منتديات الأستاذ التعليمية التربوية المغربية : فريق واحد لتعليم رائد

منتديات الأستاذ التعليمية التربوية المغربية : فريق واحد لتعليم رائد (https://www.profvb.com/vb/)
-   تفسير (https://www.profvb.com/vb/f297.html)
-   -   تفسير سورة القصص (https://www.profvb.com/vb/t177083.html)

أم سهام 2017-06-25 14:58

تفسير سورة القصص
 
* تفسير صفوة التفاسير/ الصابوني (مـ 1930م -) مصنف و مدقق

{ طسۤمۤ } * { تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ } * { نَتْلُواْ عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَىٰ وَفِرْعَوْنَ بِٱلْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } * { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي ٱلأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَآئِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَآءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلْمُفْسِدِينَ } * { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ ٱلْوَارِثِينَ } * { وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي ٱلأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَحْذَرُونَ } * { وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي ٱليَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِيۤ إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ } * { فَٱلْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خَاطِئِينَ } * { وَقَالَتِ ٱمْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَىٰ أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } * { وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَارِغاً إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلاۤ أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } * { وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } * { وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ ٱلْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ } * { فَرَدَدْنَاهُ إِلَىٰ أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } * { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَٱسْتَوَىٰ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ } * { وَدَخَلَ ٱلْمَدِينَةَ عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هَـٰذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَـٰذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَٱسْتَغَاثَهُ ٱلَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى ٱلَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ قَالَ هَـٰذَا مِنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ } * { قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَٱغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ } * { قَالَ رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ } * { فَأَصْبَحَ فِي ٱلْمَدِينَةِ خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا ٱلَّذِي ٱسْتَنْصَرَهُ بِٱلأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَىٰ إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ } * { فَلَمَّآ أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِٱلَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يٰمُوسَىٰ أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِٱلأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي ٱلأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلْمُصْلِحِينَ }

اللغَة:
{ شِيَعاً } فِرقاً وأصنافاً { يَسْتَحْيِي } يتركه حيّاً ولا يقتله { نَّمُنَّ } نتفضل وننعم { ٱليَمِّ } البحر { فَارِغاً } خالياً { ٱلْمَرَاضِعَ } جمع مُرضِع، وأما المرضعة فجمعها مرضعات وهي التي ترضع الطفل اللبن { عَن جُنُبٍ } عن بعد ومنه الأجنبي للبعيد غير القريب { وَكَزَهُ } الوكز: الضرب بجُمْع الكف أي بكفه مجموعةً قال أهل اللغة: الوكزُ واللكز كلاهما بمعنى واحد وهو الضرب بجمع الكفّ على الصدر، وقيل: الوكز في الصدر، واللكزُ في الظهر، وجمع الكف: الكف المقوضةُ الأصابع { ظَهِيراً } عوناً { يَسْتَصْرِخُهُ } يستغيثه والاستصراخ الاستغاثة وهو من الصراخ لأن المستغيث يصرخ ويرفع صوته طلباً للغوث قال الشاعر:
كنا إذا ما أتانا صارخ فزعٌ
***
كان الصراخ له قرع الظنابيب
{ يَبْطِشَ } البطش: الأخذ بالشدة والعنف، بطش ويبطش ويبطش بالكسر والضم.

التفسِير:
{ طسۤمۤ } الحروف المقطعة للتنبيه على إعجاز القرآن الكريم، والإِشارة إلى أن هذا الكتاب المعجز في فصاحته وبيانه مركبٌ من أمثال هذه الحروف الهجائية { تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ } أي هذه آيات القرآن الواضح الجلي، الظاهر في إعجازه، الواضح في تشريعه وأحكامه { نَتْلُواْ عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَىٰ وَفِرْعَوْنَ بِٱلْحَقِّ } أي نقرأ عليك يا محمد بواسطة الروح الأمين من الأخبار الهامة عن موسى وفرعون من الحق الذي لا يأتيه الباطل، والصدق الذي لا ريب فيه ولا كذب { لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } أي لقومٍ يصدقون بالقرآن فينتفعون.. ثم بدأ بذكر قصة فرعون الطاغية فقال { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي ٱلأَرْضِ } أي استكبر وتجبَّر، وجاوز الحد في الطغيان في أرض مصر { وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً } أي جعل أهلها فرقاً وأصنافاً في استخدامه وطاعته { يَسْتَضْعِفُ طَآئِفَةً مِّنْهُمْ } أي يستعبد ويستذل فريقاً منهم وهم بنوا إسرائيل فيسومهم سوء العذاب { يُذَبِّحُ أَبْنَآءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ } أي يقتّل أبناءهم الذكور ويترك الإِناث على قيد الحياة لخدمته وخدمة الأقباط قال المفسرون: سبب تقتيله الذكور أن فرعون رأى في منامه أن ناراً عظيمةً أقبلت من بيت المقدس وجاءت إلى أرض مصر فأحرقت القبط دون بني إسرائيل، فسأل عن ذلك المنجّمين والكهنة، فقالوا له: إن مولوداً يولد في بني إسرائيل، يذهب ملكك على يديه، ويكون هلاكك بسببه فأمر أن يقتل كل ذكر من أولاد بني إسرائيل { إِنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلْمُفْسِدِينَ } أي من الراسخين في الفساد، المتجبرين في الأرض، ولذلك ادعى الربوبية وأمعن في القتل وإذلال العباد { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ فِي ٱلأَرْضِ } أي ونريد برحمتنا أن نتفضل وننعم على المستضعفين من بني إسرائيل فننجيهم من بأس فرعون وطغيانه { وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً } أي ونجعلهم أئمة يقتدى بهم في الخير بعد أن كانوا أذلاء مسخرين قال ابن عباس: { أَئِمَّةً } قادة في الخير، وقال قتادة: ولاةً وملوكاً { وَنَجْعَلَهُمُ ٱلْوَارِثِينَ } أي ونجعل هؤلاء الضعفاء وارثين لملك فرعون وقومه، يرثون ملكهم ويسكنون مساكنهم بعد أن كان القبط أسياد مصر وأعزتها { وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي ٱلأَرْضِ } أي ونملكهم بلاد مصر والشام يتصرفون فيها كيف يشاءون قال البيضاوي: أصل التمكين أن تجعل للشيء مكاناً يتمكن فيه ثم استعيد للتسليط وإطلاق الأمر { وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَحْذَرُونَ } أي ونري فرعون الطاغية، ووزيره " هامان " والأقباط من أولئك المستضعفين ما كانوا يخافونه من ذهاب ملكهم وهلاكهم على يد مولودٍ من بني إسرائيل { وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ } أي قذفنا في قلبها بواسطة الإِلهام قال ابن عباس: هو وحيُ إلهام وقال مقاتل: أخبرها جبريل بذلك قال القرطبي: فعلى قول مقاتل هو وحيُ إعلام لا إلهام، وأجمع الكل على أنها لم تكن نبية، وإنما إرسال الملك إليها على نحو تكليم الملك للأقرع والأبرص والأعمى كما في الحديث المشهور، وكذلك تكليم الملائكة للناس من غير نبوة، وقد سلَّمت على " عمران بن حصين " فلم يكن نبياً { فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي ٱليَمِّ } أي فإذا خفت عليه من فرعون فاجعليه في صندوق وألقيه في البحر - بحر النيل - { وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِيۤ } أي لا تخافي عليه الهلاك ولا تحزني لفراقه { إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ } أي فإنا سنرده إليك ونجعله رسولاً نرسله إلى هذا الطاغية لننجّي بني إسرائيل على يديه { فَٱلْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } أي فأخذه وأصابه أعوان فرعون لتكون عاقبة الأمر أن يصبح لهم عدواً ومصدر حزن وبلاءٍ وهلاك قال القرطبي: اللام في " ليكون " لام العاقبة ولام الصيرورة، لأنهم إنما أخذوه ليكون لهم قرة عين، فكان عاقبة ذلك أن صار لهم عدواً وحزناً، فذكر الحال بالمآل كما قال الشاعر:وللمنايا تُربِّي كلُّ مرضعةٍ
***
ودورُنا لخراب الدهر نبْنيها
{ إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خَاطِئِينَ } أي كانوا عاصين مشركين آثمين، قال العلماء: الخاطئ من تعمد الذنب والإِثم، والمخطئ من فعل الذنب عن غير تعمد { وَقَالَتِ ٱمْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ } أي قالت زوجة فرعون لفرعون: هذا الغلام فرحة ومسرة لي ولك لعلنا نسر به فيكون قرة عين لنا قال الطبري: ذكر أن المرأة لما قالت هذا القول لفرعون قال لها: أمَّا لك فنعم، وأما لي فليس بقرة عين، وقال ابن عباس: لو قال قرة عين لي لهداه الله به ولآمن ولكنه أبى { لاَ تَقْتُلُوهُ } أي لا تقتله يا فرعون، خاطبته بلفظ الجمع كما يُخاطب الجبارون تعظيماً له ليساعدها فيما تريد { عَسَىٰ أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً } عسى أن ينفعنا في الكبر، أو نتبناه فنجعله لنا ولداً تقَرُّ به عيوننا قال المفسرون: وكانت لا تلد فاستوهبت موسى من فرعون فوهبه لها قال تعالى { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } أي وهم لا يشعرون أن هلاك فرعون وزبانيته سيكون على يديه وبسببه { وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَارِغاً } أي صار قلبها خالياً من ذكر كل شيء في الدنيا إلا من ذكر موسى، وقيل المعنى: طار عقلها من فرط الجزع والغم حين سمعت بوقوعه في يد فرعون { إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ } أي إنها كادت أن تكشف أمره وتظهر أنه ابنها من شدة الوجد والحزن قال ابن عباس: كادت تصيح واإبناه، وذلك حين سمعت بوقوعه في يد فرعون { لَوْلاۤ أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا } أي لولا أن ثبتناها وألهمناها الصبر { لِتَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } أي لتكون من المصدقين بوعد الله برده عليها { وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ } أي قالت أم موسى لأخت موسى: إتبعي أثره حتى تعلمي خبره قال مجاهد: قصي أثره وانظري ماذا يفعلون به؟ { فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } أي فأبصرته عن بعد وهم لا يشعرون أنها أخته، لأنها كانت تمشي على ساحل البحر حتى وصل الصندوق إلى بيت فرعون وهي ترقبه مستخفيةً عنهم { وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ ٱلْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ } أي ومنعنا موسى أن يقبل ثدي أي مرضعة من المرضعات اللاتي أحضروهن لإِرضاعه من قبل مجيء أُمه قال المفسرون: بقي أياماً كلما أُتي بمرضع لم يقبل ثديها، فأهمهم ذلك واشتد عليهم الأمر فخرجوا به يبحثون له عن مرضعة خارج القصر فرأوا أخته { فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ } أي هل أدلكم على مرضعة له تكفله وترعاه؟ { وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ } أي لا يقصرون في إرضاعه وتربيته قال السدي: فدلتهم على أم موسى فانطلقت إليها بأمرهم فجاءت بها، والصبي على يد فرعون يعلله شفقة عليه وهو يبكي يطلب الرضاع، فدفعه إليها فلما وجد ريح أُمه قبل ثديها، فقال فرعون: من أنت منه فقد أبى كل ثديٍ إلا ثديك؟ فقالت: إني امرأة طيبة الريح، طيبة اللبن، لا أكاد أوتى بصبي إلا قبلني فدفعه إليها، فرجعت إلى بيتها من يومها ولم يبق أحدٌ من آل فرعون إلا أهدى إليها وأتحفها بالهدايا والجواهر فذلك قوله تعالى { فَرَدَدْنَاهُ إِلَىٰ أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ } أي أعدناه إليها تحقيقاً للوعد كي تسعد وتهنأ بلقائه ولا تحزن على فراقه { وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ } أي ولتتحقق من صدق وعد الله برده عليها وحفظه من شر فرعون { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أي ولكن أَكثر الناس يرتابون ويشكون في وعد الله القاطع { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَٱسْتَوَىٰ } أي ولما بلغ كمال الرشد، ونهاية القوة، وتمام العقل والاعتدال قال مجاهد: هو سنُّ الأربعين { آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً } أي أعطيناه الفهم والعلم والتفقه في الدين مع النبُوَّة { وَكَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ } أي ومثل هذا الجزاء الكريم نجازي المحسنين على إحسانهم { وَدَخَلَ ٱلْمَدِينَةَ عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا } أي دخل مصر وقت الظهيرة والناس يخلدون للراحة عند القيلولة { فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هَـٰذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَـٰذَا مِنْ عَدُوِّهِ } أي فوجد شخصين يتقاتلان: أحدهما من بني إسرائيل من جماعة موسى، والآخر قبطي من جماعة فرعون { فَٱسْتَغَاثَهُ ٱلَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى ٱلَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ } أي فاستنجد الإِسرائيلي بموسى وطلب غوثه ليدفع عنه شر القبطي { فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ } أي ضربه موسى بجمع كفه فقتله، قال القرطبي: فعل موسى ذلك وهو لا يريد قتله إنما قصد دفعه فكانت فيه نفسه وكانت القاضية { قَالَ هَـٰذَا مِنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ } أي هذا من إغواء الشيطان فهو الذي هيَّج غضبي حتى ضربت هذا { إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ } أي إن الشيطان عدوٌ لابن آدم، مضلٌ له عن سبيل الرشاد، ظاهر العداوة وقال الصاوي: نسبه إلى الشيطان من حيث إنه لم يؤمر بقتل القبطي، وظهر له أن قتله خلاف الأولى لما يترتب عليه من الفتن، والشيطان تفرحه الفتن ولذلك ندم على فعله { قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَٱغْفِرْ لِي } أي إني ظلمت نفسي بقتل النفس فاعف عني ولا تؤاخذني بخطيئتي { فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ } أي إنه تعالى المبالغ في المغفرة للعباد، الواسع الرحمة لهم { قَالَ رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ } أي بسبب إنعامك عليَّ بالقوة وبحق ما أكرمتني به من الجاه والعز، فلن أكون عوناً لأحد من المجرمين، وهذه معاهدة عاهد موسى ربه عليها وقيل: هو قسم وهو ضعيف { فَأَصْبَحَ فِي ٱلْمَدِينَةِ خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ } أي فأصبح موسى في المدينة التي قتل فيها القبطي خائفاً على نفسه يتوقع وينتظر المكروه، ويخاف أن يؤخذ بجريرته { فَإِذَا ٱلَّذِي ٱسْتَنْصَرَهُ بِٱلأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ } أي فإذا صاحبه الإِسرائيلي الذي خلَّصه بالأمس يقاتل قبطياً آخر فلما رأى موسى أخذ يصيح به مستغيثاً لينصره من عدوه { قَالَ لَهُ مُوسَىٰ إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ } أي قال موسى للإِسرائيلي: إنك لبيَّنُ الغواية والضلال، فإني وقعت بالأمس فيما وقعت فيه من قتل رجلٍ بسببك وتريد أن توقعني اليوم في ورطةٍ أخرى؟ { فَلَمَّآ أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِٱلَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا } أي فحين أراد موسى أن يبطش بذلك القبطي الذي هو عدوٌ له وللإِسرائيلي { قَالَ يٰمُوسَىٰ أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِٱلأَمْسِ } أي قال القبطي: أتريد قتلي كما قتلت غيري بالأمس؟ { إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي ٱلأَرْضِ } أي ما تريد يا موسى إلا أن تكون من الجبابرة المفسدين في الأرض { وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلْمُصْلِحِينَ } أي وما تريد أن تكون من الذين يصلحون بين الناس.


البَلاَغَة:
تضمنت الآيات من وجوه البيان والبديع ما يلي:

1- الإِشارة بالبعيد عن القريب لبعد مرتبته في الكمال { تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ }.

2- حكاية الحالة الماضية { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ } لاستحضار تلك الصورة في الذهن.

3- إيثارالجملة الإِسمية على الفعلية { إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ } ولم يقل سنرده ونجعله رسولاً وذلك للاعتناء بالبشارة لأن الجملة الإِسمية تفيد الثبوت والإِستمرار.

4- الاستعارة { لَوْلاۤ أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا } شبه ما قذف الله في قلبها من الصبر بربط الشيء المنفلت خشية الضياع واستعار لفظ الربط للصبر.

5- صيغة التعظيم { لاَ تَقْتُلُوهُ } تخاطب فرعون ولم تقل لا تقتله تعظيماً له.

6- صيغة المبالغة { جَبَّار } ، { غَوِيٌّ } ، { مُّبِينٌ } لأن فعال وفعيل من صيغ المبالغة.

7- الطباق المعنوي { جَبَّاراً.. وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلْمُصْلِحِينَ } لأن الجبار المفسد المخرّب، المكثر للقتل وسفك الدماء ففيه طباق في المعنى.

8- الاستعطاف { رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ }.

9- توافق الفواصل في كثير من الآيات مثل { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُون } { وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ } { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } وهو من المحسنات البديعية.

لطيفَة:
" حكى العلاَّمة القرطبي عن الأصمعي أنه قال سمعت جارية أعرابية تنشد:
أستغفر الله لذنبي كله
***
قتلتُ إنساناً بغير حلِّه
مثل الغزال ناعماً في دله
***
انتصف الليل ولم أُصلِّه
فقلت: قاتلك الله ما أفصحك؟ فقالت: ويحك أويعد هذا فصاحة مع قول الله عز وجل { وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي ٱليَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِيۤ إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ } فقد جمع في آية واحدة بين أمرين، ونهيين، وخبرين وبشارتين ".

أم سهام 2017-06-27 15:54

رد: تفسير سورة القصص
 
* تفسير صفوة التفاسير/ الصابوني (مـ 1930م -) مصنف و مدقق

{ وَجَآءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَا ظ±لْمَدِينَةِ يَسْعَىظ° قَالَ يظ°مُوسَىظ° إِنَّ ظ±لْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَظ±خْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ ظ±لنَّاصِحِينَ } * { فَخَرَجَ مِنْهَا خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ ظ±لْقَوْمِ ظ±لظَّالِمِينَ } * { وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَآءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَىظ° رَبِّيغ¤ أَن يَهْدِيَنِي سَوَآءَ ظ±لسَّبِيلِ } * { وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ ظ±لنَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ ظ±مْرَأَتَينِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِي حَتَّىظ° يُصْدِرَ ظ±لرِّعَآءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ } * { فَسَقَىظ° لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىظ° إِلَى ظ±لظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } * { فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى ظ±سْتِحْيَآءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَآءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ ظ±لْقَصَصَ قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ ظ±لْقَوْمِ ظ±لظَّالِمِينَ } * { قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يظ°أَبَتِ ظ±سْتَئْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ ظ±سْتَئْجَرْتَ ظ±لْقَوِيُّ ظ±لأَمِينُ } * { قَالَ إِنِّيغ¤ أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ظ±بْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَىظ° أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ } * { قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا ظ±لأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ وَظ±للَّهُ عَلَىظ° مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } * { فَلَمَّا قَضَىظ° مُوسَى ظ±لأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ ظ±لطُّورِ نَاراً قَالَ لأَهْلِهِ ظ±مْكُثُوغ¤اْ إِنِّيغ¤ آنَسْتُ نَاراً لَّعَلِّيغ¤ آتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ ظ±لنَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ } * { فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِىءِ ظ±لْوَادِي ظ±لأَيْمَنِ فِي ظ±لْبُقْعَةِ ظ±لْمُبَارَكَةِ مِنَ ظ±لشَّجَرَةِ أَن يظ°مُوسَىظ° إِنِّيغ¤ أَنَا ظ±للَّهُ رَبُّ ظ±لْعَالَمِينَ } * { وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ وَلَّىظ° مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يظ°مُوسَىظ° أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ ظ±لآمِنِينَ } * { ظ±سْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوغ¤ءٍ وَظ±ضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ ظ±لرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَىظ° فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ } * { قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ } * { وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّيغ¤ أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ } * { قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَآ أَنتُمَا وَمَنِ ظ±تَّبَعَكُمَا ظ±لْغَالِبُونَ } * { فَلَمَّا جَآءَهُم مُّوسَىظ° بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُواْ مَا هَـظ°ذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَـظ°ذَا فِيغ¤ آبَآئِنَا ظ±لأَوَّلِينَ } * { وَقَالَ مُوسَىظ° رَبِّيغ¤ أَعْلَمُ بِمَن جَآءَ بِظ±لْهُدَىظ° مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ ظ±لدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ظ±لظَّالِمُونَ } * { وَقَالَ فِرْعَوْنُ يظ°أَيُّهَا ظ±لْملأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَـظ°هٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يظ°هَامَانُ عَلَى ظ±لطِّينِ فَظ±جْعَل لِّي صَرْحاً لَّعَلِّيغ¤ أَطَّلِعُ إِلَىظ° إِلَـظ°هِ مُوسَىظ° وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ ظ±لْكَاذِبِينَ } * { وَظ±سْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي ظ±لأَرْضِ بِغَيْرِ ظ±لْحَقِّ وَظَنُّوغ¤اْ أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ } * { فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي ظ±لْيَمِّ فَظ±نظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ظ±لظَّالِمِينَ } * { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى ظ±لنَّارِ وَيَوْمَ ظ±لْقِيامَةِ لاَ يُنصَرُونَ } * { وَأَتْبَعْنَاهُم فِي هَذِهِ ظ±لدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ القِيَامَةِ هُمْ مِّنَ ظ±لْمَقْبُوحِينَ }

المنَاسَبَة:
لا تزال الآيات تتحدث عن قصة موسى، وقد تناولت الآيات السابقة قصة ولادته وإرضاعه، وتربيته في بيت فرعون إلى أن شبَّ وبلغ سنَّ الرشد والكمال، ثم قتله للفرعوني، وتتحدث الآيات هنا عن هجرته إلى أرض مدين وتزوجه بابنة شعيب، ثم عودته إلى مصر، ونزول النبوة عليه، وهلاك فرعون على يديه.

اللغَة:
{ يَأْتَمِرُونَ } يتشاورون قال الأزهري: ائتمر القوم وتآمروا أي أمر بعضهم بعضاً { تَذُودَانِ } ذاد يذود إذا حبس ومنع، طرد قال الشاعر:
لقد سلبت عصاك بنو تميم
***
فما تدري بأي عصى تذود
{ خَطْبُكُمَا } الخطب: الشأن قال رؤية: " يا عجباً ما خطبه وخطبي " { ظ±لرِّعَآءُ } جمع راعٍ مثل صاحب وصحاب وهو الذي يرعى الغنم { حِجَجٍ } جمع حجة بكسر الحاء وهي السنة { جَذْوَةٍ } الجذوة: الجمرة الملتهبة { رِدْءاً } عوناً قال الجوهري: أردأتُه أعنته، وكنتُ له ردءاً أي عوناً { ظ±لْمَقْبُوحِينَ } الهالكين المبعدين أو القبيحين في الصورة يقال: قَبَحه الله وقَبَّحه إذا جعله قبيحاً.

التفسِير:
{ وَجَآءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى ظ±لْمَدِينَةِ يَسْعَىظ° } أي وجاء رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه من أبعد أطراف المدينة يشتد ويسرع في مشيه قال ابن عباس: هذا الرجل هو مؤمن من آل فرعون { قَالَ يظ°مُوسَىظ° إِنَّ ظ±لْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ } أي قال له يا موسى: إن أشراف فرعون، ووجوه دولته يتشاورون فيك بقصد قتلك { فَظ±خْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ ظ±لنَّاصِحِينَ } أي فاخرج قبل أن يدركوك فأنا ناصحٌ لك من الناصحين { فَخَرَجَ مِنْهَا خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ } أي فخرج من مصر خائفاً على نفسه يترقب وينتظر الطلب أن يدركه فيأخذه، ثم التجأ إلى الله سبحانه بالدعاء لعلمه بأنه لا ملجأ سواه { قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ ظ±لْقَوْمِ ظ±لظَّالِمِينَ } أي خلصني من الكافرين واحفظني من شرهم - والمراد بهم فرعون وملؤُه - { وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَآءَ مَدْيَنَ } أي قصد بوجهه ناحية مدين وهي بلدة شعيب عليه السلام { قَالَ عَسَىظ° رَبِّيغ¤ أَن يَهْدِيَنِي سَوَآءَ ظ±لسَّبِيلِ } أي لعل الله يرشدني إلى الطريق السوي الذي يوصلني إلى مقصودي قال المفسرون: خرج خائفاً بغير زاد ولا ظهر - مركب - وكان بين مصر ومدين مسيرةُ ثمانية أيام، ولم يكن له علمٌ بالطريق سوى حسن ظنه بربه، فبعث الله إليه ملكاً فأرشده إلى الطريق، ويروى أنه لما وصل مدين كانت خضرةُ البقل تتراءى من بطنه من الهزال، لأنه كان في الطريق يتقوت ورق الشجر { وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ ظ±لنَّاسِ يَسْقُونَ } أي ولما وصل إلى مدين بلدة شعيب وجد على البئر الذي يستقي منه الرعاة جمعاً كثيفاً من الناس يسقون مواشيهم { وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ ظ±مْرَأَتَينِ تَذُودَانِ } أي ووجد سوى الجماعة الرعاة امرأتين تكفَّان غنمهما عن الماء { قَالَ مَا خَطْبُكُمَا }؟ أي ما شأنكما تمنعان الغنم عن ورود الماء؟ ولم لا تسقيان مع السقاة؟ { قَالَتَا لاَ نَسْقِي حَتَّىظ° يُصْدِرَ ظ±لرِّعَآءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ } أي من عادتنا التأني حتى ينصرف الرعاةُ مع أغنامهم عن الماء، ولا طاقة لنا على مزاحمة الأقوياء، ولا نريد مخالطة الرجال، وأبونا رجل مُسنٌّ لا يستطيع لضعفه أن يباشر سقاية الغنم، ولذلك اضطررنا إلى أن نسقي بأنفسنا قال أبو حيان: فيه اعتذار لموسى عن مباشرتهما السقي بأنفسهما، وتنبيهٌ على أن أباهما لا يقدر على السقي لشيخوخته وكبره، واستعطافٌ لموسى في إعانتهما { فَسَقَىظ° لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىظ° إِلَى ظ±لظِّلِّ } أي فسقى لهما غنمهما رحمة بهما، ثم تنحى جانباً فجلس تحت ظل شجرة { فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } أي إني يا ربّ محتاجٌ إلى فضلك وإحسانك، وإلى الطعام الذي أسُدُّ به جوعي، طلب من الله ما يأكله وكان قد اشتد عليه الجوع قال الضحاك: مكث سبعة أيام لم يذق فيها طعاماً إلا بقل الأرض وقال ابن عباس: سار موسى من مصر إلى " مدين " ليس له طعام إلا البقل وورق الشجر، وكان حافياً فما وصل إلى مدين حتى سقطت نعل قدميه، وجلس في الظل - وهو صفوة الله من خلقه - وإن بطنه للاصقٌ بظهره من الجوع، وإن خضرة البقل لتُرى من داخل جوفه، وإنه لمحتاجٌ إلى شق تمره { فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى ظ±سْتِحْيَآءٍ } في الكلام اختصار تقديره: فذهبتا إلى أبيهما سريعتين، وكان من عادتهما الإِبطاء فحدثتاه بما كان من أمر الرجل، فأمر إحداهما أن تدعوه له فجاءته تمشي.. الخ أي جاءته حال كونها تمشي مشية الحرائر بحياء وخجل قد سترت وجهها بثوبها قال عمر: لم تكن بسلفع من النساء خرَّاجة ولاَّجة { قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا } أي إنَّ أبي يطلبك ليعوضك عن أجر السقاية لغنمنا قال ابن كثير: وهذا تأدبٌ في العبارة لم تطلبه طلباً مطلقاً لئلا يوهم ريبة { فَلَمَّا جَآءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ ظ±لْقَصَصَ قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ ظ±لْقَوْمِ ظ±لظَّالِمِينَ } أي فلما جاءه موسى وذكر له ما كان من أمره وسبب هربه من مصر قال له شعيب: لا تخف فأنت في بلدٍ آمن لا سلطان لفرعون عليه وقد نجاك الله من كيد المجرمين { قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يظ°أَبَتِ ظ±سْتَأْجِرْهُ } أي استأجره لرعي أغنامنا وسقايتها { إِنَّ خَيْرَ مَنِ ظ±سْتَأْجَرْتَ ظ±لْقَوِيُّ ظ±لأَمِينُ } أي إنَّ أفضل من تستأجره من كان قوياً أميناً قال أبو حيان: وقولها كلام حكيم جامع لأنه إذ اجتمعت الكفاية والأمانة في القائم بأمرٍ من الأمور فقد تمَّ المقصود، روي أن شعيباً قال لها: وما أعلمك بقوته وأمانته؟ فقالت: إنه رفع الصخرةالتي لا يطيق حملها إلا عشرة رجال، وإني لما جئتُ معه تقدمتُ أمامه فقال لي: كوني من ورائي ودليني على الطريق، ولما أتيته خفض بصره فلم ينظر إليَّ، فرغب شعيب في مصاهرته وتزويجه بإحدى بناته { قَالَ إِنِّيغ¤ أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ظ±بْنَتَيَّ هَاتَيْنِ } أي إني أريد أن أزوجك إحدى بنتيَّ هاتين الصغرى أو الكبرى { عَلَىظ° أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ } أي بشرط أن تكون أجيراً لي ثماني سنين ترعى فيها غنمي { فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ } أي فإن أكملتها عشر سنين فذلك تفضل منك، وليس بواجب عليك { وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ } أي وما أُريد أن أوقعك في المشقة باشتراط العشر { سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ } أي ستجدني إن شاء الله حسن المعاملة، ليِّن الجانب، وفيأ بالعهد قال القرطبي: في الآية عرضُ الوليّ ابنته على الرجل، وهذه سُنة قائمة، عرض شعيب ابنته على موسى، وعرض عمر ابنته حفصة على أبي بكر وعثمان، وعرضت الموهوبة نفسها على النبي صلى الله عليه وسلم، فمن الحُسْن عرض الرجل وليته على الرجل الصالح، اقتداءً بالسلف الصالح { قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا ظ±لأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ } أي قال موسى: إنَّ ما قلته وعاهدتني عليه قائم بيننا جميعاً لا نخرج عنه، وأيَّ المدتين الثماني أو العشر أديتها لك فلا إثم ولا حرج عليَّ { وَظ±للَّهُ عَلَىظ° مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } أي والله شاهد على ما تعاهدنا وتواثقنا عليه { فَلَمَّا قَضَىظ° مُوسَى ظ±لأَجَلَ } أي فلما أتم موسى المدة التي اتفقا عليها قال ابن عباس: قضى أتم الأجلين وأكملهما وأوفاهما وهو عشر سنين { وَسَارَ بِأَهْلِهِ } أي ومشى بزوجته مسافراً بها إلى مصر { آنَسَ مِن جَانِبِ ظ±لطُّورِ نَاراً } أي أبصر من بعيد ناراً تتوهج من جانب جبل الطور { قَالَ لأَهْلِهِ ظ±مْكُثُوغ¤اْ إِنِّيغ¤ آنَسْتُ نَاراً } أي قال لزوجته امكثي هنا فقد أبصرت ناراً عن بعد قال المفسرون: كانت ليلةً باردة وقد أضلوا الطريق، وهبَّت ريح شديدة فرقت ماشيته، وأخذ أهله الطلق فعند ذلك أبصر ناراً بعيدة فسار إليها لعله يجد من يدله على الطريق فذلك قوله تعالى { لَّعَلِّيغ¤ آتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ } أي لعلي آتيكم بخبر الطريق وأرى من يدلني عليه { أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ ظ±لنَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ } أي أو آتيكم بشعلة من النار لعلكم تستدفئون بها { فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِىءِ ظ±لْوَادِي ظ±لأَيْمَنِ فِي ظ±لْبُقْعَةِ ظ±لْمُبَارَكَةِ مِنَ ظ±لشَّجَرَةِ } أي فلما وصل إلى مكان النار لم يجدها ناراً وإنما وجدها نوراً، وجاءه النداء من جانب الوادي الأيمن في ذلك المكان المبارك من ناحية الشجرة { أَن يظ°مُوسَىظ° إِنِّيغ¤ أَنَا ظ±للَّهُ رَبُّ ظ±لْعَالَمِينَ } اي نودي يا موسى إن الذي يخاطبك ويكلمك هو أنا الله العظيم الكبير، المنزه عن صفات النقص، ربُّ الإِنس والجن والخلائق أجمعين { وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ } أي ونودي بأن اطرح عصاك التي في يدك { فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ وَلَّىظ° مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ } أي فألقاها فانقلبت إلى حيّة فلما رآها تتحرك كأنها ثعبان خفيف سريع الحركة انهزم هارباً منها ولم يلتفت إليها قال ابن كثير: انقلبت العصى إلى حية وكانت كأنها جانٌّ في حركتها السَريعة مع عِظَم خلقتها، واتساع فمها، واصطكاك أنيابها بحيث لا تمر بصخرة إلا ابتلعتها تنحدر في فمها تتقعقع كأنها حادرة في واد، فعند ذلك ولَّى مدبراً ولم يلتفت، لأن طبع البشرية ينفر من ذلك { يظ°مُوسَىظ° أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ ظ±لآمِنِينَ } أي فنودي يا موسى: إرجع إلى حيث كنت ولا تخف فأنت آمنٌ من المخاوف، فرجع وأدخل يده في فم الحية فعادت عصا { ظ±سْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوغ¤ءٍ } أي أدخل يدك في جيب قميصك - وهو فتحة الثوب مكان دخول الرأس - ثم أخرجها تخرج مضيئةً منيرة تتلألأ كأنها قطعة قمر في لمعان البرق من غير أذى ولا برص { وَظ±ضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ ظ±لرَّهْبِ } قال ابن عباس: اضمم يدك إلى صدرك من الخوف يذهب عنك الرعب قال المفسرون: المراد بالجناح اليد لأن يدي الإِنسان بمنزلة جناحي الطائر، وإذا أدخل يده اليمنى تحت عضده اليسرى فقد ضم جناحه إليه وبذلك يذهب عنه الخوف من الحية ومن كل شيء { فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَىظ° فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ } أي فهذان - العصا واليد - دليلان قاطعان، وحجتان نيرتان واضحتان من الله تعالى تدلان على صدقك، وهما آيتان إلى فرعون وأشراف قومه الطُغاة المتجبرين { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ } أي خارجين عن طاعتنا، مخالفين لأمرنا { قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ } أي قال موسى يا رب إني قتلت قبطياً من آل فرعون وأخشى إن أتيتهم أن يقتلوني به قال المفسرون: هو القبطي الذي وكزه فمات، فطلب من ربه ما يزداد به قوة على مجابهة فرعون بإرسال أخيه هارون معه فقال { وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً } أي هو أوضح بياناً، وأطلق لساناً، لأن موسى كان في لسانه حُبْسة من أثر الجمرة التي تناولها في صغره { فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي } أي فأرسلْهُ معي معيناً يبيّن لهم عني ما أكلمهم به بتوضيح الحجج والبراهين { إِنِّيغ¤ أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ } أي أخاف إن لم يكن لي وزير ولا معين أن يكذبوني لأنهم لا يكادون يفقهون عني، قال الرازي: والمعنى أرسل معي أخي هارون حتى يعاضدني على إظهار الحجة والبيان، وليس الغرض بتصديق هارون أن يقول له: صدقتَ، أو يقول للناس: صدقَ موسى، وإنما هو أن يُلخّص بلسانه الفصيح وجوه الدلائل، ويجيب عن الشبهات، ويجادل به الكفار { قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً } أي أجابه تعالى إلى طلبه وقال له: سنقوّيك بأخيك ونعينك به، ونجعل لكما غلبةً وتسلطاً على فرعون وقومه { فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَآ } أي لا سبيل لهم إلى الوصول إلى أذاكما بسبب ما أيدتكما به من المعجزات الباهرات { أَنتُمَا وَمَنِ ظ±تَّبَعَكُمَا ظ±لْغَالِبُونَ } أي العاقبة لكما ولأتباعكما في الدنيا والآخرة، وأنتم الغالبون على القوم المجرمين كقوله تعالى

{*كَتَبَ ظ±للَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِيغ¤ إِنَّ ظ±للَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ*}
[المجادلة: 21] { فَلَمَّا جَآءَهُم مُّوسَىظ° بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ } أي فلما جاءهم موسى بالبراهين الساطعة، والمعجزات القاطعة، الدالة على صدقه وأنه رسولٌ من عند الله { قَالُواْ مَا هَـظ°ذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّفْتَرًى } أي ما هذا الذي جئتنا به من العصا واليد إلا سحرٌ مكذوب مختلق، افتريته من قبل نفسك وتنسبه إلى الله { وَمَا سَمِعْنَا بِهَـظ°ذَا فِيغ¤ آبَآئِنَا ظ±لأَوَّلِينَ } أي وما سمعنا بمثل هذه الدعوى - دعوى التوحيد - في آبائنا وأجدادنا السابقين { وَقَالَ مُوسَىظ° رَبِّيغ¤ أَعْلَمُ بِمَن جَآءَ بِظ±لْهُدَىظ° مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ ظ±لدَّارِ } أجمل موسى في جوابهم تلطفاً في الخطاب، وإيثاراً لأحسن الوجوه في المجادلة معهم والمعنى: إن ما جئتكم به حقٌ وهدى وليس بسحر، وربي عالمٌ بذلك يعلم أني محقٌ وأنتم مبطلون، ويعلم من تكون له العاقبة الحميدة في الدنيا والآخرة { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ظ±لظَّالِمُونَ } أي لا يسعد ولا ينجح من كان ظالماً فاجراً، كاذباً على الله { وَقَالَ فِرْعَوْنُ يظ°أَيُّهَا ظ±لْملأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَـظ°هٍ غَيْرِي } أي قال فرعون لأشراف قومه وسادتهم: ما علمتُ لكم إلهاً غيري قال ابن عباس: كان بين هذه القولة الفاجرة وبين قوله
{*أَنَاْ رَبُّكُمُ ظ±لأَعْلَىظ°*}
[النازعات: 24] أربعون سنة، وكذب عدوُّ الله بل علم أن له رباً هو خالقه وخالق قومه { فَأَوْقِدْ لِي يظ°هَامَانُ عَلَى ظ±لطِّينِ فَظ±جْعَل لِّي صَرْحاً } أي فاطبخ لي يا هامان الآجر فاجعل لي منه قصراً شامخاً رفيعاً { لَّعَلِّيغ¤ أَطَّلِعُ إِلَىظ° إِلَـظ°هِ مُوسَىظ° } أي لعلي أرى وأشاهد إله موسى الذي زعم أنه أرسله، قال ذلك على سبيل التهكم ولهذا قال بعده { وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ ظ±لْكَاذِبِينَ } أي وإني لأظن موسى كاذباً في ادعائه أن في السماء رباً قال تعالى { وَظ±سْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي ظ±لأَرْضِ بِغَيْرِ ظ±لْحَقِّ } أي وتكبر وتعظم فرعون وقومه عن الإِيمان بموسى في أرض مصر بالباطل والظلم { وَظَنُّوغ¤اْ أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ } أي واعتقدوا أن لا بعث ولا نشور، ولا حساب ولا جزاء { فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي ظ±لْيَمِّ } أي فأخذناه مع جنوده فطرحناهم في البحر، وأغرقناهم فلم يبق منهم أحد { فَظ±نظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ظ±لظَّالِمِينَ } أي فانظر يا محمد بعين قلبك نظر اعتبار كيف كان مآل هؤلاء الظالمين الذين بلغوا من الكفر والطغيان أقصى الغايات؟ { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى ظ±لنَّارِ } أي وجعلناهم في الدنيا قادة وزعماء في الكفر يقتدي بهم أهلُ الضلال { وَيَوْمَ ظ±لْقِيامَةِ لاَ يُنصَرُونَ } أي ويوم القيامة ليس لهم ناصر يدفع عنهم العذاب { وَأَتْبَعْنَاهُم فِي هَذِهِ ظ±لدُّنْيَا لَعْنَةً } أي جعلنا اللغنة تلحقهم في هذه الحياة الدنيا من الله والملائكة والمؤمنين { وَيَوْمَ القِيَامَةِ هُمْ مِّنَ ظ±لْمَقْبُوحِينَ } أي وفي الآخرة هم من المبعدين المطرودين من رحمة الله عز وجل.

البَلاَغَة:
تضمنت الآيات وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:

1- التأكيد بإِنَّ واللام { إِنَّ ظ±لْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ } مناسبةً لمقتضى الحال.

2- الاستعطاف والترحم { رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ }.

3- جناس الاشتقاق { وَقَصَّ عَلَيْهِ ظ±لْقَصَصَ }.

4- التشبيه المرسل المجمل { تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ } حذف وجه الشبه فأصبح مجملاً.

5- الطباق بين { يُصَدِّقُنِي.. ويُكَذِّبُونِ }.

6- الكناية { وَظ±ضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ } كنى عن اليد بالجناح، لأنها للإِنسان كالجناح للطائر.

7- المجاز المرسل { سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ } من إطلاق السبب وإرادة المسبب لأن شد العضد يستلزم شد اليد، وشد اليد مستلزم للقوة، قال الشهاب، ويمكن أن يكون من باب الاستعارة التمثيلية، شبه حال موسى في تقويته بأخيه بحال اليد في تقويتها بيد شديدة.

لطيفَة:
قال الزمخشري: إنما قال { فَأَوْقِدْ لِي يظ°هَامَانُ عَلَى ظ±لطِّينِ } أي أوقد لي النار فأتخذ منه آجراً ولم يقل " أطبخ لي الآجر " لأن هذه العبارة أحسن طباقاً لفصاحة القرآن وعلو طبقته، وأشبه بكلام الجبابرة، وهامان وزيره ومدبّر رعيته.

أم سهام 2017-07-02 15:59

رد: تفسير سورة القصص
 
* تفسير صفوة التفاسير/ الصابوني (مـ 1930م -) مصنف و مدقق

{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى ظ±لْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا ظ±لْقُرُونَ ظ±لأُولَىظ° بَصَآئِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } * { وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ ظ±لْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَآ إِلَىظ° مُوسَى ظ±لأَمْرَ وَمَا كنتَ مِنَ ظ±لشَّاهِدِينَ } * { وَلَكِنَّآ أَنشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ ظ±لْعُمُرُ وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِيغ¤ أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ } * { وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ ظ±لطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَـظ°كِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } * { وَلَوْلاغ¤ أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُواْ رَبَّنَا لَوْلاغ¤ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ ظ±لْمُؤْمِنِينَ } * { فَلَمَّا جَآءَهُمُ ظ±لْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ لَوْلاغ¤ أُوتِيَ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ مُوسَىظ° أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ بِمَآ أُوتِيَ مُوسَىظ° مِن قَبْلُ قَالُواْ سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُواْ إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ } * { قُلْ فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ ظ±للَّهِ هُوَ أَهْدَىظ° مِنْهُمَآ أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } * { فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَظ±عْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ ظ±تَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ ظ±للَّهِ إِنَّ ظ±للَّهَ لاَ يَهْدِي ظ±لْقَوْمَ ظ±لظَّالِمِينَ } * { وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ ظ±لْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } * { ظ±لَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ظ±لْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ } * { وَإِذَا يُتْلَىظ° عَلَيْهِمْ قَالُوغ¤اْ آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ ظ±لْحَقُّ مِن رَّبِّنَآ إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ } * { أُوْلَـظ°ئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ وَيَدْرَؤُنَ بِظ±لْحَسَنَةِ ظ±لسَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } * { وَإِذَا سَمِعُواْ ظ±للَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي ظ±لْجَاهِلِينَ } * { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـظ°كِنَّ ظ±للَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِظ±لْمُهْتَدِينَ } * { وَقَالُوغ¤اْ إِن نَّتَّبِعِ ظ±لْهُدَىظ° مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَىظ° إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّا وَلَـظ°كِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } * { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ ظ±لْوَارِثِينَ } * { وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ ظ±لْقُرَىظ° حَتَّىظ° يَبْعَثَ فِيغ¤ أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي ظ±لْقُرَىظ° إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ } * { وَمَآ أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ ظ±لْحَيَاةِ ظ±لدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ ظ±للَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىظ° أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } * { أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاَقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ ظ±لْحَيَاةِ ظ±لدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ ظ±لْقِيَامَةِ مِنَ ظ±لْمُحْضَرِينَ } * { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ ظ±لَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } * { قَالَ ظ±لَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ ظ±لْقَوْلُ رَبَّنَا هَـظ°ؤُلاغ¤ءِ ظ±لَّذِينَ أَغْوَيْنَآ أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ مَا كَانُوغ¤اْ إِيَّانَا يَعْبُدُونَ } * { وَقِيلَ ظ±دْعُواْ شُرَكَآءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَرَأَوُاْ ظ±لْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ } * { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَآ أَجَبْتُمُ ظ±لْمُرْسَلِينَ } * { فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ ظ±لأَنبَـآءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لاَ يَتَسَآءَلُونَ } * { فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَىظ° أَن يَكُونَ مِنَ ظ±لْمُفْلِحِينَ } * { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ ظ±لْخِيَرَةُ سُبْحَانَ ظ±للَّهِ وَتَعَالَىظ° عَمَّا يُشْرِكُونَ } * { وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ } * { وَهُوَ ظ±للَّهُ لاغ¤ إِلَـظ°هَ إِلاَّ هُوَ لَهُ ظ±لْحَمْدُ فِي ظ±لأُولَىظ° وَظ±لآخِرَةِ وَلَهُ ظ±لْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }

المنَاسَبَة:
بعد أن ذكر تعالى نعمته على بني إسرائيل بإهلاك فرعون رأس الطغيان وتخليصهم من شره، ذكر هنا ما أنعم به عليهم من إنزال التوراة التي فيها الهدى والنور، كما ذكر نعمته على العرب بإنزال القرآن العظيم خاتمة الكتب السماوية.

اللغَة:

{ ثَاوِياً } مقيماً وثوى بالمكان أقام به قال الشاعر:
" لقد كان في حولٍ ثواءٌ ثويته "
***

{ يَدْرَؤُنَ } يدفعون، والدرءُ: الدفع وفي الحديث " ادرءوا الحدود بالشبهات " { يُجْبَىظ° } يجمع، جبى الماء في الحوض جمعه، والجابية: الحوض العظيم { بَطِرَتْ } البطر: الطغيان في النعمة { ظ±لأَنبَـآءُ } الأخبار جمع نبأ وهو الخبر الهام.

سَبَبُ النّزول:

" لما حضرت أبا طالبٍ الوفاة قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عم قل " لا إله إلا الله " أشهد لك بها يوم القيامة فقال أبو طالب: لولا أن تعيرني قريش يقولون: إنما حمله على ذلك الجزع لأقررت بها عينك فأنزل الله عز وجل { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـظ°كِنَّ ظ±للَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِظ±لْمُهْتَدِينَ } ".

التفسِير:

{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى ظ±لْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا ظ±لْقُرُونَ ظ±لأُولَىظ° } اللام موطئة للقسم أي والله لقد أعطينا موسى التوراة من بعد ما أهلكنا الأمم التي كانت قبله كقوم نوحٍ وعادٍ وثمود وقوم لوطٍ وغيرهم من المكذبين لرسلهم { بَصَآئِرَ لِلنَّاسِ } أي ضياءً لبني إسرائيل ونوراً لقلوبهم يتبصرون بها الحقائق، ويميزون بها بين الحق والباطل { وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } أي وهدى من الضلالة، ورحمة لمن آمن بها ليتعظوا بما فيها من المواعظ والإِرشادات الإِلهية { وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ ظ±لْغَرْبِيِّ } أي وما كنت يا محمد بجانب الجبل الغربي، وهو المكان الذي كلّم الله تعالى به موسى { إِذْ قَضَيْنَآ إِلَىظ° مُوسَى ظ±لأَمْرَ } أي حين أوحينا إلى موسى بالنبوة وأرسلناه إلى فرعون وقومه { وَمَا كنتَ مِنَ ظ±لشَّاهِدِينَ } أي وما كنت من الحاضرين في ذلك المكان، ولكن الله أوحى إليك ذلك ليكون حجة وبرهاناً على صدقك قال ابن كثير: يقول تعالى منبهاً على برهان نبوة محمد صلى الله عليه وسلم حيث أخبر بالغيوب الماضية خبراً كأنَّ سامعه شاهد وراء لما تقدَّم، وهو رجل أُميّ لا يقرأ شيئاً من الكتب، نشأ بين قوم لا يعرفون شيئاً من ذلك، والمعنى ما كنتَ حاضراً لذلك ولكنَّ الله أوحاه إليك لتخبرهم بتلك المغيبات { وَلَكِنَّآ أَنشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ ظ±لْعُمُرُ } أي ولكنَّنا خلقنا أُمماً وأجيالاً من بعد موسى، فتطاول عليهم الزمان، وطالت الفترة فنسوا ذكر الله، وبدَّلوا وحرفوا الشرائع فأرسلناك يا محمد لتجدّد أمر الدين قال أبو السعود: المعنى ولكنا خلقنا بين زمانك وزمان موسى قروناً كثيرة، فتمادى عليهم الأمر، فتغيرت الشرائع والأحكام، وعميت عليهم الأنباء فأوحينا إليك، فحذف المستدرك اكتفاءً بذكر الموجب { وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِيغ¤ أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا } أي وما كنتَ يا محمد مقيماً في أهل مدين فتعلم خبر موسى وشعيب وابنتيه فتتلو ذلك على أهل مكة { وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ } أي ولكنا أرسلناك في أهل مكة وأخبرناك بتلك الأخبار، ولولا ذلك لما علمتها { وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ ظ±لطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا } أي وما كنتَ أيضاً بجانب جبل الطور وقت ندائنا لموسى وتكليمنا إياه { وَلَـظ°كِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ } أي لم تشاهد شيئاً من أخبار وقصَص الأنبياء، ولكنّا أوحيناها إليك، وقصصناها عليك، رحمةً من ربك لتخوّف قوماً ما جاءهم رسول قبلك يا محمد { لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } أي لعلهم يتعظون بما جئتهم به من الآيات البينات، فيدخلوا في دينك قال المفسرون: المراد بالقوم الذين كانوا في زمن الفترة بين عيسى ومحمد صلوات الله عليهما وهي نحوٌ من ستمائة سنة { وَلَوْلاغ¤ أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } أي ولولا قولهم إذا أصابتهم عقوبة بسبب كفرهم ومعاصيهم { فَيَقُولُواْ رَبَّنَا لَوْلاغ¤ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ ظ±لْمُؤْمِنِينَ } أي فيقولوا عند ذلك ربنا هلاّ أرسلت إلينا رسولاً يبلغنا آياتك فنتبعها ونكون من المصدقين بها!! قال القرطبي: وجواب { لَوْلاغ¤ } محذوف وتقديره لما بعثنا الرسل، وقال في التسهيل: { لَوْلاغ¤ } الأولى حرف امتناع، و { لَوْلاغ¤ } الثانية عرضٌ وتحضيض، والمعنى: لولا أن تصيبهم مصيبة بكفرهم لم نرسل الرسل، وإنما أرسلناهم على وجه الإِعذار وإقامة الحجة عليهم لئلا يقولوا ربَّنا لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتَّبع آياتك ونكون من المؤمنين، ثم أخبر تعالى عن عناد المشركين وتعنتهم في ردِّ الحق فقال { فَلَمَّا جَآءَهُمُ ظ±لْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ لَوْلاغ¤ أُوتِيَ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ مُوسَىظ° } أي فلما جاء أهل مكة الحقُّ المبين وهو محمد بالقرآن المعجز من عندنا قالوا - على وجه التعنت والعناد - هلاّ أُعطي محمد من الآيات الباهرة، والحجج القاهرة مثل ما أُعطي موسى من العصا واليد!! قال تعالى رداً عليهم { أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ بِمَآ أُوتِيَ مُوسَىظ° مِن قَبْلُ }؟ أي أو لم يكفر البشر بما أُوتي موسى من تلك الآيات الباهرة؟! قال مجاهد: أمرت اليهود قريشاً أن يقولوا لمحمد: ائتنا بمثل ما جاء به موسى من المعجزات، فردَّ الله عليهم بأنهم كفروا بآيات موسى، فالضمير في { أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ } لليهود، وهذا اختيار ابن جرير وقال أبو حيان: ويظهر عندي أن الضمير عائد على قريش الذين قالوا لولا أُوتي محمد مثل ما أُوتي موسى، وذلك أن تكذيبهم لمحمد صلى الله عليه وسلم تكذيبٌ لموسى، ونسبتهم السحر للرسول نسبة السحر لموسى، إذ الأنبياء من وادٍ واحدٍ فمن نسب إلى أحدٍ من الأنبياء ما لا يليق كان ناسباً ذلك إلى جميع الأنبياء، وتتناسق حينئذٍ الضمائر كلُّها { قَالُواْ سِحْرَانِ تَظَاهَرَا } أي وقال المشركون ما التوراة والقرآن إلا من قبيل السحر، فهما سحران تعاونا بتصديق كل واحدٍ منهما الآخر قال السُدّي: صدَّق كل واحدٍ منهما الآخر { وَقَالُواْ إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ } أي إنّا بكل من الكتابين كافرون قال أبو السعود: وهذا تصريحٌ بكفرهم بهما وذلك لغاية عتوهم وتماديهم في الكفر والطغيان { قُلْ فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ ظ±للَّهِ هُوَ أَهْدَىظ° مِنْهُمَآ أَتَّبِعْهُ } أمرٌ على وجه التعجيز أي قل لهم يا محمد إنكم إذْ كفرتم بهذين الكتابين مع ما تضمنا من الشرائع والأحكام ومكارم الأخلاق فائتوني بكتاب منزلٍ من عند الله أهدى منهما وأصلح أَتمسك به { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } أي في أنهما سحران قال ابن كثير: وقد عُلم بالضرورة لذوي الألباب أن الله تعالى لم ينزل كتاباً من السماء أكمل ولا أشمل ولا أفصح ولا أعظم من الكتاب الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم وهو القرآن، وبعده في الشرف والعظمة الكتاب الذي أنزله على موسى، وهو الكتاب الذي قال فيه

{*إِنَّآ أَنزَلْنَا ظ±لتَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ*}
[المائدة: 44] والإِنجيلُ إنما أُنزل متمماً للتوراة ومُحلاً لبعض ما حُرم على بني إسرائيل { فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَظ±عْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ } أي فإن لم يجيبوك إلى ما طلبته منهم فاعلم أن كفرهم عنادٌ واتباع للأهواء لا بحجةٍ وبرهان { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ ظ±تَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ ظ±للَّهِ } أي لا أحد أضلُّ ممن اتبع هواه بغير رشادٍ ولا بيانٍ من الله { إِنَّ ظ±للَّهَ لاَ يَهْدِي ظ±لْقَوْمَ ظ±لظَّالِمِينَ } أي لا يوفق للحق من كان معانداً ظالماً، بالانهماك في اتباع الهوى، والإِعراض عن سبيل الهدى { وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ ظ±لْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } أي ولقد تابعنا ووالينا لقريش القرآن يتبع بعضُه بعضاً، وعداً ووعيداً، وقصصاً وعبراً، ونصائح ومواعظ ليتعظوا ويتذكروا بما فيه قال ابن الجوزي: المعنى أنزلنا القرآن يتبع بعضُه بعضاً، ويخبر عن الأمم الخالية كيف عُذبوا لعلهم يتعظون { ظ±لَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ظ±لْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ } أي الذين أعطيناهم التوراة والإِنجيل من قبل هذا القرآن - من مسلمي أهل الكتاب - هم بهذا القرآن يصدقون قال ابن عباس: يعني من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب { وَإِذَا يُتْلَىظ° عَلَيْهِمْ قَالُوغ¤اْ آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ ظ±لْحَقُّ مِن رَّبِّنَآ } أي وإذا قرئ عليهم القرآن قالوا صدقنا بما فيه { إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ } أي كنا من قبل نزوله موحدين لله، مستسلمين لأمره، مؤمنين بأنه سيبعث محمد وينزل عليه القرآن قال تعالى { أُوْلَـظ°ئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ } أي أولئك الموصوفون بالصفات الجميلة يعطون ثوابهم مضاعفاً، مرة على إيمانهم بكتابهم، ومرةً على إيمانهم بالقرآن وفي الحديث " ثلاثة يُؤْتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيّه ثم آمن بي.. "الحديث { بِمَا صَبَرُواْ } أي بسبب صبرهم على اتباع الحقِّ، وتحملهم الأذى في سبيل الله قال قتادة: نزلت في أناسٍ من أهل الكتاب، كانوا على شريعةٍ من الحق يأخذون بها وينتهون إليها، حتى بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم فآمنوا به وصدَّقوه، فأعطاهم الله أجرهم مرتين بما صبروا، وذُكر أن منهم سلمان وعبد الله بن سلام { وَيَدْرَؤُنَ بِظ±لْحَسَنَةِ ظ±لسَّيِّئَةَ } أي ويدفعون الكلام القبيح كالسب والشتم بالحسنة أي الكلمة الطيبة الجميلة قال ابن كثير: لا يقابلون السيء بمثله ولكن يعفون ويصفحون { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } أي ومن الذي رزقناهم من الحلال ينفقون في سبيل الخير { وَإِذَا سَمِعُواْ ظ±للَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ } أي وإذا سمعوا الشتم والأذى من الكفار وسمعوا ساقط الكلام، لم يلتفتوا إليه ولم يردُّوا على أصحابه { وَقَالُواْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ } أي لنا طريقنا ولكم طريقكم { سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ } أي سلام متاركة ومباعدة قال الزجاج: لم يريدوا التحية وإنما أرادوا بيننا وبينكم المتاركة { لاَ نَبْتَغِي ظ±لْجَاهِلِينَ } أي لا نطلب صحبتهم ولا نريد مخالطتهم قال الصاوي: كان المشركون يسبون مؤمني أهل الكتاب ويقولون: تباً لكم أعرضتم عن دينكم وتركتموه! فيعرضون عنهم ويقولون لنا أعمالنا ولكم أعمالكم. مدحهم تعالى بالإِيمان، ثم مدحهم بالإِحسان، ثم مدحهم بالعفو والصفح عن أهل العدوان، ثم قال تعالى مخاطباً رسوله { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } أي إنك يا محمد لا تقدر على هداية أحد، مهما بذلت فيه من مجهود، وجاوزت في السعي كل حدٍّ معهود { وَلَـظ°كِنَّ ظ±للَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ } أي ولكنه تعالى بقدرته يهدي من قدر له الهداية، فسلم أمرك إليه فإنه أعلم بأهل السعادة والشقاوة { وَهُوَ أَعْلَمُ بِظ±لْمُهْتَدِينَ } أي هو تعالى العالم بمن فيه استعداد للهداية والإِيمان فيهديه قال المفسرون: نزلت في عمه " أبي طالب " حين عرض عليه الإِسلام عند موته فأبى قال أبو حيان: ومعنى { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } أي لا تقدر على خلق الهداية فيه، ثم قال: ولا تنافي بين هذا وبين قوله
{*وَإِنَّكَ لَتَهْدِيغ¤ إِلَىظ° صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ*}
[الشورى: 52] لأن معنى هذا: وإنك لترشد، وقد أجمع المسلمون على أنها نزلت في " أبي طالب " ثم ذكر تعالى شبهةً من شبهات المشركين وردَّ عليها بالبيان الواضح فقال { وَقَالُوغ¤اْ إِن نَّتَّبِعِ ظ±لْهُدَىظ° مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ } أي وقال كفار قريش: إن اتبعناك يا محمد على دينك وتركنا ديننا نخاف أن تتخطفنا العرب فيجتمعون على محاربتنا، ويخرجوننا من أرضنا، قال المبرد: والتخطُّف الانتزاع بسرعة، قال تعالى رداً عليهم { أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً } أي أولم نعصمْ دماءهم ونجعل مكانهم حرماً ذا أمن، بحرمة البيت العتيق؟ فكيف يكون الحرم آمناً لهم في حال كفرهم، ولا يكون آمناً لهم في حال إسلامهم؟ { يُجْبَىظ° إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّا } أي تُجْلب إليه الأرزاق من كل مكان مع أنه بوادٍ غير ذي زرع رزقاً لهم من عندنا { وَلَـظ°كِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أي ولكن أكثرهم جهلة لا يتفكرون في ذلك ولا يتفطنون قال أبو حيان: قطع الله حجتهم بهذا البيان الناصع إذْ كانوا وهم كفارٌ بالله، عباد أصنام قد أمِنوا في حرمهم، والناسُ في غيره يتقاتلون وهم مقيمون في بلدٍ غير ذي زرع، يجيء إليهم ما يحتاجون من الأقوات، فكيف إذا آمنوا واهتدوا؟ { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا } أي وكثيرمن أهل قريةٍ طغت وأشرت وكفرت نعمة الله فدمَّر الله عليهم وخرب ديارهم { فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً } أي فتلك مساكنهم خاويةً بما ظلموا لم تسكن من بعد تدميرهم إلاَّ زماناً قليلاً إذْ لا يسكنها إلا المارَّةُ والمسافرون يوماً أو بعض يومٍ { وَكُنَّا نَحْنُ ظ±لْوَارِثِينَ } أي وكنا نحن الوارثين لأملاكهم وديارهم قال في البحر: والآية تخويف لأهل مكة من سوء عاقبة قوم كانوا في مثل حالهم، من إنعام الله عليهم بالرقود في ظلال الأمن، وخفض العيش، فكفروا النعمة وقابلوها بالاشر والبطر فدمرهم الله وخرب ديارهم { وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ ظ±لْقُرَىظ° } أي ما جرت عادة الله جل شأنه أن يهلك أهل القرى الكافرة { حَتَّىظ° يَبْعَثَ فِيغ¤ أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا } أي حتى يبعث في أصلها وعاصمتها رسولاً يبلغهم رسالة الله لقطع الحجج والمعاذير { وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي ظ±لْقُرَىظ° إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ } أي وما كنا لنهلك القرى إلا وقد استحق أهلها الإِهلاك، لإِصرارهم على الكفر بعد الإِعذار إليهم ببعثة المرسلين قال القرطبي: أخبر تعالى أنه لا يهلكهم إلا إذا استحقوا الإِهلاك بظلمهم، وفي هذا بيانٌ لعدله وتقدّسه عن الظلم، ولا يهلكهم - مع كونهم ظالمين - إلاّ بعد تأكيد الحجة والإِلزام ببعثة الرسل، ولا يجعل علمه تعالى بأحوالهم حجة عليهم { وَمَآ أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ ظ±لْحَيَاةِ ظ±لدُّنْيَا وَزِينَتُهَا } أي وما أعطيتم أيها الناس من مالٍ وخيرٍ فهو متاعٌ قليل تتمتعون به في حياتكم ثم ينقضي ويفنى قال ابن كثير: يخبر تعالى عن حقارة الدنيا وما فيها من الزينة الدنيئة، والزهرة الفانية، بالنسبة إلى ما أعده الله لعباده الصالحين في الدار الآخرة، من النعيم العظيم المقيم { وَمَا عِندَ ظ±للَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىظ° } أي وما عنده من الأجر والثواب، والنعيم الدائم الباقي خير وأفضل من هذا النعيم الزائل { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }؟ توبيخٌ لهم أي أفلا تعقلون أن الباقي أفضل من الفاني؟ قال الإِمام الفخر: بيَّن تعالى أن منافع الدنيا مشوبةٌ بالمضارِّ، بل المضارُّ فيها أكثر، ومنافع الآخرة غير منقطعة، بينما منافع الدنيا منقطعة، ومتى قوبل المتناهي بغير المتناهي كان عدماً، فكيف ونصيب كل أحدٍ من الدنيا كالذرة بالقياس إلى البحر، فمن لم يرجَّح منافع الآخرة على منافع الدنيا يكون كأنه خارجٌ عن حدّ العقل { أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاَقِيهِ } أي أفمن وعدناه وعداً قاطعاً بالجنة وما فيها من النعيم المقيم الخالد، فهو لا محالة مدركه لأن وعد الله لا يتخلف { كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ ظ±لْحَيَاةِ ظ±لدُّنْيَا }؟ أي كمن متعناه بمتاع زائل، مشوب بالأكدار، مملوءٍ بالمتاعب، مستتبع للحسرة على انقطاعه؟ { ثُمَّ هُوَ يَوْمَ ظ±لْقِيَامَةِ مِنَ ظ±لْمُحْضَرِينَ } أي ثم هو في الآخرة من المحضرين للعذاب، فهل يساوي العاقل بينهما؟ قال ابن جزي: والآية ايضاحٌ لما قبلها من البون الشاسع بين الدنيا والآخرة، والمراد بمن وعدناه المؤمنين، وبمن متعناه الكافرين { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ ظ±لَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } أي واذكر حال المشركين يوم يناديهم الله فيقول لهم على سبيل التوبيخ والتقريع: أين هؤلاء الشركاء والآلهة من الأصنام والأنداد الذين عبدتموهم من دوني، وزعمتم أنهم ينصرونكم ويشفعون لكم؟ { قَالَ ظ±لَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ ظ±لْقَوْلُ } أي قال رؤساءهم وكبراؤهم الذين وجب عليهم العذاب لضلالهم وطغيانهم { رَبَّنَا هَـظ°ؤُلاغ¤ءِ ظ±لَّذِينَ أَغْوَيْنَآ } أي هؤلاء أتباعنا الذين أضللناهم عن سبيلك { أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا } أي أضللناهم كما ضللنا، لا بالقسر والإِكراه ولكن بطريق الوسوسة وتزيين القبيح فضلّوا كما ضللنا نحن { تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ مَا كَانُوغ¤اْ إِيَّانَا يَعْبُدُونَ } أي تبرأنا إليك يا ألله من عبادتهم إيانا، فما كانوا يعبدوننا وإنما كانوا يعبدون أهواءهم وشهواتهم { وَقِيلَ ظ±دْعُواْ شُرَكَآءَكُمْ } أي وقيل للكفار استغيثوا بآلهتكم التي عبدتموها في الدنيا لتنصركم وتدفع عنكم عذاب الله، وهذا على سبيل التهكم بهم { فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ } أي فاستغاثوا بهم فلم يجيبوهم ولم ينتفعوا بهم، وهذا من سخافة عقولهم { وَرَأَوُاْ ظ±لْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ } أي وتمنَّوا حين شاهدوا العذاب لو كانوا مهتدين قال الطبري: أي فودُّوا حين رأوا العذاب لو أنهم كانوا في الدنيا مهتدين للحق { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَآ أَجَبْتُمُ ظ±لْمُرْسَلِينَ } توبيخٌ آخر للمشركين أي ويوم يناديهم الله ويسألهم: ماذا أجبتم رسلي؟ هل صدقتموهم أم كذبتموهم؟ { فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ ظ±لأَنبَـآءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لاَ يَتَسَآءَلُونَ } أي فخفيت عليهم الحجج، وأظلمت عليهم الأمور، فلم يعرفوا ما يقولون، فهم حيارى واجمون، لا يسأل بعضهم بعضاً عن الجواب لفرط الدهشة والحيرة { فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَىظ° أَن يَكُونَ مِنَ ظ±لْمُفْلِحِينَ } أي فأمّا من تاب من الشرك، وجمع بين الإِيمان والعمل الصالح فعسى أن يكون من الفائزين بجنات النعيم قال الصاوي: والترجي في القرآن بمنزلة التحقق، لأنه وعد كريم من ربٍّ رحيم، ومن شأنه تعالى أنه لا يخلف وعده { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ } أي هو تعالى الخالق المتصرف، يخلق ما يشاء ويفعل ما يريد، فلا اعتراض لأحدٍ على حكمه قال مقاتل: نزلت في " الوليد بن المغيرة " حين قال{*لَوْلاَ نُزِّلَ هَـظ°ذَا ظ±لْقُرْآنُ عَلَىظ° رَجُلٍ مِّنَ ظ±لْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ*}
[الزخرف: 31] { مَا كَانَ لَهُمُ ظ±لْخِيَرَةُ } أي ما كان لأحدٍ من العباد اختيار، إنما الاختيار والإِرادة لله وحده { سُبْحَانَ ظ±للَّهِ وَتَعَالَىظ° عَمَّا يُشْرِكُونَ } أي تنزَّه الله العظيم الجليل وتقدس أن ينازعه أحدٌ في ملكه، أو يشاركه في اختياره وحكمته قال القرطبي: المعنى وربك يخلق ما يشاء من خلقه، ويختار من يشاء لنبوته، والخيرة له تعالى في أفعاله، وهو أعلم بوجوه الحكمة، فليس لأحدٍ من خلقه أن يختار عليه { وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ } أي هو تعالى العالم بما تخفيه قلوبهم من الكفر والعداوة للرسول والمؤمنين، وما يظهرونه على ألسنتهم من الطعن في شخص رسوله الكريم حيث يقولون: ما أنزل الله الوحي إلا على يتيم أبي طالب! { وَهُوَ ظ±للَّهُ لاغ¤ إِلَـظ°هَ إِلاَّ هُوَ } أي هو جل وعلا اللهُ المستحقُ للعبادة، لا أحد يستحقها إلا هو { لَهُ ظ±لْحَمْدُ فِي ظ±لأُولَىظ° وَظ±لآخِرَةِ } أي له الثناء الكامل في الدنيا والآخرة، لأنه تعالى المتفضل على العباد بالنعم كلها في الدارين { وَلَهُ ظ±لْحُكْمُ } أي وله القضاء النافذ والفصل بين العباد { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } أي إليه وحده مرجع الخلائق يوم القيامة، فيجازي كل عاملٍ بعمله.

البَلاَغَة:
تضمنت الآياتُ الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:

1- التشبيه البليغ { بَصَآئِرَ لِلنَّاسِ } أي أعطيناه التوراة كأنها أنوار لقلوب الناس، حذف أداة الشبه ووجه الشبه فأصبح بليغاً قال في حاشية البيضاوي: أي مشبهاً بأنوار القلوب من حيث إن القلوب لو كانت خالية عن أنوار التوراة وعلومها لكانت عمياء لا تستبصر، ولا تعرف حقاً من باطل.

2- المجاز العقلي { أَنشَأْنَا قُرُوناً } المراد به الأمم لأنهم يخلقون في تلك الأزمنة فنسب إلى القرون بطريق المجاز العقلي.

3- جناس الاشتقاق { تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ }.

4- المجاز المرسل { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } والمراد بما كسبوا وهو من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل قال الزمخشري: ولما كانت أكثر الأعمال تزاول بالأيدي جعل كل عمل معبراً عنه باجتراح الأيدي.

5- حذف الجواب لدلالة السياق { وَلَوْلاغ¤ أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ } حذف منه الجواب وتقديره: ما أرسلناك يا محمد رسولاً إليهم وهو من باب الإِيجاز بالحذف.

6- التحضيض { لَوْلاغ¤ أُوتِيَ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ مُوسَىظ° } أي هلاَّ أُوتي فهي للتحضيض وليست حرف امتناع لوجود.

7- التعجيز { قُلْ فَأْتُواْ بِكِتَابٍ } فالأمر خرج عن حقيقته إلى معنى التعجيز.

8- طباقُ السلب { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي.. وَلَـظ°كِنَّ ظ±للَّهَ يَهْدِي }.

9- المجاز العقلي { حَرَماً آمِناً } نسب الأمن إلى الحرم وهو لأهله.

10- أسلوب السخرية والتهكم { أَيْنَ شُرَكَآئِيَ ظ±لَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ }؟.

11- التشبيه المرسل { أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا }.

12- الاستعارة التصريحية التبعية { فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ ظ±لأَنبَـآءُ } قال الشهاب: استعير العمى لعدم الاهتداء، فهم لا يهتدون للأنباء، ثم قلب للمبالغة فجعل الأنباء لا تهتدي إليهم وأصله " فعموا عن الأنباء " وضُمّن معنى الخفاء فعدي بـ { على } ففيه أنواعٌ من البلاغة: الاستعارة، والقلب، والتضمين. 13- الطباق بين { تُكِنُّ.. ويُعْلِنُونَ } وبين { ظ±لأُولَىظ°.. وَظ±لآخِرَةِ } وهو من المحسنات البديعية.

تنبيه:
ما ذُكر أن " أبا طالب " مات على غير الإِيمان هو الصحيح الذي دلّ عليه الكتاب والسنة، ونقل عن بعض شيوخ الصوفية أنه أسلم قبل موته، وهو معارضٌ للنصوص الكريمة ولعلهم أخذوه من بعض أشعار أبي طالب حيث يقول:
ولقد علمتُ بأنَّ دين محمدٍ
***
من خير أديان البرية ديناً
والله لن يصلوا إليك بجمعهم
***
حتى أُوسَّد في التراب دفيناً
أقول: ماذا يعني هذا الكلام بعد امتناعه عن الدخول في الإِسلام والنطق بالشهادة؟

أم سهام 2017-07-03 15:06

رد: تفسير سورة القصص
 
* تفسير صفوة التفاسير/ الصابوني (مـ 1930م -) مصنف و مدقق

{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ ظ±للَّهُ عَلَيْكُمُ ظ±لْلَّيْلَ سَرْمَداً إِلَىظ° يَوْمِ ظ±لْقِيَامَةِ مَنْ إِلَـظ°هٌ غَيْرُ ظ±للَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ } * { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ ظ±للَّهُ عَلَيْكُمُ ظ±لنَّهَارَ سَرْمَداً إِلَىظ° يَوْمِ ظ±لْقِيَامَةِ مَنْ إِلَـظ°هٌ غَيْرُ ظ±للَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلاَ تُبْصِرُونَ } * { وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ ظ±لَّيلَ وَظ±لنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } * { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ ظ±لَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } * { وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنَا هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوغ¤اْ أَنَّ ظ±لْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } * { إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىظ° فَبَغَىظ° عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ ظ±لْكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِظ±لْعُصْبَةِ أُوْلِي ظ±لْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ ظ±للَّهَ لاَ يُحِبُّ ظ±لْفَرِحِينَ } * { وَظ±بْتَغِ فِيمَآ آتَاكَ ظ±للَّهُ ظ±لدَّارَ ظ±لآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ظ±لدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ ظ±للَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ ظ±لْفَسَادَ فِي ظ±لأَرْضِ إِنَّ ظ±للَّهَ لاَ يُحِبُّ ظ±لْمُفْسِدِينَ } * { قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىظ° عِلْمٍ عِندِيغ¤ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ ظ±للَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ ظ±لْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ ظ±لْمُجْرِمُونَ } * { فَخَرَجَ عَلَىظ° قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ ظ±لَّذِينَ يُرِيدُونَ ظ±لْحَيَاةَ ظ±لدُّنْيَا يظ°لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } * { وَقَالَ ظ±لَّذِينَ أُوتُواْ ظ±لْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ ظ±للَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلاَ يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ظ±لصَّابِرُونَ } * { فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ ظ±لأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ ظ±للَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ ظ±لْمُنتَصِرِينَ } * { وَأَصْبَحَ ظ±لَّذِينَ تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ بِظ±لأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ ظ±للَّهَ يَبْسُطُ ظ±لرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلاغ¤ أَن مَّنَّ ظ±للَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ظ±لْكَافِرُونَ } * { تِلْكَ ظ±لدَّارُ ظ±لآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي ظ±لأَرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَظ±لْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } * { مَن جَآءَ بِظ±لْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَمَن جَآءَ بِظ±لسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى ظ±لَّذِينَ عَمِلُواْ ظ±لسَّيِّئَاتِ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } * { إِنَّ ظ±لَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ ظ±لْقُرْآنَ لَرَآدُّكَ إِلَىظ° مَعَادٍ قُل رَّبِّيغ¤ أَعْلَمُ مَن جَآءَ بِظ±لْهُدَىظ° وَمَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } * { وَمَا كُنتَ تَرْجُوغ¤ أَن يُلْقَىظ° إِلَيْكَ ظ±لْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيراً لِّلْكَافِرِينَ } * { وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ ظ±للَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَظ±دْعُ إِلَىظ° رَبِّكَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ظ±لْمُشْرِكِينَ } * { وَلاَ تَدْعُ مَعَ ظ±للَّهِ إِلَـظ°هاً آخَرَ لاَ إِلَـظ°هَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ ظ±لْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }


المنَاسَبَة:
لما ذكر تعالى أنه هو الخالق المختار، وسفَّه المشركين في عبادتهم لغير الله، عقَّبه بذكر بعض الأدلة والبراهين الدالة على عظمته وسلطانه، تذكيراً للعباد بوجوب شكر المنعم، ثم ذكر قصة " قارون " وهي قصة الطغيان بالمال، وما كان من نهايته المشئومة حيث خسف الله به وبكنوزه الأرض، وهذه هي نتيجة الاستعلاء والغرور والطغيان.

اللغَة:
{ سَرْمَداً } السرمد: الدائم الذي لا ينقطع ومنه قول طرفه:
لعمرك ما أمري عليَّ بغمةٍ
***
نهاري ولا ليلي عليَّ بسرمد
{ مَفَاتِحَهُ } جمع مفتح بالكسر وهو ما يفتح به، وأما المفتاح فجمعه مفاتيح. { تَنُوءُ } ناء به الحمل إذا أثقله حتى أماله قال ذو الرمَّة:
تنوء بأُخراها فلأْياً قيامها
***
وتمشي الهُوينى عن قريبٍ فتبهر
{ ظ±لْعُصْبَةِ } الجماعة الكثيرة ومثلها العصابة ومنه قوله تعالى
{*وَنَحْنُ عُصْبَةٌ*}
[يوسف: 8] سميت الجماعة عُصبة لأن بعضهم يتعصب لبعض ويتقوى به { وَيْكَأَنَّ } قال الجوهري: " ويْ " كلمةُ تعجب وقد تدخل على " كأن " فتقول: ويكأنَّ، وقيل إنها كلمة تستعمل عند التنبه للخطأ وإظهار الندم قال الخليل، إن القوم تنبهوا وقالوا نادمين على ما سلف منهم وَيْ { ظَهيراً } معيناً ومساعداً.

التفسِير:

{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ ظ±للَّهُ عَلَيْكُمُ ظ±لْلَّيْلَ سَرْمَداً إِلَىظ° يَوْمِ ظ±لْقِيَامَةِ } أي قل يا محمد لهؤلاء الجاحدين من كفار مكة: أخبروني لو جعل الله عليكم الليل دائماً مستمراً بلا انقطاع إلى يوم القيامة { مَنْ إِلَـظ°هٌ غَيْرُ ظ±للَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ }؟ أي من هو الإِله الذي يقدر على أن يأتيكم بالنور الذي تستضيئون به في حياتكم غيرُ الله تعالى؟ { أَفَلاَ تَسْمَعُونَ } أي أفلا تسمعون سماع فهمٍ وقبول فتستدلوا بذلك على وحدانية الله تعالى؟ { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ ظ±للَّهُ عَلَيْكُمُ ظ±لنَّهَارَ سَرْمَداً إِلَىظ° يَوْمِ ظ±لْقِيَامَةِ } أي أخبروني لو جعل الله عليكم النهار دائماً مستمراً بلا انقطاع { مَنْ إِلَـظ°هٌ غَيْرُ ظ±للَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ } أي من هو الإِله القادر على أن يأتيكم بليلٍ تستريحون فيه من الحركة والنصب غير الله تعالى؟ { أَفلاَ تُبْصِرُونَ } أي أفلا تبصرون ما أنتم عليه من الخطأ والضلال؟ ثم نبه تعالى إلى كمال رحمته بالعباد فقال { وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ ظ±لَّيلَ وَظ±لنَّهَارَ } أي ومن آثار قدرته، ومظاهر رحمته أن خلق لكم الليل والنهار يتعاقبان بدقةٍ وإحكام { لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } أي لتستريحوا بالليل من نصب الحياة وهمومها وأكدارها، ولتلتمسوا من رزقه بالمعاش والكسب في النهار { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي ولتشكروا ربكم على نعمه الجليلة التي لا تُحصى، ومنها نعمةُ الليل والنهار قال الإِمام الفخر: نبه تعالى بهذه الآية على أن الليل والنهار نعمتان يتعاقبان على الزمان، لأن المرء في الدنيا مضطر إلى أن يتعب لتحصيل ما يحتاج إليه، ولا يتم له ذلك لولا ضوء النهار، ولولا الراحة والسكون بالليل، فلا بدَّ منهما في الدنيا، وأما في الجنة فلا نصب ولا تعب فلا حاجة بهم إلى الليل، فلذلك يدوم لهم الضياء واللذات { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ ظ±لَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } قال ابن كثير: هذا نداءٌ ثانٍ على سبيل التوبيخ والتقريع لمن عبد مع الله إلهاً آخر، يناديهم الرب على رءوس الأشهاد: أين شركائي الذين زعمتموهم في الدنيا؟ { وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً } أي أخرجنا من كل أمةٍ شهيداً منهم يشهد عليهم بأعمالهم وهو نبيُّهم { فَقُلْنَا هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ } أي هاتوا حجتكم على ما كنتم عليه من الكفر، هذا إعذار لهم وتوبيخٌ وتعجيز { فَعَلِمُوغ¤اْ أَنَّ ظ±لْحَقَّ لِلَّهِ } أي فعلموا حينئذٍ أن الحقَّ لله ولرسله، وأنه لا إله إلا هو { وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } أي وغاب عنهم غيبة الشيء الضائع ما كانوا يتخرصونه في الدنيا من الشركاء والأنداد، ثم ذكر تعالى قصة " قارون " ونتيجة الغرور والطغيان فقال { إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىظ° } أي من عشيرته وجماعته قال ابن عباس: كان ابن عم موسى { فَبَغَىظ° عَلَيْهِمْ } أي تجبر وتكبر على قومه، واستعلى عليهم بسبب ما منحه الله من الكنوز والأموال قال الطبري: أي تجاوز حدَّه في الكبر والتجبر عليهم { وَآتَيْنَاهُ مِنَ ظ±لْكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِظ±لْعُصْبَةِ أُوْلِي ظ±لْقُوَّةِ } أي أعطيناه من الأموال الوفيرة، والكنوز الكثيرة ما يثقل على الجماعة أصحاب القوة حمل مفاتيح خزائنه لكثرتها وثقلها فضلاً عن حمل الخزائن والأموال والآية تصويرٌ لما كان عليه قارون من كثرة المال والغنى والثراء { إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ } أي لا تأشر ولا تبطر { إِنَّ ظ±للَّهَ لاَ يُحِبُّ ظ±لْفَرِحِينَ } أي لا يحب البطرين الذين لا يشكرون الله على إنعامه، ويتكبرون بأموالهم على عباد الله { وَظ±بْتَغِ فِيمَآ آتَاكَ ظ±للَّهُ ظ±لدَّارَ ظ±لآخِرَةَ } أي اطلب فيما أعطاك الله من الأموال رضى الله، وذلك بفعل الحسنات والصدقات والإِنفاق من الطاعات { وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ظ±لدُّنْيَا } قال الحسن: أي لا تضيّع حظك من دنياك في تمتعك بالحلال وطلبك إيّاه { وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ ظ±للَّهُ إِلَيْكَ } أي أحسن إلى عبادِ الله كما أحسن الله إليك { وَلاَ تَبْغِ ظ±لْفَسَادَ فِي ظ±لأَرْضِ } أي لا تطلب بهذا المال البغي والتطاول على الناس، والإِفساد في الأرض بالمعاصي { إِنَّ ظ±للَّهَ لاَ يُحِبُّ ظ±لْمُفْسِدِينَ } أي لا يحب من كان مجرماً باغياً مفسداً في الأرض { قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىظ° عِلْمٍ عِندِيغ¤ } لمَّا وعظه قومه أجابهم بهذا على وجه الرد عليهم والتكبر عن قبول الموعظة والمعنى: إنما أُعطيت هذا المال على علمٍ عندي بوجوه المكاسب، ولولا رضى الله عني ومعرفته بفضلي واستحقاقي له ما أعطاني هذا المال! قال تعالى رداً عليه { أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ ظ±للَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ ظ±لْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً } أي أولم يعلم هذا الأحمق المغرور أنَّ الله قد أهلك من قبله من الأمم الخالية من هو أقوى منه بدناً وأكثر مالاً؟! قال البيضاوي: والآية تعجبٌ وتوبيخ على اغتراره بقوته وكثرة ماله، مع علمه بذلك لأنه قرأه في التوراة، وسمعه من حفاظ التواريخ { وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ ظ±لْمُجْرِمُونَ } أي لا حاجة أن يسألهم الله عن كيفية ذنوبهم وكميتها لأنه عالمٌ بكل شيء، ولا يتوقف إهلاكه إياهم على سؤالهم بل متى حقَّ عليهم العذاب أهلكهم بغتة، ثم أشار تعالى إلى أن قارون لم يعتبر بنصيحة قومه، بل تمادى في غطرسته وغيِّه فقال تعالى { فَخَرَجَ عَلَىظ° قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ } أي فخرج قارون على قومه في أظهر زينةٍ وأكملها قال المفسرون: خرج ذات يوم في زينةٍ عظيمة بأتباعه الكثيرين، ركباناً متحلين بملابس الذهب والحرير، على خيولٍ موشحةٍ بالذهب، ومعها الجواري والغلمان في موكبٍ حافلٍ باهر { قَالَ ظ±لَّذِينَ يُرِيدُونَ ظ±لْحَيَاةَ ظ±لدُّنْيَا يظ°لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ قَارُونُ } أي فلما رآه ضعفاء الإِيمان ممن تخدعهم الدنيا ببريقها وزخرفها وزينتها قالوا: يا ليت لنا مثل هذا الثراء والغنى الذي أُعطيه قارون { إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } أي ذو نصيب وافرٍ من الدنيا { وَقَالَ ظ±لَّذِينَ أُوتُواْ ظ±لْعِلْمَ } أي وقال لهم العقلاء من أهل العلم والفهم والاستقامة { وَيْلَكُمْ ثَوَابُ ظ±للَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً } أي ارتدعوا وانزجروا عن مثل هذا الكلام فإن جزاء الله لعباده المؤمنين الصالحين خيرٌ مما ترون وتتمنَّون من حال قارون قال الزمخشري: أصل { وَيْلَكُ } الدعاء بالهلاك ثم استعمل في الزجر والردع، والبعث على ترك ما لا يرتضى { وَلاَ يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ظ±لصَّابِرُونَ } أي ولا يُعطى هذه المرتبة والمنزلة في الآخرة إلا الصابرون على أمر الله قال تعالى تنبيهاً لنهايته المشئومة { فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ ظ±لأَرْضَ } أي جعلنا الأرض تغور به وبكنوزه، جزاءً على عتوه وبطره { فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ ظ±للَّهِ } أي ما كان له أحد من الأنصار والأعوان يدفعون عنه عذاب الله { وَمَا كَانَ مِنَ ظ±لْمُنتَصِرِينَ } أي وما كان المنتصرين بنفسه بل كان من الهالكين { وَأَصْبَحَ ظ±لَّذِينَ تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ بِظ±لأَمْسِ } أي وصار الذين تمنوا منزلتُه وغناه بالأمس القريب بعد أن شاهدوا ما نزل به من الخسف { يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ ظ±للَّهَ يَبْسُطُ ظ±لرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ } أي يقولون ندماً وأسفاً على ما صدر منهم من التمني: اعجبوا أيها القوم من صنع الله، كيف أن الله يوسّع الرزق لمن يشاء من عباده - بحسب مشيئته وحكمته - لا لكرامته عليه، ويضيّق الرزق على من يشاء - لحكمته وقضائه ابتلاءً - لا لهوانه عليه!! قال الزمخشري: { وَيْكَأَنَّ } كلمتان " وَيْ " مفصولة عن " كأنَّ " وهي كلمة تنبيه على الخطأ وتندم، ومعناه أن القوم تنبهوا على خطئهم في تمنيهم منزلة قارون وتندموا وقالوا { لَوْلاغ¤ أَن مَّنَّ ظ±للَّهُ عَلَيْنَا } أل لولا أنَّ الله لطف بنا، وتفضَّل علينا بالإِيمان والرحمة، ولم يعطنا ما تمنيناه { لَخَسَفَ بِنَا } أي لكان مصيرنا مصير قارون، وخسف بنا الأرض كما خسفها به { وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ظ±لْكَافِرُونَ } أي أعجبُ من فعل الله حيث لا ينجح ولا يفوز بالسعادة الكافرون لا في ادنيا، ولا في الآخرة.
. وإلى هنا تنتهي " قصة قارون " وهي قصة الطغيان بالمال، بعد أن ذكر تعالى قصة الطغيان بالجاه والسلطان في قصة فرعون وموسى، ثم يأتي التعقيب المباشر في قوله تعالى { تِلْكَ ظ±لدَّارُ ظ±لآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي ظ±لأَرْضِ وَلاَ فَسَاداً } الإِشارة للتفخيم والتعظيم أي تلك الدار العالية الرفيعة التي سمعت خبرها، وبلغك وصفها هي دار النعيم الخالد السرمدي، التي فيها ما لا عينٌ رأتْ، ولا أُذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر، نجعلها للمتقين الذين لا يريدون التكبر والطغيان، ولا الظلم والعدوان في هذه الحياة الدنيا { وَظ±لْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } أي العاقبة المحمودة للذين يخشون الله ويراقبونه، ويبتغون رضوانه ويحذرون عقابه { مَن جَآءَ بِظ±لْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا } أي من جاء يوم القيامة بحسنةٍ من الحسنات فإن الله يضاعفها له أضعافاً كثيرة { وَمَن جَآءَ بِظ±لسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى ظ±لَّذِينَ عَمِلُواْ ظ±لسَّيِّئَاتِ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي ومن جاء يوم القيامة بالسيئات فلا يجزى إلا بمثلها، وهذا من فضل الله على عباده أنه يضاعف لهم الحسنات ولا يضاعف لهم السيئات { إِنَّ ظ±لَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ ظ±لْقُرْآنَ } أي إن الذي أنزل عليك يا محمد القرآن وفرض عليك العمل به { لَرَآدُّكَ إِلَىظ° مَعَادٍ } أي لرادُّك إلى مكة كما أخرجك منها، وهذا وعدٌ من الله بفتح مكة ورجوعه عليه السلام إليها بعد أن هاجر منها قال ابن عباس: معناه لرادك إلى مكة، وقال الضحال: لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة فبلغ الجُحْفة اشتاق إلى مكة، فأنزل الله عليه هذه الآية { قُل رَّبِّيغ¤ أَعْلَمُ مَن جَآءَ بِظ±لْهُدَىظ° وَمَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين: ربي أعلم بالمهتدي والضال هل أنا أو أنتم؟ فهو جلَّ وعلا الذي يعلم المحسن من المسيء، ويجازي كلاً بعمله، وهو جواب لقول كفار مكة: إنك يا محمد في ضلالٍ مبين { وَمَا كُنتَ تَرْجُوغ¤ أَن يُلْقَىظ° إِلَيْكَ ظ±لْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ } أي وما كنت تطمع أن تنال النبوة، ولا أن ينزل عليك الكتابُ ولكن رحمك الله بذلك ورحم العباد ببعثتك قال الفراء: وهذا استثناء منقطع والمعنىإلا أنّ ربك رحمك فأنزله عليك { فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيراً لِّلْكَافِرِينَ } أي لا تكن عوناً لهم على دينهم، ومساعداً لهم على ضلالهم، بالمداراة والمجاملة ولكن نابذهم وخالفهم قال المفسرون: دعا المشركون الرسول إلى دين آبائه، فأُمر بالتحرز منهم وأن يصدع بالحق، والخطابُ بهذا وأمثاله له عليه السلام، والمراد أمته لئلا يظاهروا الكفار ولا يوافقوهم { وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ ظ±للَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ } أي ولا تلتفت إلى هؤلاء المشركين، ولا تركن إلى قولهم فيصدوك عن اتباع ما أنزل الله إليك من الآيات البينات { وَظ±دْعُ إِلَىظ° رَبِّكَ } أي وادع الناس إلى توحيد ربك وعبادته { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ظ±لْمُشْرِكِينَ } أي بمسايرتهم على أهوائهم، فإن من رضي بطريقتهم كان منهم { وَلاَ تَدْعُ مَعَ ظ±للَّهِ إِلَـظ°هاً آخَرَ } أي لا تعبد إلهاً سوى الله { لاَ إِلَـظ°هَ إِلاَّ هُوَ } أي لا معبود بحقٍ إلا الله تعالى قال البيضاوي: وهذا وما قبله للتهييج وقطع أطماع المشركين عن مساعدته لهم { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } أي كل شيء يفنى وتبقى ذاتُه المقدسة، أطلق الوجه وأراد ذات الله جلَّ وعلا قال ابن كثير: وهذا إخبار بأنه تعالى الدائم الباقي، الحيُّ القيوم، الذي تموت الخلائق ولا يموت، فعبَّر بالوجه عن الذات كقوله

{*كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَىظ° وَجْهُ رَبِّكَ ذُو ظ±لْجَلاَلِ وَظ±لإِكْرَامِ*}
[الرحمن: 26-27] { لَهُ ظ±لْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } أي له القضاء النافذ في الخلق، وإليه مرجعهم جميعاً يوم المعاد لا إلى أحدٍ سواه.

البَلاَغَة:
تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:

1- التبكيت والتوبيخ { مَنْ إِلَـظ°هٌ غَيْرُ ظ±للَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ }؟ ومثله { يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ }؟.

2- اللَّف والنشر المرتب { وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ ظ±لَّيلَ وَظ±لنَّهَارَ } جمع الليل والنهار ثم قال { لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } فأعاد السكن إلى الليل، والابتغاء لطلب الرزق إلى النهار، ويسمى هذا عند علماء البديع اللف والنشر المرتب، لأن الأول عاد على الأول، والثاني عاد على الثاني وهو من المحسنات البديعية.

3- جناس الاشتقاق { لاَ تَفْرَحْ.. ظ±لْفَرِحِينَ } ومثله { ظ±لْفَسَادَ.. ظ±لْمُفْسِدِينَ }.

4- تأكيد الجملة بـ { إِنَّ } و (اللام) { إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } لأن السامع شاك ومتردّد.

5- الكناية { تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ بِظ±لأَمْسِ } كنَّى عن الزمن الماضي القريب بلفظ الأمس.

6- الطباق { يَبْسُطُ ظ±لرِّزْقَ.. وَيَقْدِرُ }.

7- المقابلة اللطيفة { مَن جَآءَ بِظ±لْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا } { وَمَن جَآءَ بِظ±لسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى.. } الآية.

8- المجاز المرسل { إِلاَّ وَجْهَهُ } أطلق الجزء وأراد الكل أي ذاته المقدسة ففيه مجاز مرسل.

لطيفَة:

قال بعض العلماء: من لم تشبعه القناعة لم يكفه ملك قارون وأنشدوا:
هي القناعة لا تبغي بها بدلاً
***
فيها النعيم وفيها راحةُ البدن
انظر لم ملك الدنيا بأجمعها
***
هل راح منها بغير القطن والكفن؟

خادم المنتدى 2017-08-26 17:35

رد: تفسير سورة القصص
 
http://www.karom.net/up/uploads/132550284012.gif


الساعة الآن 03:43

جميع المواد المنشورة بالموقع تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع ولا يتحمل أي مسؤولية عنها

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd