تجربة عشر سنوات

رؤية مستقبلية للتراث والتعليم
تجربة مغربية
تدريس التراث الثقافي ليس بذخا معرفيا أو تعليميا بل هو من الميادين التي تساعد البلاد على تنمية قدرات أبنائها.
ميدل ايست اونلاين
بقلم: د. أحمد سكونتي
في إطار الاهتمام بالتراث الثقافي، كان من المنتظر أن تنكب مؤسسات التعليم الجامعية على تكوين الشباب في هذا الميدان، وكان المعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث سباقا منذ افتتاحه سنة 1986 إلى تكوين محافظي المتاحف والآثار والمباني التاريخية غير أن الحاجة إلى شباب لهم إلمام بالموضوع سرعان ما تجاوز إطار وزارة الثقافة ليصل إلى الجامعة المغربية.
وأدمجت جامعة مراكش مادة التراث الثقافي مبكرا في إطار مسلك حول السياحة افتتح منذ 1999.
وسأحاول في هذه المداخلة التطرق لتجربتي في تدريس التراث الثقافي في إطار هذا المسلك من خلال استعراض نقط ضعفها وقوتها.

1 ـ تجربة المعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث

تعتبر تجربة المغرب في تدريس التراث تجربة حديثة وجزئية في آن واحد فإلى حدود بداية الثمانينيات من القرن الماضي، لم تتوفر البلاد سوى على ثلاثة متخصصين في علم الآثار وبضعة انثربولوجيين يعدون على رؤوس أصابع اليد الواحدة. ثم إن الاهتمام بالتراث، والثقافي منه على وجه الخصوص، اقتصر على جوانبه الأثرية من علوم ما قبل التاريخ وما قبل الإسلام والفترة الإسلامية دون إدماج لنتائج تلك العلوم في رؤيا تراثية متكاملة ومندمجة.
وخلال سنوات الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين، انتهجت وزارة الثقافة سياسية تكوين وإدماج لمختصين في جوانب مختلفة من التراث الثقافي خاصة بعد إحداث المعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث.
1- أفواج معدودة من محافظي التراث:
أحدث المعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث بقرار لوزارة الثقافة سنة 1985 وافتتح أبوابه لأول فوج من الطلبة الحاصلين على الباكلوريا سنة 1986، واستقبل المعهد عشرين طالبا من الناجحين في مبارة وطنية نظمت كل سنة ما بين 1986 و1996، ابتداءً من الدخول الجامعي 1996 و1997، وبطلب من الوزارة الوصية، شرع المعهد في تكوين فوج من عشرين طالبا كل أربع سنوات وذلك نظرا لعجز الوزارة على توفير مناصب مالية بالعدد الكافي للمتخرجين كل سنة.
يضم التكوين بالمعهد ثلاثة مستويات يختتم كل منها بالحصول عل دبلوم كما هو مبين فيما يلي:
- سنتين من التكوين في جدع مشترك تلقن فيه للطلبة مقدمات في كل التخصصات بالإضافة إلى اللغات الحية والتاريخ والمعلوميات والتشريعات وغيرها ويحصل الناجحون على دبلوم الدراسات الجامعية العامة.
- سنتين من التكوين في إحدى مواد التخصص وهي: الأنثربولوجيا وعلم ما قبل التاريخ وعلم ما قبل الإسلام وعلم الآثار الإسلامية وعلم المباني التاريخية أضيف إليها علم المتاحف ابتداء من 1997. ويحصل الطالب الناجح إثر التخصص على دبلوم السلك الثاني للمعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث بعد أن يكون قد ناقش بحثا أمام لجنة علمية ويتوجه أغلب الطلبة بعد ذلك إلى العمل في الإدارات التابعة لوزارة الثقافة وبعض المؤسسات العمومية والخاصة الأخرى.
وتتوجه قلة قليلة لمتابعة دراستها للحصول على الدكتوراه إما في فرنسا أو الولايات المتحدة الأميركية أو إسبانيا وإما بالتسجيل بالمعهد نفسه للحصول على دبلوم السلك الثالث ويمكن كذلك للمنخرطين في الإدارة العاملين في المتاحف والمباني التاريخية والمواقع الأثرية أو في الإدارة المركزية أن يسجلوا أنفسهم بالسلك الثالث للمعهد.
ويجمع التكوين بالمعهد بين النظري والتطبيقي يكون الأول على شكل محاضرات ودروس والثاني على شكل دروس تطبيقية. ويؤطر كل مستويات التكوين طاقم التدريس الدائم والتابع للمعهد فيما يتعلق بمواد التخصص كالاثتربولوجيا وعلوم الآثار بفروعه الثلاثة وعلم المتاحف ويتم الاعتماد على أساتذة من خارج المؤسسة فيما يتعلق بتدريس المواد الفرعية أو التكميلية من لغات حية (أمازيغية، عربية، فرنسية، إنجليزية، إسبانية، ألمانية) وتاريخ ومعلوميات وتواصل وتشريعات قانونية وغيرها.
وخلال العشر سنوات الأولى التي كان المعهد يكوِّن خلالها فوجا من عشرين خريجا سنويا والاثنتي عشرة سنة الأخيرة التي أصبح فيها يكتفي بتكوين فوج كل أربع سنوات، لم يعمد المعهد إلى فتح جميع تخصصاته كل سنة. عكس ذلك، تعمل الإدارة على فتح بضع تخصصات (ثلاثة على الأكثر) في وجد الطلبة الحاصلين على دبلوم الدراسات العليا الجامعية وذلك بتشاور مع الوزارة الوصية خاصة مديرية الثرات القافي التي تشغل جل الخرجين. فبما أن هذه الأخيرة هي التي تعمل على إدماجهم سواء في الإدارة المركزية بالرباط أو بمصاحها بالجهات من متاحف ومواقع أثرية ومباني تاريخية، فإنها تقترح على المعهد التكوين في ميادين التخصص التي هي في أمس الحاجة إليها.
وقد تخرج من المعهد ما بين الفوج الأول (1990) والفوج الأخير (2008) حوالي 190 خريجا، كلهم يحملون صفة محافظ للمتاحف بالنسبة للمختصين في الانثربولوجيا وعلم المتاحف أو محافظ المباني التاريخية والمواقع بالنسبة للمختصين في علوم الآثار بفروعها الثلاثة وكذا تخصص المباني التاريخية.
وبالإضافة إلى تكوينهم بالمعهد وتسجيل الكثير منهم بالسلك الثالث للمؤسسة، سيستفيد كثير من الخرجين من دورات تكوينية بالخارج خاصة في فرنسا وإيطاليا. كما أن حوالي عشرة خرجين تابعوا دراستهم في ميدان تدبير التراث الثقافي بجامعة سنغور الفرنكوفونية التي أحدثتها فرنسا ومصر بالإسكندرية في أواخر التسعينيات من القرن الماضي.
تجدر الإشارة إلى أن طلبة أجانب تم تكوينهم بالمعهد وينحدرون من السينغال وموريتانيا وسوريا واليمن.
وأخيرا فإن المعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث مؤسسة فريدة من نوعها في المغرب وكذا على مستوى الدول المغاربية لكونها تجمع بين التكوين والبحث العلمي في ميادين التراث وعلم الآثار والانثربولوجيا.

2- الاندماج في الإصلاح الجامعي

بموجب قانون تنظيم التعليم العالي رقم 00-01 الذي تم وضعه من طرف الحكومة المغربية سنة 2000، تقرر الانتقال تدريجيا من النظام القديم بكل تفرعاته بحسب مؤسسات التكوين الجامعية إلى النظام الجديد المعتمد على نطاق واسع عالميا والمتكون من ثلاثة مستويات موحدة هي: الليسانس والماستر والدكتوراه. وتنص المادتين 33 و35 من القانون المذكور على ضرورة توفر كل مؤسسة جامعية على مجلس إدارة يرأسه المدير، ويتولى تسييرها بمؤازرة مدير أو مدراء مساعدين وكاتب عام (المادة 33) وعلى مجلس المؤسسة الذي ينظر في جميع المسائل المتعلقة بتدبير شؤونها (المادة 35).
وقد بادر المعهد إلى تطبيق مقتضيات القانون الجديد ابتداء من الدخول الجامعي 2007-2008 فعين مدير جديد من بين الأساتذة العاملين بالمعهد وأحدثت الهياكل الإدارية الضرورية لتطبيق الإصلاح. وفي مرحلة ثانية تم الشروع في الانتقال إلى نظام التكوين الجديد المذكور ذي المستويات الثلاثة ابتداء من الدخول الجامعي الموالي وفيما يتعلق بالتكوين فقد سن المعهد سياسة جديدة تعتمد على تنويع التخصصات وتحديث نظم التدريس والتكوين قصد تمكين الخرجين من الانخراط في الحياة العملية بالاستجابة لمتطلبات سوق العمل.
ولبلوغ هذا الهدف تمت صياغة مشروع سلك للتكوين الأساسي بالمعهد يتكون من ستة أسداس (كل أسدس يساوي ستة أشهر) تكون بدورها ثلاث سنوات يحصل الطالب إثر نجاحه فيها على اللسانس وتترتب كالتالي:
- أسدس أول للاستئناس
- أسدس ثاني للتحديد
- أسدسين ثالث ورابع للتعمق والتخصص في مجال معين من التكوين
وتضم الأسداس 16 وحدة تتكون كل منها من مجموعة مواد متجانسة ومتكاملة.
ومن هذه الوحدات ما هو إجباري من أركيولوجيا وانثروبوجيا ولغات وتواصل وما هو اختياري يرتبط تدريسه بالتخصص الذي افتتح في وجه الطلبة في دورة من الدورات.
وبما أن مناصب الشغل أصبحت قليلة بوزارة الثقافة وفي الوظيفة العمومية بصفة عامة، فإن التكوين بالمعهد يروم تمكين الخرجين من العمل في ميادين متنوعة. كما يمكنهم هذا التكوين من المرور من مسلك إلى آخر دون فقدان ما راكموه خلال السنوات السابقة.

I- تجربتي في تدريس التراث في جامعة مراكش

منذ حوالي عشر سنوات أنشيء بجامعة مراكش تخصص في ميدان السياحة بالنظر لحاجة هذا القطاع من النشاط الاقتصادي لموارد بشرية مؤهلة. ومن بين المواد المبرمة في هذا التخصص كانت الانثربولوجيا مادة تكميلية يهدف تلقينها إلى تمكين الطلبة من الانفتاح على محيطهم الاجتماعي والثقافي وكذا على ثقافات العالم.
وقد كُلفت منذ البداية بتدريس هذه المادة التي حصلت فيها على دكتوراه منذ 15 سنة بالمدرسة العليا للعلوم الاجتماعية بباريس بفرنسا. وسرعان ما أضيف درس آخر يتناول التراث الثقافي ابتداء من سنة 2003/2004.
1- من الانثروبولوجيا إلى التراث
يتمحور تدريس الانثروبولوجيا لطلبة شعبة السياحة حول محاور متعددة :
- موضوع ومناهج الأنثربولوجيا
- الحقول المعرفية من قرابة واقتصاد ودين وسياسة وغيرها
- انثروبولوجيا المجتمع المغربي
- الثقافة كموضوع محوري

وكان تناول هذا الموضوع الأخير أي الثقافة سبيلا للانتقال من تدريس انثروبولوجيا الثقافة إلى التراث الثقافي كمكون من مكوناتها.
2- من اليونسكو إلى الفصل
بموازاة مع هذا التدريس في شعبة السياحة في الجامعة اشتغلت كثيرا مع منظمة اليونسكو كممثل للمغرب في كثير من اجتماعاتها المرتبطة بالتراث. بدأ ذلك بتكليفي سنة 1997 من طرف الوزارة بتنسيق متابعة اتفاقية التراث العالمي التي تسهر من بين ما تسهر عليه، على تسجيل المواقع الطبيعية والثقافية ضمن قائمة اليونسكو وشاركت في المراجعة الدورية التي تقوم بها اللجنة للمبادئ التوجيهية للاتفاقية كما أن نقاشات اللجنة خلال تسجيل المواقع كانت ولا تزال دائما غنية ومفيدة. ثم جاءت اتفاقية التراث الثقافي غير المادي لسنة 2003 التي شاركت باسم المغرب وكخبير في صياغتها وتحضير نصوص ووثائق تطبيقها ما بين 2002 و2007 .
ثم مثلت المغرب في اجتماعات لجنتها التي سجلت أولى عناصر التراث الثقافي غير المادي ضمن قوائم الاتفاقية خلال دورتها الرابعة المنعقدة بأبو ظبي سنة 2009. وكانت هذه التجربة في العمل مع المنظمة مهمة في كسب الوعي بالتكامل الوثيق بين مكونات التراث من ثقافي وطبيعي ومادي وغير مادي. وكانت العودة إلى فصل الدراسة مناسبة لبسط المعارف المكتسبة أمام الطلبة.
3- مضمون ومنهجية تدريس التراث
4- 3.1 المضمون: يتناول الدرس تعريف مفهوم التراث وكذا فروعه من ثقافي وطبيعي ومادي وغير مادي ومنقول وغير منقول. ثم يحلل السيرورة التي تكمن وراء تحول الأشياء والمعالم والآثار والأفكار والمعتقدات والممارسات من منتوجات ثقافية أو طبيعية إلى تراث. بعد ذلك، يخصص حيز هام لمعرفة التراث المغربي بفتراته التاريخية وتفرعاته الموضوعاتية. ثم ننتقل إلى تحليل وضعية صيانته والمشاكل والعقبات التي تعترض سبيل صيانته والحفاظ عليه في جوانبها القانونية والمادية والبشرية.
وأخيرا نتناول اتفاقيات اليونسكو المرتبطة بالتراث خاصة اتفاقية التراث العالمي لسنة 1972 واتفاقية التراث الثقافي غير المادي لسنة 2003.
2.3 المنهجية: يعتمد التلقين أساسا على دروس نظرية تتخللها حصص يطالب فيها الطلبة سواء بالمشاركة في مناقشة قضية من القضايا أو بتقديم عرض حول موضوع من المواضيع. وتستعمل التقنيات الحديثة في التدريس من عروض على الكمبيوتر بتقنية Power Point وفتح موقع الإنترنت لمنظمة اليونسكو مباشرة أمام الطلبة للاطلاع على جوانبه المتعلقة بالتراث ونصه القانونية والإجرائية والعلمية.
3.3 تأطير بحوث نهاية الدراسة: سواء تعلق الأمر بطلبة اللسانس أو الماستر أو الدكتوراه، يتم تأطيرهم للقيام ببحوث نهاية الدراسة خاصة الذين يختارون مواضيع مرتبطة كليا أو جزئيا بالتراث الثقافي. وهكذا تتم دعوتهم إلى اختيار مواضيعهم عن اقتناع تام. وتتم مرافقتهم قدر الإمكان خلال مدة تحضيرها إلى غاية مناقشتها أمام لجنة علمية في نهاية السنة.
4. الخريجون: من الفصل إلى الميدان
بلغ عدد المسجلين بشعبة السياحة بالجامعة ما بين 1999 و2010 أكثر من 260 طالبا يتوزعون بين الليسانس ودبلوم الدراسات العليا المتخصصة قبل أن يعوض بالماستر بعد الإصلاح الجامعي المذكور آنفا. ويبلغ عدد المسجلين في الدكتوراه 23 طالبا ناقش ثلاثة منهم رسالته في السنوات الأخيرة. أما فيما يتعلق بالإدماج المهني للخرجين، فهو غالبه يهم قطاع السياحة كما هو منتظر دون أن أقتصر عليه. فداخل عينه من الخرجين تتكون من 27 فردا: 3 خرجين اشتغلوا في وكالات للأسفار، 8 خرجين اشتغلوا في فنادق،4 خرجين بوزارة السياحة، 2 خرجين بوزارتين الداخلية والإسكان، 4 خرجين بقطاع التعليم، 1 خريج واحد بشركة طيران، 1 خريج واحد مرافق السياحي، 1 خريجة واحدة في دزني بأورلاندو بالولايات المتحدة الأميركية. 1 خريجة واحدة في قطاع الصحة.



خاتمة

إن تدريس التراث الثقافي لا يمكن اعتباره اليوم بذخا معرفيا أو تعليميا بل هو من الميادين التي تساعد البلاد على تنمية قدرات أبنائها ومعرفة إرثهم واحترام تراث غيرهم. وقد أسهمت عشر سنوات من التدريس للأنثربولوجيا والتراث الثقافي في كسب تجربة لا بأس بها في هذا الميدان سعدت في اقتسامها مع طلبة كثير منهم اليوم يتحمل مسؤولية في قطاع من قطاعات الحياة المهنية.











د. أحمد سكونتي ـ المغرب

• الورقة التي شارك بها الباحث في الملتقى الدولي الرابع للتراث تحت عنوان "التراث والتعليم .. رؤية مستقبلية" الذي تنظمه هيئة أبوظبي للثقافة والتراث خلال الفترة 29 مارس/ آذار ـ 1 أبريل/نيسان 2010.