الرئيسية | الصحيفة | خدمات الإستضافة | مركز الملفات | الحركة الانتقالية | قوانين المنتدى | أعلن لدينا | اتصل بنا |

أفراح بن جدي - 0528861033 voiture d'occasion au Maroc
educpress
للتوصل بجديد الموقع أدخل بريدك الإلكتروني ثم فعل اشتراكك من علبة رسائلك :

فعاليات صيف 2011 على منتديات الأستاذ : مسابقة استوقفتني آية | ورشة : نحو مفهوم أمثل للزواج

العودة   منتديات الأستاذ التعليمية التربوية المغربية : فريق واحد لتعليم رائد > منتديات المــنــظـــومــــة الـــتـــعـلـيـمـيـــة > منتدى التعليم العالي


إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
قديم 2010-05-29, 18:57 رقم المشاركة : 1
محمد يوب
أستـــــاذ(ة) مــــاسي
إحصائية العضو








محمد يوب غير متواجد حالياً


وسام المشرف المتميز

a9 فتجنشتاين ذلك المجهول : قراءة في "الرسالة"



فتجنشتاين ذلك المجهول : قراءة في "الرسالة"
مقدمة :
لما كانت المعرفة العلمية متوثبة جامحة، كان لزاما عليها محق الأفكار المغرقة في الوثوقية و دمغ المسلمات الدوغماتية التي تستهتر بمنطق المجاوزة و التخطي لأنه حسب رأيها تسيب مغرض على سلطة اليقيني و المقدس. قليل من العلماء من راجع أوراقه و أعاد ترتيبها من جديد حتى اكتشف زيفها و وهمها الذي ران على جهازه المعرفي لسنين طوال و أصابه بالعقم. كذلك كان شأن (فتجنشاين) المفرد العلم الذي خاصم فلسفة الذريين المناطقة بعدما كان التلميذ البار الذي متح من معينها متشربا أسس المنطق الذي يملأ العالم، و فلسفة اللغة المثالية، و قوانين الفيزياء، مدافعا عن هذه العلوم و طروحاتها و كأنها نهايات المعرفة و ما سوى ذلك ضرب من اليوتوبيا الماورائية. لكن العقل النقدي الفاحص و جبرية التطور تفرض على المعرفة أن تنشط من عقالها فتستحيل الذهنية المتكلسة عقلا نزقا لا يعرف نقطة النهاية التي تختصر الزمن الفكري في طروحات متحجرة توقف الآلة المنتجة للمعرفة. وقمين بالاحترام و التبجيل من أحدث قطيعة ابستملوجية في ترسانة الأفكار التي دافع عنها بحرقة، فجاءت طروحات المرحلة الثانية مفارقة تمام المفارقة لرؤية العالم و الأشياء كما تم تبنيها في الفلسفة العلمية الأولى، فليس عيبا أن نجد فيلسوفا لغويا كـ (فتجنشتاين) يغاير منطقه الأول مغايرة شديدة، فهذا مؤشر على توقد ذهنه و قدرته على توليد إواليات المعرفة العلمية. لهذه الحيثيات تكمن صعوبة هذا العمل ، فطروحات (فتجنشتاين) موسومة بالزئبقية، لذلك ليس غريبا أن تطالعنا في الصفحات الأولى من هذا البحث ملامح الرجل العلمية و التي تتشكل تقاسيمها في كل محاولة تروم سبر أغواره فقراءة منتوج (فتجنشتاين) تبدو متفلتة سرعان ما ينفرط عقدها كالتي نقضت غزلها من بعد قوة، فنحن نتعامل مع كتاب (رسالة منطقية فلسفية) ذي الخلفية التجريبية المنطقية حتى إذا استأنسنا بمنطق الرجل و طريقة تفكيره نصدم بعمل وازن يضرب الثوابت و ينتقد أصولها و خلفياتها، ذاك هو كتاب (أبحاث فلسفية) الموغل في البراغماتية و فلسفة اللغة العادية. 1. رسالة فتجنشتاين و القراءة المتفلتة لا مرية في أن القارئ غير المتمرس ليجد عنتا و مشقة كبيرين في التعاطي مع عمل متفرد، مثقل بالرموز المنطقية، و نزاع إلى التركيز و التكثيف في عباراته حتى لم يبق للحشو موطن في الكتاب، و كأننا أمام دراسة رقمية. و يحق للقارئ الآن أن يطرح سؤاله المشروع هذا: كيف لهذه الجمل المعدودات أن تقدم تفسيرا شموليا لماهية العالم؟ بل ما سر هذا التناول الوازن لجوهر اللغة، و أسس المنطق و الرياضيات و الفكر الفلسفي عموما؟ إن مساءلات كهذه، يزول غبشها الثاوي في الذهن حينما ندرك كنه شخصية (فتجنشتاين)، و نغوص في استبطان بيوغرافيا الرجل، و سبر حفريات هذا المنطيق، فتوقد ذهنه، و صفاء عقله، و اعتزاله الناس، أقانيم جعلت من شخصيته العلمية مادة خصبة للنقاد يبحثون في جغرافيتها الفلسفية، و يحكمون عليها أحكاما متطرفة تتراوح بين التقريظ أو المدح، والتوبيخ أو الذم، فهو تارة نبي من أنبياء الفلسفة الذي أعاد لها رونقها و بهاءها، و تارة أخرى أكبر تجل من تجليات اللافلسفة و اللاحكمة، حيث الإسفاف و الهبوط. إلا أن كتابة (رسالة منطقية فلسفية) يفند هذه الادعاءات المغرضة التي تصدر عن جهل كبير بآليات الاشتغال التي يوظفها الرجل في طروحاته الفلسفية اللغوية، و تطبيقاته للمنطق الرمزي. و في هذا الصدد يقول (ماكس ويل): " مهما قال الإنسان عن (رسالة) فتجنشتاين الفلسفية المنطقية، فلا بد، على الأقل، أن يتبين أصالتها، و الطريقة غير العادية التي يستخدمها المؤلف في عرض أفكاره ... إن الإنسان يستطيع أن يقول –دون مبالغة- أن كل الفلسفة الإنجليزية التالية لظهور (الرسالة)، كانت متضمنة في (الرسالة) نفسها على نحو أو آخر"1. يفيد منطوق هذا الكلام أن الفلسفة الإنجليزية بعد (فتجنشتاين) لا تعدو كونها فلسفة تكرارية اجترارية لأفكار هذا الأخير، و من الصعوبة تحديد أو وصف طبيعة التأثير الذي مورس على الفلسفة المعاصرة، فلنأخذ مثلا، مبدأ التحقق Principe de Vérification فهو قبل تبنيه من قبل فلاسفة الوضعية المنطقية، (شليك، آير، ...) فإن (فتجنشتاين) كان له قصب السبق في (رسالته) عندما أعلن أن القضية لا تتحقق إلا بمقارنتها بالواقع الخارجي، و هو ما تطور في فلسفة (آير) إلى ما يعرف بالتحقيق الفعلي و التحقيق الممكن، أضف إلى ذلك أن تيار الوضعية المنطقية الجديدة يدين بنجاحه الفلسفي الباهر إلى (فتجنشتاين) الذي لم يكن يوما من أعضاء الوضعية المنطقية، و مخطئ من يصنفه ضمن هذا التيار، أو داخل حلقة فيينا، فهو ينتمي إلى مجموعة الذريين المناطقة إلى جانب أستاذه (راسل) B.Russel. و الواقع أن كل الأعمال التي ألفت عن "(رسالة) فتجنشتاين"، لا تزال إلى حد الآن قاصرة إلى حد ما عن تعريتها و كشف النقاب عن مضامينها، فمحاولة استكشاف مفاتيحها مغامرة محفوفة بالمخاطر، و ذلك في غياب عدة فلسفية قبلية تشكل معينا متدفقا يسعفنا في فهم (الرسالة) و رأب الصدع بين أفكارها الفلسفية الغامضة، مما يسوغ صعوبتها لدى القارئ الذي يفقد صبره أحيانا عندما يرى شحناتها الدلالية تتفلت و تتطاير من دوالها، فليس هناك شرح أو حاشية أو ميتانص، يساعدنا على إعادة بناء أفكارها الفلسفية المنطقية الموغلة في الوثوقية و الدوغماتية و هكذا فمقولة فتجنشتاين: "كل ما يمكن قوله يمكن قوله بوضوح"2 عبارة مضللة تخفي وراءها هذا الوضوح، و تجعل بدله غموضا سديميا تؤشر عليه الألفاظ المضغوطة و المعتمة، و ليس هذا الكلام مدعاة للاستسلام و تبريرا للإحباط الذي قد يصيب الدارس أمام هذا العمل الذي لا طاقة له به، بل مسوغ للعمل الدؤوب، و مساءلة الذهن من أجل تحدي هذه الصعوبة و تذويب العقبات المعرفية، و احتضان هذا العمل بكل حميمية حتى يكون بمقدورنا تتبع هذا البناء الموسيقي الذي يخضع له الكتاب، و إن كان (فتجنشتاين) نفسه يقر في مقدمة كتابه (Tractatus Logico Philisophicus) بصعوبة عمله الذي يختلف في نسقه عن الأعمال المدرسية التعليمية، بمعنى أن كتابة موجه إلى نوعية خاصة من القراء. و الهدف الذي يرمي إليه (فتجنشتاين) من (رسالته) أن تفهم أفكاره من قبل قارئ واحد، يحس أثناء قراءته، بالمتعة الفلسفية الصوفية التي يولدها التماهي مع أفكاره و التي يمكن تلخيصها فيما يلي: (ما يمكن قوله على الإطلاق يمكن قوله بوضوح، و ما لا نستطيع أن نتحدث عنه، فلا بد أن نصمت عنه). و من هنا جاء نبذه للميتافيزيقا التي تعتبر قضاياها عديمة المعنى Insensés، إن لم تكن كاذبة، فهو ينهي كتابه بالعبارة المشهورة: "حيثما لا نستطيع الكلام ينبغي أن نصمت"3. تأسيسا عل ما سبق، يمكن القول : (إن الرسالة المنطقية الفلسفية) لا تعدو كونها عصارة عملية حساب تأويلي جاءت نتائجها مركزة دون بيان لآليات اشتغالها، و قد غابت هذه الآليات، و ليس لدينا من وسيلة للبرهنة عليها سوى هذه القراءات الخجولة التي يقدمها بعض المناطقة بشكل ملبس و غير شفاف. و إذا كانت التأويلات و الشروحات التي طالت أفكار (الرسالة) قد شابها من خلط و سوء فهم لدى برتراند راسل أستاذ (فتجنشتاين)، و هما اللذان يشكلان تيار الذرية المنطقية إلى جانب آخرين، فما بال القراء العاديين ذوي الخبرات المحدودة في عالم المنطق الرياضي الصرف؟ أو ما بال الترجمات العديدة التي تناولت هذا الكتاب: (إنجليزية، فرنسية، عربية...) دون التقيد بالأصل الألماني؟! إن عملية الترجمة ليست بالبريئة في نقلها للأفكار، أضف إلى ذلك تعدد المفاهيم و تداخلها، و ما دامت الترجمة عملية اجتهاد تروم نقل مدلولات نص ما من لغة إلى لغة أخرى، فإنها غير دقيقة لما كانت لكل لغة حمولتها الثقافية و الفكرية ... لنأخذ مثلا ترجمة (د.عزمي إسلام) فهي منقولة عن اللغة الإنجليزية، هذه الأخيرة التي نقلت بدورها عن النسخة الألمانية الأصل. و على الرغم من هذه الصعوبات التي تعترضنا حينما ننزع إلى فلسفة (فتجنشتاين) في شقها الأول، فإننا ندرك جدتها و أصالتها في الفكر الفلسفي المعاصر، فهي من جهة استكمال للنقاش الذي بدأه كل من (راسل و فريجه Frege)، و هي من جهة أخرى طروحات فلسفية دسمة تلقفها أنصار الوضعية المنطقية ، أو الوضعية الجديدةNeo positivism بتحمس كبير، ذلك أن الذرية المنطقية ما كان لها أن تتطور لولا (فتجنشتاين) تلميذ (راسل) الذي قدم الشكل الصرف لفكرة الأنا وحدية Solipcism، و مع (فتجنشتاين): " تم الوصول إلى اللحظة الحاسمة فيما يتعلق بالفلسفة الدلالية فرسالته واحدة من بين الأعمال الفلسفية الأكثر تفردا، خصوصا في طريقة عرضها التي تشتغل على المجاز و الحدس، و التي تطمح إلى التطرف الصارم في أفكارها"4. فلا كلام إلا عما تقره الملاحظة العينية الأمبريقية الصارمة، و ما يقبله المنطق السليم، أما الميتافيزيقا الماورائية، و اليوتوبيا اللامادية، و التي تتجاوز عالم المادة إلى عالم اللامادة، فهي مرفوضة تماما، و خالية من المعنى لأنها سليلة الفلسفة المثالية الألمانية و (الخرافات) الأفلاطونية، و المنطق الأرسطي العقيم و هو ما سيتم إيضاحه عندما سنتحدث عن جذور الوضعية المنطقية و تشكل حلقة فيينا التي تدين بأفكارها العلمية إلى (أوكست كونت) رائد الفلسفة الوضعية الذي يتنكر للأفكار المجردة، و لا يقر إلا بالعالم المادي المحسوس معترفا بأن العلم يعتبر الأداة الصحيحة للارتقاء بالإنسانية إلى أسمى مراحلها، متجاوزا الغيبيات، و واضعا أصول منهج للبحث أطلق عليه الميتودولوجيا Méthodologie. 2. وظيفة الفلسفة و المنطق الرمزي : إذا كانت التجربة هي أساس الفكر العلمي الرصين، فإن الخوض في اللامرئي أو المطلق يعتبر مشكلا زائفا ما دام لم يوضع تحت مشرحة التجريب التي تشتغل بمناهج علوم الطبيعة، هذه التي ترى أن الواقع لا يمكن إدراكه إلا بمناهج العلوم التجريبية الصرفة حيث الملاحظة العينية. و من ثم فوظيفة الفلسفة قد انزلقت عن دورها التقليدي، فهي ليست تفسيرا للعالم و الكون، و هي ليست خوضا في الفيزياء و الميتافيزياء، ولكنها تنحصر في تحليل مفاهيم العلم الطبيعي، أو في إجراء تركيب عام للنتائج التي تتوصل إليها علوم الطبيعة. إن هذا الموقف هو ما اعتبره (فتجنشتاين) بؤرة حديثة في مرحلته الأولى (الرسالة)، دون أن نغفل بان له جذورا تاريخية ضاربة في عمق التفكير الإنجليزي الأمبريقي، ابتداء من (جون لوك)، مرورا (بباركلي) و انتهاء (بدافيد هيوم) إمام التجريبيين. إن ما يعاب على الفلسفة التقليدية هو أنها سقطت في فخ سوء استخدام اللغة، فكانت مشكلاتها زائفة أو خالية من المعنى، لأنها اتخذت من اللغة العادية وسيلة لتفسير الكون، و بالتالي كانت لغة فجة ملتبسة و غير شفافة، تخفي و تضلل الحقائق. نستنتج، إذن، أن أول خطوة تعهد إلى الفلسفة هي تخليص هذه اللغة من شوائبها و تشذيبها من نواقصها حتى تغدو لغة منطقية صافية أقرب إلى لغة المنطق و الرياضيات، و هي لغة رمزية مضبوطة تتخذ من المنطق الرمزي آلية للاشتغال، و هو منطق لا يعبأ بالمحتوى بقدر ما يعنى ببنية المعرفة و صورتها الخارجية. يقول رايشنباخ: "ليست الصياغة الرمزية أداة لحل المشكلات فحسب ولكنها توضح المعاني، و تزيد القدرة على ممارسة التفكير المنطقي، فضلا عن ذلك فقد وجد المنطق الرمزي ميدانا هاما تطبق نتائجه عليه، هو التحليل المنطقي للغة"5. فبالمنطق الرمزي عرفت العلوم المضبوطة نجاحا باهرا بعد استقلالها عن الفلسفة، فأنشأت لنفسها لغة علمية منطقية تهتم بصور القضايا لا بمضمونها، قاطعة بذلك العلاقة مع النطق الأرسطي العقيم الذي يستخدم اللغة العادية بمعراتها و عيوبها. و لقد "جعلت بعض الأوساط الفلسفية المنتصرة للمنطق الرياضي الحديث، جعلت منه أساسا للفلسفة من وجهة نظرها، بل الفلسفة بحذافيرها ابتداء من منشئ المنطق (راسل) و تلاميذه في انجلترا (فتجنشتاين)"6. و إذا كان (أرسطو) رائد المنطق التقليدي القديم حتى حدود القرن التاسع عشر، فإن (ليبنزLeibniz) يعتبر إمام المنطق الرمزي الحديث، و الذي يسعى إلى ابتكار لغة شاملة تشبه لغة العلوم في دقتها و عقلانيتها، و إن كان هذا مشروعا نظريا لم يجد طريقه إلى التداول، مما يفسر عدول (فتجنشتاين) عن خرافة اللغة المثالية و ذلك فيما يعرف بالانقلاب النوعي الذي حدث لأفكاره الأولى في كتابه الثاني: (أبحاث فلسفية Investigations Philosophiques.( هكذا - إذن- سنصل إلى لغة منتقاه تزول معها المشاكل الفلسفية و التي ستختفي بمجرد بيان أنها أخطاء و سوء فهم لمنطق لغتنا العادية، لأن هذه الأخيرة : "تخلط بين الشكل النحوي و الشكل المنطقي، و من هنا كانت مصدرا مستمرا لخلط الأمور، فابتغاء التحرر من هذا الخلط ينبغي للفلسفة أن تضع لنفسها لغة سليمة، ستكون هي اللغة المثالية التي يتطابق فيها الشكل النحوي مع الشكل المنطقي"7. و من هنا نشأت الفلسفية التحليلية كمنهج لتحليل الأفكار و توضيح المشكلات الفلسفية التي إذا ما وضع معظمها تحت مشرحة النقد و التحليل زال عنها لبسها و غموضها، و اتضح أنها مشكلات زائفة، أو ليست بمشكلات في الأصل، و هو ما جعل (مور) يقر بصراحة بأن اللغة العادية في كثير من الأحيان تخطئ في التعبير : " فاللغة لا تعطينا وسيلة للإشارة إلى موضوعات مثل (أزرق) و (أخضر) و (حلو)، إلا بان تطلق عليها اسم (إحساسات)، و هذا ما يضللنا حينما نحاول أن نفكر في العلاقات بين الشعور و موضوعات الشعور"8، فسؤال المناطقة الذريين عن ماهية اللغة لم يكن عبثيا، و لم تكن الإجابة عنه أشبه بالإجابات التقليدية التي ترى في اللغة بناء لفظيا تشير كل لفظة فيه إلى مقابلاتها في العالم الخارجي، أو هي وسيلة من وسائل التواصل نستخدمها في قضاء حاجاتنا و أغراضنا كما يذهب إلى ذلك ابن جني، مثلا، حينما يعتبر اللغة أصواتا يعبر بها كل قوم عن أغراضهم. ليست اللغة لا هذا و لا ذاك، إنما هي : " بناء مثالي مقفل على نفسه، قذف بمفاتيحه كلها في قاع المحيط، فلا نعرف منه فكاكا"9. إن التصور الذي جاء به (فتجنشتاين) للفلسفة و طبيعتها هو حصر وظيفتها في تحليل اللغة فقط- كما رأينا- بالإضافة إلى رفض التراكيب و الأنساق النظرية الفلسفية، و دورها الرئيسي هو تحليل عبارات اللغة و تعريتها باعتبارها قوالب صبت فيها الأفكار الفلسفية، فالفلسفة عبارة عن : "عملية نشاط أو فاعلية Activity يقوم فيها الفيلسوف بتحديد القضايا ذات المعنى، و ربطها بالواقع و استبعاد القضايا الفارغة من المعنى، مما ينتج عنه استبعاد القضايا الميتافيزيقية، و عدم إضافة عملية التحليل أي جديد إلى معرفتنا" 10 ، و يراد بالتحليل تقسيم اللغة إلى قضايا مركبة Complexes، و أخرى ذرية Atomistes، أو جزئيةElémentaires ، و تبعا لنفس التحليل يقسم العالم إلى وقائع مركبة و وقائع أبسط منها أو ذرية، و هو ما يعرف بالنظرية التصويرية للغة التي تعتبر القضية رسما للوجود الخارجي. نخلص إلى القول: إن الفلسفة لا تقدم تفسيرا للعالم، و تنحصر مهمتها في عملية التحليل التي تضيف إلى معرفتنا شيئا، و لقد كان (فتجنشتاين) ذا حساسية مفرطة تجاه أي محاولة لربط الفلسفة بالتفسير عندما أعلن أن المهمة الوحيدة المتبقية للفلسفة هي تحليل اللغة و توضيح قضايا الفلسفة، يقول: "إن الفلسفة لا تعتبر علما من العلوم الطبيعية، كلمة فلسفة يجب أن تعني شيئا إما أعلى أو أدنى من العلوم الطبيعية لا علما يصنف معها"11. هكذا - إذن- تم إقصاء الفلسفة من خانة العلوم الطبيعية الصرفة، و تم الوصول مع - فتجنشتاين – فى اللحظة الحاسمة فيما يتعلق باعتباراتنا حول الفلسفة الدلالية.(فرسالته) واحدة من الأعمال الفلسفية الأكثر غرابة و فرادة، و داخل متنها نعثر على الأفكار الجوهرية للفلسفة الدلالية التي تدعي أن اللغة هي الهدف الوحيد للبحث الفلسفي، و الدور الذي تضطلع به الفلسفة هو الاقتصار على تفسير المعنى داخل العلم، و كل تخطي لهذه الحدود يعتبر ميتافيزيقا خالية من المعنى12، « Dépourvues de sens » و هي الأفكار التي سيطورها (كارناب Carnap) في مشروعه داخل الوضعية المنطقية. إن ما يمكن أن يذيل به هذا الموضوع هو أن الفلسفة ، ليست مذهبا أو عقيدة، و لكنها فاعلية، و النتائج التي تتوصل إليها الفلسفة ليست هي مجموع القضايا الفلسفية، بل هي القضايا الواضحة، و بالتالي الإقصاء الصارم للأفكار الغامضة و الملبسة Trouble et Floue، و التي ليس من المعقول الإجابة عنها، لأنها أفكار ليست خاطئة و حسب، و لكنها خالية من المعنى إنها أفكار مجوفة ناتجة عن جهلنا بمنطق لغتنا13، و مهمة الفلسفة هي التوضيح المنطقي للأفكار Le but de la Philosophie est la clarification logique de la pensée، و إن كانت هذه المهمة حسب رأي الكثيرين، و منهم الدكتور عبد الرحمن بدوي، أمرا لا يستطيع أن يقر به أحد من الفلاسفة على طول تاريخها، و لا يمكن للفيلسوف أن ينزل بمهمة الفلسفة إلى هذا الدور التافه و الطفيلي الذي يضرب في وظيفتها الأساسية التي أقرها التاريخ منذ أفلاطون، و أرسطو... و غيرهما إلى الآن، و لولا خشية السقوط في الأحكام القيمية و الانطباعية، لقلنا إن وظيفة الفلسفة، كما يراها فتجنشتاين و من شايعه، وظيفة شاذة تضرب الثوابت الفلسفية في الصميم. 3. الواقعة الذرية و القضية البسيطة : إذا كانت فلسفة التحليل لدى (فتجنشتاين) تروم تفكيك اللغة عبر البحث عن آلياتها المنطقية و قواعدها الصارمة حتى نميز فيها الأفكار ذوات المعنى من الأفكار الخالية من المعنى، فإن هذا يجرنا إلى الحديث عن الوقائع التي يمكن أن يحل إليها العالم، و كذا القضايا التي تفكك إليها اللغة، فالعالم مركب و ليس بسيطا، و هو ليس كلا واحدا، بل وقائع منحلة إلى أجزاء و لكنها مترابطة بأنظمة علائقية. و قبل حديث (فتجنشتاين) عن القضايا المركبة و الجزئية، يتحدث عن العالم و عن مكوناته، لأن وجود الوقائع الذرية أسبق من وجود القضايا، بغض النظر عن صدقها أو كذبها، لذلك نجد (فتجنشتاين) يبدأ (رسالته) بالعبارة الأولى التي تشير إلى أن (العالم جميع ما هنالك)، ثم : (العالم هو مجموع الوقائع لا الأشياء). و انطلاقا من هاتين العبارتين، سوف نخوض في التمييز بين الواقعة و ما يمكن أن تنحل إليه من أشياء، مع العلم أن الوقائع هي العناصر الأولى التي ينتهي إليها تحليلنا للعالم، و مع ذلك فهي تنحل بدورها إلى أشياء ليس لها وجود إلا عندما تكون داخلة في تكوين واقعة معينة، "فجميع الأشياء التي أمامنا، و التي يتكون منها العالم تدخل في علاقات مع بعضها البعض، و تشكل في مجملها الوقائع المركبة و الذرية، و الوقائع الذرية تتكون من شيئين يرتبطان بعلاقة معينة، فقد استخدم (فتجنشتاين) في مواضيع متعددة الرمز (a R b)، أي أ في علاقة مع ب للإشارة إلى الوقائع الذرية"14. فإذا كان الشيء قائما بذاته: كتاب، طاولة ... فإن الواقعة بناء أو نسق يتألف من ارتباط تلك الأشياء فيما بينها بعلاقة ما (الكتاب فوق الطاولة). و تنقسم الوقائع إلى قسمين: واقعة مركبة و واقعة ذرية بسيطة، و هذه الأخيرة تمثل النهايات التي يمكن أن يصل إليها التحليل، لأن الواقعة المركبة هي التي يمكن أن تنحل إلى وقائع تسمى بالوقائع الذرية، و هي تمثل النهايات التي يمكن أن يصل إليها التحليل. والواقعة الذرية هي التي تنحل إلى أشياء تدخل في تركيبها، كأن نقول مثلا: (طائرة ورقية) فالورق داخل في تركيب الطائرة، كما هو الحال بالنسبة للذرة التي تدخل في تركيبها إليكترونات و بروتونات لا نستطيع الفصل بينها. أما العلاقات التي تربط الأشياء في العالم فهي علاقات منطقية لأن "المنطق يملأ العالم و يتخلله، و حدود العالم هي حدوده أيضا"15، و هذه البنية المشتركة التي تشكلها الأشياء في علاقاتها مع بعضها هي ما يطلق عليها (فتجنشتاين) " البناء المنطقي للعالم The Logical Structure of the World/". و لعل القارئ محق في تساؤله عن السبب الذي دفع (فتجنشتاين) إلى تقسيم العالم إلى وقائع ذرية نهائية تشكل بنيتها أشياء لا وجود لها إلا في نسق علائقي، ذلك أن الداعي إلى هذه الوقائع الذرية هو وجود وحدات أو عناصر أولية تنحل إليها اللغة، أي قضايا ذرية يتوقف صدقها أو كذبها على وجود أو عدم وجود الوقائع الذرية. فما الذي يعنيه (فتجنشتاين) بالقضايا الذرية؟ و ما هي الوحدات أو العناصر التي تنحل إليها هذه القضايا ؟ اعتبر (فتجنشتاين) دائما أن القضايا اللغوية الأولية أصغر وحدة دالة، و التي لا يمكن أن نفككها إلى قضايا أبسط منها، بل فقط يمكن أن تحلل إلى مكوناتها من الأسماء التي ترمز إلى الأشياء، و تبعا لذلك فإن الوقائع هي المعبرة عن المعنى و ليس الأسماء، ذلك أن الاسم المجرد المنبت و المعزول عن قضيته لا يمكن أن يدل على ما يرمز إليه في الواقع إلا إذا كان داخلا في تركيب القضية، آنذاك يمكن أن نتحدث عن معنى لغوي للاسم. و لما كانت الوقائع مقياسا لقيمة الصدق في القضية، وجب " أن تكون القضايا التي تصور الوقائع إما كاذبة أو خالية من المعنى، و هو الأساس الذي انطلق منه (فتجنشتاين) في رفضه للميتافيزيقا"16. إن تعريف (فتجنشتاين) للغة بوصفها مجموعة من القضايا، جعلنا نبحث في جزيئات هذه القضايا التي هي الألفاظ أو الكلمات التي أسميها بعلامة القضية"17 و علامة القضية تتكون من عدة علامات بعضها ما نسميه الأسماء، و هي التي تعين الأشياء و تسميها، و بعضها لا يسمى شيئا، و إنما تكون وظيفته خلق روابط علائقية بين هذه الأسماء، أي تصوير الطريقة التي تترابط بها الأشياء في الواقع الخارجي، مما يجعلنا نطلق على علامات النوع الأول: الكلمات الشيئية، أي التي تعين الأشياء و تشير إليها. أما النوع الثاني فهو ما يسمى في المنطق بالألفاظ العلائقية أو البنائية، أي التي تقوم بينها روابط، و "علامة القضية قوامها كون عناصرها – أي كلماتها – مترابطة فيما بينها بطريقة معينة، و علامة القضية هي في ذاتها واقعة"18. نفهم من هذه العبارة أن علامة القضية هي ذلكم الترابط بين ألفاظها المشكلة لنسقها، بحيث يصبح لها معنى و دلالة، و إلا استحال الأمر إلى مجموعة مفككة من ركام من الأسماء، فيغيب المعنى وسط هذا الركام. فالمقطوعة الموسيقية، على سبيل المثال، لا تغدو ذات معنى إلا إذا كانت أجزاؤها منسجمة و مترابطة ترابطا نسقيا، و إلا لكانت نشازا و انعدم الاتساق بين مكوناتها الموسيقية. و على ذلك فالقضية هي ذلك المعنى الثاوي في الذهن الذي نصور به الواقع الخارجي و نرسمه، "لأن الفكر هو الرسم المنطقي للوقائع"19، أما علامة القضية فهي تلك الألفاظ المدركة بالحواس، سواء أكانت مكتوبة أو منطوقة، و التي نستخدمها لنعكس ما هو حادث من أمور في الواقع، و هكذا فعندما نفكر في معنى القضية فإننا لا ننظر إلا في مدى مطابقة الظل لأصله، أي ذلك الموضوع الذي أسقط ظله في القضية. بعبارة أخرى فإن علامة القضية هي وسيلة تمكننا من ربط القضية بمسمياتها، أي بأشيائها الخارجية. و لما كانت القضايا تنحل إلى أسماء، فإن الذي له معنى هو القضية. أما الأسماء فلا معنى لها لأنها ترمز و تشير فقط إلى مسمياتها، فيما تكون القضية ذات معنى و قصد و كأنها سهم مصوب نحو اتجاه معين (فالأسماء تشبه النقط، بينما القضايا تشبه السهام، و لذا فهي لها قصد)20. و معنى قول (فتجنشتاين): "الأسماء تشبه النقط" أنها لا تمثل إلا نفسها، و لا يكون لها معنى إلا عندما تدخل في تركيب قضية ما تركيبا منطقيا يتماشى و قوانين المنطق التي نستطيع، من خلالها، إعطاء معنى لهذه الأسماء التي جمعت بشكل له قواعد و ضوابط تركيبية. لكن ما طبيعة العلاقة التي يمكن أن نتصورها بين القضايا و الواقع الخارجي؟ سؤال يجد تفسيراته فيما يسمى بمفهوم التصوير الذي يقدمه (فتجنشتاين) كأساس تنبني عليه أفكار (الرسالة). يؤكد (فتجنشتاين) أن اللغة لا تغدو أن تكون تصويرا للواقع، وأن القضايا ليست إلا رسوما لما هو موجود فيه (القضية تنقل إلينا أمرا من أمور الواقع، و أن القضايا ليست إلا رسوما جوهرية لذلك الأمر، و ما تلك الصلة في الحقيقة إلا كون هذه القضية رسما منطقيا لهذا الأمر من أمور الواقع، و القضية لا تتبث شيئا إلا بقدر ما هي رسم له)21، و تبعا لذلك لا بد من وجود شيء من الهوية بين الرسم و المرسوم حتى يستطيع أن يمثله تمثيلا خاصا، إما صوابا أو خطأ، و هذا الشيء المشترك هو الصورة المنطقية، لأن الرسم ليس ذلك التوليف بين العناصر المشكلة له فقط، بل هو تمثيل لموجود خارجي، على اعتبار أننا لا يمكن أن نحكم بان هذا الرسم يمثل ذاك المرسوم بالانطلاق من عناصر الرسم/الصورة، بل لا بد من عملية التعقل و التفكير نقارن من خلالها بين الرسم و المرسوم، و هذا معنى قول (فتجنشتاين): (أن الرسم لا يستطيع أن يمثل ما فيه من صورة للتمثيل، إنما يعرضه)22، أي يعرضه لمن يقارن و ينظر إلى الرسم في علاقته بالمرسوم، و حضور الصورة المنطقية هو الذي يضمن للرسم منطقيته، و كل ما هو غير منطقي لا يقبل التعبير عنه على الإطلاق، و الفكر هو الرسم المنطقي للواقع، و نعبر عن الفكر الذي هو قضية ذات معنى بواسطة علامة القضية. إننا عندما نتحدث عن النظرية التصويرية للغة التي تجعل من الرسم تمثيلا للوجود الخارجي، فإننا نغض الطرف عن كون هذا الرسم صادقا أو كاذبا في تمثيله، دون إغفال أن (فتجنشتاين) يضع فروقا دقيقة بين الرسم Picture و الصورة Form منطلقا من كون الرسم له ما يقابله في الواقع الخارجي و هو الوقائع. أما الصورة فلا تقابلها وقائع في الخارج، بل هي إمكان حدوث هذا الرسم، و بهذا يكون الفرق بين الرسم و الصورة: أن الأول لا يكون إلا و هناك واقعة فعلية مرسومة، أما الصورة فتدل على إمكان الحدوث لا على الحدوث الفعلي نفسه، أي أن الرسم تصوير لما هو موجود بالفعل في الطبيعة، في حين أن الصورة هي التركيبة الرياضية لما يمكن أن يوجد بالفعل. بمعنى آخر: الأولى هي وجود بالفعل، و الثانية وجود بالقوة أي بالإمكان23. و تجدر الإشارة إلى أن أطروحة (فتجنشتاين) القائلة بأن القضية صورة للواقع قد جرت معها مجموعة من الالتباسات التي خلفتها عملية الترجمة، فالدكتور يحيى هويدي، مثلا، يترجم الكلمة الإنجليزية Picture بكلمة (لوحة) بدلا من صورة، لأن هذه الكلمة الأخيرة، حسب رأيه، قد يفهمها القارئ العربي على أنها مرادفة لكلمة (نسخة)، و (فتجنشتاين) لم يقصد أبدا أن تكون القضية – أي قضية- نسخة للواقع أو حتى معبرة عنه. 4. القيم الصدقية في القضايا المركبة: بعدما تم اعتبار القضايا الذرية نهايات التحليل التي يمكن أن تصل إليها القضايا المركبة، فإن هذه تعتبر ذات علاقة جدلية بالقضايا الأولية، فهي لا تصور الواقع و لا تكشف معناه بشكل مباشر، بل هي متولدة عن القضايا الأولية بواسطة الإنكار أو العطف، و من تم فهي دالات صدق للقضايا الذرية، كما أن معناها و قيمة الصدق فيها مرتبط بمركباتها الأولية كما هو واضح في المثال التالي: - (دخل محمد إلى القسم و تبعه خالد) فهذه قضية مركبة من قضيتين ذريتين لا تقبلان التجزيء إلى قضايا أبسط منها، و لا يمكن الحكم عليها بالصدق أو الكذب، أي لا يمكن تعيين قيمة الصدق فيها إلا بالاعتماد على قيم صدق القضايا الأولية التي تؤلفها، لأن ما هو أساسي هو قيم صدق هذه القضايا (الذرية)، أما قيم صدق القضايا المركبة فيمكن اشتقاقها بالتأويل المنطقي الخالص. و من هذا الاشتقاق المنطقي تصبح القضية المركبة صادقة إذا كانت القضيتان الذريتان صادقتين، و مسوغ ذلك أن (نظرية فتجنشتاين في القضايا المركبة ترتد إلى نظريته في تركيب دالات الصدق، فدالة الصدق بالنسبة للقضية ق هي قضية تحتوي على ق بحيث لا يتوقف صدقها أو كذبها إلا على صدق أو كذب ق و كذلك الحال بالنسبة لدالة صدق قضايا متعددة مثل : ق، ل، ر)24. إلا أن هذا الحكم ليس تعميميا، فهناك بعض الحالات الاستثنائية من القضايا المركبة التي لا يتوقف صدقها أو كذبها على قيمة الصدق في مركباتها الأولية، (و هما حالتان متطرفتان من بين مجموعات شروط الصدق)25. - حالة تكون فيها القضية صادقة بالنسبة لكل إمكانات صدق القضايا الأولية، و هي التي تكون شروط صدقها (تحصيل حاصل). - و في الحالة الثانية تكون القضية كاذبة بالنسبة لكل إمكانات الصدق، و بهذا تكون شروط الصدق هي (التناقض الذاتي). إن الأحكام الأولى أحكام صادقة بمقتضى صورتها، و بالتالي فهي أحكام هيهية طوطولوجية Tautologique لا تضيف شيئا إلى الواقع و لا تقول عنه شيئا كقضايا المنطق و الرياضيات التي هي صادقة دائما بمقتضى حدودها المكونة لها، فإذا قلنا مثلا: - (الأعزب هو الشخص غير المتزوج) فإنها تغدو قضية تحليلية Analytique صادقة دونما حاجة إلى التحقق منها تجريبيا، أي دون أن نخرج من اللغة إلى العالم أو الواقع، و نفس الشيء ينطبق على قضايا الرياضيات مثل: (1+3=4) ذلك أن هذه العبارة كانت كذلك قبل أن تكون، أو قبل أن نقول: (1+3=4)، فالموضوع هو عينه المحمول، و من ثم فهي غفل من أي إضافة إلى الواقع، عكس القضايا التركيبية Synthétique التي تحتاج إلى التجربة قصد الكشف عن مضمونها مثل: - (الحديد يتمدد بالحرارة) حتى و إن كان (فتجنشاين) في تصوره لليقين، يدعو إلى محو الخطأ الفاصل بين القضايا التحليلية و التركيبية، فقد وضع هذين النوعين من القضايا في صف واحد من حيث اليقين، لأنهما جزء من نسق المعرفة العامة، كلاهما يستمد اليقين من أرضية هذا النسق بالتساوي، يقيني (1+1=2) مماثل ليقيني (هذه يدي اليمنى) أو أكتب الآن على ورقة بيضاء)26. بعبارة أخرى، إن ما يريد (فتجنشاين) أن يسجله ها هنا: أن يقين القضية الفيزيائية يساوي تماما يقين القضية الحسابية، و بهذا يكون من باب التعسف وضع حد فاصل بين القضايا التحليلية و التركيبية أو المنطقية و التجريبية. أما قضايا التناقض الذاتي فهي كاذبة بمقتضى صورتها لأن بنيتها المنطقية متناقضة ذاتيا، فلا يمكن القول مثلا: - (إما أ أو لا أ) لأن هذا يعتبر تناقضا داخليا دون أن نكلف أنفسنا الإحالة على الواقع الخارجي، فالسماء مثلا (إما تمطر أو لا تمطر) أما أن نقول: (السماء تمطر و لا تمطر) فإن هذه القضية كاذبة في كل الأحوال. إن القضية تظهر ما تقوله بحكم تركيبها، و بهذا لا تقول قضية تحصيل الحاصل و لا قضية التناقض شيئا، إذ ليس لتحصيل الحاصل شروط صدق ما دام صادقا صدقا غير مشروط، كما أن التناقض لا يصدق بناءا على أي شرط من الشروط27. إذن فليس هناك احتمال واحد تكون فيه القضية كاذبة في القضايا الرياضية، ف (3+1=4) لا تقول شيئا عن الوجود الخارجي لأنها كذلك قبليا و لا تعطينها إلا التعادل بين طرفين متساويين أو مترادفين لتكون القضية تبعا لذلك مساوية لنفسها. (و مع ذلك فتحصيل الحاصل و التناقض ليسا خاليين تماما من المعنى، إنهما جزء من الجهاز الرمزي على نفس النحو الذي يكون فيه الصفر جزءا من الجهاز الرمزي للحساب)28. و إذا كانت القضايا – حسب (فتجنشتاين)- تصويرا و رسما للوجود الخارجي، فإن هذه النظرية لا تنطبق على جميع القضايا ما دامت قضيتا تحصيل الحاصل و التناقض لا تمثلان أي شيء ممكن، و بالتالي فإن قضايا تحصيل الحاصل و التناقض لا ترتبط بأي علاقة تمثيلية مع الواقع الخارجي. و هكذا تكون المحصلة أن صدق تحصيل الحاصل يقيني وثوقي، و صدق التناقض مستحيل في كل الظروف و الأحوال. أما صدق القضايا الأخرى التي تنتمي إلى هذين النوعين فهو صدق ممكن، بمعنى أنها ليست صادقة في جميع الاحتمالات لأن قيمة صدقها رهينة بالواقع الخارجي. لكن ما معنى الحد صادق؟ إن إجابة عن هذا السؤال تقتضي منا التوسل بآليات المنطق الأرسطي الذي حدد الصدق في قوله:نقول عما هو موجود أنه غير موجود، و عما هو غير موجود أنه موجود: كاذب، بينما نقول عما هو موجود انه موجود و عما هو غير موجود انه غير موجود: صادق)29، و هو ما يعرف في الصيغة الفلسفية الحديثة : بنظرية التحقق أو نظرية التطابق التي تؤكد أن صدق قضية ما متوقف على مدى مطابقتها لواقعة موجودة على غرار هذه القضية التجريبية: (الشمس مشرقة) التي هي صادقة إذا كانت الشمس مشرقة و كاذبة إذا – وفقط إذا- كانت (الشمس غير مشرقة). لقد كان (لايبنز) – بمنطقه الذي يفرق بين قضايا العقل و الواقع – من أوائل الرواد الذين ميزوا بين نوعين من القضايا: قضايا يتحقق صدقها أو كذبها بالرجوع إلى العالم الخارجي عن طريق خبرتنا الحسية التجريبية، و نوع ثان من القضايا يتوقف صدقها على عملية مراجعة و فحص لألفاظها المشكلة لها. فالأولى قضايا تركيبية احتمالية أو ممكنة، لأن محمولها يضيف إلى موضوعه شيئا، و الثانية تحليلية يقينية لأن محمولها لا يغدو أن يكون تكرارا لموضوعها، و هنا لسنا نحن بحاجة إلى ربط العبارة بالخارج ما دام صدقها متوقفا على عناصرها التي تكونها. إن هذا التفريق الذي أقامه (لايبنز) مهد لظهور تيار الوضعية المنطقية ذي الأسس التجريبية التي تقر بأن الخبرة الحسية وحدها الكفيلة بإدراك أمور الواقع بالتجربة العينية و الملاحظة الفاحصة . 1- لودفيج فتجنشاين: رسالة منطقية. ترجمة عزمي إسلام، ص 4 2- نفسه، عبارة رقم 116، ب، ص 92 3- د.عبد المنعم الحفني: الموسوعة الفلسفية ، ص 5 4- ADAM SCHAFF : Introduction à la sémantique, P 60. 5- هانز رايشنباخ: نشأة الفلسفة العلمية، ترجمة د فؤاد زكريا، ص 110 6- د.محمد ثابت أفندي: أصول المنطق الرياضي، ص 15. 7- د. عبد الرحمان بدوي: مدخل جديد في فلسفة اللغة، ص 243 8- د.عبد الرحمان بدوي: مدخل جديد في فلسفة اللغة، ص 240 9- يحيى هويدي: ما هو علم المنطق، ص 148 10- د. عبد الله الجسمي: المنطق و تصور فتجنشتاين للفلسفة، ص 138 11- ل. فتجنشتاين: رسالة منطقية فلسفية، ترجمة عزمي إسلامـ ص 91، عبارة رقم 111، 4 12- ADAM SCHAFF : Introduction à la sémantique, P 60. 13- ADAM SCHAFF : Introduction à la sémantique, P 63. 14- د. عبد الله الجسمي: المنطق و تصور فتجنشتاين للفلسفة، ص 141 15- نفسه ص 144، عبارة رقم61،5 16- د. عبد الله الجسمي: المنطق و تصور فتجنشتاين للفلسفة، ص143 17- ل. فتجنشتاين: رسالة منطقية فلسفية، ترجمة عزمي إسلام ص 72، عبارة رقم 12،3 18- نفسه عبارة رقم 14،3 19- ل. فتجنشتاين: رسالة منطقية فلسفية، ترجمة عزمي إسلامـ ص 71، عبارة رقم 3 20- نفسه، ص 73، عبارة 144،3 21- نفسه، ص 78، عبارة رقم 03،4 22- ل. فتجنشتاين: رسالة منطقية فلسفية، ترجمة عزمي إسلامـ ص 69، عبارة رقم 172،2 23- نفسه ص 183 24- ل. فتجنشتاين: رسالة منطقية فلسفية، ترجمة عزمي إسلامـ ص 39 25- نفسه، عبارة رقم 46،4 ص 105 26- د.ميشال ماتياس: تصور اليقين عن فتجنشتاين، عالم الفكر، ص 108 27- ل. فتجنشتاين: رسالة منطقية فلسفية، ترجمة عزمي إسلامـ ،عبارة رقم 461،4، ص 105 28- ل. فتجنشتاين: رسالة منطقية فلسفية، ترجمة عزمي إسلامـ، عبارة رقم 4611، 4، ص 105 29- ألفرد تارسكي: المفهوم الدلالي للصدق و أسس الدلاليات، ترجمة حسان الباهي، مجلة الجمعية الفلسفية المغربية، العدد 3 ص 131
مصطفى العطار أستاذ مبرز و باحث في اللسانيات







: منتديات الأستاذ التعليمية التربوية المغربية : فريق واحد لتعليم رائد https://www.profvb.com/vb/showthread.php?p=149797
التوقيع

آخر تعديل محمد يوب يوم 2010-05-29 في 19:00.
    رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
"الرسالة" , المجهول , ذلك , فتجنشتاين , فى , قراءة


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are معطلة


مــــواقـــع صـــديــقــة مــــواقـــع مـــهــــمــــة خـــدمـــــات مـــهـــمـــة
إديــكـبـريــس تربويات
منتديات نوادي صحيفة الشرق التربوي
منتديات ملتقى الأجيال منتديات كاري كوم
مجلة المدرس شبكة مدارس المغرب
كراسات تربوية منتديات دفاتر حرة
وزارة التربية الوطنية مصلحة الموارد البشرية
المجلس الأعلى للتعليم الأقسام التحضيرية للمدارس العليا
مؤسسة محمد السادس لأسرة التعليم التضامن الجامعي المغربي
الصندوق الوطني لمنظمات الاحتياط الاجتماعي التعاضدية العامة للتربية الوطنية
اطلع على وضعيتك الإدارية
احسب راتبك الشهري
احسب راتبك التقاعدي
وضعية ملفاتك لدى CNOPS
اطلع على نتائج الحركة الإنتقالية

منتديات الأستاذ

الساعة الآن 23:27 لوحة المفاتيح العربية Profvb en Alexa Profvb en Twitter Profvb en FaceBook xhtml validator css validator

RSS RSS 2.0 XML MAP HTML
جميع المواد المنشورة بالموقع تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع ولا يتحمل أي مسؤولية عنها

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd