منتديات الأستاذ التعليمية التربوية المغربية : فريق واحد لتعليم رائد

منتديات الأستاذ التعليمية التربوية المغربية : فريق واحد لتعليم رائد (https://www.profvb.com/vb/)
-   تفسير (https://www.profvb.com/vb/f297.html)
-   -   تفسير سورة التغابن (https://www.profvb.com/vb/t179000.html)

أم سهام 2017-10-28 21:12

تفسير سورة التغابن
 
* تفسير صفوة التفاسير/ الصابوني (مـ 1930م -) مصنف و مدقق
{ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ لَهُ ٱلْمُلْكُ وَلَهُ ٱلْحَمْدُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } * { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } * { خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ } * { يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } * { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ فَذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } * { ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَاتِ فَقَالُوۤاْ أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْ وَّٱسْتَغْنَىٰ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } * { زَعَمَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَن لَّن يُبْعَثُواْ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ } * { فَآمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَٱلنّورِ ٱلَّذِيۤ أَنزَلْنَا وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } * { يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ ٱلْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ ٱلتَّغَابُنِ وَمَن يُؤْمِن بِٱللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذَلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } * { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَٰتِنَآ أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَٰبُ ٱلنَّارِ خَٰلِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ } * { مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِٱللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } * { وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ فَإِن تَولَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا ٱلْبَلاَغُ ٱلْمُبِينُ } * { ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ } * { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَٱحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } * { إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَٱللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } * { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ وَٱسْمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنْفِقُواْ خَيْراً لأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } * { إِن تُقْرِضُواْ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ } * { عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ }

اللغَة:
{ صَوَّرَكُمْ } التصوير: التخطيط والتشكيل الذي يكون به صورة وهيئة يتميز بها عن غيره { نَبَأُ } النبأ: الخبر الهام { وَبَالَ } الوبال: العقوبة والنكال { زَعَمَ } ظنَّ، والزعمُ هو القول بالظن ومنه قولهم " زعموا مطيةُ الكذب " قال شريح: " لكل شيءٍ كنيةٌ، وكنيةُ الكذب زعموا " { ٱلتَّغَابُنِ } الغبنُ ومعناه: النقص يقال: غبنه غبناً إِذا أخذ الشيء منه بدون قيمته، وسمي يوم القيامة يوم التغابن، لأنه يظهر فيه غبن الكافر بتركه الإِيمان، وغبن المؤمن بتقصيره في الإِحسان.


سَبَبُ النّزول:
روي أن رجالاً من أهل مكة أسلموا، وأرادوا أن يهاجروا الى النبي صلى الله عليه وسلم فمنعهم أزواجهم وأولادهم، وقالوا: صبرنا على إسلامكم ولا صبر لنا على فراقكم!؟ فأطاعوهم وتركوا الهجرة فأنزل الله تعالى { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَٱحْذَرُوهُمْ... } الآية.


التفسِير:
{ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } أي ينزه الله تعالى ويمجده جميع ما في السماوات والأرض من مخالوقات، تنزيهاً دائماً مستمراً بدون انقطاع، وصيغة المضارع تفيد التجدد والاستمرار { لَهُ ٱلْمُلْكُ وَلَهُ ٱلْحَمْدُ } أي له جل وعلا المُلك التام والتصرف الكامل في خلقه، وهو المستحق للثناء وحده، لأن جميع النعم منه سبحانه وتعالى، وقدَّم الجار والمجرور فيهما لإِفادة حصر الملك والحمد فيه سبحانه { وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي قادر على كل شيء، يغني ويفقر، ويعز ويذل، وإِذا أراد شيئاً فإِنما يقول له كن فيكون، وهو كالدليل لما تقدم من أنَّ الملك والحمد له سبحانه { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ } هذا تفصيلٌ لبعض آثار قدرته أي هو الذي خلقكم أيها الناس بهذا الشكل البديع المحكم، فكان يجب على كل واحدٍ منكم الإِيمان به، لكنْ منكم من كفر بربه، ومنكم من آمن وصدَّق بخالقه قال الطبري: أي منكم كافرٌ بخالقه وأنه هو الذي خلقه، ومنكم مصدِّق به موقنٌ أنه خالقه وبارئه، وقدَّم الكافر على المؤمن، لكثرة الكفار وقلة المؤمنين

{ وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي ٱلأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ }
[الأنعام: 116]
{ وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ }
[سبأ: 13] { وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي عالمٌ بأحوالكم، مطَّلعٌ على أعمالكم، لا تخفى عليه خافية من شئونكم وسيجازيكم عليها.. ثم فصَّل تعالى آثار قدرته ودلائل وحدانيته فقال { خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ } أي خلقهما بالحكمة البالغة، المتضمنة لمصالح الدنيا والدين، لا عبثاً ولا لهواً { وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } أي خلقكم في أحسن صورة وأجمل شكل، فأتقن وأحكم خلقكم وتصويركم كقوله تعالى
{ لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ فِيۤ أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ }
[التين: 4] فإِن من نظر في شكل الإِنسان وهيئته وتناسب أعضائه، علم أن صورته أحسن صورة بالنسبة لسائر أنواع الحيوان، ومن حسن صورته أنه خلق منتصباً غير منكب على وجهه { وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ } أي وإليه تعالى وحده المرجع والمآب، فيجازي كلاً بعمله { يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي يعلم ما في الكائنات من أجرامٍ ومخلوقات { وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } أي ويعلم ما تخفونه وما تظهرونه من نواياكم وأعمالكم { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } أي عالم بما في الصدور من الأسرار والخفايا، فكيف تخفى عليه أعمالكم الظاهرة؟ قال في البحر: نبَّه تعالى بعلمه بما في السماواتِ والأرض، ثم بعلمه بما يخفيه العباد وما يعلنونه، ثم بعلمه بما أكنَّته الصدور، على أنه تعالى لا يغيب عن علمه شيء، لا من الكليات ولا من الجزئيات، فابتدأ بالعلم الشامل، ثم بسرِّ العباد وعلانيتهم، ثم بما تنطوي عليه صدروهم، وهذا كله في معنى الوعيد، إِذ هو تعالى المجازي عليه بالثواب والعقاب.. ثم ذكَّرهم تعالى بما حلَّ بالكفار قبلهم فقال { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ } أي ألم يأتكم يا معشر قريش خبر كفار الأمم الماضية كقوم عاد وثمود، ماذا حلَّ بهم من العذاب والنكال!! { فَذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ } أي فذاقوا العقوبة الوخيمة على كفرهم في الدنيا { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي ولهم في الآخرة عذاب شديد موجع { ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَاتِ } أي ذلك العذاب الذي ذاقوه في الدنيا وما سيذوقونه في الآخرة، بسبب أنه جاءتهم رسلهم بالمعجزات الواضحات، والبراهين الساطعات، الدالة على صدقهم { فَقَالُوۤاْ أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا }؟ أي فقالوا على سبيل الاستغراب والتعجب: أرسلٌ من البشر يصيرون هداةً لنا قال الرازي: أنكروا أن يكون الرسول بشراً، ولم ينكروا أن يكون معبودهم حجراً، وذلك لقلة عقولهم وسخافة أحلامهم { فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْ } أي فكفروا بالرسول، وأعرضوا عن الإِيمان واتباع هدى الرحمن { وَّٱسْتَغْنَىٰ ٱللَّهُ } أي استغنى الله عن طاعتهم وعبادتهم قال الطبري: أي استغنى اللهُ عنهم، وعن إِيمانهم به وبرسله { وَٱللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } أي غنيٌ عن خلقه، محمودٌ في ذاته وصفاته، لا تنفعه طاعة، ولا تضره معصية، لأنه مستغنٍ عن العالمين.. ثم أخبر تعالى عن إِنكارهم للبعث بعد تكذيبهم للرسالة فقال { زَعَمَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَن لَّن يُبْعَثُواْ } أي ادَّعى كفار مكة وظنوا أن الله لن يبعثهم من قبورهم بعد موتهم أبداً { قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ } أي قل لهم يا محمد: ليس الأمر كما زعمتم، وأقسم بربي لتخرجن من قبوركم أحياء ولتبعثنَّ { ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ } أي ثم لتخبرنَّ بجميع أعمالكم، صغيرها وكبيرها، جليلها وحقيرها، وتُجزون بها { وَذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ } أي وذلك البعث والجزاء، سهلٌ هينٌ على الله، لأن الإِعادة أسهل من الابتداء قال الرازي: أنكروا البعث بعد أن صاروا تراباً، فأخبر تعالى أن إِعادتهم أهونُ في العقول من إنشائهم.. ولما بالغ في الإِخبار عن البعث، وذكر أحوال الأمم المكذبة، أمر بالاعتصام بالإِيمان والتمسك بالقرآن فقال { فَآمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَٱلنّورِ ٱلَّذِيۤ أَنزَلْنَا } أي فصدِّقوا بالله وبرسوله وبهذا القرآن الذي أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم فإِنه النور الوضاء، المبدّد للشبهات، كما يبدد النور الظلمات { وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } أي لا تخفى عليه خافية من أعمالكم { يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ ٱلْجَمْعِ } أي واذكروا ذلك اليوم الرهيب - يوم القيامة - الذي يجمع الله فيه الخلائق كلها في صعيد واحد للحساب والجزاء قال ابن كثير: سمُي " يوم الجمع " لأن الله تعالى يجمع فيه الأولين والآخرين في صعيد واحد، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، كقوله تعالى{ ذٰلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ ٱلنَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ }
[هود: 103] { ذَلِكَ يَوْمُ ٱلتَّغَابُنِ } أي ذلك هو اليوم الذي يظهر فيه غبن الكافر وخسارته بتركه الإِيمان، وذلك أن المؤمنين اشتروا الجنة بترك الدنيا، واشترى الكفار النار بترك الآخرة، فظهر غبن الكافرين قال الخازن: وأصله من الغبن وهو أخذ الشيء بدون قيمته، والمغبونُ من غُبن أهله ومنازله في الجنة، وذلك لأن كل كافر له أهلٌ ومنزل في الجنة لو أسلم، فيظهر يومئذٍ غبن كل كافرٍ بتركه الإِيمان، ويظهر غبن كل مؤمن بتقصيره في الإِحسان { وَمَن يُؤْمِن بِٱللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ } أي ومن يصدِّق بالله ويعمل عملاً صالحاً، يمح الله تعالى عنه ذنوبه { وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } أي ويدخله جنات النعيم، التي تجري من تحت أشجارها وقصورها أنهارُ الجنة { خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } أي مقيمين في تلك الجنات أبد الحياة، لا يموتون ولا يُخرجون منها { ذَلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } أي ذلك هو الفوز الذي لا فوز وراءه، والسعادة التي لا سعادة بعدها { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ } أي والذين جحدوا بوحدانية الله وقدرته، وكذبوا بالدلائل الدالة على البعث وبآيات القرآن الكريم { أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا } أي أولئك مآلهم جهنم، ماكثين فيها أبداً { وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ } أي وبئست النار مرجعاً ومستقراً لأهل الكفر والضلال.. ثم أخبر تعالى بأن كل ما يحدث في الكون بقضائه وإِرادته فقال { مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ } أي ما أصاب أحداً مصيبةٌ في نفسه أو ماله أو ولده، إِلا بقضاء الله وقدره { وَمَن يُؤْمِن بِٱللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } أي ومن يصدِّق بالله ويعلم أن كل حادثةٍ بقضائه وقدره، يهدِ قلبه للصبر والرضا ويثبته على الإِيمان قال ابن عباس: يهدِ قلبه لليقين، حتى يعلم أنَّ ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه وقال علقمة: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى بها ويُسلم لقضاء الله { وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } أي هو الله تعالى عالمٌ بكل الأشياء، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء قال القرطبي: أي لا يخفى عليه تسليم من انقاد وسلَّم لأمره، ولا كراهة من كرهه ولم يرض بقضائه { وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ } أي أطيعوا أمر الله وأمر رسوله في كل ما شرع لكم من الأوامر والنواهي، وكرَّر الأمر للتأكيد ولبيان أن طاعة الرسول واجبة كطاعة الله { فَإِن تَولَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا ٱلْبَلاَغُ ٱلْمُبِينُ } أي فإِن أعرضتم عن إجابة الرسول فيما دعاكم إِليه من الهداية والإِيمان، فليس عليه ضرر إِنما ضرر ذلك عليكم، إِذ ليس على الرسول إِلا تبليغ الرسالة وقد أدى ما عليه، والله ينتقم ممن عصاه وخالف أمره { ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } أي اللهُ جل وعلا لا معبود سواه، ولا خالق غيره، عليه الاعتماد وإِليه المرجع والمآب { وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ } أي فعليه وحده توكلوا أيها المؤمنون في جميع أموركم قال الصاوي: وهو تحريضٌ وحثٌ للنبي صلى الله عليه وسلم على التوكل على الله، والالتجاء إِليه، وفيه تعليمٌ للأمة ذلك، بأن يلتجئوا إِلى الله ويثقوا بنصره وتأييده { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَٱحْذَرُوهُمْ } أي يا معشر المؤمنين إِن بعض الزوجات والأولاد أعداء لكم، يصدونكم عن سبيل الله، ويثبطونكم عن طاعة الله، فاحذروا أن تستجيبوا لهم وتطيعوهم قال المفسرون: إِن قوماً أسلموا وأرادوا الهجرة، فثبطهم أزواجهم وأولادهم عن الهجرة، فلم يهاجروا إِلا بعد مدة، فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم رأوا الناس قد فقهوا في الدين، فندموا وأسفوا وهمُّوا بمعاقبة أزواجهم وأولادهم فنزلت الآية الكريمة، والآية تعم كلَّ من انشغل عن طاعة الله بالأزواج والأولاد { وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ } أي وإِن عفوتم عنهم في تثبيطكم عن الخير، وصفحتم عما صدر منهم، وغفرتم لهم زلاتهم { فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي فإِن الله واسع المغفرة عظيم الرحمة، يعاملكم بمثل ما عاملتم { إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ } أي ليست الأموالُ والأولادُ إِلاّ اختباراً وابتلاءً من الله تعالى لخلقه، ليعلم من يطيعه ومن يعصيه، وقدَّم المال لأن فتنته أشدُّ { وَٱللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } أي وما عند الله من الأجر والثواب أعظم من متاعِ الدنيا، فلا تشغلكم الأموال والأولاد عن طاعة الله، والآية ترغيبٌ في الآخرة وتزهيدٌ في الدنيا، وفي الأموال والأولاد التي فتن الناسُ بها { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ } أي ابذلوا أيها المؤمنون في طاعة الله جهدكم وطاقتكم، ولا تكلفوا أنفسكم ما لا تطيقون قال المفسرون: هذا في المأمورات وفضائل الأعمال يأتي الإِنسان منها بقدر طاقته، وأما في المحظورات فلا بدَّ من اجتنابها بالكلية ويدل عليه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" إِذا أمرتكم بأمرٍ فائتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه " { وَٱسْمَعُواْ وَأَطِيعُواْ } أي واسمعوا ما توعظون به، وأطيعوا فيما تُؤْمرون به وتُنهون عنه { وَأَنْفِقُواْ خَيْراً لأَنفُسِكُمْ } أي وأنفقوا في سبيل الله من أموالكم، يكنْ خيراً لأنفسكم { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } أي ومن سلم من البخل والطمع الذي تدعو إِليه النفس، فقد فاز بكل مطلوب { إِن تُقْرِضُواْ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ } أي إِذا تصدقتم في سبيل الله عن طيب نفس، فإِن الله يضاعف لكم الأجر والثواب، وفي تصوير الصدقة بصورة القرض تلطفٌ بليغ في الإِحسان إِلى الفقراء { وَيَغْفِرْ لَكُمْ } أي ويمحُ عنكم سيئاتكم { وَٱللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ } أي شاكرٌ للمحسن إِحسانه، حليمٌ بالعباد حيث لا يعالجهم بالعقوبة مع كثرة ذنوبهم { عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ } أي هو تعالى العالم بما غاب وحضر، لا تخفى عليه خافية { ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } أي الغالب في ملكه الحكيم في صنعه.


البَلاَغَة:
تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:


1- الطباق في الاسم مثل { فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ } وكذلك بين { ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ } والطباق في الفعل مثل { وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } وهو من المحسنات البديعية.

2- تقديم الجار والمجرور لإِفادة الحصر { لَهُ ٱلْمُلْكُ وَلَهُ ٱلْحَمْدُ } أي له وحده الملك والحمد.

3- الاستعارة اللطيفة { وَٱلنّورِ ٱلَّذِيۤ أَنزَلْنَا } أطلق على القرآن النور بطريق الاستعارة، فإِن القرآن يزيل الشبهات، كما يزيل النور الظلمات.

4- المقابلة بين جزاء المؤمنين وجزاء الكافرين { وَمَن يُؤْمِن بِٱللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً.. } الآية وبين { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا } الآية.

5- الجناس الناقص { وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } لاختلاف الحركات في الشكل.

6- جناس الاشتقاق { أَصَابَ.. مُّصِيبَة } و { يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ ٱلْجَمْعِ }.

7- الإِطناب بتكرار الفعل زيادة في التأكيد واعتناءً بشأن الطاعة { وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ }.

8- صيغة المبالغة { وَٱللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ } لأن فعول وفعيل من صيغ المبالغة.

9- الاستعارة التمثيلية { إِن تُقْرِضُواْ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ } شبَّه الإِنفاق في سبيل الله والتصدق على الفقراء، بمن يُقرض الله قرضاً واجب الوفاء وذلك بطريق التمثيل، وهو من لطيف الاستعارة وبديع العبارة.

10- السجع المرصَّع لتوافق الفواصل مثل { وَٱللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ } { عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ }.


روبن هود 2017-10-29 12:37

رد: تفسير سورة التغابن
 
جزاك الله كل خير

خادم المنتدى 2017-12-02 19:09

رد: تفسير سورة التغابن
 
شكرا جزيلا لك..بارك الله فيك
http://www.hadota.net/photos/photos/...s2/topic39.gif


الساعة الآن 09:43

جميع المواد المنشورة بالموقع تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع ولا يتحمل أي مسؤولية عنها

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd