هي اسم جامع لما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة .
ومن أمثلتها : الصلاة والصيام والزكاة والحج والصدقة والشكر ونحوها .
فإن قيل : إذا كان كل ما يحبه الله داخلا في العبادة ، فلماذا عطف عليها غيرها كقوله تعالى :
" فاعبده وتوكل عليه" ؟
قلنا : هذا له نظائر ، فهو كقوله :
" إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى "
فإيتاء ذي القربى من العدل والإحسان ، فهو من عطف الخاص على العام .
المسألة الثانية : أهميتها ومكانتها :
تظهر أهمية العبادة وفضلها ومكانتها في أنها الغاية التي خلق الله لها الخلق . قال تعالى :
" وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " ، وبها أُرسل الرسل كما قال تعالى :
" ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت " ، وبتحقيقها يكمل المخلوق ، وهي الصفة التي وصف الله بها ملائكته وأنبيائه ونعت بها صفوة خلقه ، ووصف بها النبي صلى الله عليه وسلم في أكمل أحواله كحال الإسراء . قال تعالى :
"سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير " ، وجعل ذلك لازما له حتى الموت ، ولذلك فمن توهم أن المخلوق يخرج من العبودية بوجه من الوجوه فهو أضل الخلق وأجهلهم .
ولو نظرنا لوجدنا أن الدين كله داخل في العبادة كما دل على ذلك حديث جبريل الطويل ، وكذلك فالدين يتضمن الذل والخضوع إضافة إلى أن العبادة في أصل معناها : الذل ، وعبادة الله تشمل الذل والمحبة غايتهما ، فإن الذل بلا محبة أو المحبة بلا ذل لا تسمى عبادة .
والعبادة أمر اختُص الله به ، فلا يعبد غيره ، فإن جنس المحبة والطاعة الإرضاء والإيتاء لله ورسوله ، أما العبادة وما يناسبها فهي لله وحده .
المسألة الثالثة : أقسام العباد :
ولتقسيم العباد طرق كثيرة ، وسيتم تقسيمها باعتبار العبودية :
1- عبد عبودية كونية :
وهو مأخوذ من أن العبد مذلل لله خاضع له داخل في تصرفه ، ويدخل في ذلك الأبرار والفجار ، والمؤمنون والكفار ، سواء أقروا بها أو لا .
2- عبد عبودية شرعية :
وهو مأخوذ من أن العبد عابد لله طائع له متبع لأوامره ، وهذا هو الفرق بين المؤمنين والكفار .
وقد ضل كثير باعتقاد أن العبادة هي النوع الأول ، وما علموا أن رأس الكفر إبليس كان مقرا بالقسم الأول حيث قال تعالى في قصته عند رفضه السجود لآدم :
" رب فأنظرني إلى يوم يبعثون "، ومع ذلك فلم يدخله ذلك الجنة .
وألا يعبده إلا بما شرع .
المسألة الخامسة : التفاضل بالإيمان :
تبين لنا مما سبق أن العباد يتفاضلون في عبوديتهم لله تفاضلا عظيما ، ولنعلم أنهم ينقسمون في تلك العبودية إلى عام وخاص ، ولهذا كانت ربوبية الرب لهم فيها عموم وخصوص .
وهذا يتضح في تعلقات القلب بغير الله من مال وصورة ونحوها ، ومن ذلك :
تعلقه بغير الله في طلب حوائجه وقضاء أموره ، وهذا مما يضعف من عبوديته لله تعالى ، فإنه كلما قوي طمع العبد في الله وفضله ورحمته قويت عبوديته له وحريته مما سواه ،كما قيل : ( استغن عمن شئت تكن نظيره ، وأفضل إلى من شئت تكن أميره ، واحتج إلى من شئت تكن أسيره ) ، ولذلك فكل من علق قلبه بالمخلوقين صار عبدا لهم ، وإن كان في الظاهر أميرا أو رئيسا ، لكنه في الحقيقة مملوكا أسيرا ، بل إن ما هو فيه من الأسر أعظم من أسر البدن ، فإن المأسور بدنه مطمئن وقد يحتال للخلاص ، أما هذا فأنى له الخلاص ؟ إضافة إلى أن عبودية القلب وأسره هي التي يترتب عليها العقاب والثواب لا عبودية البدن وأسره ، فالحرية حرية القلب والعبودية عبودية القلب .
ومن أعظم أسباب تعلق القلب بغير الله : إعراض القلب عن الله ، فإن القلب إذا ذاق طعم عبودية الله والإخلاص له لم يكن عنده شيء قط أحلى من ذلك ، ولا ألذ ولا أمتع ولا أطيب .
ومتطلبات العبد نوعان :
1- ما يحتاج إليه العبد ، فهذا يطلبه من الله ، ويكون المال عنده فيستعمله وقت حاجته .
2- ما لا يحتاج إليه العبد ، فهذا لا ينبغي أن يعلق قلبه به ، فإذا علق قلبه به صار مستعبدا له ، وربما صار معتمدا على غير الله فلا يبقى معه حقيقة العبادة لله .
ولذلك فإن العبد إذا علق قلبه بالله أحب كل ما يحبه الله ووالاه ؛ لأن ذلك من مقتضى المحبة ، ثم كان لازما عليه تنفيذ ما أمره به محبوبه حتى يتحقق كمال المحبة ، ولذلك جعل الله لأهل محبته علامتين :
اتباع الرسول ، والجهاد في سبيل الله ، ومعلوم أن الحب يحرك إرادة القلب ، فكلما قويت المحبة قويت الإرادة فحصل العمل والتنفيذ ، ولذلك فالمحبون للرئاسة والصور والمال لا ينالون مطالبهم إلا بضرر يلحقهم في الدنيا ، ومع ذلك هان عليهم الضرر في سبيل تحقيق مطلوبهم .
ولنعلم أن القلب فقير بالذات إلى الله من جهتين :
من جهة العبادة ، ومن جهة التوكل والاستعانة ،
فالعبد مهما حصل له من الملذات لم يطمئن حتى يسكن بعبوديته إلى ربه وخالقه ، وهذا لا يحصل إلا بإعانة الله له ، ولذلك فهو يدعو دائما : إياك نعبد وإياك نستعين ، وهو مستسلم لله وحده منقاد له .
ومن فطرة الإنسان أنه يتحرك بالإرادة ، فلا بد له من شيء يحبه ويتوجه إليه ويعبده ، فإذا لم يعبد الله فلا بد أن يعبد غيره، ومن عبد غيره كان مشركا ، وإذا أخلص العبادة لله تبرأ وابتعد عن الشرك وسبله ، وحقق العبودية التامة لله ، وهي العبودية التي أسلمت لها جميع الكائنات طوعا أو كرها ، وهي منهاج إبراهيم عليه السلام الذي أمر البشر باتباعه والاقتداء به ، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم في أعلى مراتب المحبة لله وهي الخلة ، وذلك أنه حقق عبودية الله حقاً ، ولكن لنعلم أنه لابد مع المحبة من الخوف والرجاء ، ولذلك قال بعض السلف : ( من عبد الله بالحب فهو زنديق ، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ ، ومن عبده بالخوف وحد فهو حروري ، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد ) .
وليست محبة الله مجرد كلام كما يقوله البعض ، بل قد امتحن الله من ادعى محبته بآية الامتحان ، فقال :
" قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم "،
فعلّق المحبة بالاتباع ، وقد فهم ذلك أصحاب البي صلى الله عليه وسلم ، فكانوا أكمل الأمة ، فمن كان بهم أشبه كان في ذلك أكمل .
أما من زعم المحبة وهو واقع في المحرمات ، ومنغمس في البدع المضلات فقد كذّب نفسه ، ودعواه هذه من جنس دعوى اليهود والنصارى حين قالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه ، بل ربما أشر .
والله سبحانه يبغض الكافرين ، ويحب من يحبه ، فيحب العبد بقدر محبته له وإن كان جزاؤه لعبده أعظم ، وكلما ازداد العبد طاعة لله ازدادت محبة الله له ، وعلى العكس فكل عمل لا يراد به وجه الله فهو باطل ، وكل محبة ليست لله فهي باطلة ،
فالدنيا ملعونة ملعون ما فيها خلا ذكر الله وما والاه .
ولذلك فإن أجمل ما في الدنيا محبة الله ، فإن العبد إذا ذاق محبة الله انجذب إليه ، فأصبح منيبا خاشعا خائفا ، وأعرض عن معاصيه فصُرف عنه السوء والفحشاء ، وهدي طريق الحق والصواب .
المسألة السادسة : في الفرق بين الخالق والمخلوق :
بالغ بعض أهل البدع في موضوع المحبة حتى سووا بين الخالق والمخلوق ، فوقعوا في أبطل الباطل ، وسموا ذلك : (الفناء) ، والفناء ثلاثة أنواع :