سورة الإنسان تعريف بسورة الإنسان في بعض الروايات أن هذه السورة مدنية , ولكنها مكية ; ومكيتها ظاهرة جدا , في موضوعها وفي سياقها , وفي سماتها كلها . لهذا رجحنا الروايات الأخرى القائلة بمكيتها . بل نحن نلمح من سياقها أنها من بواكير ما نزل من القرآن المكي . . تشي بهذا صور النعيم الحسية المفصلة الطويلة , وصور العذاب الغليظ , كما يشي به توجيه الرسول [ ص ] إلى الصبر لحكم ربه , وعدم إطاعة آثم منهم أو كفور ; مما كان يتنزل عند اشتداد الأذى على الدعوة وأصحابها في مكة , مع إمهال المشركين وتثبيت الرسول [ ص ] على الحق الذي نزل عليه , وعدم الميل إلى ما يدهنون به . . كما جاء في سورة القلم , وفي سورة المزمل , وفي سورة المدثر , مما هو قريب من التوجيه في هذه السورة . . واحتمال أن هذه السورة مدنية - في نظرنا - هو احتمال ضعيف جدا , يمكن عدم اعتباره ! والسورة في مجموعها هتاف رخي ندي إلى الطاعة , والالتجاء إلى الله , وابتغاء رضاه , وتذكر نعمته , والإحساس بفضله , واتقاء عذابه , واليقظة لابتلائه , وإدراك حكمته في الخلق والإنعام والابتلاء والإملاء . . وهي تبدأ بلمسة رفيقة للقلب البشري:أين كان قبل أن يكون ? من الذي أوجده ? ومن الذي جعله شيئا مذكورا في هذا الوجود ? بعد أن لم يكن له ذكر ولا وجودهل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا ?). . تتلوها لمسة أخرى عن حقيقة أصله ونشأته , وحكمة الله في خلقه , وتزويده بطاقاته ومداركه:(إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا). . ولمسة ثالثة عن هدايته إلى الطريق , وعونه على الهدى , وتركه بعد ذلك لمصيره الذي يختارهإنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا). . وبعد هذه اللمسات الثلاث الموحية , وما تثيره في القلب من تفكير عميق , ونظرة إلى الوراء . ثم نظرة إلى الأمام , ثم التحرج والتدبر عند اختيار الطريق . . بعد هذه اللمسات الثلاث تأخذ السورة في الهتاف للإنسان وهو على مفرق الطريق لتحذيره من طريق النار . . وترغيبه في طريق الجنة , بكل صور الترغيب , وبكلهواتف الراحة والمتاع والنعيم والتكريم: إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا . إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا . عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا . . وقبل أن تمضي في عرض صور المتاع ترسم سمات هؤلاء الأبرار في عبارات كلها انعطاف ورقة وجمال وخشوع يناسب ذلك النعيم الهانئ الرغيديوفون بالنذر , ويخافون يوما كان شره مستطيرا , ويطعمون الطعام - على حبه - مسكينا ويتيما وأسيرا . إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا . إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا). . ثم تعرض جزاء هؤلاء القائمين بالعزائم والتكاليف , الخائفين من اليوم العبوس القمطرير , الخيرين المطعمين على حاجتهم إلى الطعام , يبتغون وجه الله وحده , لا يريدون شكورا من أحد , إنما يتقون اليوم العبوس القمطرير ! تعرض جزاء هؤلاء الخائفين الوجلين المطعمين المؤثرين . فإذا هو الأمن والرخاء والنعيم اللين الرغيد: فوقاهم الله شر ذلك اليوم , ولقاهم نضرة وسرورا , وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا . متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا . ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا . ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قوارير , قوارير من فضة قدروها تقديرا . ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا , عينا فيها تسمى سلسبيلا . ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا . وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا . عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق , وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شرابا طهورا . إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا . فإذا انتهى معرض النعيم اللين الرغيد المطمئن الهانئ الودود اتجه الخطاب إلى رسول الله [ ص ] لتثبيته على الدعوة - في وجه الإعراض والكفر والتكذيب - وتوجيهه إلى الصبر وانتظار حكم الله في الأمر ; والاتصال بربه والاستمداد منه كلما طال الطريقإنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا . فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا . واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا , ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا). . ثم تذكيرهم باليوم الثقيل الذي لا يحسبون حسابه ; والذي يخافه الأبرار ويتقونه , والتلويح لهم بهوان أمرهم على الله , الذي خلقهم ومنحهم ما هم فيه من القوة , وهو قادر على الذهاب بهم , والإتيان بقوم آخرين ; لولا تفضله عليهم بالبقاء , لتمضي مشيئة الابتلاء . ويلوح لهم في الختام بعاقبة هذا الابتلاء: إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا . نحن خلقناهم وشددنا أسرهم وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا . إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا . وما تشاؤون إلا أن يشاء الله , إن الله كان عليما حكيما . يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما . . تبدأ السورة بالتذكير بنشأة الإنسان وتقدير الله في هذه النشأة , على أساس الابتلاء , وتختم ببيان عاقبة الابتلاء , كما اقتضت المشيئة منذ الابتداء . فتوحي بذلك البدء وهذا الختام بما وراء الحياة كلها من تدبير وتقدير , لا ينبغي معه أن يمضي الإنسان في استهتاره . غير واع ولا مدرك , وهو مخلوق ليبتلى , وموهوب نعمة الإدراك لينجح في الابتلاء . وبين المطلع والختام ترد أطول صورة قرآنية لمشاهد النعيم . أو من أطولها إذا اعتبرنا ما جاء في سورة الواقعة من صور النعيم , وهو نعيم حسي في جملته , ومعه القبول والتكريم , وهو بتفصيله هذا وحسيته يوحي بمكيته , حيث كان القوم قريبي عهد بالجاهلية , شديدي التعلق بمتاع الحواس , يبهرهم هذا اللون ويعجبهم , ويثير تطلعهم ورغبتهم . وما يزال هذا اللون من المتاع يثير تطلع صنوف من الناس , ويصلح جزاء لهم يرضي أعمق رغباتهم . والله أعلم بخلقه ما يصلح لهم وما يصلح قلوبهم , وما يليق بهم كذلك وفق تكوينهم وشعورهم . وهناك ما هو أعلى منه وأرق كالذي جاء في سورة القيامةوجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة). . والله أعلم بما يصلح للعباد في كل حال . الدرس الأول:1 - 3 تذكير الإنسان ببدايته وابتلائه وازدواجية استعداده (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا ? إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا . إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا). . هذا الاستفهام في مطلع السورة إنما هو للتقرير ; ولكن وروده في هذه الصيغة كأنما ليسأل الإنسان نفسه:ألا يعرف أنه أتى عليه حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا ? ثم ألا يتدبر هذه الحقيقة ويتملاها ? ثم ألا يفعل تدبرها في نفسه شيئا من الشعور باليد التي دفعته إلى مسرح الحياة , وسلطت عليه النور , وجعلته شيئا مذكورا بعد أن لم يكن شيئا مذكورا ? إنها إيحاءات كثيرة تنبض من وراء صيغة الاستفهام في هذا المقام . وهي إيحاءات رفيقة وعميقة تثير في النفس تأملات شتى: واحدة منها تتجه بالنفس إلى ما قبل خلق الإنسان ووجوده ابتداء . يعيش فيها مع هذا الكون وقد خلا من الإنسان . . كيف تراه كان ? . . والإنسان مخلوق مغرور في نفسه وفي قيمته , حتى لينسى أن هذا الكون كان وعاش قبل أن يوجد هو بأدهار وأزمان طوال . ولعل الكون لم يكن يتوقع خلق شيء يسمى "الإنسان" . . حتى انبثق هذا الخلق من إرادة الله فكان ! وواحدة منها تتجه إلى اللحظة التي انبثق فيها هذا الوجود الإنساني . وتضرب في تصورات شتى لهذه اللحظة التي لم يكن يعلمها إلا الله ; والتي أضافت إلى الكون هذه الخليقة الجديدة , المقدر أمرها في حساب الله قبل أن تكون ! المحسوب دورها في خط هذا الكون الطويل ! وواحدة منها تتجه إلى تأمل يد القدرة وهي تدفع بهذا الكائن الجديد على مسرح الوجود ; وتعده لدوره , وتعد له دوره , وتربط خيوط حياته بمحور الوجود كله ; وتهيئ له الظروف التي تجعل بقاءه وأداء دوره ممكنا وميسورا ; وتتابعه بعد ذلك في كل خطوة , ومعها الخيط الذي تشده به إليها مع سائر خيوط هذا الكون الكبير ! وإيحاءات كثيرة وتأملات شتى , يطلقها هذا النص في الضمير . . ينتهي منها القلب إلى الشعور بالقصد والغاية والتقدير , في المنشأ وفي الرحلة وفي المصير . فأما امتداد هذا الإنسان بعد ذلك وبقاؤه فكانت له قصة أخرى: (إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا). . والأمشاج:الأخلاط . وربما كانت هذه إشارة إلى تكون النطفة من خلية الذكر وبويضة الأنثى بعد التلقيح . وربما كانت هذه الأخلاط تعني الوراثات الكامنة في النطفة , والتي يمثلها ما يسمونه علميا "الجينات" وهي وحدات الوراثة الحاملة للصفات المميزة لجنس الإنسان أولا ولصفات الجنين العائلية أخيرا . وإليها يعزى سير النطفة الإنسانية في رحلتها لتكوين جنين إنسان , لا جنين أي حيوان آخر . كما تعزى إليها وراثة الصفات الخاصة في الأسرة . . ولعلها هي هذه الأمشاج المختلطة من وراثات شتى . . خلقته يد القدرة هكذا من نطفة أمشاج , لا عبثا ولا جزافا ولا تسلية , ولكنه خلق ليبتلي ويمتحن ويختبر . والله سبحانه يعلم ما هو ? وما اختباره ? وما ثمرة اختباره ? ولكن المراد أن يظهر ذلك على مسرح الوجود , وأن تترتب عليه آثاره المقدرة في كيان الوجود , وأن تتبعه آثاره المقدرة . ويجزى وفق ما يظهر من نتائج ابتلائه . ومن ثم جعله سميعا بصيرا . أي زوده بوسائل الإدراك , ليستطيع التلقي والاستجابة . وليدرك الأشياء والقيم ويحكم عليها ويختار . ويجتاز الابتلاء وفق ما يختار . . وإذن فإن إرادة الله في امتداد هذا الجنس وتكرر أفراده بالوسيلة التي قدرها , وهي خلقته من نطفة أمشاج . . كانت وراءها حكمة . وكان وراءها قصد . ولم تكن فلتة . . كان وراءها ابتلاء هذا الكائن واختباره . ومن ثم وهب الاستعداد للتلقي والاستجابة , والمعرفة والاختبار . . وكان كل شيء في خلقه وتزويده بالمدارك وابتلائه في الحياة . . بمقدار ! ثم زوده إلى جانب المعرفة , بالقدرة على اختيار الطريق , وبين له الطريق الواصل . ثم تركه ليختاره , أو ليضل ويشرد فيما وراءه من طرق لا تؤدي إلى الله: (إنا هديناه السبيل:إما شاكرا وإما كفورا). . وعبر عن الهدى بالشكر . لأن الشكر أقرب خاطر يرد على قلب المهتدي , بعد إذ يعلم أنه لم يكن شيئا مذكورا , فأراد ربه له أن يكون شيئا مذكورا . ووهب له السمع والبصر . وزوده بالقدرة على المعرفة . ثم هداه السبيل . وتركه يختار . . الشكر هو الخاطر الأول الذي يرد على القلب المؤمن في هذه المناسبة . فإذا لم يشكر فهو الكفور . . بهذه الصيغة الموغلة في الدلالة على الكفران . ويشعر الإنسان بجدية الأمر ودقته بعد هذه اللمسات الثلاث . ويدرك أنه مخلوق لغاية . وانه مشدود إلى محور . وأنه مزود بالمعرفة فمحاسب عليها . وأنه هنا ليبتلى ويجتاز الابتلاء . فهو في فترة امتحان يقضيها على الأرض , لا في فترة لعب ولهو وإهمال ! ويخرج من هذه الآيات الثلاث القصار بذلك الرصيد من التأملات الرفيقة العميقة , كما يخرج منها مثقل الظهر بالتبعة والجد والوقار في تصور هذه الحياة , وفي الشعور بما وراءها من نتائج الابتلاء ! وتغير هذه الآيات الثلاث القصار من نظرته إلى غاية وجوده , ومن شعوره بحقيقة وجوده , ومن أخذه للحياة وقيمها بوجه عام . الدرس الثاني:4 - 22 من صفات الأبرار وصور من نعيم الجنة لهم ومن ثم يأخذ في عرض ما ينتظر الإنسان بعد الابتلاء , واختياره طريق الشكر أو طريق الكفران . فأما ما ينتظر الكافرين , فيجمله إجمالا , لأن ظل السورة هو ظل الرخاء الظاهر في الصورة والإيقاع . وظل الهتاف المغري بالنعيم المريح . فأما العذاب فيشير إليه في إجمال: (إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا). . سلاسل للأقدام , وأغلالا للأيدي , ونارا تتسعر يلقى فيها بالمسلسلين المغلولين ! ثم يسارع السياق إلى رخاء النعيم: (إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا . عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا). . وهذه العبارة تفيد أن شراب الأبرار في الجنة ممزوج بالكافور , يشربونه في كأس تغترف من عين تفجر لهم تفجيرا , في كثرة ووفرة . . وقد كان العرب يمزجون كؤوس الخمر بالكافور حينا وبالزنجبيل حينا زيادة في التلذذ بها , فهاهم أولاء يعلمون أن في الجنة شرابا طهورا ممزوجا بالكافور , على وفر وسعة . فأما مستوى هذا الشراب فمفهوم أنه أحلى من شراب الدنيا , وأن لذة الشعور به تتضاعف وترقى , ونحن لا نملك في هذه الأرض أن نحدد مستوى ولا نوعا للذة المتاع هناك . فهي أوصاف للتقريب . يعلم الله أن الناس لا يملكون سواها لتصور هذا الغيب المحجوب . والتعبير يسميهم في الآية الأولى(الأبرار)ويسميهم في الآية الثانية (عباد الله). . إيناسا وتكريما وإعلانا للفضل تارة , وللقرب من الله تارة , في معرض النعيم والتكريم . ثم يعرف بهؤلاء الأبرار عباد الله الذين قسم لهم هذا المتاع: (يوفون بالنذر , ويخافون يوما كان شره مستطيرا , ويطعمون الطعام - على حبه - مسكينا ويتيما وأسيرا . إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا . إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا).
وهي صورة وضيئة شفافة لقلوب مخلصة جادة عازمة على الوفاء لله بتكاليف العقيدة , مع رحمة ندية بعباده الضعاف , وإيثار على النفس , وتحرج وخشية لله , ورغبة في رضاه , وإشفاق من عذابه تبعثه التقوى والجد في تصور الواجب الثقيل . (يوفون بالنذر)فيفعلون ما اعتزموا من الطاعات , وما التزموا من الواجبات . فهم يأخذون الأمر جدا خالصا لا يحاولون التفلت من تبعاته , ولا التفصي من أعبائه , ولا التخلي عنه بعد اعتزامه . وهذا معنى أنهم يوفون بالنذر . فهو أعم من المعنى العرفي المتبادر من كلمة(النذر). (ويخافون يوما كان شره مستطيرا). . فهم يدركون صفة هذا اليوم , الذي يتفشى شره ويصيب الكثيرين من المقصرين والمسيئين . فيخافون أن ينالهم شيء من شره . وهذه سمة الأتقياء , الشاعرين بثقل الواجب وضخامة التكاليف , الخائفين من التقصير والقصور , مهما قدموا من القرب والطاعات . (ويطعمون الطعام - على حبه - مسكينا ويتيما وأسيرا). . وهي تصور شعور البر والعطف والخير ممثلا في إطعام الطعام , مع حبه بسبب الحاجة إليه . فمثل هذه القلوب لا يقال عنها:إنها تحب الطعام الذي تطعمه للضعاف المحاويج على اختلاف أنواعهم . إلا أن تكون في حاجة هي إلى هذا الطعام , ولكنها تؤثر به المحاويج . وهذه اللفتة تشي بقسوة البيئة في مكة بين المشركين ; وأنها كانت لا تفضي بشيء للمحاويج الضعاف ; وإن كانت تبذل في مجالات المفاخرة الشيء الكثير . فأما الأبرار عباد الله فكانوا واحة ظليلة في هذه الهاجرة الشحيحة . وكانوا يطعمون الطعام بأريحية نفس , ورحمة قلب , وخلوص نية . واتجاه إلى الله بالعمل , يحكيه السياق من حالهم , ومن منطوق قلوبهم . (إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا . إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا). . فهي الرحمة الفائضة من القلوب الرقيقة الرفيقة , تتجه إلى الله تطلب رضاه . ولا تبتغي بها جزاء من الخلق ولا شكرا , ولا تقصد بها استعلاء على المحتاجين ولا خيلاء . كما تتقي بها يوما عبوسا شديد العبوس , تتوقعه وتخشاه, وتتقيه بهذا الوقاء . وقد دلهم رسول الله [ ص ] عليه وهو يقول:" اتق النار ولو بشق تمرة " . . وقد كان إطعام الطعام هكذا مباشرة هو وسيلة التعبير عن هذه العاطفة النبيلة الكريمة , ووسيلة الإشباع لحاجات المحاويج . ولكن صور الإحسان ووسائله قد تتغير بحسب البيئات والظروف , فلا تظل في هذه الصورة البدائية المباشرة . إلا أن الذي يجب الاحتفاظ به هو حساسية القلوب , وحيوية العاطفة , والرغبة في الخير ابتغاء وجه الله , والتجرد عن البواعث الأرضية من جزاء أو شكر أو نفع من منافع الحياة ! ولقد تنظم الضرائب , وتفرض التكاليف , وتخصص للضمان الاجتماعي , ولإسعاف المحاويج , ولكن هذا إنما يفي بشطر واحد من مزايا الاتجاه الإسلامي الذي ترمز إليه تلك الآيات , والذي توخاه بفريضة الزكاة . . هذا الشطر هو كفاية حاجة المحتاجين . . هذا شطر . . والشطر الآخر هو تهذيب أرواح الباذلين , ورفعها إلى ذلك المستوى الكريم . وهو شطر لا يجوز إغفاله ولا التهوين من شأنه فضلا على أن تنقلب المعايير فيوصم ويقبح ويشوه , ويقال:إنه إذلال للآخذين وإفساد للواهبين . إن الإسلام عقيدة قلوب , ومنهج تربية لهذه القلوب . والعاطفة الكريمة تهذب صاحبها وتنفع من يوجهها إليه من إخوانه . فتفي بشطري التربية التي يقصد إليها هذا الدين . ومن ثم كان ذلك التصوير الكريم لذلك الشعور الكريم . (فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا). . يعجل السياق بذكر وقايتهم من شر ذلك اليوم الذي كانوا يخافونه , ليطمئنهم في الدنيا وهم يتلقون هذا القرآن ويصدقونه ! ويذكر أنهم تلقوا من الله نضرة وسرورا , لا يوما عبوسا قمطريرا . جزاء وفاقا على خشيتهم وخوفهم , وعلى نداوة قلوبهم ونضرة مشاعرهم . ثم يمضي بعد ذلك في وصف مناعم الجنة التي وجدوها: (وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا). . جنة يسكنونها وحريرا يلبسونه . (متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا). . فهم في جلسة مريحة مطمئنة والجو حولهم رخاء ناعم دافئ في غير حر , ندي في غير برد . فلا شمس تلهب النسائم , ولا زمهرير وهو البرد القارس ! ولنا أن نقول:إنه عالم آخر ليست فيه شمسنا هذه ولا شموس أخرى من نظائرها . . وكفى ! (ودانية عليهم ظلالها . وذللت قطوفها تذليلا). . وإذا دنت الظلال ودنت القطوف فهي الراحة والاسترواح على أمتع ما يمتد إليه الخيال ! فهذه هي الهيئة العامة لهذه الجنة التي جزى الله بها عباده الأبرار الذين رسم لهم تلك الصورة المرهفة اللطيفة الوضيئة في الدنيا . . ثم تأتي تفصيلات المناعم والخدمات . . (ويطاف عليهم بآنية من فضة , وأكواب كانت قوارير , قوارير من فضة قدروها تقديرا . ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا . عينا فيها تسمى سلسبيلا . . ) فهم في متاعهم . متكئين على الأرائك بين الظلال الوارفة والقطوف الدانية والجو الرائق . . يطاف عليهم بأشربة في آنية من فضة , وفي أكواب من فضة كذلك , ولكنها شفة كالقوارير , مما لم تعهده الأرض في آنية الفضة . وهي بأحجام مقدرة تقديرا يحقق المتاع والجمال . ثم هي تمزج بالزنجبيل كما مزجت مرة بالكافور . وهي كذلك تملأ من عين جارية تسمى سلسبيلا , لشدة عذوبتها واستساغتها لدى الشاربين ! وزيادة في المتاع فإن الذين يطوفون بهذه الأواني والأكواب بالشراب هم غلمان صباح الوجوه , لا يفعل فيهم الزمن , ولا تدركهم السن ; فهم مخلدون في سن الصباحة والصبا والوضاءة . وهم هنا وهناك كاللؤلؤ المنثور: (ويطوف عليهم ولدان مخلدون , إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا). . ثم يجمل السياق خطوط المنظر , ويلقي عليه نظرة كاملة تلخص وقعه في القلب والنظر: (وإذا رأيت - ثم - رأيت نعيما وملكا كبيرا). . نعيما وملكا كبيرا . هو الذي يعيش فيه الأبرار المقربون عباد الله هؤلاء , على وجه الإجمال والعموم ! ثم يخصص مظهرا من مظاهر النعيم والملك الكبير ; كأنه تعليل لهذا الوصف وتفسير: (عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق , وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شرابا طهورا). . والسندس الحرير الرقيق , والإستبرق الحرير السميك المبطن . . وهم في هذه الزينة وهذا المتاع , يتلقونه كله من(ربهم)فهو عطاء كريم من معط كريم . وهذه تضاف إلى قيمة ذلك النعيم ! ثم يتلقون عليه الود والتكريم: (إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا). . يتلقون هذا النطق من الملأ الأعلى . وهو يعدل هذه المناعم كلها , ويمنحها قيمة أخرى فوق قيمتها . .
وهكذا ينتهي ذلك العرض المفصل والهتاف الموحي للقلوب , الهتاف إلى ذلك النعيم الطيب والفرار من السلاسل والأغلال والسعير . . وهما طريقان . طريق مؤد إلى الجنة هذه وطريق مؤد إلى السعير ! الدرس الثالث:23 - 26 إنزال القرآن وتوجيه الدعاة إلى زادهم وهو الإتصال بالله وبعد انتهاء هذا الهتاف إلى الجنة ونعيمها الهنيء الرغيد , يعالج حالة المشركين المصرين على العناد والتكذيب , الذين لا يدركون حقيقة الدعوة , فيساومون عليها الرسول [ ص ] لعله يكف عنها , أو عما يؤذيهم منها . وبين المساومة للنبي [ ص ] وفتنة المؤمنين به وإيذائهم , والصد عن سبيل الله , والإعراض عن الخير والجنة والنعيم . . بين هذا كله يجيء المقطع الأخير في السورة يعالج هذا الموقف بطريقة القرآن الكريم: (إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا . فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا . واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا . ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا). . وفي هذه الآيات الأربع تكمن حقيقة كبيرة من حقائق الدعوة الإيمانية . حقيقة ينبغي أن يعيش فيها الدعاة إلى الله طويلا , وأن يتعمقوها تعمقا كاملا , وأن ينظروا بتدبر في مدلولاتها الواقعية والنفسية والإيمانية الكبيرة . لقد كان رسول الله [ ص ] يواجه المشركين بالدعوة إلى الله وحده . وهو لم يكن يواجه في نفوسهم مجرد عقيدة . ولو كان الأمر كذلك لكان أيسر كثيرا . فإن عقيدة الشرك المهلهلة التي كانوا عليها لم تكن من القوة والثبات بحيث يصمدون بها هكذا لعقيدة الإسلام القوية الواضحة البسيطة . إنما كانت الملابسات التي تحيط بالعقيدة وبالموقف هي التي تقود إلى تلك المعارضة العنيدة , التي شهدت بها الروايات التاريخية , وحكاها القرآن في مواضع منه شتى . . كانت المكانة الاجتماعية , والاعتزاز بالقيم السائدة في البيئة , وما يتلبس بها كذلك من مصالح مادية . . هي العنصر الأول الذي يقود إلى التشبث بالعقيدة الواهية الظاهرة البطلان , في وجه العقيدة القوية الظاهرة الاستقامة . . ثم كانت صور الحياة الجاهلية ومتاعها ولذائذها وشهواتها إلى جانب ذلك تزيد المقاومة والعناد والتأبي على العقيدة الجديدة , وما فيها من اتجاهات أخلاقية وقيم رفيعة , لا تسمح بانطلاق الغرائز والشهوات ; ولا بالحياة العابثة الماجنة المطلقة من كوابح الأخلاق . وهذه الأسباب - سواء ما يتعلق منها بالمكانة والقيم الاجتماعية والسلطان والمال والمصالح , وما يتعلق منها بالإلف والعادة وصور الحياة التقليدية , وما يتعلق منها بالانطلاق من القيم والقيود الأخلاقية - كانت قائمة في وجه الدعوة الأولى , وهي هي قائمة في وجه الدعوة في كل أرض وفي كل جيل . وهي تمثل العناصر الثابتة في معركة العقيدة , التي تجعلها معركة عنيدة لا تنتهي من قريب ; وتجعل مشاقها وتكاليفها والثبات عليها من أعسر التكاليف . ومن ثم ينبغي للدعاة إلى دين الله في أي أرض وفي أي زمان أن يعيشوا طويلا في الحقيقة الكبيرة الكامنة في تلك الآيات , وملابسات نزولها على الرسول [ ص ] فهي ملابسات معركة واحدة يخوضها كل صاحب دعوة إلى الله , في أي أرض وفي أي زمان ! لقد تلقى رسول الله [ ص ] التكليف من ربه لينذر , وقيل لهيا أيها المدثر . قم فأنذر). . فلما أن نهض بالتكليف واجهته تلك العوامل والأسباب التي تصد القوم عن الدعوة الجديدة , وتثير في نفوسهم التشبت بما هم عليه - على شعورهم بوهنه وهلهلته - وتقودهم إلى العناد الشديد , ثم إلى الدفاع العنيد عن معتقداتهم وأوضاعهم ومكانتهم ومصالحهم . ومألوف حياتهم , ولذائذهم وشهواتهم . . إلى آخر ما تهدده الدعوة الجديدة أشد التهديد . وأخذ هذا الدفاع العنيد صورا شتى , في أولها إيذاء القلة المؤمنة التي استجابت للدعوة الجديدة , ومحاولة فتنتها عن عقيدتها بالتعذيب والتهديد . ثم تشويه هذه العقيدة وإثارة الغبار حولها وحول نبيها [ ص ] بشتى التهم والأساليب . كي لا ينضم إليها مؤمنون جدد . فمنع الناس عن الانضمام إلى راية العقيدة قد يكون أيسر من فتنة الذين عرفوا حقيقتها وذاقوها ! وفي الوقت ذاته راحوا يحاولون مع صاحب الدعوة [ ص ] طرقا شتى من الإغراء - إلى جانب التهديد والإيذاء - ليلتقي بهم في منتصف الطريق ; ويكف عن الحملة الساحقة على معتقداتهم وأوضاعهم وتقاليدهم ; ويصالحهم ويصالحونه على شيء يرتضيه ويرتضونه ! كما تعود الناس أن يلتقوا في منتصف الطريق عند الإختلاف على المصالح والمغانم وشؤون هذه الأرض المعهودة . وهذه الوسائل ذاتها أو ما يشبهها هي التي يواجهها صاحب الدعوة إلى الله في كل أرض وفي كل جيل !
والنبي [ ص ] ولو أنه رسول , حفظه الله من الفتنة , وعصمه من الناس . . إلا أنه بشر يواجه الواقع الثقيل في قلة من المؤمنين وضعف . والله يعلم منه هذا , فلا يدعه وحده , ولا يدعه لمواجهة الواقع الثقيل بلا عون ومدد وتوجيه إلى معالم الطريق . وهذه الآيات تتضمن حقيقة هذا العون والمدد والتوجيه: (إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا). وهي اللفتة الأولى إلى مصدر التكليف بهذه الدعوة , وينبوع حقيقتها . . إنها من الله . هو مصدرها الوحيد . وهو الذي نزل بها القرآن . فليس لها مصدر آخر , ولا يمكن أن تختلط حقيقتها بشيء آخر لا يفيض من هذا الينبوع . وكل ما عدا هذا المصدر لا يتلقى عنه , ولا يستمد منه , ولا يستعار لهذه العقيده منه شيء , ولا يخلط بها منه شيء . . ثم إن الله الذي نزل هذا القرآن وكلف بهذه الدعوة لن يتركها . ولن يترك الداعي إليها , وهو كلفه , وهو نزل القرآن عليه . ولكن الباطل يتبجح , والشر ينتفش , والأذى يصيب المؤمنين , والفتنة ترصد لهم ; والصد عن سبيل الله يملكه أعداء الدعوة ويقومون به ويصرون عليه , فوق إصرارهم على عقيدتهم وأوضاعهم وتقاليدهم وفسادهم وشرهم الذي يلجون فيه ! ثم هم يعرضون المصالحة , وقسمة البلد بلدين , والإلتقاء في منتصف الطريق . . وهو عرض يصعب رده ورفضه في مثل تلك الظروف العصيبة ! هنا تجيء اللفتة الثانية: (فاصبر لحكم ربك , ولا تطع منهم آثما أو كفورا). . إن الأمور مرهونة بقدر الله . وهو يمهل الباطل , ويملي للشر , ويطيل أمد المحنة على المؤمنين والابتلاء والتمحيص . . كل أولئك لحكمة يعلمها , يجري بها قدره , وينفذ بها حكمه . . (فاصبر لحكم ربك). . حتى يجيء موعده المرسوم . . اصبر على الأذى والفتنة . واصبر على الباطل يغلب , والشر يتنفج . ثم اصبر أكثر على ما أوتيته من الحق الذي نزل به القرآن عليك . اصبر ولا تستمع لما يعرضونه من المصالحة والالتقاء في منتصف الطريق على حساب العقيدة: (ولا تطع منهم آثما أو كفورا). . فهم لا يدعونك إلى طاعة ولا إلى بر ولا إلى خير . فهم آثمون كفار . يدعونك إلى شيء من الإثم والكفر إذن حين يدعونك إلى الالتقاء بهم في منتصف الطريق ! وحين يعرضون عليك ما يظنونه يرضيك ويغريك ! وقد كانوا يدعونه باسم شهوة السلطان , وباسم شهوة المال , وباسم شهوة الجسد . فيعرضون عليه مناصب الرياسة فيهم والثراء , حتى يكون أغنى من أغناهم , كما يعرضون عليه الحسان الفاتنات , حيث كان عتبة بن ربيعة يقول له:" ارجع عن هذا الأمر حتى أزوجك ابنتي , فإني من أجمل قريش بنات ! " . . كل الشهوات التي يعرضها أصحاب الباطل لشراء الدعاة في كل أرض وفي كل جيل ! (فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا). . فإنه لا لقاء بينك وبينهم ; ولا يمكن أن تقام قنطرة للعبور عليها فوق الهوة الواسعة التي تفصل منهجك عن منهجهم , وتصورك للوجود كله عن تصورهم , وحقك عن باطلهم , وإيمانك عن كفرهم , ونورك عن ظلماتهم , ومعرفتك بالحق عن جاهليتهم !
اصبر ولو طال الأمد , واشتدت الفتنة وقوي الإغراء , وامتد الطريق . . ولكن الصبر شاق , ولا بد من الزاد والمدد المعين: (واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا , ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا). هذا هو الزاد . اذكر اسم ربك في الصباح والمساء , واسجد له بالليل وسبحه طويلا . . إنه الاتصال بالمصدر الذي نزل عليك القرآن , وكلفك الدعوة , هو ينبوع القوة ومصدر الزاد والمدد . . الاتصال به ذكرا وعبادة ودعاء وتسبيحا . . ليلا طويلا . . فالطريق طويل , والعبء ثقيل . ولا بد من الزاد الكثير والمدد الكبير . وهو هناك , حيث يلتقي العبد بربه في خلوة وفي نجاء , وفي تطلع وفي أنس , تفيض منه الراحة على التعب والضنى , وتفيض منه القوة على الضعف والقلة . وحيث تنفض الروح عنها صغائر المشاعر والشواغل , وترى عظمة التكليف , وضخامة الأمانة . فتستصغر ما لاقت وما تلاقي من أشواك الطريق ! إن الله رحيم , كلف عبده الدعوة , ونزل عليه القرآن , وعرف متاعب العبء , وأشواك الطريق . فلم يدع نبيه [ ص ] بلا عون أو مدد . وهذا هو المدد الذي يعلم - سبحانه - أنه هو الزاد الحقيقي الصالح لهذه الرحلة المضنية في ذلك الطريق الشائك . . وهو هو زاد أصحاب الدعوة إلى الله في كل أرض وفي كل جيل . فهي دعوة واحدة . ملابساتها واحدة . وموقف الباطل منها واحد , وأسباب هذا الموقف واحدة . ووسائل الباطل هي ذاتها وسائله . فلتكن وسائل الحق هي الوسائل التي علم الله أنها وسائل هذا الطريق .
والحقيقة التي ينبغي أن يعيش فيها أصحاب الدعوة إلى الله هي هذه الحقيقة التي لقنها الله لصاحب الدعوة الأولى [ ص ] هي أن التكليف بهذه الدعوة تنزل من عند الله . فهو صاحبها . وأن الحق الذي تنزلت به لا يمكن مزجه بالباطل الذي يدعو إليه الآثمون الكفار . فلا سبيل إلى التعاون بين حقها وباطلهم , أو الالتقاء في منتصف الطريق بين القائم على الحق والقائمين على الباطل . فهما نهجان مختلفان , وطريقان لا يلتقيان . فأما حين يغلب الباطل بقوته وجمعه على قلة المؤمنين وضعفهم , لحكمة يراها الله . . فالصبر حتى يأتي الله بحكمه . والاستمداد من الله والاستعانة بالدعاء والتسبيح - ليلا طويلا - هي الزاد المضمون لهذا الطريق . . . . إنها حقيقة كبيرة لا بد أن يدركها ويعيش فيها رواد هذا الطريق . . الدرس الرابع:27 غفلة الكفار عن الآخرة ومحبتهم للعاجلة ثم يمضي السياق في توكيد الافتراق بين منهج الرسول [ ص ] ومنهج الجاهلية . بما يقرره من غفلتهم عن رؤية الخير لأنفسهم , ومن تفاهة اهتماماتهم , وصغر تصوراتهم . . يقول: (إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا). . إن هؤلاء , القريبي المطامح والاهتمامات , الصغار المطالب والتصورات . . هؤلاء الصغار الزهيدين الذين يستغرقون في العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا . ثقيلا بتبعاته . ثقيلا بنتائجه . ثقيلا بوزنه في ميزان الحقيقة . . إن هؤلاء لا يطاعون في شيء ولا يتبعون في طريق ; ولا يلتقون مع المؤمنين في هدف ولا غاية , ولا يؤبه لما هم فيه من هذه العاجلة , من ثراء وسلطان ومتاع , فإنما هي العاجلة , وإنما هو المتاع القليل , وإنما هم الصغار الزهيدون ! ثم توحي الآية بغفلتهم عن رؤية الخير لأنفسهم . فهم يختارون العاجلة , ويذرون اليوم الثقيل الذي ينتظرهم هناك بالسلاسل والأغلال والسعير , بعد الحساب العسير ! فهذه الآية استطراد في تثبيت الرسول [ ص ] والمؤمنين معه , في مواجهة هؤلاء الذين أوتوا من هذه العاجلة ما يحبون . إلى جانب أنها تهديد ملفوف لأصحاب العاجلة باليوم الثقيل . الدرس الخامس:28 ضعف الكفار أمام قدرة الله يتلو ذلك التهوين من أمرهم عند الله الذي أعطاهم ما هم فيه من قوة وبأس , وهو قادر على الذهاب بهم وتبديل غيرهم منهم . ولكنه يتركهم لحكمة يجري بها قدره القديم: (نحن خلقناهم وشددنا أسرهم , وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا). . وهذه اللفتة تذكر هؤلاء الذين يعتزون بقوتهم , بمصدر هذه القوة , بل مصدر وجودهم ابتداء . ثم تطمئن الذين آمنوا - وهم في حالة الضعف والقلة - إلى أن واهب القوة هو الذي ينتسبون إليه وينهضون بدعوته . كما تقرر في نفوسهم حقيقة قدر الله وما وراءه من حكمة مقصودة , هي التي تجري وفقها الأحداث حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين . (وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا). . فهم لا يعجزون الله بقوتهم , وهو خلقهم وأعطاهم إياها . وهو قادر على أن يخلق أمثالهم في مكانهم . . فإذا أمهلهم ولم يبدل أمثالهم فهو فضله ومنته وهو قضاؤه وحكمته . ومن هنا تكون الآية استطرادا في تثبيت الرسول [ ص ] ومن معه ; وتقريرا لحقيقة موقفهم وموقف الآخرين . . كما أنها لمسة لقلوب هؤلاء المستغرقين في العاجلة , المغترين بقوة أسرهم , ليذكروا نعمة الله , التي يتبطرون بها فلا يشكرونها ; وليشعروا بالابتلاء الكامن وراء هذه النعمة . وهو الابتلاء الذي قرره لهم في مطلع السورة . الدرس السادس:29 - 31 الهداية والتذكرة بيد الله يهبهما لمن يطلبهما ثم يوقظهم إلى الفرصة المتاحة لهم , والقرآن يعرض عليهم , وهذه السورة منه تذكرهم: (إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا). . ويعقب على هذه اللفتة بإطلاق المشيئة , ورد كل شيء إليها , ليكون الاتجاه الأخير إليها , والاستسلام الأخير لحكمها ; وليبرأ الإنسان من قوته إلى قوتها , ومن حوله إلى حولها . . وهو الإسلام في صميمه وحقيقته: وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما . . ذلك كي تعلم قلوب البشر أن الله هو الفاعل المختار , المتصرف القهار , فتتعلم كيف تتجه إليه وتستسلم لقدره . . وهذا هو مجال هذه الحقيقة الذي تجري فيه في مثل هذه النصوص . مع تقرير ما شاءه الله لهم من منحهم القدرة على إدراك الحق والباطل ; والاتجاه إلى هذا أو ذاك وفق مشيئة الله , العليم بحقيقة القلوب , وما أعان به العباد من هبة الإدراك والمعرفة , وبيان الطريق , وإرسال الرسل , وتنزيل القرآن . . . إلا أن هذا كله ينتهي إلى قدر الله , الذي يلجأ إليه الملتجئ , فيوفقه إلى الذكر والطاعة , فإذا لم يعرف في قلبه حقيقة القدرة المسيطرة , ولم يلجأ إليها لتعينه وتيسره , فلا هدى ولا ذكر , ولا توفيق إلى خير . . . ومن ثم فهو: (يدخل من يشاء في رحمته , والظالمين أعد لهم عذابا أليما). . فهي المشيئة المطلقة تتصرف بما تريد . ومن إرادتها أن يدخل في رحمته من يشاء , ممن يلتجئون إليه , يطلبون عونه على الطاعة , وتوفيقه إلى الهدى . . (والظالمين أعد لهم عذابا أليما). وقد أملى لهم وأمهلهم لينتهوا إلى هذا العذاب الأليم ! وهذا الختام يلتئم مع المطلع , ويصور نهاية الابتلاء , الذي خلق الله له الإنسان من نطفة أمشاج , ووهبه السمع والأبصار , وهداه السبيل إما إلى جنة وإما إلى نار . . |