرد كقوله تعالى: {بِيَدِكَ الْخَيْرُ}610، و{بِيَدِهِ الْمُلْكُ}611. وإن أضيفت إلى جمع جمعت كقوله تعالى: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا}612، وقد تقدم هذا البحث في صفة اليد مستوفى. وقد ذكرت العين في السنة في قصة المسيح الدجال في حديث عبد الله بن عمر الذي يقول فيه رسول الله عليه الصلاة والسلام: "إن الله لا يخفى عليكم، إن الله ليس بأعور، وأشار بيده إلى عينيه، وأن المسيح الدجال أعور العين اليمنى، كأنها عنبة طافية"613، وللحديث سبب وهو أن الدجال ذكر عند النبي عليه الصلاة والسلام، وأخبر أنه ما من نبي إلا وقد أمر أمته أو نصحهم بالاستعاذة منه، ثم ذكر أن من صفاته أنه أعور العين اليمنى. وأنه على الرغم من دعوى الألوهية وما يجري له من الأمور الخارقة للعادة امتحاناً واستدراجاً فيه عيوب ونقائص، وهو عاجز عن دفع ذلك عن نفسه، فلن يلتبس عليكم الأمر في شأنه لأنه ناقص إذ به عَوَر، وربكم ليس بأعور، بل له سبحانه عينان يبصر بهما لأنه سميع بصير. وهناك زيادة عند مسلم وبعض أصحاب السنن، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يومئذ للناس: "تعلمون أنه لن يرى أحد منكم ربه حتى يموت". هذا ملخص قصة المسيح الدجال مع بيان السبب. قال الشيخ شهاب الدين السهروردي في كتاب العقيدة له: أخبر الله في كتابه وثبت عن رسوله عليه الصلاة والسلام الاستواء على العرش، والنزول، والعين، واليد، والنفس، فلا يُتصرف فيها بتشبيه ولا تعطيل، إذ لولا إخبار الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، ما تجاسر عقل أن يحوم حول ذلك الحمى. وقال الطيبي مؤيداً ما قاله السهروردي: هذا هو المذهب المعتمد وبه يقول السلف الصالح614. وأما إشارته عليه الصلاة والسلام بيده إلى عينيه - وهو يخبر عن عور المسيح الدجال- فإنما تفيد تأكيد المعنى الحقيقي للعين على ما يليق بالله تعالى ولا يفهم منها أن عين الله جارحة كأعيننا بل له سبحانه وتعالى عين حقيقية تليق بعظمته وجلاله وقِدَمِه. وللمخلوق عين حقيقية تناسب حاله وحدوثه وضعفه وليست الحقيقة كالحقيقة، وهذا شأن جميع الصفات التي فيها المشاركة اللفظية مع صفات المخلوق كما تقدم هذا البحث في غير موضع من الرسالة. روى عكرمة عن ابن عباس عند615 تفسير قوله تعالى: {واصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا}، أنه قال رضي الله عنه بعين الله تبارك وتعالى، قال الإمام البيهقي - بعد رواية قول ابن عباس السالف الذكر: ومن أصحابنا من حمل العين المذكورة في الكتاب على الرؤية. وقال: قوله تعالى:{وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي}، معناه بمرأى مني، وقوله: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} أي بمرأى منا، وكذلك قوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا}، وقد يكون ذلك من صفات الذات. وتكون صفة واحدة، والجمع فيه للتعظيم. ومنهم من حملها على الحفظ والكلاءة. وقال: إنها من صفات الفعل والجمع فيها شائع، ومن قال بأحد هذين زعم أن المراد بالخبر نفي نقص العور عن الله سبحانه وتعالى، وأنه لا يجوز عليه ما يجوز على المخلوقين من الآفات والنقائص. ثم قال البيهقي: "والذي يدل عليه ظاهر الكتاب والسنة من إثبات العين صفة، لا من حيث (الحدقة) أولى. وبالله التوفيق"616 ا.هـ وهذا القول الذي اختاره الإمام البيهقي هو الذي عليه سلف الأمة، وأما محاولة بعض الناس حمل النصوص على خلاف ما يظهر من ألفاظها فمحاولة جهمية معروفة. وأما تفسير من فسر الآيات السابقة بالرؤية مع إنكار صفة العين فشبيهٌ بقول الجهمية القائلين: إنه تعالى: سميع بلا سمع، بصير بلا بصر، عليم بلا علم. وهو قول مرفوض شرعاً وعقلاً، كما تقدم في غير موضع. وأما عند أهل السنة فجميع هذه الصفات تساق سوقاً واحداً خبرية أو عقلية. ذاتية أو فعلية فتثبت بلا كيف، ولا يلزم من إثباتها تشبيه ولا تجسيم كما يظن النفاة بل يلزم من تحريف القول فيها التعطيل. وينتج من ذلك تكذيب خبر الله وخبر رسوله عليه الصلاة والسلام. هذا ما يلزم النفاة - ولا محالة - وهم كل من ينفي صفة ثابتة بالكتاب والسنة، أو بالسنة الصحيحة فقط، أدركوا ذلك أو لم يدركوا. والله المستعان. الصفة التاسعة عشرة: صفد القَدم لله تعالى هذه الصفة كالتي قبلها من الصفات الخبرية والفعلية محل صراع حادّ بين السلف والخلف. أما السلف - فهم كعادتهم- يرون أن المقام ليس مقام اجتهاد أو قياس أو استحسان، وإنما هو مقام تسليم لله ولرسوله عليه الصلاة والسلام وأنه لا قول لأحد مع قول الله وقول رسوله المعصوم عليه الصلاة والسلام، الذي أمره ربه أن يبلغ ما أنزل إليه. فمما بلغه الرسول عن الله لأمته بعضُ أوصاف الجنة والنار، وذلك من الأمور الغيبية التي أطلع الله عليها نبيه عليه الصلاة والسلام، ولا سبيل للإنسان العادي أن يقول فيها قولاً اجتهاداً أو استحساناً. ومما أخبر الرسول هنا ما نص عليه الحديث الآتي حيث يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: "لا يزال يلقى فيها -يعني النار- وتقول: هل من مزيد؟ حتى يضع فيها رب العالمين قدمه فينـزوي بعضها إلى بعض وتقول: قط قط قط بعزتك وكرمك"617. ففي مثل هذا المقام التوقيفي لا ينبغي للمرء الناصح لنفسه أن يحاول استخدام قوة عقله أو سلطان فلسفته أو ما ورثه من مشايخه ليقول في هذا النص النبوي قولاً يخالف قول المعصوم، فيفسر الحديث كما يريد ويستحسن، بل عليه أن يقول كما قال الإمام الشافعي: "آمنا بالله وبما جاء عن الله على مراد الله. وآمنا برسول الله، وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله عليه الصلاة والسلام"، وفي هذه الصفة (القَدَم) قد صح عنه الحديث السابق آنفاً الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه، فما علينا إلا التسليم لرسوله عليه الصلاة والسلام. وقد ساق الإمام مسلم للحديث المذكور روايات كثيرة، وهو في الأصل متفق عليه وموضوع الحديث - على اختلاف راوياته وطرقه- المحاججة بين الجنة والنار، فالحديث الأول في الموضوع: حديث الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "تحاجّت النار والجنة فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين. وقالت الجنة: فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وعجزهم، فقال الله للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي. وقال للنار: أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منكم ملؤها. فأما النار فلا تمتلئ فيضع قدمه عليها فتقول: قط قط618 فهناك تمتلئ ويزوي بعضها على بعض". وهذا الحديث رواه غير واحد من الصحابة منهم أبو هريرة وأبو سعيد الخدري، وأنس بن مالك خادم رسوله الله عليه الصلاة والسلام، وفي بعض رواياته: "حتى يضع الله تبارك وتعالى رجله فتقول: قط قط قط ثلاثاً"، وفي بعضها: "حتى يضع فيها رب العزة تبارك وتعالى قدمه فتقول: قط قط وعزتك"619. وموقف السلف من معنى الحديث هو أن الحديث من أحاديث الصفات، وأن القدم صفة من الصفات الخبرية التي تمر كما جاءت دون تأويل أو تحريف في النص، ودون تشبيه أو تمثيل لصفات الله بصفات خلقه، فلا تقاس قدمه بأقدام خلقه، ولا رجله بأرجل مخلوقاته، بل يكتفى بالمعنى الوضعي للكلمة دون محاولة لإدراك حقيقة قدمه، وقد عجزنا عن إدراك حقيقة ذاته سبحانه فآمنا وسلمنا لله ولرسوله، هذا موقف لا يتغير ولا يتبدل بالنسبة لأتباع السلف، بل موقف ثابت وهو اتباع النصوص في جميع الصفات خبرية أو غيرها. "اتبعوا ولا تبتدعوا وقد كفيتم"620. وبالله التوفيق. والحديث بجميع رواياته يدل على أن الله سوف يخلق في الجنة والنار تمييزاً وقدرة على الكلام دون أن يكون لهما آلات التكلم المعتادة، وقد تقدم هذا المبحث في صفة الكلام. وأما الخلف فقد تكلفوا في تأويل هذا الحديث أكثر من تكلفهم في تأويل أي نص آخر من نصوص الصفات، فتكلفهم هنا يشبه تكلف القرامطة في نصوص المعاد، بل لجميع نصوص الشريعة. فزعم المتكلمون الخلف هنا أن الحديث -كغيره من نصوص الصفات - يؤول بما يليق بالله - يا سبحان الله - فمتى دلت النصوص بظاهرها على ما لا يليق بالله لو فهمت؟!! فقال بعضهم: المراد بالقدم هنا المتقدم ومعناه حتى يضع الله تعالى621 فيها ما قدمه لها من أهل العذاب!! وأنت تلاحظ أن هذا التأويل التقليدي لم يمكنهم من الانتباه للضمير (قدمه) أو (رجله) وأن الذي لا يختلف فيه أهل العلم أن الإضافة تخصص الصفة للموصوف، بمعنى إذا قلنا: علم الله وقدرة الله مثلاً، فلا يشترك علم المخلوق أو قدرته في علم الله المختص بالإضافة بأي نوع من أنواع المشاركة وكذلك قدرته، لأن الاشتراك لا يقع إلا في المطلق الكلي غير المختص لا بالمخلوق ولا بالخالق. وكذلك يقال هنا لأن القدم لم ترد إلا مضافة مختصة ولا يشترك معها شيء من أقدام خلقه، ولا مشابهة بينهما - وهذا التأويل الذي تورط فيه أتباع الفلاسفة لم يفطن لهذا المعنى، وعدم التفطن لهذا المعنى هو سر تخبطهم في جميع الصفات الخبرية والفعلية، وهي قاعدة622 لو علموها لعالجت لهم جميع مشاكلهم وقضت على تخبطاتهم الكثيرة. وأما الرواية التي فيها: "حتى يضع الله فيها رجله" فقد حاولوا فيها أولاً تضعيف الحديث ليريحوا أنفسهم من ذلك التأويل المستكره والمستنكر ولكنهم لم يفلحوا، لأن الحديث صحيح رواه مسلم في صحيحه. قال الإمام النووي: "فقد زعم ابن فورك أن هذه الرواية غير ثابتة عند أهل النقل، ولكن قد رواها مسلم وغيره في صحيحه". فلجأوا أخيراً إلى نوع غريب من التأويل حيث قالوا: يجوز أن يراد بالرّجل الجماعة من الناس، كما يقال: رجل من (جراد) أي قطعة منه. وهو تكلف غني عن الإعلان عنه، بل هو يعلن عن نفسه، والاستشهاد برجْل الجراد أشد غرابة كما ترى، وهو استشهاد يضحك (الحزين). وقال بعضهم: المراد بالقدم قوم استحقوها وخُلِقُوا لها، وقالوا: لا بد من صرف لفظة (القَدَمِ) عن ظاهرها لقيام الدليل القطعي العقلي على استحالة الجارحة على الله تعالى623 اهـ. فمن ذا الذي قال: إن قَدَمَ الله جارحة من الجوارح حتى تضطروا إلى مثل هذه المناقشة واستعمال هذا الأسلوب، بل الذي عليه سلف هذه الأمة - وهم أعلم وأدق وأقدم- أن قَدَمَ الله ووجه الله ويده وعينه وأصابعه، وما في معناها من هذه الصفات الخبرية صفات لله على ما يليق به سبحانه، وليست بجوارح له، ولا نعلم عن كُنهها شيئاً، بل آمنا بها على مراد الله ومراد رسوله من حيث الحقيقة والكُنه. ومعنى الكلمة معلوم من الوضع والكيف مجهول والبحث عن الكيفية بدعة، أحدثها علماء الكلام، والإيمان بها على أنها صفات ذاتية لله واجب من واجبات الدين الإسلامي، ولا ينقضي عجبي عندما أقرأ هذه العبارة التقليدية المتوارثة: "إن الدليل العقلي القطعي يقتضي استحالة قيام الجوارح بالله" أو عبارة قريبة من هذه. فكيف يعتقد مسلم أن الآيات القرآنية التي أنزلها الله العليم الحكيم، والأحاديث النبوية التي أوحاها إلى رسوله عليه الصلاة والسلام تدل بظواهرها على ما لا يليق بالله أو على ما هو مستحيل على الله، ثم لا يبين الرسول الأمين عليه الصلاة والسلام ما يليق بالله وما لا يليق من كلامه وكلام ربه سبحانه، الذي أنزله عليه وكلفه بالبيان، ويستمر الوضع على اعتقاد ذلك المحال من ظواهر النصوص في عهد الراشدين، ثم في عهد الأمويين وصدر من خلافة العباسيين، فالناس لا تزال تعتقد أن الله تعالى سميع بسمع، وبصير ببصر، وله وجه يليق به، وهو مستوٍ على عرشه، ويدعى من فوق خلقه، وهو ينزل إذا شاء وكيف شاء، ويجيء كيف يشاء يوم القيامة وله عين، وله قَدَمٌ، وكل ذلك لا يؤول ولا يحول بل يبقى على ظاهره الذي هو حقيقته كما يليق بالله، إلى أن جاء شيوخ المتفلسفة وتلامذتهم من علماء الكلام فعلّموا الناس أن اعتقاد ظواهر نصوص الصفات لا يجوز، وهو إما كفر أو فسق لأنه يؤدي إلى اعتقاد ما لا يليق بالله تعالى، وهل قائلوا هذا القول يعتقدون أنهم أعلم بما يليق بالله وما لا يليق من الله ومن رسوله؟ أم ماذا يريدون؟!! إنه تصرف يحتار المرء في معرفة مغزاه. الصفة المكملة للعشرين: إثبات رؤية الله تعالى في الدار الآخرة للمؤمنين هذه الرؤية التي سنتحدث عنها في آخر جولتنا في الحديث عن الصفات الخبرية وصفات الأفعال نود أن تكون مسك الختام للحديث عن تلك الصفات التي يكون الإيمان بها والتسليم لله ولرسوله فيها سبباً للوصول إلى هذه النعمة التي تعتبر – بحق - أعظم نعمة أعدها الله ليكرم بها خواص عباده في دار كرامته. وهم المؤمنون الذين آمنوا بالله وبما جاء عن الله على مراد الله، وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قبل أن ينكروا من ذلك شيئاً بأهوائهم وآرائهم كما فعلت الجهمية والباطنية وجميع الطوائف المنحرفة في الأصول والفروع. والكلام في هذه المسألة على الوجه التالي: أولاً: ذكر بعض الآيات الدالة على الرؤية وبيان وجه الدلالة وكلام السلف حولها. ثانياً: ذكر بعض الأحاديث الصحيحة التي تثبت الرؤية، مع ذكر أقوال بعض السلف لتوضيح معاني النصوص من تفاسيرهم وذكر الأدلة العقلية المؤيدة للأدلة النقلية مع الإجابة على شبه المعارضين النافين للرؤية: الآية الأولى قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}624، وهذه الآية لو سَلِمَت من تحريف المحرفين، وتدّبرها مؤمن سليم الفطرة وجدها تنادي نداء صريحاً بأن الله تعالى يُرى عياناً بالأبصار - يوم القيامة - وبيان ذلك كالآتي: إن الفعل (نظر) له عدة استعمالات في اللغة على حسب تعديه بنفسه أو بواسطة حرف جر، فإن عدي بنفسه يكون معناه التوقف والانتظار، وذلك كقوله تعالى: {انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ}625، أي انتظرونا وتوقفوا لنا حتى نقتبس من نوركم، وإن عدي بـ (في) فمعناه التفكر والاعتبار. كقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}626، وإن عدي بـ (إلى) فمعناه المعاينة بالأبصار، وذلك كقوله تعالى: {انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ}627. وآية الباب من النوع الأخير بل هي أبلغ في الدلالة على المراد، حيث أضيف النظر إلى الوجه الذي هو محل البصر، وقد فهم هذا المعنى من الآية علماء السلف قاطبة دون أن يشذ منهم أحد، وسوف نتحدث عن موقفهم وفقههم إن شاء الله. الآية الثانية قوله تعالى: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}628، والملاحظ أن هذه الآية من أدلة نفاة الرؤية إلا أن بعض المحققين يرى - ورأيه هو الصواب- أن الآية دلالتها على جواز الرؤية أوضح، بل لا تدل على امتناع الرؤية إلا بنوع من التكلف والتحريف، لأن الله تعالى ذكر هذا الخبر في سياق التمدح. ومن المعلوم بالضرورة وبالنظر السليم أن المدح إنما يكون بالأوصاف الثبوتية. وقد ذكرنا في غير موضعه - نقلاً عن بعض أهل العلم: أن العدم المحض ليس فيه مدح لأنه ليس بكمال. وإنما يكون العدم مدحاً إذا تضمن أمراً وجودياً مثل تمدحه سبحانه بنفي السِّنَة والنوم، لأنه يتضمن كمال القَيّوميّة ونفي الموت لأنه يتضمن كمال الحياة، وهكذا جميع الصفات السلبية التي تَمَدّح الله بها تتضمن أمراً وجودياً على ما شرحنا. ففي هذه المسألة إنما تمدح الله بعدم إدراك أبصار العباد وإحاطتهم به لا بعدم الرؤية، لأنه لو كان لا يُرى لشارك سبحانه العدم وهو الذي لا يُرى، ومشاركة العدم ليست بكمال وليس فيها مدح، بل في ذلك من الانتقاص ما لا يدركه النفاة لجهلهم أو تجاهلهم، وإذا كان من الواجب تنزيه الله عن مشاركة أي مخلوق موجود ومشابهته فيما يختص به ذلك المخلوق فكيف يستسيغ النفاة مشاركة الله للعدم الصرف في خصائصه وهو عدم الرؤية؟ والله المستعان. وقوله تعالى: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} إنما يدل على غاية عظمته وهي أنه تعالى أكبر من كل شيء، وأنه لعظمته لا يدرك ولا يحاط به فإن الإدراك هو الإحاطة بالشيء وهو قدر زائد على الرؤية. ويشهد لما ذكرنا قوله تعالى حكاية للحوار الذي جرى بين موسى وقومه المؤمنين عندما رأوا فرعون وجنوده من مكان بعيد: {فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ* قَالَ كَلاَّ }629، ومعلوم من السياق أنه لم ينف الرؤية - وهي واقعة بالفعل- كما أنهم لم يريدوا بقولهم {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ}، إما لمرئيُّون، ولكنهم كانوا قد خافوا أن هذا الجبار صار بمقربة منهم حتى رأوه سيدركهم ويلحق بهم ويؤذيهم، وهذا المعنى هو الذي نفاه موسى بقوله {كَلاَّ}، وقد وعده ربه سبحانه أنه لا يخاف دركاً ولا يخشى، إذ يقول سبحانه: {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لاَّ تَخَافُ دَرَكًا وَلاَ تَخْشَى}630. ومما يذكره بعض أهل العلم بهذا الصدد أن الرؤية والإدراك كل منهما يوجد مع الآخر وبدونه، فالرب تعالى يُرى ولا يُدرك. كما أنه يُعلَم ولا يحاط به علماً، وهذا هو الذي فهمه السلف من الصحابة والتابعين والأئمة المشهور لهم بالإمامة، قال ابن عباس رضي الله عنه:{لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} لا تحيط به الأبصار. قال قتادة: هو أعظم من أن تدركه الأبصار. قال عطية العوفي التابعي: ينظرون إلى الله ولا تحيط أبصارهم به من عظمته، وبصره يحيط بهم ثم تلا قوله تعالى: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ}، الآية. ويعني العوفي أن هذا معنى الآية وتفسيرها. ولذلك قال رحمه الله: فالمؤمنون يرون ربهم تبارك وتعالى بأبصارهم عياناً ولا تدركه أبصارهم بمعنى أنها تحيط به سبحانه إذ كان غير جائز أن يوصف الله عز وجل بأن شيئاً يحيط به. أما هو سبحانه بكل شيء محيط. وهكذا يُسمِعُ كلامه من شاء من خلقه ولا يحيطون بكلامه، وهكذا يَعلم الخلق ما علّمهم ولا يحيطون بعلمه631. قال الحافظ ابن كثير رحمه الله عند تفسير هذه الآية: في الإدراك أقوال للعلماء من السلف: أحدها: لا تدركه الأبصار في الدنيا وإن كانت تراه في الآخرة، ويكون الإدراك بمعنى الرؤية عند هؤلاء. وثانيها: الإدراك أخص من الرؤية، ولا يلزم من نفي الأخص انتفاء الأعم، ومعنى الإدراك معرفة الحقيقة عند هؤلاء. وثالثها: أن الإدراك أخص من الرؤية لأن الإدراك بمعنى الإحاطة، ولا يلزم من عدم الإحاطة عدم الرؤية632 اهـ. قال الإمام ابن جرير الطبري عند تأويل هذه الآية: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله تعالى {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ}: قال بعضهم: معناه لا تحيط به الأبصار، وهو يحيط بها سبحانه، وقال آخرون: لا تدركه أبصار الخلائق في الدنيا، وأما في الآخرة فإنها تدركه، وقال أهل هذه المقالة، الإدراك في هذا الموضع الرؤية633 اهـ. والراجح هو القول الذي تشهد له الأحاديث التي سيأتي ذكرها إن شاء الله لأنها تعتبر تفسيراً للآية كما هو معروف عند أهل العلم من السلف، وهو إثبات الرؤية في الآخرة دون الدنيا، وإن الإدراك المنفي أمر زائد على مجرد الرؤية، وهو الإحاطة، والله أعلم. ومن الآيات التي استدل بها أهل السنة على إثبات الرؤية قوله تعالى:{لَن تَرَانِي وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا}634، والآية من الآيات التي يتعلق بها النفاة ظناً منهم بأنها تنفي الرؤية635، إلا أن أهل السنة قلبوا عليهم الحجة، فأثبتوا أن الآية من أدلتهم على إثبات الرؤية عكس ما زعموا. ومن أوجه دلالة الآية على الرؤية ما يلي: 1- لا يظن بكليم الله موسى عليه السلام أن يسأل الله مالا يليق بالله، بل ما هو من أبطل الباطل في زعمهم. وهو من أعرف الناس بما يليق بالله وما لا يليق به سبحانه. 2- أن الله تعالىلم ينكر عليه سؤاله، علماً بأنه تعالى قد أنكر على نبيه نوح عليه السلام سؤاله حين سأله نجاة ابنه فقال: {إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}636، فقال: {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ}637، ولو كان سؤال رؤية الله من قبيل نوح نجاة ابنه لأنكر عليه سبحانه كما أنكر على نوح عليه السلام. وعدم الإنكار دل على أنه إنما سأله ممكناً لا مستحيلاً. 3- أن الله سبحانه أجابه بقوله {لَن تَرَانِي}، ولم يقل: إني لا أرى أو لست بمرئي أو لا تجوز رؤيتي. أو عبارة قريبة من هذه العبارات التي تدل أن الرؤية غير ممكنة. والفرق بين الأسلوبين واضح لمن تأمل بإنصاف. وبهذا عرفنا بأنه تعالى يُرى في الوقت الذي حدده سبحانه لرؤيته، وأن نبيه موسى عليه السلام إنما سأله ما هو ممكن، إلا أنه نبهه على أنه لا يقوى على الثبوت أمام التجلي في هذه الدار لضعف قوة البشر في الدنيا، إلا أن الله سوف يمنحهم القوة التي تمكنهم من الثبوت أمام تجلي الرب تعالى فيرونه عياناً ولكن دون إحاطة -كما تقدم- وهذا المفهوم هو الذي اتفق عليه الصحابة والتابعون وأئمة الإسلام على تتابع القرون. 4- وفي قوله تعالى: {وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي}638، إشارة لطيفة وتنبيه إلى أن الجبل مع قوته وصلابته لا يثبت أمام التجلي، فكيف بك وبأمثالك لأنك أضعف من الجبل يا موسى! هذا... وأما دعوى المعتزلة وشيعتهم بأن (لن) تدل على التأبيد فدعوى باطلة تأباها اللغة، فإن (لن) إنما وضعت لنفي المستقبل، فأما التأبيد فإنما يستفاد من قرائن خارجية، وهي لا تفيد التأبيد بنفسها. قال ابن هشام في أوضح المسالك: (ولن، وهي لنفي سيفعل) أي لنفي المستقبل (ولا تقتضي) تأبيد النفي ولا تأكيده، خلافاً للزمخشري639 اهـ. وفي هذا يقول ابن مالك في كافيته: ومن يرى النفي بلن مؤبدا فقوله ارْدُدْ وسواه فاعضدا فمحاولة تأبيد النفي بلن محاولة جهمية مغرضة، ولكنها غير ناجحة بل مردودة كما قال ابن هشام. ومن أقوى أدلة أهل السنة على إثبات الرؤية قوله تعالى: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ}640، ومن العقوبة التي يعاقب الله تعالى بها الكفار يوم القيامة أنه يحجبهم عن رؤيته، ووجه استدلالنا بالآية أن الله سبحانه وتعالى جعل من أعظم عقوبة الكفار كونهم محجوبين عن رؤية الله وعن سماع كلامه، فإذاً إن من أعظم نعم الله على المؤمنين أنهم يرونه عياناً ويسمعون كلامه سماعاً إذ لو لم يره المؤمنون، ولم يسمعوا كلامه، كانوا أيضاً محجوبين عنه تعالى. وبهذا الأسلوب احتج الإمام الشافعي بالآية وغيره من الأئمة، وفي هذا الصدد يحدثنا الإمام (المُزَني) - وهو من كبار أصحاب الإمام الشافعي- إذ يقول المزني: سمعت الشافعي يقول في قوله تعالى: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ}: "فيها دليل على أن أولياءه يرون ربهم يوم القيامة". ثم يأتي زميله (الربيع بن سليمان) ليؤكد ما حكاه المزني، حيث يقول: حضرت محمد بن إدريس الشافعي وقد جاءته رقعة من الصعيد فيها: ما تقول في قول الله عز وجل: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ}؟ فقال الشافعي: لما حجب هؤلاء في السخط، كان في هذا دليل على أن أولياءه يرونه في الرضى، قال الربيع: فقلت للشافعي: يا أبا عبد الله! وبه تقول؟ قال: نعم، وبه أدين الله. ثم قال الشافعي - وهو يؤكد هذا المعنى -: ولو لم يوقن محمد بن إدريس أنه يرى أنه يرى الله لما عبد الله عز وجل641. وهناك آيات أخرى تدل على إثبات لقاء الله ورؤيته تعالى، وذلك مثل قوله تعالى: {وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ}642، وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا رَبِّهِمْ}643، وقوله تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ}644، وقوله سبحانه: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ}645، وهناك آيات أخرى كثيرة تنص على هذا المعنى. واللقاء عند أهل اللغة يقتضي المعاينة ما لم يكن هناك مانع كالعمى مثلاً. بعض الأحاديث الواردة في هذا الباب: أما الأحاديث المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقد ذكر الإمام ابن القيم أنها وصلت إلى حد التواتر، فسرد منها ثلاثين حديثاً646 مرفوعاً بين صحيح وحسن، بل بعضها مخرجة في الصحيحين أو في أحدهما. وهناك أحاديث موقوفة وآثار عن الصحابة تُعطى حكم الرفع في اصطلاح المحدثين. ومن الأحاديث المرفوعة حديث أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما في الصحيحين ونصه: "إن أناساً قالوا: يا رسول! هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: "هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر"؟! قالوا: لا يا رسول الله، قال: "هل تضارون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب"؟ قالوا: لا، قال: "فإنكم ترونه كذلك"647. ومثله حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه ولفظه: كنا جلوساً عند النبي عليه الصلاة والسلام إذ نظر إلى القمر ليلة البدر، فقال: "إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته. فإن استطعتم أن لا تُغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروب الشمس فافعلوا". وفي حديث آخر له رضي الله عنه: "إنكم سترون ربكم عياناً"648. لا يخفى أن المقصود من الحديثين وما في معناهما، هو تشبيه الرؤية بالرؤية من حيث الوضوح والحقيقة، وعدم التكلف وعدم وجود التزاحم حال الرؤية ولا يلزم من ذلك تشبيه المرئي بالمرئي إذ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}. ومنها حديث صهيب الرومي رضي الله عنه عند مسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل أهل الجنة الجنة، يقول الله عز وجل: تريدون شيئاً أزيدكم؟ يقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجينا من النار؟! فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم"649. ثم تلا هذه الآية: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}650. وقال الإمام ابن القيم تعليقاً على هذا الحديث: "وهذا حديث رواه الأئمة عن حماد بن سلمة وتلقوه عن نبيهم بالقبول والتصديق"651. ولو ذهبنا نسوق كل ما ورد من الآيات والآثار وأقوال أهل العلم سلفاً وخلفاً في موضوع الرؤية مع مناقشتها لو فعلنا ذلك لأدى بنا إلى الخروج عن موضوع الرسالة، لذا نرى الاكتفاء بالنصوص التي أوردناها - فثبوت رؤية الله في الآخرة للمؤمنين أصبح في غاية من الوضوح، ولم يبقَ في المقام خلاف يُعتدّ به. وليس كل خلاف جاء معتبرا إلا خلاف له حظ من النظر وفيما يلي نستعرض الآراء في معنى الرؤية. الآراء في معنى الرؤية: يروي الإمام أبو الحسن الأشعري أن المعتزلة أجمعت على أن الله لا يُرى بالأبصار، ثم اختلفوا فيما بينهم هل يُرى بالقلوب أم لا؟ وقال أكثر المعتزلة أن الله يُرى بالقلوب بمعنى أنه يُعلم652. وأنكر بعضهم حتى هذا النوع من الرؤية بل صرحت جماعة من المعتزلة والخوارج وطوائف من المُرجئة وبعض الزيدية بأن الله لا يُرى بالأبصار في الدنيا والآخرة، ولا يجوز ذلك عليه تعالى. وأما الأشعرية فإنهم يثبتون الرؤية بالأبصار في الآخرة ولكن دون مقابلة ودون إثبات للفوقية لله تعالى كما أثبت الله لنفسه {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ}، كما تقدمت في بحث صفة الاستواء أدلة قاطعة في ثبوت الفوقية والعلو لله تعالى، وإثبات الرؤية مع نفي الفوقية فيه نوع من الغموض وعدم الوضوح، إذ لا يعقل إثبات موجود في الخارج ووجوده حقيقي وإثبات رؤيته بالأبصار ثم القول إنه ليس فوق الرائي أو على يمينه أو على يساره أو تحته. هذا كلام يرده كل من يسمعه وهو يعقل ما يسمع. وأما أهل السنة والجماعة فيؤمنون بأن الله يتجلى لعباده في الموقف وفي الجنة من فوقهم ويخاطبهم ويسلم عليهم ويرونه بأبصارهم كما يرون الشمس ليس دونها سحاب، وهذه المعاني الثلاثة يجب الإيمان بها مجتمعة عملاً بنصوص الكتاب والسنة وخروجاً من الاضطراب، وهي: 1- العلو والفوقية. 2- صفة الكلام (الكلام) اللفظي. 3- الرؤية بالأبصار، وبالله التوفيق. ثم اختلف أهل السنة: هل الرؤية في الآخرة خاصة بالمؤمنين أم يراه الكفار والمنافقون كما يرى المؤمنون؟ أقول: أما في الجنة فلا شك أنها خاصة بالمؤمنين إذ هي دارهم الخاصة، وهي دار الطيبين فلا يدخلها إلا المؤمنون الطيبون. فينحصر الخلاف في الرؤية التي تقع في الموقف عند الحساب والتجلي. والقول الذي يرجحه الحافظ ابن حجر أن الرؤية خاصة بالمؤمنين حتى في الموقف، ويجيب على قول من يرى عموم الرؤية استدلالاً بعموم اللقاء والخطاب بقوله: ولا يلزم من كونه "يتجلى للمؤمنين ومن معهم ممن أدخل نفسه فيهم أن تعمهم الرؤية، لأنه سبحانه أعلم بهم. فيُنعِمُ على المؤمنين برؤيته دون المنافقين كما يمنعهم من السجود عندما يكشف عن ساقه كما تقدم"653 ا.هـ وهناك آراء أخرى في المسألة رأينا عدم الخوض فيها إيثاراً للإيجاز، والله أعلم. وبعد، أود أن أذيل هذا المبحث - مبحث الرؤية - بأبيات للإمام ابن القيم، صور فيها يوم اللقاء أروع تصوير وأصدقه استنتاجاً من نصوص الكتاب والسنة التي ذكرنا بعضها آنفاً، إذ يقول رحمه الله: فبينما هُمُ في عَيْشِهم وسرورهم وأرزاقهم تجري عليهم وتُقْسَم تجلى لهم رب السموات جهرة فيضحك فوق العرش ثم يُسلِّم سلام عليكم يسمعون جميعهم بآذانهم تسليمه إذ يُسَلِّم يقول سلوني ما اشتهيتم فكل ما تريدون عندي إنني أنا أرحم فقالوا جميعاً نحن نسألك الرضا فأنت الذي تُولِي الجميل وترحم ولله أفراح المحبين عندما يخاطبهم من فوقهم ويُسَلِّم ولله أبصار ترى الله جهرة فلا الضيم يغشاها ولا هي تسأم فيا نظرة أهدت إلى الوجه نضرة أمِن بعدها يسلو المحب المتيم فحيّ على جنات عدن فإنها منازلك الأولى وفيها المخيم ولله واديها الذي هو موعد الـ مزيد لوفد الحب لو كنت منهم وحي على يوم المزيد الذي به زيارة رب العرش واليوم موسم ولكننا سبي العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلم هذا فإثبات الرؤية ليس صفة من صفات الله تعالى لأن الرؤية لا تقوم بالله تعالى، بل المؤمنون هم الذين يرونه سبحانه فالله هو المرئي لهم، فإنما أدخلناها في عداد الصفات المختارة التي جعلنا محل الحديث المفصل. لأنها محل نزاع بين السلف والخلف كما علمت. وبالله التوفيق. | التوقيع | إذا الشّعب يوما أراد الحياة **** فلا بد أن يستقيم البشر
و لا بد للجهل إن ينجلي **** و لا بد للعلم أن ينتشر
و لا بد للشعب أن يرجع **** إلى عز دين به ننتصر
إلى رحب شرع إلى مسجد **** إلى نور علم به مزدجر
إلى سنة النبي المصطفى **** ففيها الهدى و الضيا و الدرر
... إلى نور قرآننا المنزل **** رسول كريم به قد نزل
إلى شرعة ربنا السمحة **** ففيها النجاة و فيها الضّفر
و فيها الخلاص و فيها المناص **** من الظلمات و من كل شر
فيا شعب إسلامنا الماجد **** أنيبوا و عودوا إلى مقتدر
و توبوا إلى الله كي تفلحوا **** و تنجوا و إلا فبئس المقر | |
| |