مهزلة التكوين المهني إسماعيل عزام هبة بريس : 30 - 03 - 2010
لم يعد خافيا على احد كون الارتجال صار شيئا عاديا في وزاراتنا وفي دواليب مسيرينا,فوزارة التربية الوطنية بقيادة اخشيشن أعدت برنامج سموه بالاستعجالي لانتقاء أزيد من 4000 أستاذ في التعليمين الابتدائي والثانوي,اقل ما يقال عن هذا البرنامج هو انه ضحك على الذقون,فحتى التعليم الأساسي جعلوا له شروطا محددة فمثلا أصحاب الإجازة في الاسبانية والانجليزية والفلسفة والحقوق والاقتصاد لا تقبل إجازاتهم في التعليم وذلك لأنها حسب الوزارة المعنية لا تلاءم هذا الصنف من التعليم,علما انه الى حد قريب كان التعليم يقبل فقط أصحاب البكالوريا...
لكن المشكل الأكبر هو أن هذا الارتجال تجاوز أسوار وزارة التربية الوطنية وتعداها ليصل إلى مؤسسات التكوين المهني,فوزارة التكوين المهني وإنعاش الشغل أبت إلا وان تمشي على نفس المنوال,وهذه المرة بطريقة تثير السخرية,فقد أعلنت هذه الوزارة عن مباراة مفتوحة لمدة طويلة وذلك لانتقاء أساتذة يدرسون بمؤسساتها تحت عقد يتم تجديده كل سنة,وهذه المباراة مفتوحة لكل أصحاب الدبلومات ابتداء من دبلوم التقني إلى دبلوم المهندس,أي أن كل من أنهى دراسته بتكوين ما في إحدى مؤسسات التكوين المهني,يمكن ان يعود في السنة الأخرى ليصير أستاذا,فبسرعة البرق يتم تكوينه ليصير ملائما لتكوين الطلبة,وهكذا يتحول من طالب الى أستاذ في غضون أيام قليلة...
إن هذا الإجراء لهو اكبر مهزلة في تاريخ التكوين المهني,فلو افترضنا أن هناك خصاصا مهولا في مؤسسات التكوين المهني من حيث الأساتذة,فقد كان من الأحسن أن يتم انتقاء المرشحين ثم القيام تكوينهم لمدة لا تقل عن سنة,لان التكوين القصير الذي حصلوا عليه والذي لا يتجاوز السنتين ليس كافيا أبدا لتغيير الجلد من طالب إلى أستاذ,فالتدريس مسؤولية جسيمة تشترط مؤهلات ومهارات ترتبط باللغة والتواصل وكيفية التلقين,ولا اعتقد أن خريجا جديدا من مؤسسات التكوين المهني سيقوم بهذه المسؤولية ما لم يتم صقل مهاراته وتكوينه بيداغوجيا ليستطيع تلقين ما لقن إليه...
إن المتأمل لأوضاع مؤسسات التكوين المهني سيرى أن هناك ضعفا كبيرا في التكوين,ففي كثير من الشعب تجد فراغا مهولا للأساتذة,فعلى سبيل المثال ما يسمونه ب offshoring لحد الساعة لم يجدوا أساتذة قادرين على تلقين هذا النوع من الدراسة,والمشكل الأكبر انه حتى بغياب الأساتذة يتم منح الدبلومات للطلبة لكي يقوموا هم أيضا بتدريس هذه المادة التي لا يفهموا فيها شيئا...
واضرب بذلك مثال احد أصدقائي الذي حصل على دبلوم التقني المتخصص في تدبير وكالات الأسفار بدون أي فائدة تذكر,فاغلب الأساتذة الذين يدرسون هذه المادة لا يحضرون المؤسسة إلا لماما,وهذا ما انعكس على تكوينه الذي كان ضعيفا,والطامة الكبر هو انه بعد تخرجه بسنة واحدة أرسلوا له برقية لكي يقوم بتدريس هذه المادة,فقال لي بالحرف الواحد كيف لفاقد الشيء أن يعطيه؟؟لم أتلق أي تكوين يشفع لي حتى بالعمل في وكالة أسفار فما بالك بتدريس هذه المادة لشباب ينتظر من أستاذه الكثير ويعول عليه لاستنباط مفاهيم مادة سيبني عليها مستقبله؟؟
وفي نظري أرى أن وزارة التكوين المهني تجاهلت هذه النقطة,وهي كيف سيكون حال التكوين في مؤسساتها إن هي أسندت المهمة لشباب لا يملكون التكوين اللازم للتدريس؟كيف سيكون حال الطلبة الجدد ان هم اكتشفوا ان مدرسهم عاجز حتى عن شرح الدرس وعن توصيل المعلومات,كيف سيكون حال هؤلاء الأساتذة وهم يحرجون أمام الطلبة بعدما تيقنوا أنهم غير قادرين على إعطاء أي شيء؟؟
فحتى التعليم الابتدائي,يقضي الأستاذ سنة في التكون البيداغوجي وذلك لتنمية مهاراته في التلقين وفي إيصال معرفة رغم انه يقوم بتدريس أطفال لا تتجاوز أعمارهم في أحسن الحالات 12 سنة,فما بالك ان تقوم بتدريس شباب تتراوح أعمارهم ما بين 18 و26 سنة,وأنت لا تتوفر على شروط التدريس ,أليس هذه مغامرة غير محمودة العواقب,أليس تكوينك ضعيف لدرجة الا يسمح لك بذلك؟أليس هذا جريمة بحق هؤلاء الطلبة الذين يعولون عليك لتامين مستقبلهم؟أليس هذا جريمة بحق التكوين المهني في المغرب الذي صار اليوم يستقطب المتفوقين في دراستهم الذي يمرون من خلا مباراة الدخول ليفاجئوا أن ما ظنوه تأمينا للمستقبل لا يتوفر حتى على اطر تدريسية تعطيها حقها من التكوين...
وكي نتعرف على بعض الحقائق,فوزارة التكوين المهني لم تقم بهذا الإجراء إلا بعد أن تيقنت بصعوبة الحصول على أساتذة أكفاء,فقد اشترط الإعلان في بادئ الأمر ضرورة تجربة مهنية لا تقل عن السنتين,إضافة إلى مهارات خاصة في الشعبة من قبيل إتقان اللغة الفرنسة والإلمام التام بالشعبة المراد تدريسها,وهو ما لم يتم إيجاده على ارض الواقع,لان اغلب الأطر المتمرسة في ميادينها تشتغل في ظروف لا تسمح لها بالمزاوجة بين التدريس والعمل,زد على ذلك ان التدريس تحت عقد سينتهي في يوم ما لم يشجع أحدا على ترك مهنته والتفرغ للتدريس,فكان الحل هو الالتجاء بالمتخرجين حديثا من مؤسسات التكوين المهني او بأولئك الذين قضوا سنوات في عوالم البطالة لكي يقومون بهذه المهمة الخطيرة,وذلك كحل مؤقت يرضي جميع الأطراف,فالوزارة من جهة ستجد شبابا على استعداد للتدريس وفق أجور متوسطة,وهؤلاء الشباب سيتمكنون من إيجاد شغل يقيهم حر البطالة من جهة أخرى..
هكذا,صار الأمر عبارة عن تعاقد سخيف يكون الهدف من وراءه تكوين مليون شاب وإظهار الأمر على انه دينامية لتحريك قطاع التكوين المهني,لكنه تناسوا أن ما بني على باطل هو باطل أصلا,وان هذا التعاقد ما هو إلا محاولة لذر الرماد في العيون,فلو طرحوا سؤال التكوين وجعلوه موضع مسائلة لمن ستعطاهم رخصة التدريس,لوقفوا على حقيقة مهمة وهي أن تكوين مليون شاب وفق هذه الخطة لن يكون سوى جريمة وتجني على مستقبلهم وعلى حياتهم,فلا المناهج واضحة في التدريس ولا الموارد البشرية بقادرة على حل هذا المعضل,وبالتالي نصل الى نتيجة ان وزارة التكوين المهني تصطاد في الماء العكر وتبني لنفسها مجدا زائفا من قبيل القضاء على البطالة وتكوين اطر قادرة على الدفع بعجلة الاقتصاد إلى الأمام..
وما هذا المجد الزائف إلا ذلك الجلباب الذي تشترك فيها وزاراتنا والذي تلبسه لإخفاء عيوبها وجروحها المتقرحة.. |