بقلم :
د. فيصل بن سعود الحليبي
الحمد لله تفرد بالبقاء ، والعظمة والكبرياء ، وسع خلقه رحمة وحلما ، وأحاطهم معرفة وعلما ، وأشهد ألا إله إلا الله ، كاشف الكرب ، ومزيل الهم ، ومثبت الذين آمنوا في الحياة الدنيا وفي الآخرة بالقول الثابت ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ، أنذر وبشر ، ونصح وجاهد ، حتى ترك أمته على البيضاء ليلها كنهارها ، لا يزيغ عنها إلا هالك ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرا .
أما بعد : يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا .
أيها الأحبة في الله : كم يسعى الإنسان ويجهد في هذه الحياة الدنيا ، قد ملأ قلبه بالطموحات ، وغره طول الأمل ، وغفل عن كثرة العلل ، فانطلق كالسهم يركض خلف مبتغاه ، يعرق ليجمع ، ويجمع لينفق أو ليبخل ، قد أطغاه حب الجاه ، وأرهقه التطلع للمنصب ، وأشغله هم الأولاد ، وقصم ظهره اللهث وراء الأموال ، فيفلح حينًا ، ويعثر حينًا آخر ، وينهض مرة أخرى لا يبالي بتعب ، ولا يفكر في جهد ، فقط أن يصل ما وصل غيره بل يزيد على ذلك ما استطاع إلى ذلك سبيلا ، ومن أصدق من الله قيلا :
( إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ) .
يالله كم للدنيا من فتن مغرية تأخذ بلب المرء وقلبه ، وتهد من جسده وقوته ، يظن أنه سيبلغ غايته ، وينال مبتغاه ، وفي لحظة من اللحظات لم يحسب لها حسابًا ، قد انغمس في عمله ، يدقق حساباته الدنيوية غافلاً عن حساب الآخرة الشديد ، وفي لحظة من اللحظات وهو في غمرة السعادة بين أهله وذويه ، أو بين أصحابه وأحبابه ، وفي لحظة من اللحظات يعيش نشوة الأموال ، وكثرة الأولاد ، واستقرار الصحة والجسد ، في تلك اللحظة التي يبصر بها من حوله ، ويسمع من يحدثه ، ويحدث من يسمعه ، ويحرك فيها جسده ، لا مرضًا يشكو ، ولا علة يعالج ، ولا طبيبًا يزور ، قوة في جسمه تركب فوق قوة ، ونشاطًا في عقله تختصم فيه الأفكار بالأفكار ، لحظة رهيبة ، ومفاجأة غريبة ، فيها توقف كل شيء ، ماذا جرى لجسم الصحيح ، ماذا حصل للعقل المدبر ، ماذا وقع لصاحب الأموال والمنصب والجاه ، ما هذه الصفرة التي سرت في جسده ، أين سافرت نضرة هذا الجسم المترف ،
عجبًا أرى : عينين كانتا جميلتان بالبصر ، مالهما قد زاغتا لا لفت أو نظر ، قم يا رجل ، انهض ، فوراءك حياة مليئة بالعمل ، أتترك أعمالك ، أموالك ، جاهك و منصبك ، تحرك !! لقد ارتخى اللسان السليط ، وخفت الصوت الصارخ ، فلا حس أو خبر .
حينها تنادى الأحباب ، وتعالت الأصوات ، أحضروا الطبيب ، حركوا الأموال ، اتصلوا بأصدقاء الجاه والمراتب العالية ، أخبروهم بالمفاجأة ، علهم يجدوا الخلاص ، والنجاة من المصيبة .
أين المفر من القضا *** ء مشرقًا ومغربا
انظر ترى لك مذهبًا *** أو ملجأً أو مهربا
سلّم لأمر الله وارض *** به وكن مترقبا
فلقد نعاك الشيب يوم *** رأيت رأسك أشيبا
يمسي ويصبح طالب *** الدنيا مُعنًى متعبا
لقد انتهى كل شيء ، وجاء الوعد الحق ، لتنسل به الروح من الجسد ، وتقلع منه حثيثا
، ومن أصدق الله حديثا :
يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ .
يالها من مفاجأة يباغت فيها الإنسان ، فيأخذ على غرة ، تعددت أسبابها ، وتلونت أشكالها ، واختلفت أعمارها ، وتنقلت أوقاتها ، لا تميز بين الطفل والشاب والشيخ ، كل له له أجله المكتوب ، وعمره المحسوب ، عند رب رحيم حليم .
غير أنها الغفلة التي تقتل القلوب عن هذه الساعة المملوءة بالفاجعة ، المقرونة بالبكاء والصراخ ، الممزوجة بالدموع ، المتلونة بالحسرة واللوعة ، على من .. علي أنا وأنت وكل مولود كبير أو صغير .
يا غافلاً عن ساعة مقرونة *** بنوادب وصوارخ وثواكل
قدِّم لنفسك قبل موتك صالحًا *** فالموت أسرع من نزول الهاطل
حتّام سمعُك لا يعي لمذكر *** وصميم قلبك لا يلين لعاذل
تبغي من الدنيا الكثيرَ وإنما *** يكفيك من دنياك زاد الراحل
آي الكتاب تهزُّ سمعك دائمًا *** وتصم عنها معرضًا كالغافل
كم للإله عليك من نعم ترى *** ومواهب وفوائد وفواضل
كم قد أنالك من موانح طوله *** فاسأله عفوًا فهو غوث السائل
عباد الله :
اعلموا رعاكم الله أن من علامات الساعة الصغرى كثرة موت الفجأة ،
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال :
( إن من أمارات الساعة أن يظهر موت الفجأة ) ،
رواه الطبراني وحسنه الألباني .
وإن المتابع لأخبار الزمان اليوم ليجد عجبًا عجابًا من كثرة ما يقع من موت الفجأة ، وهو ما يسمى اليوم بالسكتة القلبية ، ومع هذه الكثرة إلا أن جملة منا في عفلة ، وكأن ما أتى غيرنا لا يأتينا ولا يقرب من دارنا .
عجبًا لنا :
كيف نجرأ على الله فنرتكب معاصيه ، وأوراحنا بيده ، وكيف نستغفل رقابته ، والموت بأمره يأتي فجأة ، أما سأل أحدنا نفسه : لماذا لا يستطيع أحد أن يعلم متى سيموت ، إنها حكمة بالغة ، ليبقى المؤمن طوال حياته مترقبًا وداع الدنيا ، مستعدًا للقاء ربه .
روي أن ملك الموت دخل على داود عليه السلام فقال : (( من أنت ؟ فقال ملك الموت : أنا من لا يهاب الملوك ، ولا تمنع منه القصور ، ولا يقبل الرشوة ، قال : فإذًا أنت ملك الموت ، قال : نعم ، قال : أتيتني ولم أستعد بعد ! قال : يا داود أين فلان قريبك ؟ أين فلان جارك ؟ قال : مات ، قال : أما كان لك في هؤلاء عبرة لتستعد ؟!
يا حسرتنا ـ يا عباد الله ـ على غفلة قد طمت ، ومهلة قد ذهبت ، أضعناها في المغريات ، وقتلناها بالشهوات ، وأهدرناها في التفاهات ، نسير كأن أحدنا سيعمر ألف سنة ، ونغفل كأن بيننا وبين الموت ميعاد مؤجل ، كم قريب دفنا ، وكم حبيب ودعنا ، نفضة غبار القبور من أيدينا أنستنا هول ما رأوا ، وعظم ما شاهدوا ، وعدنا من دور اللحود وعادت معنا الدنيا ، لنغرق في ملذاتها ،
أين العيون الباكية من خشية الله ،
أين القلوب الوجلة من لقاء الله ،
ألا نعود أنفسنا على توديع هذه الدنيا كل يوم ، فنحاسب أنفسنا قبل أن يحاسبها الله ،
ألا نعزم على مضاعفة الأعمال الصالحة من صلاة واستغفار وذكر وبر وصلة ،
ألا نفكر بجدية مقرونة بعمل أن نقلع من معاصينا ، ونتوب من تقصيرنا في حق الله تعالى،
ألا نجعل ساعة الموت هذه واعظًا لنا في هذه الدنيا الفانية من الغفلة عن الله تعالى ؟
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ .
اللهم ارحم ضعفنا ، وآنس وحشتنا ، وذكرنا بك ما حيينا ، واللهم التوبة النصوح قبل الممات يا رب العالمين ، استغفروا الله وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.
الخطبة الثانية :
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره ، وسار على سنته إلى يوم الدين .
أما بعد :
فيا عباد الله، إنه من الخطير حقًا أن نتأفف من ذكر الموت وأسبابه ، نراعي في ذلك مشاعرنا، أن لهثًا خلف الفرحة بهذه الدنيا ، كيف وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :
(أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ يَعْنِي الْمَوْتَ
رواه الترمذي وقال : ( حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ ) .
وما ذاك إلا لأن ذكر الموت يعين بعد الله تعالى على فعل الطاعات والاستزادة من المعروف والخير ، ويزهد في الدنيا وزهرتها ، ويكشف لك غرورها وزوال متعاها ، ويهون عليك فوات نعيمها ، لتفكر في نعيم الآخرة المقيم ، فتجتهد في العبادة ، وتعمل لتلك السعاة .
قال حوشب بن عقيل : سمعت يزيد الرقاشي يقول لما حضره الموت : { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ } ، ألا إن الأعمال محضورة ، والأجور مكملة ، ولكل ساع ما يسعى ، وغاية الدنيا وأهلها إلى الموت ، ثم بكى وقال : يا من القبر مسكنه ، وبين يدي الله موقفه ، والنار غدًا مورده ، ماذا قدمت لنفسك ؟ماذا أعددت لمصرعك ، ماذا أعددت لوقوفك بين يدي ربك ؟
وأجمل ما يكون العبد في حياته متذكرًا الموت ، مستعدًا له ، غير أنه إذا اقترب منه كان حسن الظن بربه ، فإن الله يقول في الحديث القدسي :
( أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاءَ )
رواه أحمد .
حدث حاتم بن سليمان قال : دخلنا على عبد العزيز بن سليمان وهو يجود بنفسه فقلت : كيف تجدك ؟ قال : أجدني أموت ، فقال له بعض إخوانه : على أية حال رحمك الله ؟ فبكى ثم قال : ما نعول إلا على حسن الظن بالله ، قال : فما خرجنا من عنده حتى مات .
ليذكر بعضنا بعضًا بفناء أعمارنا ، وفناء هذه الدنيا ، ولنستعذب الحديث عما أعده الله لعباده من الجنان والفوز بالرضوان ، على قلوبنا أن تلين لباريها ، وتخشع لخالقها العزيز الحكيم .
اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، وأذل الشرك والمشركين ، واحم حوزة الدين ، وانصر عبادك الموحدين ، اللهم احفظ هذه الأرض من شر الأشرار ، وكيد الفجار ، اللهم من أرادها وبلاد المسلمين بسوء فأشغله في نفسه واجعل كيده تدميرًا له ، اللهم رد كيده في نحره ، واجعله عبرة لمن يعتبر ، اللهم إنك أنت القوي فأمدنا بقوتك ، وإنك أنت الحليم فأسبغ علينا حلمك ، وإنك أنت الرحيم فأنزل علينا سكينتك ، وإنك أنت الرزاق فامنن علينا بكريم رزقك ، وإنك أنت العفو فاسترنا بعظيم عفوك ، اللهم انصر إخواننا المسلمين في كل مكان ، وأمدهم بمدد من عندك وجند من جندك ،واحفظ ديارهم وأموالهم وأهليهم ، ورد عنهم بقوتك وجبروتك ، اللهم وفق أولياء أمورنا للعمل بما يرضيك ، واجعلهم هداة مهتدين ، سلمًا لأوليائك ، حربًا على أعدائك ، ووحد على الحق كلمتهم ، ووفقهم لإصلاح رعاياهم ، اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولأحبابنا ولجميع المسلمين ،وصلوا وسلموا على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .