منتديات الأستاذ التعليمية التربوية المغربية : فريق واحد لتعليم رائد

منتديات الأستاذ التعليمية التربوية المغربية : فريق واحد لتعليم رائد (https://www.profvb.com/vb/)
-   تفسير (https://www.profvb.com/vb/f297.html)
-   -   تفسير سورة الرحمان (https://www.profvb.com/vb/t178616.html)

أم سهام 2017-09-21 16:21

تفسير سورة الرحمان
 
* تفسير صفوة التفاسير/ الصابوني (مـ 1930م -) مصنف و مدقق
{ ٱلرَّحْمَـٰنُ } * { عَلَّمَ ٱلْقُرْآنَ } * { خَلَقَ ٱلإِنسَانَ } * { عَلَّمَهُ ٱلبَيَانَ } * { ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ } * { وَٱلنَّجْمُ وَٱلشَّجَرُ يَسْجُدَانِ } * { وَٱلسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ ٱلْمِيزَانَ } * { أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي ٱلْمِيزَانِ } * { وَأَقِيمُواْ ٱلْوَزْنَ بِٱلْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُواْ ٱلْمِيزَانَ } * { وَٱلأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ } * { فِيهَا فَاكِهَةٌ وَٱلنَّخْلُ ذَاتُ ٱلأَكْمَامِ } * { وَٱلْحَبُّ ذُو ٱلْعَصْفِ وَٱلرَّيْحَانُ } * { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } * { خَلَقَ ٱلإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَٱلْفَخَّارِ } * { وَخَلَقَ ٱلْجَآنَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ } * { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } * { رَبُّ ٱلْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ ٱلْمَغْرِبَيْنِ } * { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } * { مَرَجَ ٱلْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ } * { بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ } * { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } * { يَخْرُجُ مِنْهُمَا ٱلُّلؤْلُؤُ وَٱلمَرْجَانُ } * { فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } * { وَلَهُ ٱلْجَوَارِ ٱلْمُنشَئَاتُ فِي ٱلْبَحْرِ كَٱلأَعْلاَمِ } * { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } * { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } * { وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو ٱلْجَلاَلِ وَٱلإِكْرَامِ } * { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } * { يَسْأَلُهُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } * { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } * { سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ ٱلثَّقَلاَنِ } * { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } * { يٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنسِ إِنِ ٱسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ فَٱنفُذُواْ لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ } * { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } * { يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ } * { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } * { فَإِذَا ٱنشَقَّتِ ٱلسَّمَآءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَٱلدِّهَانِ } * { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } * { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ } * { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } * { يُعْرَفُ ٱلْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِٱلنَّوَاصِي وَٱلأَقْدَامِ } * { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } * { هَـٰذِهِ جَهَنَّمُ ٱلَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا ٱلْمُجْرِمُونَ } * { يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ } * { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }

اللغَة:
{ بِحُسْبَانٍ } الحُسبان بضم الحاء مصدر مثل الغُفران والكُفران ومعناه الحساب { الأَنَامِ } الخلق وكلُّ ما دبَّ على وجه الأرض { ٱلْعَصْفِ } ورق الزرع الأخضر إِذا يبس { ٱلرَّيْحَانُ } كل نبات طيب الريح، سمي ريحاناً لرائحته الطيبة { مَّارِجٍ } المارج: اللهب الذي يعلو النار قال الليث: هو الشعلة الساطعة ذات اللهب الشديد { ٱلْجَوَارِ } جمع جارية وهي السفينة سميت جارية لأنها تمشي على سطح الماء { ٱلأَعْلاَمِ } الجبال جمع علم وهو الجبل الطويل قال الشاعر: " إِذا قطعن علماً بدا علمٌ " { تَنفُذُواْ } النفوذ: الخروج من الشي بسرعة { شُوَاظٌ } الشُواظ: اللهب الذي لا دخان له { ٱلدِّهَانِ } الجلد الأحمر { آنٍ } نهاية في الحرارة.


التفسِير:
{ ٱلرَّحْمَـٰنُ * عَلَّمَ ٱلْقُرْآنَ } أي الله الرحمنُ علَّم القرآن، ويسَّره للحفظ والفهم قال مقاتل: لما نزل قوله تعالى

{ ٱسْجُدُواْ لِلرَّحْمَـٰنِ }
[الفرقان: 60] قال كفار مكة، وما الرحمن؟ فأنكروه وقالوا لا نعرف الرحمن فقال تعالى { ٱلرَّحْمَـٰنُ } الذي أنكروه هو الذي { عَلَّمَ ٱلْقُرْآنَ } وقال الخازن: إن الله عز وجل عدَّد نعمه على عباده، فقدَّم أعظمها نعمة، وأعلاها رتبة، وهو القرآن العزيز لأنه أعظم وحي الله إِلى أنبيائه، وأشرفه منزلة عند أوليائه وأصفيائه، وأكثره ذكراً، وأحسنه في أبواب الدين أثراً، وهو سنام الكتب السماوية المنزَّلة على أفضل البرية { خَلَقَ ٱلإِنسَانَ } أي خلق الإِنسان السميع البصير الناطق، والمرادُ بالإِنسان الجنسُ { عَلَّمَهُ ٱلبَيَانَ } أي ألهمه النطق الذي يستطيع به أن يُبين عن مقاصده ورغباته، ويتميَّز به عن سائر الحيوان قال البيضاوي: والمقصودُ تعداد ما أنعم الله به على نوع الإِنسان، حثاً على شكره، وتنبيهاً على تقصيرهم فيه، وإِنما قدَّم تعليم القرآن على خلق الإِنسان، لأنه أصل النعم الدينية فقدَّم الأهم { ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ } أي الشمس والقمر يجريان بحساب معلوم في بروجهما، ويتنقلان في منازلهما لمصالح العباد قال ابن كثير: أي يجريان متعاقبين بحساب مقنَّن لا يختلف ولا يضطرب { وَٱلنَّجْمُ وَٱلشَّجَرُ يَسْجُدَانِ } أي والنجمُ والشجر ينقادان للرحمن فيما يريده منهما، هذا بالتنقل بالبروج، وذاك بإِخراج الثمار { وَٱلسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ ٱلْمِيزَانَ } أي والسماء خلقها عالية محكمة البناء رفيعة القدر والشأن، وأمر بالميزان عند الأخذ والإِعطاء لينال الإِنسان حقه وافياً { أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي ٱلْمِيزَانِ } أي لئلا تبخسوا في الميزان { وَأَقِيمُواْ ٱلْوَزْنَ بِٱلْقِسْطِ } أي اجعلوا الوزن مستقيماً بالعدل والإِنصاف { وَلاَ تُخْسِرُواْ ٱلْمِيزَانَ } أي لا تطففوا الوزن ولا تُنقصوه كقوله تعالى
{ وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ }
[المطففين: 1] { وَٱلأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ } أي والأرض بسطها لأجل الخلق، ليستقروا عليها، وينتفعوا بما خلق الله على ظهرها قال ابن كثير: أي أرساها بالجبال الشامخات لتستقر بما على وجهها من الأنام وهم الخلائق، المختلفة أنواعهم وأشكالهم وألوانهم في سائر أرجائها { فِيهَا فَاكِهَةٌ } أي فيها من أنواع الفواكه المختلفة الألوان والطعوم والروائح { وَٱلنَّخْلُ ذَاتُ ٱلأَكْمَامِ } أي وفيها النخل التي يطلع فيها أوعية الثمر قال ابن كثير: أفرد النخل بالذكر لشرفه ونفعه رطباً ويابساً، والأكمام هي أوعية الطلع كما قال ابن عباس، وهو الذي يطلع فيه القنو، ثم ينشق عنه العنقود فيكون بُسراً ثم رُطباً، ثم ينضج ويتناهى ينعه واستواؤه { وَٱلْحَبُّ ذُو ٱلْعَصْفِ } أي وفيها أنواع الحب كالحنطة والشعير وسائر ما يُتغذى به، ذو التبن الذي هو غذاء الحيوان { وَٱلرَّيْحَانُ } أي وفيها كل مشموم طيب الريح من النبات كالورد، والفُلّ، والياسمين وما شاكلها قال في البحر: ذكر تعالى الفاكهة أولاً ونكَّر لفظها لأن الانتفاع بها نفسها، ثم ثنَّى بالنخل فذكر الأصل ولم يذكر ثمرها وهو التمر، لكثرة الانتفاع بها من ليفٍ، وسعف، وجريدٍ، وجذوع، وجُمَّار، وثمر، ثم ذكر الحب الذي هو قوام عيش الإِنسان وهو البر والشعير وكل ما له سنبل وأوراق، ووصفه بقوله { ذُو ٱلْعَصْفِ } تنبيهاً على إنعامه عليهم بما يقوتهم به من الحب، وما يقوت بهائمهم من ورقه وهو التبنُ، وبدأ بالفاكهة وختم بالمشموم ليحصل ما به يُتفكه، وما به يُتقوَّت، وما به تقع اللذاذة من الرائحة الطيبة، ولما عدَّد نعمه خاطب الإِنس والجن بقوله { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } أي فبأي نعم الله يا معشر الإِنس والجن تكذبان؟ أليست نعم الله عليكم كثيرة لا تُحصى؟ عن ابن عمر
" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ سورة الرحمن على أصحابه فسكتوا، فقال: مالي أسمع الجنَّ أحسن جواباً لربها منكم؟ ما أتيتُ على قول الله تعالى { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } إلا قالوا: لا بشيءٍ من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد " . ثم ذكر تعالى دلائل قدرته ووحدانيته فقال { خَلَقَ ٱلإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَٱلْفَخَّارِ } أي خلق أباكم آدم من طين يابسٍ يسمع له صلصلة أي صوتٌ إِذا نُقر قال المفسرون: ذكر تعالى في هذه السورة أنه خلق آدم { مِن صَلْصَالٍ كَٱلْفَخَّارِ } وفي سورة الحِجر
{ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ }
[الحجر: 26] أي من طين أسود متغير، وفي الصافات
{ مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ }
[الصافات: 11] أي يلتصق باليد، وفي آل عمران
{ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ }
[آل عمران: 59] ولا تنافي بينهما، وذلك لأن الله تعالى أخذه من تراب الأرض، فعجنه بالماء فصار طيناً لازباً أي متلاصقاً يلصق باليد، ثم تركه حتى صار حمأً مسنوناً أي طيناً أسود منتناً، ثم صوَّره كما تُصوَّر الأواني ثم أيبسه حتى صار في غاية الصلابة كالفخار إِذا نُقر صوَّت، فالمذكور هٰهنا آخر الأطوار { وَخَلَقَ ٱلْجَآنَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ } أي وخلق الجنَّ من لهبٍ خالصٍ لا دخان فيه من النار قال ابن عباس: { مِن مَّارِجٍ } أي لهبٍ خالصٍ لا دخان فيه وقال مجاهد: هو اللهب المختلط بسواد النار، وفي الحديث
" خُلقت الملائكة من نور، وخُلق الجانُّ من مارجٍ من نار، وخُلق آدم مما وُصف لكم " { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } أي فبأي نعم الله يا معشر الإِنس والجن تكذبان؟ قال أبو حيان: والتكرار في هذه الفواصل للتأكيد والتنبيه والتحريك، وقال ابن قتيبة: إِن هذا التكرار إِنما هو لاختلاف النعم، فكلما ذكر نعمةً كرر قوله { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } وقد ذُكرت هذه الآية إِحدى وثلاثين مرة، والاستفهام فيها للتقريع والتوبيخ { رَبُّ ٱلْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ ٱلْمَغْرِبَيْنِ } أي هو جل وعلا ربُّ مشرق الشمس والقمر، وربُّ مغربهما، ولمّا ذكر الشمس والقمر في قوله { ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ } ذكر هنا أنه رب مشرقهما ومغربهما { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } أي فبأي نعم الله التي لا تحصى تكذبان؟ { مَرَجَ ٱلْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ } أي أرسل البحر الملح والبحر العذب يتجاوران ويلتقيان ولا يمتزجان { بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ } أي بينهما حاجزٌ من قدرة الله تعالى لا يطغى أحدهما على الآخر بالممازجة قال ابن كثير: والمراد بالبحرين: الملح والحلو، فالملح هذه البحار، والحلو هذه الأنهار السارحة بين الناس، وجعل الله بينهما برزخاً وهو الحاجز من الأرض لئلا يبغي هذا على هذا فيفسد كل واحد منهما الآخر { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } أي فبأي نعم الله تكذبان؟ { يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ } أي يُخرج لكم من الماء اللؤلؤ والمرجان، كما يخرج من التراب الحب والعصف والريحان، قال الألوسي: واللؤلؤ صغار الدُر، والمرجان كباره قاله ابن عباس، وعن ابن مسعود أن المرجان الخرز الأحمر، والآية بيانٌ لعجائب صنع الله حيث يخرج من الماء الملح أنواع الحلية كالدر والياقوت والمرجان، فسبحان الواحد المنَّان { فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } أي فبأي نعمة من نعم الله تكذبان؟ { وَلَهُ ٱلْجَوَارِ ٱلْمُنشَئَاتُ فِي ٱلْبَحْرِ كَٱلأَعْلاَمِ } أي وله جل وعلا السفن المرفوعات الجارياتُ في البحر كالجبال في العظم والضخامة قال القرطبي: { كَٱلأَعْلاَمِ } أي كالجبال، والعلمُ الجبل الطويل، فالسفن في البحر كالجبال في البر، ووجه الامتنان بها أن الله تعالى سيَّر هذه السفن الضخمة التي تشبه الجبال على وجه الماء، وهو جسم لطيف مائع يحمل فوقه هذه السفن الكبار المحمَّلة بالأرزاق والمكاسب والمتاجر من قطر إِلى قطر، ومن إقليم إِلى إقليم قال شيخ زاده: واعلم أن أصول الأشياء أربعة: الترابُ، والماءُ، والهواءُ، والنارُ، فبيَّن تعالى بقوله { خَلَقَ ٱلإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ } أن التراب أصلٌ لمخلوق شريف مكرَّم، وبيَّن قوله { وَخَلَقَ ٱلْجَآنَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ } أن النار أيضاً أصلٌ لمخلوق آخر عجيب الشأن، وبيَّن بقوله { يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ } أن الماء أيضاً أصل لمخلوق آخر له قدرٌ وقيمة، ثم ذكر أن الهواء له تأثير عظيم في جري السفن المشابهة للجبال فقال { وَلَهُ ٱلْجَوَارِ ٱلْمُنشَئَاتُ فِي ٱلْبَحْرِ كَٱلأَعْلاَمِ } وخصَّ السفن بالذكر لأن جريها في البحر لا صنع للبشر فيه، وهم معترفون بذلك حيث يقولون: " لك الفُلك ولك المُلك " وإِذا خافوا الغرق دعوا الله تعالى خاصة
{ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى ٱلْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ }
[العنكبوت: 65] { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } أي فبأي نعمةٍ من نعم الله تكذبان؟ { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } أي كل من على وجه الأرض من الإِنسان والحيوان هالك وسيموت { وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو ٱلْجَلاَلِ وَٱلإِكْرَامِ } أي ويبقى ذات الله الواحد الأحد، ذو العظمة والكبرياء والإِنعام والإِكرام كقوله
{ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ }
[القصص: 88] قال ابن عباس: الوجهُ عبارة عن الله جل وعلا الباقي الدائم قال القرطبي: ووجه النعمة في فناء الخلق التسويةُ بينهم في الموت ومع الموت تستوي الأقدام، والموتُ سبب النقلة من دار الفناء إِلى دار الثواب والجزاء { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } أي فبأي نعمةٍ من نعم الله تكذبان { يَسْأَلُهُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي يفتقر إِليه تعالى كل من في السماوات والأرض، ويطلبون منه العون والرزق بلسان المقال أو بلسان الحال { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } أي كل ساعة ولحظة هو تعالى في شأن من شئون الخلق، يغفر ذنباً، ويفرّج كرباً، ويرفع قوماً، ويضع آخرين قال المفسرون: هي شئونٌ يُبديها ولا يبتديها أي يظهرها للخلق ولا ينشئها من جديد لأن القلم جفَّ على ما كان وما سيكون إِلى يوم القيامة، فهو تعالى يرفع من يشاء ويضع من يشاء، ويشفي سقيماً ويمرض سليماً، ويعز ذليلاً ويذل عزيزاً، ويفقر غنياً ويغني فقيراً قال مقاتل: إن الآية نزلت في اليهود قالوا: إن الله تعالى لا يقضي يوم السبت شيئاً، فردَّ الله عليهم بذلك { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } أي فبأي نعم الله الجليلة تكذبان أيها الإِنس والجان؟ { سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ ٱلثَّقَلاَنِ } أي سنحاسبكم على أعمالكم يا معشر الإِنس والجنِّ قال ابن عباس: هذا وعيدٌ من الله تعالى للعباد، وليس بالله تعالى شغل وهو فارغ قال في البحر: أي ننظر في أموركم يوم القيامة، لا أنه تعالى كان له شغل فيفرغ فيه، وجرى هذا على كلام العرب يقول الرجل لمن يتهدده: سأفرغ لك أي سأتجرد للانتقام منك من كل ما شغلني وقال البيضاوي: أي سنتجرد لحسابكم وجزائكم يوم القيامة، وفيه تهديد مستعارٌ من قولك لمن تهدده: سأفرغ لك، فإِن المتجرد للشيء يكون أقوى عليه، وأجدَّ فيه، والثقلان: الإِنسُ والجنُّ سميا بذلك لثقلهما على الأرض { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } تقدم تفسيره { يٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنسِ إِنِ ٱسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ فَٱنفُذُواْ } أي إن قدرتم أن تخرجوا من جوانب السماواتِ والأرض هاربين من الله، فارين من قضائه فأخرجوا منها، وخلصوا أنفسكم من عقابه، والأمر للتعجيز { لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ } أي لا تقدرون على الخروج إِلا بقوةٍ وقهر وغلبة، وأنَّى لكم ذلك؟ قال ابن كثير: معنى الآية أنكم لا تستطيعون هرباً من أمر الله وقدره، بل هو محيطٌ بكم لا تقدرون على التخلص من حكمه، أينما ذهبتم أحيط بكم، وهذا في مقام الحشر حيث الملائكة محدقةٌ بالخلائق سبع صفوف من كل جانب، فلا يقدر أحد على الذهاب إِلا بسلطان أي إِلا بأمر الله وإِرادته{ يَقُولُ ٱلإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ ٱلْمَفَرُّ }
[القيامة: 10]؟ وهذا إِنما يكون في القيامة لا في الدنيا بدليل قوله تعالى بعده { يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ } { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }؟ تقدم تفسيره { يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ } أي يرسل عليكما يوم القيامة لهب النار الحامية { وَنُحَاسٌ } أي ونحاسٌ مذاب يصبُّ فوق رءوسكم قال مجاهد: هو الصفر المعروف يصب على رءوسهم يوم القيامة وقال ابن عباس: { نحاسٌ } هو الدخان الذي لا لهب فيه، وقول مجاهد أظهر { فَلاَ تَنتَصِرَانِ } أي فلا ينصر بعضكم بعضاً، ولا يخلصه من عذاب الله قال ابن كثير: ومعنى الآية لو ذهبتم هاربين يوم القيامة لردتكم الملائكةُ وزبانية جهنم، بإِرسال اللهب من النار والنحاس المذاب عليكم لترجعوا فلا تجدون لكم ناصراً { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } تقدم تفسيره { فَإِذَا ٱنشَقَّتِ ٱلسَّمَآءُ } أي فإِذا انصدعت يوم القيامة لتنزل الملائكة منها لتحيط بالخلائق من كل جانب { فَكَانَتْ وَرْدَةً كَٱلدِّهَانِ } أي فكانت مثل الورد الأحمر من حرارة النار، ومثل الأديم الأحمر أي الجلد الأحمر قاله ابن عباس: وذلك من شدة الهول، ومن رهبة ذلك اليوم العظيم { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } تقدم تفسيره { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ } أي ففي ذلك اليوم الرهيب يوم تنشق السماء، لا يُسأل أحد من المذنبين من الإِنس والجن عن ذنبه، لأن للمذنب علامات تدل على ذنبه كاسوداد الوجوه، وزرقة العيون قال الإِمام الفخر: لا يُسأل أحد عن ذنبه، فلا يقال له: أنتَ المذنب أو غيرك؟ ولا يقال: من المذنب منكم؟ بل يعرفون بسواد وجوههم وغيره { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } تقدم تفسيره { يُعْرَفُ ٱلْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ } أي يُعرف يوم القيامة أهل الإِجرام بعلامات تظهر عليهم وهي ما يغشاهم من الكآبة والحزن قال الحسن: سواد الوجه وزرقة الأعين كقوله تعالى
{ وَنَحْشُرُ ٱلْمُجْرِمِينَ يَوْمِئِذٍ زُرْقاً }
[طه: 102] وقوله
{ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ }
[آل عمران: 106] { فَيُؤْخَذُ بِٱلنَّوَاصِي وَٱلأَقْدَامِ } أي فتأخذ الملائكة بنواصيهم أي بشعور مقدم رءوسهم وأقدامهم فيقذفونهم في جهنم قال ابن عباس: يُؤخذ بناصية المجرم وقدميه فيكسر كما يكسر الحطب ثم يلقى في النار { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } تقدم تفسيره { هَـٰذِهِ جَهَنَّمُ ٱلَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا ٱلْمُجْرِمُونَ } أي يقال لهم تقريعاً وتوبيخاً: هذه النار التي أخبرتم بها فكذبتم قال ابن كثير: أي هذه النار التي كنتم تكذبون بوجودها، ها هي حاضرةٌ تشاهدونها عياناً { يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ } أي يترددون بين نار جهنم وبين ماءٍ حار بلغ النهاية في الحرارة قال قتادة: يطوفون مرةً بين الحميم، ومرة بين الجحيم، والجحيم النارُ، والحميم الشراب الذي انتهى حره { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } أي فبأي نعم الله تكذبان يا معشر الإنس والجان؟

أم سهام 2017-09-23 15:20

رد: تفسير سورة الرحمان
 







* تفسير صفوة التفاسير/ الصابوني (مـ 1930م -) مصنف و مدقق
{ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } * { فَبِأَيِّ آلاغ¤ءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } * { ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ } * { فَبِأَيِّ آلاغ¤ءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } * { فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ } * { فَبِأَيِّ آلاغ¤ءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } * { فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ } * { فَبِأَيِّ آلاغ¤ءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } * { مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى ظ±لْجَنَّتَيْنِ دَانٍ } * { فَبِأَيِّ آلاغ¤ءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } * { فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ ظ±لطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ } * { فَبِأَيِّ آلاغ¤ءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } * { كَأَنَّهُنَّ ظ±لْيَاقُوتُ وَظ±لْمَرْجَانُ } * { فَبِأَيِّ آلاغ¤ءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } * { هَلْ جَزَآءُ ظ±لإِحْسَانِ إِلاَّ ظ±لإِحْسَانُ } * { فَبِأَيِّ آلاغ¤ءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } * { وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ } * { فَبِأَيِّ آلاغ¤ءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } * { مُدْهَآمَّتَانِ } * { فَبِأَيِّ آلاغ¤ءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } * { فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ } * { فَبِأَيِّ آلاغ¤ءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } * { فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ } * { فَبِأَيِّ آلاغ¤ءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } * { فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ } * { فَبِأَيِّ آلاغ¤ءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } * { حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي ظ±لْخِيَامِ } * { فَبِأَيِّ آلاغ¤ءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } * { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ } * { فَبِأَيِّ آلاغ¤ءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } * { مُتَّكِئِينَ عَلَىظ° رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ } * { فَبِأَيِّ آلاغ¤ءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } * { تَبَارَكَ ظ±سْمُ رَبِّكَ ذِي ظ±لْجَلاَلِ وَظ±لإِكْرَامِ }

المنَاسَبَة:
لما ذكر تعالى أحوال أهل النار، ذكر ما أعدَّه للمؤمنين الأبرار من الجنان والولدان والحور الحسان، ليتميز الفارق الهائل بين منازل المجرمين ومراتب المتقين، على طريقة القرآن في الترغيب والترهيب.


اللغَة:
{ أَفْنَانٍ } جمع فنن وهو الغصن قال الشاعر يصف حمامة:
ربَّ ورقاءَ هتوفٍ في الضُحى ذاتِ شدوٍ صدحَت في فننذكرت إِلفاً ودهراً خالياً فبكت شوقاً فهاجت حزني{ وَإِسْتَبْرَقٍ } ما غلظ من الديباج وخشُن { وَجَنَى } الجنى: ما يُجتنى من الشجر ويقطف { يَطْمِثْهُنَّ } الطمثُ: الجماع المؤدي إِلى خروج دم البكر ثم أطلق على كل جماع، ومعنى { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ } أي لم يصبهن بالجماع قبل أزواجهن أحد قال الفراء: الطمث الافتضاض وهو النكاح بالتدمية { مُدْهَآمَّتَانِ } سوداوان من شدة الخضرة، والدهمةُ في اللغة السواد { نَضَّاخَتَانِ } فوارتان بالماء لا تنقطعان { عَبْقَرِيٍّ } طنافس جمع عبقرية أي طنفسة ثخينة فيها أنواع النقوش قال الفراء: العبقري الطنافس الثخان منها وقال أبو عبيد: كل ثوبٍ وشي عند العرب فهو عبقري منسوب إِلى أرضٍ يعمل فيها الوشي قال ذو الرمة:حتى كأن رياض القف ألبسها من وشي عبقر تجليل وتنجيدالتفسِير:
{ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } أي وللعبد الذي يخاف قيامه بين يدي ربه للحساب جنتان: جنةٌ لسكنه، وجنةٌ لأزواجه وخدمه، كما هي حال ملوك الدنيا حيث يكون له قصرٌ ولأزواجه قصر قال القرطبي: وإِنما كانتا اثنتين ليضاعف له السرور بالتنقل من جهة إِلى جهة وقال الزمخشري: جنة لفعل الطاعات، وجنة لترك المعاصي وفي الحديث
" جنتان من فضة آنيتُهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إِلى ربهم عز وجل إِلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن " { فَبِأَيِّ آلاغ¤ءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } ثم وصف تعالى الجنتين فقال { ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ } أي ذواتا أغصان متفرعة وثمار متنوعة قال في البحر: وخصَّ الأفنان - وهي الغصون - بالذكر لأنها التي تورق وتثمر، ومنها تمتد الظلال وتُجنى الثمار { فَبِأَيِّ آلاغ¤ءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } أي فبأي نعم الله الجليلة تكذبان يا معشر الإِنس والجن { فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ } أي في كل واحدة من الجنتين عين جارية، تجري بالماء الزلال كقوله تعالى
{ فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ }
[الغاشية: 12] قال ابن كثير: أي تسرحان لسقي تلك الأشجار والأغصان، فتثمر من جميع الألوان قال الحسن: تجريان بالماء الزلال إِحداهما التسنيم، والأخرى السلسبيل { فَبِأَيِّ آلاغ¤ءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } تقدم تفسيره { فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ } أي فيهما من جميع أنواع الفواكه والثمار صنفان: معروفٌ، وغريب لم يعرفوه في الدنيا قال ابن عباس: ما في الدنيا ثمرةٌ حلوة ولا مرة إِلا وهي في الجنة حتى الحنظل، إِلا أنه حلو، وليس في الدنيا مما في الآخرة إلاَّ الأسماء { فَبِأَيِّ آلاغ¤ءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } تقدم تفسيره قال الفخر الرازي: إِن قوله تعالى { ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ } و { فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ } و { فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ } كلها أوصافٌ للجنتين المذكورتين، وإِنما فصل بين الأغصان والفواكه بذكر العينين الجاريتين على عادة المتنعمين، فإِنهم إِذا دخلوا البستان لا يبادرون إِلى أكل الثمار، بل يقدمون التفرج على الأكل، مع أن الإِنسان في بستان الدنيا لا يأكل حتى يجوع ويشتهي شهوة شديدة فكيف في الجنة!! فذكر تعالى ما يتم به النزهة وهو خضرة الأشجار، وجريان الأنهار، ثم ذكر ما يكون بعد النزهة وهو أكل الثمار، فسبحان من يأتي بالآيات بأحسن المعاني في أبين المباني { مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ } أي مضطجعين في جنان الخلد على فرشٍ وثيرة بطائنها من ديباج - وهو الحرير السميك - المزين بالذهب، وهذا يدل على نهاية شرفها لأن البطانة إِذا كانت بهذا الوصف فما بالك بالظهارة؟ قال ابن مسعود: هذه البطائن فكيف لو رأيتم الظواهر؟ وقال ابن عباس: لما سئل عن الآية: ذلك مما قال الله تعالى
{ فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ }
[السجدة: 17] { وَجَنَى ظ±لْجَنَّتَيْنِ دَانٍ } أي ثمرها قريب يناله القاعد والقائم والنائم، بخلاف ثمار الدنيا فإِنها لا تنال إِلا بكدٍ وتعب قال ابن عباس: تدنو الشجرة حتى يجتنيها وليُ الله إِن شاء قائماً، وإِن شاء قاعداً، وإِن شاء مضطجعاً { فَبِأَيِّ آلاغ¤ءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } تقدم تفسيره { فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ ظ±لطَّرْفِ } أي في تلك الجنان نساء قاصرات الطرف قصرن أعينهن على أزواجهن فلا يرين غيرهم، كما هو حال المخدَّرات العفائف { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ } أي لم يمسهنَّ ولم يجامعهن أحدٌ قبل أزواجهنَّ لا من الإِنس ولا من الجن، بل هنَّ أبكار عذارى قال الألوسي: وأصلُ الطمث خروج الدم ولذلك يقال للحيض طمثٌ، ثم أُطلق على جماع الأبكار لما فيه من خروج الدم، ثم على كل جماع وإِن لم يكن فيه خروج دم { فَبِأَيِّ آلاغ¤ءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } أي فبأي نعم الله الجليلة تكذبان يا معشر الإِنس والجن { كَأَنَّهُنَّ ظ±لْيَاقُوتُ وَظ±لْمَرْجَانُ } أي كأنهن يشبهن الياقوت والمرجان في صفائهن وحمرتهن قال قتادة: كأنهن في صفاء الياقوت وحمرة المرجان، لو أدخلت في الياقوت سلكاً ثم نظرت إِليه لرأيته من ورائه وفي الحديث " إن المرأة من نساء أهل الجنة ليُرى بياض ساقها من وراء سبعين حلة من حرير، حتى يُرى مخُّها " { فَبِأَيِّ آلاغ¤ءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } تقدم تفسيره { هَلْ جَزَآءُ ظ±لإِحْسَانِ إِلاَّ ظ±لإِحْسَانُ } أي ما جزاء من أحسن في الدنيا إِلا أن يُحسن إِليه في الآخرة قال أبو السعود: أي ما جزاء الإِحسان في العمل، إِلا الإِحسان في الثواب والغرضُ أنَّ من قدم المعروف والإِحسان استحق الإِنعام والإِكرام { فَبِأَيِّ آلاغ¤ءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } تقدم تفسيره { وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ } أي ومن دون تلك الجنتين في الفضيلة والقدر جنتان أخريان قال المفسرون: الجنتان الأوليان للسابقين، والأخريان لأصحاب اليمين ولا شك أن مقام السابقين أعظم وأرفع لقوله تعالى
{ فَأَصْحَابُ ظ±لْمَيْمَنَةِ مَآ أَصْحَابُ ظ±لْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ ظ±لْمَشْأَمَةِ مَآ أَصْحَابُ ظ±لْمَشْأَمَةِ * وَظ±لسَّابِقُونَ ظ±لسَّابِقُونَ * أُوْلَـظ°ئِكَ ظ±لْمُقَرَّبُونَ }
[الواقعة: 8-11] { فَبِأَيِّ آلاغ¤ءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } أي فبأي نعم الله الجليلة تكذبان يا معشر الإِنس والجن؟ { مُدْهَآمَّتَانِ } أي سوداوان من شدة الخضرة والريّ قال الألوسي: والمراد أنهما شديدتا الخضرة، والخضرةُ إِذا اشتدت ضربت إِلى السواد وذلك من كثرة الريّ بالماء { فَبِأَيِّ آلاغ¤ءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } تقدم تفسيره { فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ } أي فوارتان بالماء لا تنقطعان وقال ابن مسعود وابن عباس: تنْضَخُ على أولياء الله بالمسك والعنبر والكافور في دور أهل الجنة كزخ المطر { فَبِأَيِّ آلاغ¤ءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } تقدم تفسيره { فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ } أي في الجنتين من أنواع الفواكه كلها وأنواع النخل والرمان، وإِنما ذكر النخل والرمان تنبيهاً على فضلهما وشرفهما على سائر الفواكه ولأنهما غالب فاكهة العرب قال الألوسي: ثم إِن نخل الجنة ورمانها وراء ما نعرفه { فَبِأَيِّ آلاغ¤ءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } تقدم تفسيره { فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ } أي في تلك الجنان نساء صالحات كريمات الأخلاق، حِسان الوجوه { فَبِأَيِّ آلاغ¤ءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } تقدم تفسيره { حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي ظ±لْخِيَامِ } أي هنَّ الحورُ العين المخدرات المستورات لا يخرجن لكرامتهن وشرفهن، قد قصرن في خدورهن في خيام اللؤلؤ المجوَّف، قال أبو حيان: والنساء تُمدح بذلك إِذ ملازمتهن البيوت تدل على صيانتهن قال الحسن: لسن بطوَّافات في الطرق، وخيامُ الجنة بيوت اللؤلؤ، وفي الحديث " إنَّ في الجنة خيمةً من لؤلؤةٍ مجوفة، عرضها ستون ميلاً، في كل زوايةٍ منها أهلٌ ما يرون الآخرين، يطوف عليهم المؤمنون " { فَبِأَيِّ آلاغ¤ءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } تقدم تفسيره { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ } أي لم يجامعهن ولم يغشهن أحد قبل أزواجهم لا من الإِنس ولا من الجن قال في التسهيل: الجنتان المذكورتان أولاً للسابقين، والجنتان المذكورتان ثانياً لأصحاب اليمين، وانظر كيف جعل أوصاف الجنتين الأوليين أعلى من أوصاف الجنتين اللتين بعدهما، فقال هناك { فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ } وقال هنا { فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ } والجريُ أشدُّ من النضخ، وقال هناك { فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ } وقال هنا { فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ } والأول أعم وأشمل، وقال في صفة الحور هناك { كَأَنَّهُنَّ ظ±لْيَاقُوتُ وَظ±لْمَرْجَانُ } وقال هنا { فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ } وليس كل حُسْنٍ كحسن الياقوت والمرجان فالوصف هناك أبلغ، وقال هناك في وصف الفرش { مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ } وهو الديباج وقال هنا { مُتَّكِئِينَ عَلَىظ° رَفْرَفٍ خُضْرٍ } ولا شك أن الفرش المعدَّة للاتكاء أفضل من فضل الخباء { فَبِأَيِّ آلاغ¤ءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } أي فبأي نعم الله الجليلة تكذبان يا معشر الإِنس والجن؟ { مُتَّكِئِينَ عَلَىظ° رَفْرَفٍ خُضْرٍ } أي مستندين على وسائد خضر من وسائد الجنة { وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ } أي وطنافس ثخينة مزخرفة، محلاَّة بأنواع الصور والزينة قال الصاوي: وهي نسبة إِلى " عبقر " قرية بناحية اليمن، يُنسج فيها بسط منقوشة بلغت النهاية في الحسن، فقرَّب الله لنا فرش الجنتين بتلك البسط المنقوشة { فَبِأَيِّ آلاغ¤ءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } أي فبأي نعمةٍ من نعم الله تعالى تكذبان يا معشر الإِنس والجن { تَبَارَكَ ظ±سْمُ رَبِّكَ } أي تنزه وتقدَّس الله العظيم الجليل، وكثرت خيراته وفاضت بركاته { ذِي ظ±لْجَلاَلِ وَظ±لإِكْرَامِ } أي صاحب العظمة والكبرياء، والفضل والإِنعام قال في البحر: لما ختم تعالى نعم الدنيا بقوله{ وَيَبْقَىظ° وَجْهُ رَبِّكَ ذُو ظ±لْجَلاَلِ وَظ±لإِكْرَامِ }
[الرحمن: 27] ختم نعم الآخرة بقوله { تَبَارَكَ ظ±سْمُ رَبِّكَ ذِي ظ±لْجَلاَلِ وَظ±لإِكْرَامِ } وناسب هناك ذكر البقاء والديمومة له تعالى بعد ذكر فناء العالم، وناسب هنا ذكر البركة وهي النماء والزيادة عقب امتنانه على المؤمنين في دار كرامته وما آتاهم من الخير والفضل في دار النعيم.

البَلاَغَة:
تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيا يلي:


1- المقابلة اللطيفة بين
{ وَظ±لسَّمَآءَ رَفَعَهَا }
[الرحمن: 7] وبين
{ وَظ±لأَرْضَ وَضَعَهَا }
[الرحمن: 10] وكذلك المقابلة بين
{ خَلَقَ ظ±لإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَظ±لْفَخَّارِ }
[الرحمن: 14]
{ وَخَلَقَ ظ±لْجَآنَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ }
[الرحمن: 15].

2- التشبيه المرسل المجمل
{ وَلَهُ ظ±لْجَوَارِ ظ±لْمُنشَئَاتُ فِي ظ±لْبَحْرِ كَظ±لأَعْلاَمِ }
[الرحمن: 24] أي كالجبال في العظم.

3- المجاز المرسل
{ وَيَبْقَىظ° وَجْهُ رَبِّكَ }
[الرحمن: 27] أي ذاته المقدسة وهو من باب إِطلاق الجزء وإِرادة الكل.

4- الاستعارة التمثيلية
{ سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ ظ±لثَّقَلاَنِ }
[الرحمن: 31] شبَّه انتهاء الدنيا وما فيها من تدبير شئون الخلق ومجيء الآخرة وبقاء شأن واحد وهو محاسبة الإِنس والجن بفراغ من يشغله أمور فتفرَّغ لأمرٍ واحد، والله تعالى لا يشغله شأن عن شأن وإِنما هو على سبيل التمثيل.

5- الأمر التعجيزي
{ إِنِ ظ±سْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ.. فَظ±نفُذُواْ }
[الرحمن: 33] فالأمر هنا للتعجيز.

6- التشبيه البليغ
{ فَإِذَا ظ±نشَقَّتِ ظ±لسَّمَآءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً }
[الرحمن: 37] أي كالوردة في الحمرة حذف وجه الشبه وأداة التشبيه فصار بليغاً.

7- الجناس الناقص { وَجَنَى ظ±لْجَنَّتَيْنِ } لتغير الشكل والحروف، ويسمَّى جناس الاشتقاق.

8- الإِيجاز بحذف الموصوف وإِبقاء الصفة { فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ ظ±لطَّرْفِ } أي نساءٌ قصرن أبصارهن على أزواجهن لا ينظرن إِلى غيرهم.

9- السجع المرصَّع غير المتكلف كأنه حبات در منظومة في سلكٍ واحد إقرأ قوله تعالى
{ ظ±لرَّحْمَـظ°نُ * عَلَّمَ ظ±لْقُرْآنَ * خَلَقَ ظ±لإِنسَانَ * عَلَّمَهُ ظ±لبَيَانَ }
[الرحمن: 1-4] وأمثاله في السورة كثير.

فَائِدَة:
تسمى سورة الرحمن " عروس القرآن " لما ورد
" لكل شيء عروسٌ، وعروسُ القرآنِ سورةُ الرحمن ".

خادم المنتدى 2017-10-27 20:47

رد: تفسير سورة الرحمان
 
-*************************-
شكرا جزيلا لك..بارك الله فيك

بوركت و بوركت جهودك


وفقك الله لما يحبه و يرضاه

-**************************-


الساعة الآن 18:04

جميع المواد المنشورة بالموقع تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع ولا يتحمل أي مسؤولية عنها

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd