2012-01-21, 23:01
|
رقم المشاركة : 8 |
إحصائية
العضو | | | رد: أنواع الصفات الإلهية عند السلف و الخلف | الصفة الخامسة: صفة الكلام: هذه الصفة من الصفات التي ضل فيها كثير من الناس عن الصواب، وهي من هذه الناحية تشبه صفة "الاستواء"، بل تفرق الناس فيها أكثر من تفرقهم في صفة "الاستواء"، إذ تفرق الناس فيها إلى تسع فرق كلها تائهة عن الجادة إلا واحدة، وهي التي تمسكت بما كان عليه سلف هذه الأمة وخيرها، وأمسكت عن الخوض تأدباً مع نصوص الكتاب والسنة، وإيماناً منها بتلك النصوص المتضافرة والأدلة المتنوعة التي سوف تمر بنا إن شاء الله قريباً، وللإمام الطحاوي عبارة لطيفة في هذا المعنى إذ يقول: ولما أوعد الله بسقر لمن قال: {إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ}460، علمنا وأيقنا أنه قول خالق البشر"461 اهـ. وصفة الكلام - عند التحقيق- صفة ذاتية قديمة قائمة بذاته تعالى باعتبار نوع الكلام، وهي صفة فعل تتعلق بها مشيئة الله تعالى باعتبار أفراد الكلام، لأن الكلام الذي خاطب الله به نوحاً عليه السلام في شأن ابنه: {إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}462، غير الكلام الذي خاطب به موسى عليه السلام: {أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}463، وهو غير الكلام الذي خاطب به عيسى عليه السلام: {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ}464، وهذا الكلام كله غير الكلام الذي خاطب الله به خاتم رسله، وإمامهم محمداً عليه الصلاة والسلام ليلة الإسراء والمعراج في شأن الصلاة "لقد خففت عن عبادي، وأمضيت فريضتي"465. وهذا كله غير القرآن الذي أنزله عليه وختم به كتبه، هذا المعنى، وهذا الفهم هو المأثور عن أئمة الحديث والسنة. وهم الفرقة الناجية التي تمسكت بما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام فيما نعتقد، وهذا يعني أنهم يثبتون لله كلاماً حقيقياً يسمعه المخاطب، وأن هذا القرآن الذي نقرأه بألسنتنا، ونحفظه في صدورنا ونكتبه في ألواحنا وكتبنا أنه كلام الله حقيقة لفظه ومعناه، ولا يبحثون عن كيفية تكلمه تعالى به، لأننا نؤمن به، ولا نحيط به علماً، هذا هو موقف السلف من صفة الكلام بإيجاز، لعلمهم بأن الوصف بالتكلم من أوصاف الكمال، وضده من أوصاف النقص، ولا يختلف العقلاء في ذلك، وكلنا نعلم أن معبود قوم موسى الذي اتخذوه من حليهم مما عيب عليه عدم الكلام، بل يستدل بذلك على أنه ليس بإله، إذ يقول الله تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً}466. 1- ومن أقوى الأدلة على أن الله يتكلم حقيقة، قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا}467، حيث أكد الكلام بالمصدر المثبت للحقيقة النافي للمعنى المجازي، وهو أسلوب معروف عند أهل اللغة، فمن قال: قتلت العدو قتلاً لا يفهم من كلامه إلا القتل الحقيقي الذي هو إزهاق الروح، بخلاف ما لو قال: قتلت العدو فسكت، فإنه يحتمل القتل الحقيقي، ويحتمل الضرب الشديد المؤلم جداً، ولعله واضح. ومما يحكى في هذا الصدد أن بعض المعتزلة قال لأبي عمرو بن العلاء أحد القراء السبعة: أريد أن تقرأ {وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} بنصب لفظ الجلالة، ليكون موسى هو المتكلم، لا "الله"!! فقال له أبو عمرو: هب أني قرأت هذه الآية كذا، فكيف تصنع بقوله تعالى: {وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ}468 !! فبهت المعتزلي!! 2- قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَـئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ}469، فأنت ترى أن الله عاقبهم وأهانهم بترك تكليمهم تكليم إكرام وإنعام، ولكنه سبحانه يكلمهم ويوبخهم بقوله: {اخْسَؤُوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ}470. 3- قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ}471. أما هذه الآية فمن أقوى الأدلة في أن هذا القرآن المقروء والمسموع كلام الله حقيقة، وهي رد مفحم لأولئك الذي يزعمون أن هذا القرآن ليس بكلام الله حقيقة، وإنما هو دال على كلام الله الحقيقي النفسي الذي ليس بحرف ولا صوت، أو هو عبارة عنه، يا ليت شعري من الذي عبر عما في نفس الله؟!! هذه عبارات تقليدية وموروثة يرددها المقلدون، وهم لا يفقهون ماذا تعني هذه العبارة؟!! وهي تعني - فيما تعني- الاستخفاف بالقرآن الكريم، وعدم احترامه الاحترام الذاتي، وإنما يحترم بواسطة غيره، وهو ذلك الكلام النفسي الذي يدل عليه. وهذا المعنى مصرح به في بعض كتبهم، وهم يضمرونه في أنفسهم، ولا يصرحون به في كل مكان إلا في مقام التعليم لبيان الواقع -كما يزعمون- هكذا يسيئون إلى كلام الله تأثراً بآراء أهل الكلام المذموم الذي يرجع سنده إلى ما وراء الإسلام، وهو دخيل على الإسلام، وليس من علوم المسلمين كما تقدم في أوائل الرسالة. هذه بعض آيات القرآن التي تدل على أن الله موصوف بصفة الكلام، ومنه القرآن، وهناك أحاديث في هذا المعنى منها: 1- قوله تعالى لأهل الجنة: "يا أهل الجنة هل رضيتم" الحديث، وهو حديث صحيح عن أبي سعيد الخدري. 2- قال مسروق عن ابن مسعود: إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السموات شيئاً فإذا فُزّع472 عن قلوبهم، وسكت الصوت عرفوا أنه الحق، ونادوا: {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا الْحَقَّ}473. ويذكر عن جابر وعن عبد الله بن أنيس قال: سمعت النبي عليه الصلاة والسلام يقول: "يحشر الله العباد، فيناديهم بصوت يسمعه من بَعُد كما يسمعه من قرب، أنا الملك أن الديان". 3- قال الإمام البخاري: باب كلام الرب مع جبريل، ونداء الله الملائكة، ثم ساق سنده إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: "إن الله تبارك وتعالى إذا أحب عبداً نادى جبريل: إن الله قد أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في السماء: إن الله قد أحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ويوضع له القبول في أهل الأرض". 4- ثم ساق حديثاً آخر عن الأعرج عن أبي هريرة، وفيه: "ثم يعرج الذين باتوا فيكم - يعني الملائكة- فيسألهم وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم يصلون وأتيناهم يصلون". 5- قال الإمام البخاري: باب قول الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّه}، ثم ساق حديثاً مسنداً عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي عليه الصلاة والسلام، وفيه: "يقول الله عز وجل: الصوم لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وأكله وشربه من أجلي". 6- ثم قال الإمام البخاري في كتاب التوحيد من صحيحه: باب كلام الرب عز وجل يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم. ثم ساق حديث الشفاعة بطوله وألفاظه المختلفة، وفي آخره يقول النبي الكريم عليه الصلاة والسلام: "فأقول: يا رب ائذن لي فيمن قال: لا إله إلا الله، فيقول الله عز وجل: وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لأخرجن منها من قال لا إله إلا الله"474. هذه الأحاديث وأخرى كثيرة في صحيح البخاري وصحيح مسلم وعند أصحاب السنن الأربعة تضاف إلى الآيات الكثيرة التي تثبت لله الكلام اللفظي الحقيقي، ومن ذلك القرآن الكريم والكتب السماوية الأخرى. هذه بعض الأدلة لأتباع السلف في إثبات صفة الكلام باقية على ظاهرها كما يليق بالله لا كما يناسب المخلوق. موقف الخلف من هذه الصفة ومناقشتهم أما الخلف فقد اختلفت آراؤهم، وتباينت مذاهبهم في هذه الصفة ولكنهم - على اختلافهم الشديد- متفقون على عدم إيمانهم بكلام الله الحقيقي اللفظي الذي يسمعه المخاطب والذي من جملته القرآن الكريم. فنخص منهم هنا بالحديث الأشاعرة لاعتبارات كثيرة، ليس هذا محل بيانها ومن أهمها: 1- أنهم هم الناس الذين لهم وجود جماعي، وبكثرة ملحوظة في دنيا المسلمين اليوم، لو كانت الكثرة لها اعتبار ما في المعنى الإيجابي بهذا الصدد. 2- ثم إنهم يهتفون بهتاف نحن "أهل السنة والجماعة" بصرف النظر هل "ليلى" تُقر لهم بهذه الدعوى أم لا؟!! وكل يدعي وصلاً لليلى وليلى لا تقر لهم بذاك 3- أنهم أقرب من غيرهم نسبياً إلى منهج السلف، ولو في بعض المواقف ومع ذلك أن موقفهم من "معنى" كلام الله لغريب جداً، حيث زعموا أن كلام الله معنى واحد، قائم بذات الله تعالى، وهو الأمر والنهي والخبر والاستخبار إن عبر عنه بالعربية كان قرآناً، وإن عبر عنه بالعبرانية كان توراة. فياليت شعري من المعبر عما في نفس الله باللغتين؟!! إنه لموقف غريب ولا مثيل له حتى في كلام أهل الكلام مع ما فيهم من التطرف في بعض النقاط، وهذه العقيدة كانت في الأصل لابن كُلاب، وتبعه فيها أبو الحسن الأشعري عقب رجوعه عن الاعتزال وقبل وصوله إلى منهج السلف الذي يعتبر آخر الأطوار الثلاثة له رحمه الله، كما تقدم غير مرة في هذه الرسالة نفسها، أما الأشعرية المعاصرة فعلى ما كان عليه أبو الحسن في الطور الثاني، ولذا نسميهم أحياناً "الأشعرية الكلابية" فليُعلم ذلك. شبهتهم في إنكار الكلام اللفظي: وأما شبهتهم فيما ذهبوا إليه أنهم يقولون: إن كان الله تعالى يتكلم بكلام له صوت وحرف، لزم من ذلك التشبيه والتجسيم، لأنه لا بد له حينئذ من مخارج الحروف من اللسان والشفتين وغيرهما. والله منزه عن ذلك. إلى آخر كلامهم المعروف. هذه شبهتهم وهي من أخوات ما تقدم من الشبهات ومن نسيج واحد. الجواب: إذا قلنا: إنه تعالى يتكلم كما يليق بجلاله وعظمته، دون أن نلزم كلامه لوازم كلام البشر انتفت الشبهة. وقد جاء في القرآن الكريم أن بعض أعضاء بني آدم سوف تتكلم يوم القيامة كما ثبت في السنة كلام بعض الجمادات، وكل ذلك دون أن يكون لها مخارج الحروف، وإذا كنا نؤمن بكلام هذه الأشياء تصديقاً لخبر الله وخبر رسوله عليه الصلاة والسلام، فكيف نستبعد إذاً أن يتكلم الله كيف يشاء ومتى شاء، وهو على كل شيء قدير، أو كيف نحاول أن ندرك كيفية تكلمه؟ وإذا ما عجزنا عن الإدراك، نفينا كلامه، كأننا نكذب كتابه ورسوله الصادق الأمين. أو نتلاعب بالنصوص بعقولنا القاصرة بدعوى التأويل، ونحن عاجزون عن إدراك كيفية كلام الأشياء المذكورة، وهي من مخلوقات الله تعالى؟!! فكم كان حسناً بل من الإنصاف الواجب لو فكر القوم في الرجوع إلى الجادة، وهي خير من "بُنَيّات الطريق". وإليكم النصوص المشار إليها من الكتاب والسنة: 1- قوله تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ}475. 2- قوله تعالى: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ}476. 3- تسبيح الحصا، وتسبيح الطعام، وسلام الحجر على المبعوث بالمعجزات الباهرات محمد عليه الصلاة والسلام، كما أثبتت السنة ذلك، ونحن وإياكم نؤمن بذلك كله، فلنؤمن إذاً بكلام الله الذي أنطقها، وهو على كل شيء قدير. فقالوا: أما بالنسبة لهذا القرآن فهناك آية تدل على أنه مخلوق!! وهو قوله تعالى: {اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}477، لأن القرآن شيء، فلا بد أن يدخل في عموم "كل" لأنها من ألفاظ العموم. والجواب على هذه الشبهة: أن هذا الاستدلال من أغرب أنواع الاستدلالات لما يأتي: أولاً: كيف يسوغ لهم الاستدلال بالقرآن المخلوق -في زعمهم- على أن القرآن نفسه مخلوق؟!! وبعبارة أخرى: إذا كان قوله تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}، مخلوقاً -كما زعموا- فلا يصح أن يكون دليلاً لهم!! هذا، وإن كان القوم لا يصرحون بهذا المعنى إلا في مقام التعليم -كما يقولون- احتراماً لهذا الكلام اللفظي الدال على الكلام النفسي الحقيقي -كما يزعمون- ولكن واقع عقيدتهم في القرآن هو ما ذكرنا، لأنهم يتفقون مع المعتزلة في أن القرآن مخلوق478، وإن اختلفوا معهم في الأسلوب والطريقة لأن أولئك صرحاء فيما يعتقدون، كما تقدم البحث مفصلاً في مسألة الاستواء. ثانياً: هل هم جهلوا أو تجاهلوا تجاهل عارف أن عموم "كل" في كل موضع بحسبه يختلف باختلاف المواضع، يعرف ذلك بالقرائن؟!! ولو أخذ العموم هنا كما أرادوا لدخلت في هذا العموم جميع صفات الله تعالى، بل المفهوم الصحيح أن عموم "كل" هنا إنما يعني كل شيء مخلوق. فلا يدخل في العموم شيء من صفات الله، من الكلام وغيره، ومما يؤيد ما قلناه قوله تعالى في وصف الريح التي أرسلها الله إلى قوم "هود" {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لاَ يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ}479، وهي لم تدمر كل شيء موجود، وإنما دمّرت ما أراد الله تدميره من الأشياء التي تستحق التدمير. أما مساكنهم وأشياء كثيرة أخرى لم تدمر، وكذلك قوله تعالى وهو يخبرنا عن "بلقيس": {وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ}480، وهل أوتيت "بلقيس" من كل شيء في الدنيا أو حتى كل شيء في ناحيتها؟!! لا، وإنما أوتيت من كل شيء يحتاج إليه الملوك في مملكتهم، وهو أمر واضح كما ترى، ولو أن إنساناً قال: قد حضر وليمة فلان كل الناس، إنما يفهم السامع أنه حضرها جميع المدعوين دون أن يتخلف أحد لديه "بطاقة" الدعوة. وبعد: فلما خنقتهم الأدلة، وضايقهم أتباع السلف بالمناقشة حول النصوص التي وضعوها في غير موضعها، وأساؤوا فهمها، لجأوا إلى بيت شعر هزيل، لا مستند له، لشاعر نصراني "الأخطل" حيث يقول: إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جُعِل اللسانُ على الفؤاد دليلا لجوء الغريق في السيل الجارف إلى كل ما تقع عليه يده أياً كان نوعه، وهو يحاول أن يجد ما يتعلق به ليسلم من الغرق، وربما مد يده إلى ذلك "الزبد" الذي يعلو السيل، ويتجمع أحياناً في بعض المنعطفات، فإذا ما وصلت يده إليه، لم يجده شيئاً، بل يتبعثر ويذهب مع الماء. وبيت الأخطل كهذا الزبد أو هو كبيت العنكبوت {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ }481 فالاستدلال به في غاية الفساد للأوجه التالية: أولاً: أن المستدلين بهذا البيت قد ردوا، أو من أصولهم أن يردوا أحاديث نبوية مهما بلغت من الصحة، وتلقاها أهل العلم بالقبول، ما لم تبلغ حد التواتر، أو بلغت حد التواتر عند بعضهم بدعوى أنها أخبار آحاد، أو أدلة لفظية!! فكيف يستدلون بهذا البيت الذي يختلف أهل العلم في ثبوته؟!! وعلى فرض ثبوته فهل تواتر نقله؟!! ثانياً: إن ما يريدون إثباته بهذا البيت النصراني، من أن الكلام ما في النفس أي "حديث النفس" مردود بالنصوص التالية: أ- قوله عليه الصلاة والسلام: "إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس"482. ب- قوله عليه الصلاة والسلام: "إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به نفسها، ما لم تتكلم به أو تعمل به"483. جـ- قوله عليه الصلاة والسلام: "إن الله يحدث من أمره ما يشاء، وإن مما أحدث أن لا يتكلموا في الصلاة"484. فاستناداً إلى هذه النصوص قد اتفق العلماء على أن المصلي إذا تكلم في الصلاة عامداً لغير مصلحتها، بطلت صلاته، كما اتفقوا على أن ما يقول بالقلب من حديث النفس لا يبطل الصلاة، فعلم باتفاق من يعتد باتفاقهم أن حديث النفس ليس بكلام، لغة وشرعاًَ. والشارع إنما خاطب الناس بلغة العرب وهي لغة قرآنهم، إذاً فإن الكلام ما كان بصوت وحرف مسموع، ومما هو صريح في هذا المعنى حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: يا رسول الله! إننا لمؤاخذون بما نتكلم؟ فقال عليه الصلاة والسلام: "وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم"485. وهذا الحديث وإن لم يسلم سلامة كاملة في سنده حيث رمي بالانقطاع، إلا أنه يشهد له ما تقدم من الأحاديث الصحاح، ليدل على المقصود علماً بأننا نستدل به من الناحية اللغوية مضموماً إلى ما تقدم، كما قلنا وبالله التوفيق. وبعد: فلو ترك الناس على فطرهم السليمة، وعقولهم المستقيمة، ولغتهم العربية الواضحة لم ينزلقوا هذه الانزلاقات في المطالب الإلهية، ولا تنازعوا هذا النزاع الحاد، والله المستعان. ومن المفيد جداً أن أضيف إلى ما ذكرت نموذجاً من كلام الإمام أبي الحسن الأشعري الذي تنتسب إليه الأشعرية المعاصرة أي إلى مذهبه الذي عاش عليه فترة من الزمن مع ابن كلاب، ثم تركه. وهذا النموذج عبارة عن مناقشة حادة مع الجهمية سجلها الإمام أبو الحسن في كتابه "الإبانة في أصول الديانة" وهو آخر كتاب ألفه بعد رجوعه إلى منهج السلف فيما نعلم، وهو على فقرتين، يقول الإمام أبو الحسن في فقرة: أ- زعمت الجهمية -كما زعمت النصارى- لأن النصارى زعمت أن كلمة الله حواها بطن "مريم"، وزادت الجهمية عليهم فزعمت أن القرآن مخلوق، حل في شجرة فكانت الشجرة حاوية له فلزمهم أن تكون الشجرة متكلمة بذلك الكلام، ووجب عليهم أن مخلوقاً من المخلوقات كلم موسى، وأن الشجرة قالت: يا موسى إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني. ب- وقال الإمام أبو الحسن وهو يصف القرآن الذي تزعم الجهمية والأشاعرة معاً أنه مخلوق: "وهو متلو بالألسنة، قال تعالى: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ}486". ثم قال الإمام: والقرآن مكتوب في مصاحفنا في الحقيقة، محفوظ في صدورنا في الحقيقة، متلو بألسنتنا في الحقيقة، مسموع لنا في الحقيقة كما قال عز وجل: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ}487، وقد قال الإمام قبل ذلك: القرآن في اللوح المحفوظ، وهو في صدور الذين أوتوا العلم، قال تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ}488. هكذا يؤكد الإمام أبو الحسن بهذا الأسلوب في عدة مواضع في كتابه الإبانة أن هذا القرآن الذي نقرأه ونحفظه كلام الله حقيقة بألفاظه ومعانيه، وليس هو عبارة عن الكلام النفسي أو دالاً عليه أو ترجمة له كما يزعم متأخرو الأشاعرة، بل هو كلام الله عناه الله بقوله: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ} لأن الكلام اللفظي المقروء هو المسموع، أما حديث النفس فلا يقرأ ولا يسمع. وإذا قارنا بين ما سجله الإمام أبو الحسن الأشعري في "إبانته" وبين ما يقوله ويعتقده متأخرو الأشاعرة، نستطيع أن نقول بأن نسبتهم للإمام أبي الحسن غير صحيحة، فأرى من المناسب أن أسجل هنا ما قاله المحدث المصري السلفي الشيخ محب الدين الخطيب رحمه الله: "أما الأشعرية اسم المذهب المنسوب إلى أبي الحسن الأشعري في علم الكلام"، فكما أنه لا يمثل الأشعري ما كان عليه في طور اعتزاله، فإنه ليس من الإنصاف أن تلصق به الأشعرية بعد أن رجع إلى عقيدة السلف التي أراد أن يلقى الله تعالى عليها. بل إن المذهب الأشعري المنسوب إليه إنما ينسب إلى ما كان عليه ابن كُلاّب البصري المتوفى سنة 240هـ، كما أوضح ذلك تقي الدين ابن تيمية في كتابه العقل والنقل489، وهو كلام في غاية الوجاهة كما ترى، فلا يحتاج إلى تعليق. ثم قال أبو الحسن - وهو يحاور الجهمية بأسلوب آخر غير الذي تقدم ليثبت بأن كلام الله - على تعدده وتنوعه- غير مخلوق، حيث يقول: "قد استعاذ النبي عليه الصلاة والسلام بكلمات الله التامات من شر ما خلق، إذ يقول عليه الصلاة والسلام: "أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق"، وعلم أمته بتلك الاستعاذة وهي الالتجاء إلى الله من شر خلقه، فهي عبادة عظيمة، فلو كانت كلمات الله مخلوقة لما استعاذ بها صلى الله عليه وسلم ولما علّم أمته، لأنه عليه الصلاة والسلام ينهى عن ذلك، بل يعده نوعاً من الإشراك بالله. ما يستفاد من هذه الاستعاذة: ثم إن هذه الاستعاذة المباركة تدلنا على الأمور التالية: أولاً: جواز الاستعاذة بأسمائه وصفاته كما يستعاذ بذاته، ويؤيد ما قلنا قوله عليه الصلاة والسلام: "اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك"490. ثانياً: أن كلمات الله ليست مخلوقة إذ لو كانت مخلوقة لما استعاذ بها رسول الله عليه الصلاة والسلام كما تقدم. ثالثاً: إن كلام الله ليس معنى واحداً يقوم بالذات، ليس بحرف، ولا صوت، كما تزعمه الأشاعرة المتأخرة، بل كلمات الله لا حد لها، لأنها من كمالاته، فكمالاته سبحانه لا تنتهي، ومما يزيد المقام بياناً قوله تعالى: {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا}491، وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}492. هذه المعاني هي التي يريد الإمام أبو الحسن إثباتها ليحاجج الجهمية، ومن يوافقهم في اعتقادهم بأن كلام الله مخلوق، وقد سبقه إلى مثل هذا الحوار إمام أهل السنة وقامع البدعة الإمام أحمد بن حنبل حيث ألف كتاباً مستقلاً في الرد على الجهمية، وسبق أن تحدثنا عن ذلك الكتاب، ونود أن ننقل هنا نموذجاً من حواره مع الجهمية في كلام الله تعالى، فيبدأ الحوار هكذا: قالت الجهمية: إن الله لا يكلم ولا يتكلم، إنما كون شيئاً فعبر عن الله، وخلق أصواتاً فأسمع. وزعموا أن الكلام "اللفظي" لا يكون إلا من جوف ولسان وشفتين. فيقول الإمام أحمد: قلنا: هل يجوز لمُكَوّن أو لغير الله أن يقول: {يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّك}493؟ أو يقول: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي}494، فمن زعم ذلك فقد زعم أن غير الله ادعى الربوبية كما زعم الجهم أن الله كوّن شيئاً كأن يقول ذلك المكوّن: {يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}495، وقال جل ثناؤه:{وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا}496، إلى تلك الآيات التي ساقها، وهو يحاورهم، ثم قال: فهذا منصوص القرآن، ثم قال: فأما ما قالوا: "إن الله لا يتكلم" فكيف يصنعون بحديث الأعمش عن خيثمة عن عدي بن حاتم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه، ليس بينه وبينه ترجمان، ولا حجاب يحجبه". ثم قال الإمام أحمد أما قولهم: إن الكلام لا يكون إلا من جوف، وفم وشفتين، ولسان، أليس الله قال للسموات والأرض: {اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}497، أتراها قالت: بجوف وفم وشفتين ولسان وأدوات؟!! وقال: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ}498، أتراها يسبحن بجوف وفم ولسان وشفتين"؟!! الجواب الذي لا بد منه "لا" في جميع هذه الاستفهامات، ولكن الله القادر على كل شيء هو الذي أنطق تلك الجمادات، فجعلها تتكلم حقيقة دون آلات معهودة للتكلم عادة تسمى "مخارج الحروف"، فهل الذي مكن لهذه المخلوقات من التكلم يعجز عن الكلام؟ أو يمتنع عليه الكلام "اللفظي" - كما زعمت الجهمية - لماذا يمتنع عليه؟!! هل لأن الكلام نقص؟!! أو بعبارة أخرى: هل الكلام من صفات النقص أو من صفات الكمال؟!! أليس المخلوق الذي يتصف بالكلام خير وأجمل من الذي لا يتكلم؟ الجواب "بلى" بإجماع العقلاء. فهل تُسوّغ عقول الجهمية أن يكون المخلوق أكمل من الخالق؟ لأن كثيراً من المخلوقات تتصف بالكلام - وهو صفة كمال- والخالق يمتنع عليه الكلام؟!! أفليس الذي يعطي الكمال أولى بأن يتصف بالكمال على أكمل وجه بحيث لا يشاركه أحد في خصائص ذلك الكمال؟!! الجواب "بلى" لدى جميع العقلاء. هذا المعنى هو الذي يدور حوله حوار الإمام أحمد، والزاماته للجهمية لو كانوا منصفين وطلاب حق، وأخيراً هو الذي يريد إثباته أبو الحسن الأشعري في كتابه الإبانة. الصفة السادسة: صفة المحبة: هذه الصفة تتحقق بين العبد الذي يحب ربه وسيده ومولاه، وبين ربه الكريم عز وجل الذي أخبر أنه يحب عباده المتقين المحسنين، ومحبة العبد لربه -كما يراها بعض المحققين499، وكما هو الواقع -هي حقيقة "لا إله إلا الله"، وهي تتفاوت فيما بين العباد، فكلما يزداد العبد في تحقيق لا إله إلا الله يزداد محبة لله، ورغبة في لقائه، فأكثر العباد محبة لله الأنبياء ثم الصالحون من أتباعهم، لأن محبتهم لله حق المحبة هي التي حملتهم على تحمل المشاق والمصاعب، وعلى تحمل كل ما لاقوه في سبيل الدعوة إلى الله إلى محبته، والإيمان به سبحانه وإصلاح شئون عباده. فالخوف والخشية والتفاني في طاعة الله، وحسن عبادته، وتحمل الأذى في سبيل إظهار دينه، وإعلاء كلمته ونصح عباده، وتقديم الخير لهم كل أولئك ثمرات من ثمار محبة الله الصادقة التي لا تتم إلا إذا وصلت به تلك المحبة إلى درجة أنه من شدة محبته لربه ومن صحة محبته له، يحب كل من يحبه، والعمل الذي يحبه، وكل خصلة أو صفة يعلم أن الله يحبها ومن الأدعية المأثورة: "اللهم ارزقنا حبك، وحب من يحبك، والعمل الذي يقربنا إلى حبك". ومحبة العبد لربه - إذا صحت، وتحققت فهي فوق كل محبة تقدر، ولا نسبة لجميع المحاب لها، إذ هي الطاقة المحركة للعبد إلى فعل كل خير واجتناب كل شر، بل كل تصرفات العبد في تعامله مع الله، وتعامله مع عباده نابعة من تلك الطاقة "المحبة" يتحرك العبد ويعمل ويعطي بتلك الطاقة لأن مقرها "القلب" الذي إذا صلح، صلح كل شيء، وإذا فسد، فسد كل شيء، فسد دينه، وفسدت عقيدته، وفقد محبة ربه ومولاه، وإذا ما تعطلت تلك الطاقة وغيض نبعها، هناك الهلاك، والعبد في هذه الحالة قد مات قلبه كلياً وهو لا يدري. فهل صلاة العبد وحسنها والخشوع فيها إلا ثمرة من ثمرات محبته لربه سبحانه ورغبته في قربه منه!! وهل أنفق المنفقون من أموالهم وعصارة كدهم في مرضاة ربهم إلا لمحبتهم لربهم أكثر من محبتهم لأموالهم؟!! وهل صام عبد وحج وجاهد وتكبد المشاق في سبيل ذلك إلا بدافع من محبته لربه ورغبته فيما عنده سبحانه!! وبالاختصار لم يعبد الله عبد، ولم يركع ولم يسجد إلا بدافع المحبة، ولم يتكاسل ولم يعجز إلا لفقدان محبته لربه وتقديره لربه حق قدره أو نقصانها. هذا هو مفهوم المحبة عند أهل السنة وعلماء الحديث الذين هم الناس الذين يقتدى بهم في مثل هذا المجال. وأما محبة الرب سبحانه لعباده من أنبيائه وأوليائه أهل طاعته، فهي صفة عظيمة وحبيبة إلى قلوب عباده المحبين، وهي صفة مستقلة قائمة بالله تعالى، وهي فعل من أفعال الرب تعالى يؤهل لهذه المحبة من شاء من عباده ويخذل من شاء ولا يوفقه لينالها فرحمته وإحسانه وعطاؤه وإكرامه لمن شاء من عباده ثمرة من ثمرات محبته، وثواب لها ومن موجباتها لأن الله تعالى لما أحبهم كان نصيبهم من رحمته وإحسانه وعطائه أوفر نصيب وأتمه. ولو قلت: إن محبة الله تعالى هي حقيقة إيمان العبد بربه لما بالغت، بل هذا ما يعنيه شمس الدين ابن القيم بقوله: "إنها حقيقة لا إله إلا الله" وفي اعتقادي الذي يقرب من الجزم أن الذين ينكرون المحبة إنما ينكرونها إنكاراً تقليدياً، ولا يدركون ماذا يعني هذا الإنكار، وإلا فلو كانوا يدركون أن إنكار محبة الله إنما يعني إنكار الإيمان بالله لما تجرأوا على هذا الإنكار الذي لا يُنْتِج إلا الكفر أو الزندقة. ولو سئل مسلم عادي وهو لا يزال على فطرته: هل تحب الله تعالى؟ لاندهش من هذا السؤال الغريب، ولأجاب: كيف لا أحبه، وأنا مسلم!! ولو قيل له: إن الله تعالى لا يحبك، لكانت دهشته أكبر، ولاعتبر ذلك دعاء عليه أو إخباراً بأنه لا خير فيه، بل هو مطرود من رحمة الله، ولفعل أفاعيل من الغضب الشديد، وأثاره ذلك الموقف، ولهذا أعود فأقول: إن إنكار المنكرين لمحبة العبد لربه، أو محبة الرب سبحانه لأوليائه إنكار تقليدي لا معنى هل، بل إنهم سمعوا أن من تنزيه الله تعالى عما لا يليق به أن لا تعتقد أن الله يحب أحداً، لأن المحبة انفعال نفسي وتغير من حال إلى حال، فذلك من صفات المحدثين، فاتصاف الله بها يؤدي إلى تشبيه الخالق بالمخلوق، فذلك محال، وما يؤدي إلى المحال فهو محال، فوصفه تعالى بأنه يحب محال، هذه خلاصة تقريرهم، والغاية من إنكارهم، فهو كما ترى تقرير تقليدي أجوف، وإنما ينخدع به السذج من الناس، ولكنه قد ترك كثيراً من الناس في حيرة لا يستطيعون التعبير عنها، لأنهم يجدون في أنفسهم شعور المحبة وبشدة أحياناً في حالة انتباههم لآثارها، ثم يتذكرون ذلك التقرير الذي تقدم شرحه، فماذا يصنعون؟!! فكل عبد منّ الله عليه بمحبة صادقة أثمرت له المبادرة إلى طاعة الله وحسن عبادته، ووجد من نفسه الاندفاع إلى مرضاته، والتلذذ بطاعته، والراحة فيها، "أرحنا بها يا بلال"500، يشعر أن محبة الله هي التي بها حياته الروحية، وفيها نعيمه وحسن الأنس بربه، وولي نعمته. ثم إن المحبة الصادقة تتمثل أيضاً في كراهة العصيان، والابتعاد عن المخالفات والابتداع، إذ إن صاحبها يكره أن تدنس تلك العلاقة التي بينه وبين ربه "المحبة الصادقة" بأي نوع من أنواع الانصراف عنه، والغفلة والتمرد، وإذا ما نفذ فيه ما قُدّر عليه، وسبق في علم الله سبحانه أنه لا بد له من كبوة وهفوة، فتحقق ذلك، ولا محالة يعلم أن ربه الحكيم ابتلاه وامتحنه، فيبادر إلى باب مولاه وهو في ندم وحزن لا يعلم مداهما إلا ربه الذي ابتلاه، ليطلب منه في ذل ومسكنة أن يأخذ بيده فينقذه مما هو فيه من عذاب الوحشة من آثار العصيان، فيأتيه إسعافُ "لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه"501 الحديث. وقد يستعيد عافيته وصحته أحسن وأقوى من ذي قبل، فيزداد محبة لربه وولي نعمته نعمة قبول توبته، ورده إلى بابه "وربما صحت الأجسام بالعلل". هكذا يعيش المحب طالما تؤدي طاقة المحبة عملها على الوجه المطلوب، وقد يعتريها أحياناً ما يعتريها، ولكن الله يلطف بعباده المحبين، فيُنْزِل رحمته عليها، ويعيد لها قوتها، وهكذا... أما الجهمية النفاة فإنهم يزعمون أن الله لا يُحِب ولا يُحَب، هذا هو المبدأ عندهم، وماذا يصنعون بالنصوص المصرحة بالمحبة من جانب الرب سبحانه، ومن جانب العبد؟ هل يكذبون النصوص؟ وهل يجرؤون على ذلك أمام جمهور المسلمين؟!! "لا" إذاًَ فيتأولون النصوص، نصوص محبة العباد لربهم بمحبة طاعته وعبادته والازدياد من الأعمال الصالة لينالوا الأجر والثواب. وهكذا... ومحبة الطاعة وهذه الأعمال الصالحة وتلك العبادة هي آثار أو ثمرات لتلك المحبة التي أنكروها لو كانوا يفقهون؟ وأما محبة الله لعباده فأولوها بالإحسان إليهم والتفضل بإعطاء الثواب على أعمالهم الصالحة أو بالثناء عليهم ونحو ذلك، وقد أولها بعضهم بإرادة الإنعام والإحسان، وتتلخص تأويلاتهم للمحبة فيما يلي: يؤولونها المفعول المنفصل كالعطاء والإحسان مثلاً، وأما الإرادة نفسها فيزعمون: أن الإرادة إن تعلقت بتخصيص العبد بالأحوال العالية، والمقامات المرضية سميت "محبة"، وإن تعلقت بالعقوبة والانتقام سميت "غضباً"، وهكذا إلى آخر تلك الأسماء التي سموا بها من عند أنفسهم، فتصبح المحبة عندهم أحياناً صفة فعل، وأحياناً صفة ذات. وقد ترجع أكثر صفات الأفعال إلى صفة واحدة وهي الإرادة كصفة الرحمة والمحبة والتعجب والغضب والفرح. وربما أدى تفسير المحبة أحياناً إلى ردها إلى صفة الكلام -"وموقفهم من صفة الكلام معروف" وقد تقدم، وذلك حين يقولون: إن المحبة هي ثناء الله على عباده الصالحين502. وليس لدى القوم مستند فيما ذهبوا إليه لا من الأدلة العقلية، ولا من الأدلة النقلية، بل لا تؤيدهم حتى الفطرة السلمية، بل جميع طرق الأدلة عقلاً ونقلاً وفطرة حتى الذوق السليم، وكلها تدل على إثبات محبة الرب لعبده ومحبة العبد لربه. ولعل مثل هذا الموقف من الجهمية هو الذي جعل الإمام عبد الله بن المبارك يقول قولته المعروفة: "إننا نستطيع أن نحكي كلام اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية"503اهـ. ولو تأمل الإنسان مواقف أمهات الطوائف المنتسبة إلى الإسلام كالخوارج والشيعة مثلاً لوجدها كلها تحاول الاستدلال بنصوص الكتاب والسنة أو على الأقل بنصوص الكتاب وحده، بصرف النظر هل أن تلك النصوص تساعدهم فيما ذهبوا إليه أو تخالفهم وقد تلعنهم!! أما الجهمية فقد بنوا عقيدتهم ومذهبهم بعيداً عن النصوص كتاباً وسنة غير محاولين الاستدلال بها، بل يحاولون تحريفها لتوافق أهوائهم ونظرياتهم، فما حظهم من الإسلام يا ترى؟!! حقاً إنهم مصابون بضعف إيمان، وقلة استسلام وانقياد للنصوص، فمثلاً لو نوقش القوم في الإرادة التي فسروا بها "المحبة" في زعمهم، ستكون النتيجة أحد أمرين: 1- إما أن يستسلموا فيعودوا إلى رشدهم، فيثبتوا الإرادة والمحبة معاً، فيسلم لهم إيمانهم وعقيدتهم لأنهم - في هذه الحالة - سلموا لله ولرسوله عليه الصلاة والسلام. 2- وإما أن يتعنتوا ويعاندوا، فإن عاندوا تكن فتنة في عقيدتهم، وفساد كبير في إيمانهم، لأنهم ينفون ثمرة الإيمان، وما به حلاوة الإيمان تنال، ثم يلزمهم من هذا النفي نفي الإرادة والصفات المماثلة لها مثل القدرة والعلم مثلاً، لأن "ما ثبت لأحد المثلين ثبت للآخر" سلباً وإيجاباً، ولا محالة وهذا الموقف لا يجتمع، والإيمان الصحيح كما ترى!! وقد يحاولون إيجاد مسوغ لهذا التصرف حيث يزعمون: إن المحبة ملائمة ومناسبة بين المحب والمحبوب، وتوجب للمحب بدرك محبوبه فرحاً ولذة وسروراً إلى آخر ما هنالك من الثرثرة العقيمة التي نعرفها لأهل الكلام. والجواب عن هذه الشبهة الواهية مثل أجوبتنا السابقة على مثلها من تلك الشبهات التي كلها من نسيج واحد، حيث لا يلزم عقلاً إثبات لوازم صفة المخلوق لصفة الخالق إذ لا مناسبة بينهما. فخلاصة الجواب أن ما ذكروه من لوازم "محبة" المخلوق التي نعرف حقيقتها وحقيقة صاحبها لا تلزم "محبة" الله الذي ليس كمثله شيء الذي لا نحيط به علماً ذاتاً وصفة سبحانه ما أحلمه؟!! يسمع خوض الخائضين وحذلقة المتحذلقين، ثم يمهلهم، ولا يعاجلهم لعلهم يتوبون، ويرجعون، وعلى كل حال فإن صفة المحبة صفة ثابتة بالكتاب والسنة، وإجماع الأمة من الرعيل الأول وأئمة السلف، فالكلام فيها كالكلام في بقية الصفات الخبرية وبعد إذا ثبت في كتاب الله المبين، والأخبار الصحيحة بأن الله يحب عباده المحسنين، وأنهم يحبونه فليس لأحد كلام مع كلام الله وكلام رسوله عليه الصلاة والسلام، ومن ذلك هذه الآيات: 1- {وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}504. 2- {إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}505. 3- {ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}506. 4- {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}507. 5- {فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}508. 6- {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ}509. ومن السنة النبوية قوله عليه الصلاة والسلام: 1- "إن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يحب أن تؤتى عزائمه، أو كما يكره أن تؤتى معصيته"510. 2- "اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني"511، وهو دعاء يدعو به الداعي في ليلة يرجو أن تكون ليلة القدر -كما ثبت ذلك في حديث عائشة رضي الله عنها. 3- "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أ- "أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما". ب- "أن يحب المرء لا يحبه إلا لله". جـ- "وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله، كما يكره أن يلقى في النار"512. في هذا الحديث الشريف إيضاح ما سبق أن أشرنا إليه من أن محبة الله ومحبة رسوله إذا صدقتا تكونان علامة واضحة على صدق الإيمان وبهما ينال المرء حلاوة الإيمان، ويتذوقه حتى يصل إلى درجة الإحسان "فيعبد الله كأنه يراه ويشاهده"513، إيماناً ويقيناً بأن الله معه ولا يفارقه، وهو سبحانه يراه ويرى مكانه ويسمع كلامه ويعلم خلجات قلبه وحديث نفسه. وهذا الموقف بل هذا الشعور يجعل العبد يستهين بكل شيء من ملاذ الدنيا، وينسى متاعبها، وهي درجة لا يفي حقها وبيان حقيقتها قلم عادي مثل "قلمي" فلنتركها إذاًَ لأصحابها، وهنيئاً لهم. {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}، بيد أننا نحبهم في الله ونرجو أن ينفعنا الله بمحبتهم. وما ألطف قول الإمام الشافعي في هذا المعنى: أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة وأكره من بضاعته المعاصي وإن كنا جميعاً في البضاعة 4- "إن الله تعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده"514. 5- "إن الله تعالى يحب من عباده الغيور"515. هكذا ينعت القرآن المحبين والمحبوبين، أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها؟!! وقصارى القول: أن أصل الولاية الحب، وأصل العداوة البغض516، والله المستعان. | التوقيع | إذا الشّعب يوما أراد الحياة **** فلا بد أن يستقيم البشر
و لا بد للجهل إن ينجلي **** و لا بد للعلم أن ينتشر
و لا بد للشعب أن يرجع **** إلى عز دين به ننتصر
إلى رحب شرع إلى مسجد **** إلى نور علم به مزدجر
إلى سنة النبي المصطفى **** ففيها الهدى و الضيا و الدرر
... إلى نور قرآننا المنزل **** رسول كريم به قد نزل
إلى شرعة ربنا السمحة **** ففيها النجاة و فيها الضّفر
و فيها الخلاص و فيها المناص **** من الظلمات و من كل شر
فيا شعب إسلامنا الماجد **** أنيبوا و عودوا إلى مقتدر
و توبوا إلى الله كي تفلحوا **** و تنجوا و إلا فبئس المقر | |
| |