2016-12-13, 13:09
|
رقم المشاركة : 13 |
إحصائية
العضو | | | رد: ذكرى نبوية عطرة | أعجبتني خطبة الجمعة بمناسبة المولد النّبوي الشّريف للشّيخ الجزائري البشير الإبراهيمي بتلمسان، لذلك ارتأيت أن أتقاسمها معكم إخوتي أخواتي ، يقول الخطيب :
قرأت كثيرا مما فاضت به قرائح الشّعراء من القصائد المولديّة الّتي يذّكرون المسلمين في نشأة دينهم ويجدّدون عهدهم فيها بميلاد نبيّهم، فوجدت كلّ أولئك الشّعراء لا يخرجون عن دائرة تقليدية اتّبع فيها آخرهم أوّلهم، وهي ذكر الخوارق الّتي صحبت مولده صلى الله عليه وسلم، ثمّ يتلخّصون إلى مدحه والتّوسل به وذكر شمائله وأوصافه الذّاتية، وقليلا من أخلاقه النّفسية؛ ممّا لا يثير في النّفس حركة ولا يحملها على قدوة ولا يستفزّها إلى عمل، ثمّ يصفون ليلة الميلاد أوصافا خيالية شاعريّة يزيّنونها بالمبالغة والإغواء، كأنّهم –عفا الله عنهم- لا يدرون أنّهم يحيون ذكريات عمليّة تنبني عليها أجيال مجهزّة لمستقبل، وأنّ تلك الأجيال رهينة بما يصوّرون لها من تاريخ، ويخطّطون لها من أمثلة، ويضربون لها من أمثال، وإنّما هم شعراء يقولون ما يلذّ في الأسماع لذّة منقطعة ويؤثّرون في العواطف تأثيرا محدودا.
وكنت قليل التّأثّر بتلك المولديّات لسلوكها مسلكا واحدا من الوصف والمدح والإكثار من الخوارق وحشر الغرائب- ما يُعقل منها وما لا يعقل-، مع أنّ إثبات تلك الغرائب من طريق الإسناد والرواية ممّا لا مطمع فيه.
وما زلت أستثقل تلك المبالغات من المرحلة الأولى من مراحل سنّي وإدراكي، وما زلت أحسّ بأنّ في نفسي تشوّقا إلى شيء وراء تلك المبالغات، هو بيان سرّ عظمة هذه اللّيلة من بين اللّيالي، إذ تملأ هذه العظمة نفسي ولأتبين أسبابها وبواعثها، حتّى قرأت قول شوقي في مطلع قصيدته الهمزية:
ولد الهدى فالكائنات ضياء******وفم الزمان تبسّم وثناء
قرأت هذا البيت ووقفت عنده أتأمله وأستجلي معانيه، فمحا كلّ ما في نفسي من آثار تلك المبالغات، بل محا كلّ ما في ذاكرتي من جميع ما قرأته من القصائد المولديّة، وكشف لي هذا البيت الواحد عن سرّ عظمة هذه اللّيلة وفضلها على اللّيالي.
وإنّ من يحب أن يستجلي حقيقة هذه الليلة يجب عليه أن يستعرض تاريخا كاملا، هو تاريخ البشريّة قبل الإسلام بجميع أجناسها ولغاتها وعاداتها وأديانها وأنظمها في الحياة ومذاهبها في التّفكير وموازين العقل عندها، فإذا هو فَعَل ذلك ووازن بين ذلك الطّور الذي انتقلت إليه البشريّة بعد الإسلام بسبب الإسلام، حينما زحف أبناء الجزيرة على الشّرق والغرب يحملون هدي الإسلام وعدله وميزانه وأخلاقه وعقائده وفرقانه، ويعملون على نشرها بين الأمم وتثبيتها في النفوس، إذا هو فَعل ذلك عرف-مثلما عرفت- سرّ عظمة هذه اللّيلة، وعرف أنّ القافلة الإنسانيّة ما زالت منذ آدم تتخبّط في ظلمات من الجهل والشّرّ والفوضى، تسير فلا تسير إلاّ إلى الهلاك، وتقيم فلا تقيم إلاّ على الضّيم، وطالما ارتفعت أصوات الحقّ في أطرافها من المرسلين، والحكماء، فضاعت تلك الأصوات بين غوغاء الباطل، أعضلت أمراضها، وعجز أطبائها، واستفحل الشّرّ بين أفرادها، وتخاذل العقل أمام الوهن، وتهافتت الحقائق أمام الشّبه، وطغت الحيوانيّة بما فيها من تكالب ونهم وغرائز سافلة، فجاء العدوان والظّلم والتّناحر والقتال والمطامع.
فكانت على كلّ ذلك في أشدّ الحاجة إلى هادٍ يهديها إلى سبيل الحقّ، وإلى حام يحميها من عدوان الباطل، وكان من قدر الله أن يكون ذلك الهادي محمدا صلى الله عليه وسلم ، ودينه الاسلام، وكانت ليلة الميلاد بذلك غرّة في الليالي الدّهم.
أيّها السّادة:
إنّ بيت شوقي يصوّر الحالة السّائدة في العالم قبل الإسلام، وأنّها ضلال في ضلال وظلام في ظلام، وكذلك كانت هي، ويصوّر ولادته صلى الله عليه وسلم ولادةَ الهدى الماحي لذلك الظلال، فهي ليلة لم يولد فيها رجل، ولو كانت كذلك لما كان لها فضل على بقية اللّيالي، ولكنها ليلة ولد فيها الهدى بأكمله والرّحمة بأجمعها.
وإنّ الإسلام الذي جاء به محمد بن عبد الله لهو الهدى الكامل لبني آدم كلهم، والرّحمة الشّاملة لجميعهم، وإنّ العالم كلّه في ذلك الوقت كان متعطّشا متشوقا إلى رحمة الله لما أعوزته الرحمة من أفراده، ولقد أصاب مطلوبه، ونال مرغوبه في آية واحدة من القرآن الكريم، إنّ آية جامعة للجناحين الّذي يطير بهما الإنسان وهما الأمر والنّهي، وما زالت سعادة الإنسان وشقاؤه معلّقين على ما يفعله وما يتركه، فيسعد إذ فعل الخير، ويشقى إذ عكس القضية.
أيّها السّادة:
حقيقة ما يصوّره شوقي في ولادة الهدى ليلة ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما يصوّره من استنارة الكائنات، كأنّ الفجر طلع على الدّنيا بنوره وإشراقه فمحا الظلم وأحيا الأمم وملأ الكون بهجة وبشاشة ورونقا، وصحيح ما تخيله شوقي من أنّ للزّمان فماً كان مطبقا على مَضَض، ولسانا كان مفحما بالشّر ملجما بالباطل، فكانت ليلة ميلاده صلى الله عليه وسلم مصحوبة بالهدى والحقّ والنّور، سببا في تبسّم فم الزّمان وافتراره وفي إطلاق لسانه بالثناء وانتشاره، ولقد كان الزمان عابسا لما يقع من شرور بني آدم وضلالهم، فلا عجب أن يتهلّل ويستبشر حينما تمخضت إحدى لياليه عن ميلاد سيد البشر الذي جاء بالهدى ودين الحقّ.
ليس السّر-أيّها السّادة- في أنّ مولودا ولد، ولو في بيت رفيع العماد كبيت عبد المطلب، وهو من هو في بني هاشم، وهاشم هو من هو في قريش، وقريش سنام العرب وعمّار البطحاء وسدنة بيت إبراهيم. وكم من مولود ولد في تلك الليلة وفي أمثالها من اللّيالي، فما زانوها ولا زانتهم، ولا زادوا الوجود الذي أتوه شيئا، ولا نقصوا العدم الذي فارقوه نقطة، ولا زادوا في سجلّ التّاريخ حرفا.
إنّما السّر الّذي يجب أن يتبيّنه السّامعون الواعون هو أنّ هذه الليلة ولد فيها الهدى الّذي محق الضّلال، وولد فيها الحقّ الّذي محا الباطل، وولد فيها النّور الّذي نسخ الظّلام، وولد فيها التّوحيد الّذي أمات الوثنية، وولدت فيها الحرية الّتي انتقمت من العبودية، وولد فيها التّساوي الّذي قضى على الأَثَرة والأنانيّة، وولد فيها التآخي الّذي أبطل البغي والعدوان، وولدت فيها الرّحمة الّتي قضت على القسوة والجبروت وعلى البخل وآثاره، وولدت فيها الشّجاعة الّتي تنصر الحقيقة وتمهّد الطريقة، وبالإجمال ولد فيها الإسلام وما أدراكم ما الإسلام.
أيّها السّادة:
هذه بعض الذّكريات الّتي توحيها إلينا ليلة المولد النّبوي، فتثير الهمم الرواكد، وتستفزّ العزائم الفاترة، وتصحّح ما اندثر من الحقائق والعقائد، أحيوا هذه الذّكريات في نفوسكم ونفوس أبنائكم وبناتكم، تحيوا ويحيوا مسلمين صالحين مصلحين هادين إلى الحقّ مهديين به. | التوقيع | أيها المساء ...كم أنت هادئ | |
| |