منتديات الأستاذ التعليمية التربوية المغربية : فريق واحد لتعليم رائد

منتديات الأستاذ التعليمية التربوية المغربية : فريق واحد لتعليم رائد (https://www.profvb.com/vb/)
-   تفسير (https://www.profvb.com/vb/f297.html)
-   -   تفسير سورة هود (https://www.profvb.com/vb/t167296.html)

أم سهام 2016-06-04 12:17

تفسير سورة هود
 
* تفسير صفوة التفاسير/ الصابوني (مـ 1930م -) مصنف و مدقق
{ الۤر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } * { أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ ٱللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ } * { وَأَنِ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَّتَاعاً حَسَناً إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ } * { إِلَى ٱللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } * { أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } * { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } * { وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَق ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى ٱلْمَآءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ ٱلْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } * { وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ ٱلْعَذَابَ إِلَىٰ أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ } * { وَلَئِنْ أَذَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ } * { وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَآءَ بَعْدَ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ ٱلسَّيِّئَاتُ عَنِّيۤ إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ } * { إِلاَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } * { فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَآءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَآ أَنتَ نَذِيرٌ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } * { أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَٰتٍ وَٱدْعُواْ مَنِ ٱسْتَطَعْتُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } * { فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّمَآ أُنزِلَ بِعِلْمِ ٱللَّهِ وَأَن لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ } * { مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ } * { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ إِلاَّ ٱلنَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } * { أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىٰ إِمَاماً وَرَحْمَةً أُوْلَـٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ ٱلأَحْزَابِ فَٱلنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ } * { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً أُوْلَـٰئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَىٰ رَبِّهِمْ وَيَقُولُ ٱلأَشْهَادُ هَـٰؤُلاۤءِ ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَىٰ رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّالِمِينَ } * { ٱلَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بِٱلآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ } * { أُولَـٰئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي ٱلأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ ٱلْعَذَابُ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ ٱلسَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ } * { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } * { لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ هُمُ ٱلأَخْسَرُونَ } * { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوۤاْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } * { مَثَلُ ٱلْفَرِيقَيْنِ كَٱلأَعْمَىٰ وَٱلأَصَمِّ وَٱلْبَصِيرِ وَٱلسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ }

اللغة:
{ أُحْكِمَتْ } الإِحكام: المنعُ من الفساد يقال: أحكم الأمر إِذا أتى به على وجه لا يتطرأ إِليه خلل أو فساد { مُسْتَقَرَّهَا } المكان الذي تأوي إِليه في الدنيا { مُسْتَوْدَعَهَا } المكان الذي تصير إِليه بعد الموت { أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ } الأمة هنا بمعنى المدة من الزمن أي مدة محدودة من السنين قال القرطبي: والأُمَّة اسم مشترك يطلق على ثمانية أوجه: الجماعة، الملة، الرجل الجامع للخير، الحين والزمن، أتباع الأنبياء الخ { مِرْيَةٍ } شك وارتياب { وَضَلَّ } ضاع وتلاشى { لاَ جَرَمَ } كلمة واحدة بمعنى حقاً وهو قول الخليل وسيبويه { وَأَخْبَتُوۤاْ } خشعوا وخضعوا والإِخباتُ: الذل والخضوع { ٱلأَصَمِّ } الذي لا يسمع وبه صمم.

سَبَبُ النُّزول:
ذكر القرطبي عن ابن عباس أن " الأَخْنس بن شريق " كان رجلاً حلو الكلام وحلو المنطق، يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يحب، وينطوي له بقلبه على ما يسوء فأنزل الله { أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ.. } الآية.

التفسِير:

{ الۤر } إِشارة إِلى إِعجاز القرآن، وأنه مركب من أمثال هذه الحروف الهجائية، وعن ابن عباس أن معناه: أنا الله أرى { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ } أي هو كتابٌ جليل القدر، نظمت آياته نظماً محكماً، لا يلحقه تناقضٌ ولا خلل { ثُمَّ فُصِّلَتْ } أي بُيّنت فيه أمور الحلال والحرام، وما يحتاج إِليه العباد في أمور المعاش والمعاد { مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } أي من عند الله فصَّلها وبيَّنها الخبير العالم بكيفيات الأمور، ولذا كانت محكمة أحسن الإِحكام ومفصلة أحسن التفصيل { أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ ٱللَّهَ } أي لئلا تعبدوا إِلا الله { إِنَّنِي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ } أي إِنني مرسلٌ إِليكم من جهته تعالى، أنذركم بعذابه إِن كفرتم، وأبشركم بثوابه إن آمنتم { وَأَنِ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ } أي استغفروه من الذنوب وأخلصوا التوبة واستقيموا عليها بالطاعة والإِنابة { يُمَتِّعْكُمْ مَّتَاعاً حَسَناً } أي يمتعكم في هذه الدنيا بالمنافع الجليلة من سعة الرزق، ورغَد العيش { إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى } أي إِلى وقتٍ محدَّد هو انتهاء أعماركم { وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ } أي ويعطي كل محسنٍ في عمله جزاء إِحسانه { وَإِن تَوَلَّوْاْ } أي وإِن تتولوا عن الإِيمان وتُعرضوا عن طاعة الرحمن { فَإِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ } أي أخاف عليكم عذاب يوم القيامة، ووصف العذاب بأنه كبير لما فيه من الأهوال الشديدة { إِلَى ٱللَّهِ مَرْجِعُكُمْ } أي إِليه جلَّ وعلا رجوعكم بعد الموت { وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي قادر على إِماتتكم ثم إِحيائكم وعلى معاقبة من كذَّب لا يعجزه شيء، وفي الآية تهديد عظيم { أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ } قال ابن عباس: نزلت في الأخنس بن شريق كان يجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحلف أنه ليحبه ويضمر خلاف ما يظهر وقال القرطبي: أخبر عن معاداة المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ويظنون أنه تخفى على الله أحوالهم والمعنى إِنهم يطوون صدورهم على عداوة النبي والمؤمنين، يريدون بذلك أن يستخفوا من الله حتى لا يفتضح أمرهم { أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ } أي حين يتغطون بثيابهم { يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } أي يعلم تعالى ما يُبْطنون وما يُظهرون وكأن الآية تقول: لا تظنوا أن تغطيتكم تحجبكم عن الله بل الله يعلم سرائركم وظواهركم لا تخفى عليه خافية من أحوالكم { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } أي عالم بما في القلوب { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا } أي ما من شيء يدب على وجه الأرض من إِنسان أو حيوان إِلا تكفَّل الله برزقه تفضلاً منه تعالى وكرماً، فكما كان هو الخالق كان هو الرازق { وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا } قال ابن عباس: مستقرها حيث تأوي إِليه من الأرض، ومستودعها الموضع الذي تموت فيه فتدفن { كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } أي كلٌّ من الأرزاق، والأقدار، والأعمار، مسطَّرٌ في اللوح المحفوظ { وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَق ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } أي خلقها في مقدار ستة أيام من أيام الدنيا، وفيه الحث للعباد على التأني في الأمور فإِن الإِله القادر على خلق الكائنات بلمح البصر خلقها في ستة أيام { وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى ٱلْمَآءِ } أي وكان العرش قبل خلقهما على الماء قال الزمخشري: أي ما كان تحته خلق، وفيه دليل على أن العرش والماء كانا مخلوقين قبل السماوات والأرض { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } أي خلقهن لحكمة بالغة ليختبركم فيظهر المحسنُ من المسيء، ويجازيكم حسب أعمالكم { وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ ٱلْمَوْتِ } أي ولئن قلت يا محمد لأولئك المنكرين من كفار مكة إِنكم ستبعثون بعد موتكم للحساب { لَيَقُولَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } أي ليقولنَّ الكفار المنكرون للبعث والنشور ما هذا القرآن إِلا سحرٌ واضح مكشوف { وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ ٱلْعَذَابَ إِلَىٰ أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ } أي إِلى مدةٍ من الزمن قليلة { لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ } أي ليقولُنَّ استهزاءً ما يمنعه من النزول؟ { أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ } أي ألا فلينتبهوا فإِنه يوم يأتيهم العذاب ليس مدفوعاً عنهم { وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ } أي نزل وأحاط بهم جزاء ما كانوا به يستهزئون { وَلَئِنْ أَذَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً } أي أنعمنا على الإِنسان بأنواع النعم من الصحة، والأمن، والرزق وغيرها من النعم { ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ } أي ثم سلبنا تلك النعم منه { إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ } أي قنوط من رحمة الله، شديد الكفر به { وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَآءَ بَعْدَ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ } أي ولئن منحنا الإِنسان نعمة من بعد ما نزل به من الضر، وما أصابه من البلاء، كالفقر والمرض والشدة { لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ ٱلسَّيِّئَاتُ عَنِّيۤ } أي انقطع الفقر والضيق والمصائب ولن تصيبني بعد اليوم { إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ } أي بطرٌ بالنعمة مغترٌ بها، متعاظم على الناس بما أُوتي، والآيةُ ذمٌ لمن يقنط عند الشدائد، ويبطر عند النعم { إِلاَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } أي هذه عادة الإِنسان إِلا المؤمنين الذين يصبرون على الضراء، ويفعلون الخير في النعماء، فهم في حالتي المحنة والنعمة محسنون { أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } أي أولئك الموصوفون بالصفات الحميدة لهم مغفرةٌ لذنوبهم، وأجر كبيرٌ في الآخرة هو الجنة قال في البحر: ووصف الثواب بأنه كبير وذلك لما احتوى عليه من النعيم السرمدي، والأمن من العذاب، ورضا الله عنهم، والنظر إِلى وجهه الكريم { فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ } كان المشركون يقترحون على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي بكنز أو يأتي معه ملك، وكانوا يستهزئون بالقرآن فقال الله تعالى له: فلعلك يا محمد تاركٌ بعض ما أُنزل إِليك من ربك فلا تبلغهم إِيَّاه لاستهزائهم { وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ } أي ويضيق صدرك من تبليغهم ما نزل عليك من ربك خشية التكذيب، والغرضُ تحريضُه صلى الله عليه وسلم على تبليغ الرسالة وعدم المبالاة بمن عاداه { أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ } أي لأجل أن يقولوا هلاّ أُنزل عليه مالٌ كثير { أَوْ جَآءَ مَعَهُ مَلَكٌ } أي جاء معه ملك يصدّقه كما اقترحنا، قال تعالى محدّداً مهمته عليه السلام { إِنَّمَآ أَنتَ نَذِيرٌ } أي لست يا محمد إِلا منذراً تخوّف المجرمين من عذاب الله { وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } أي قائم على شئون العباد يحفظ عليهم أعمالهم { أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ } أي بل أيقولون اختلق محمد هذا القرآن وافتراه من عند نفسه؟ { قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ } أي إِن كان الأمر كذلك فأتوا بعشر سور مثله في الفصاحة والبلاغة مفتريات فأنتم عرب فصحاء { وَٱدْعُواْ مَنِ ٱسْتَطَعْتُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ } أي استعينوا بمن شئتم غير الله سبحانه { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } في أنَّ هذا القرآن مفترى { فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّمَآ أُنزِلَ بِعِلْمِ ٱللَّهِ } أي فإِن لم يستجب لكم من دعوتموهم للمعاونة وعجزوا عن ذلك فاعلموا أيها المشركون أنما نزل هذا القرآن بوحيٍ من الله { وَأَن لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } أي لا ربّ ولا معبود إلا الله الذي أنزل هذا القرآن المعجز { فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ } لفظه استفهام ومعناه أمرٌ أي فأسلموا بعد ظهور هذه الحجة القاطعة إِذ لم يبق لكم عذر مانع من ذلك، قال في التسهيل: الاستفهام معناه استدعاءٌ إِلى الإِسلام، وإِلزامٌ للكفار أن يسلموا لما قام الدليل على صحة الإِسلام لعجزهم عن الإِتيان بمثل القرآن { مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا } أي من كان يقصد بأعماله الصاحلة نعيم الدنيا فقط لأنه لا يعتقد بالآخرة { نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا } أي نوفّ إِليهم أجور أعمالهم بما يحبون فيها من الصحة والأمن والرزق { وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ } أي وهم في الدنيا لا يُنقصون شيئاً من أجورهم قال قتادة: من كانت الدنيا همَّه ونيّته جازاه الله بحسناته في الدنيا، ثم يُفضي إِلى الآخرة وليس له حسنة يُعطى بها، وأما المؤمن فيُجازى بحسناته في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ إِلاَّ ٱلنَّارُ } أي هؤلاء الذين هدفهم الدنيا ليس لهم في الآخرة إِلا نار جهنم وعذابها المخلَّد { وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا } أي بطل ما صنعوه من الأعمال الصالحة لأنهم قد استوفوا في الدنيا جزاءها { وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } تأكيدٌ لما سبق أي باطل ما كانوا يعملون في الدنيا من الخيرات { أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ } أي أفمن كان على نور واضح، وبرهان ساطع من الله تعالى، وهو النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون، وجوابه محذوف أي كمن كان يريد الحياة الدنيا؟ يريد أن بينهما تفاوتاً كبيراً، وتبايناً بعيداً، فلا يستوي من أراد الله، ومن أراد الدنيا وزينتها { وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ } أي ويتبعه شاهد من الله بصدقه قال ابن عباس: هو جبريل عليه السلام { وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىٰ إِمَاماً وَرَحْمَةً } أي ومن قبل القرآن كتاب التوراة الذي أنزله الله على موسى قدوةً في الخير ورحمة لمن نزل عليهم { أُوْلَـٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } أي أولئك الموصوفون بأنهم على نور من ربهم يصدّقون بالقرآن حق التصديق { وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ ٱلأَحْزَابِ فَٱلنَّارُ مَوْعِدُهُ } أي ومن يكفر بالقرآن من أهل الملل والأديان، فله نار جهنم يردها لا محالة { فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ } أي فلا تكن في شكٍ من هذا القرآن { إِنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ } أي إِنه الحق الثابت المنزّل من عند الله { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ } أي لا يصدّقون أنه تنزيل رب العالمين { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً } أي لا أحد أطغى ولا أظلم ممن اختلق الكذب على الله بنسبة الشريك والولد إِليه { أُوْلَـٰئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَىٰ رَبِّهِمْ } أي يُعرضون يوم القيامة في جملة الخلق على خالقهم ومالكهم { وَيَقُولُ ٱلأَشْهَادُ هَـٰؤُلاۤءِ ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَىٰ رَبِّهِمْ } أي ويقول الخلائق والملائكة الذين يشهدون على أعمالهم هؤلاء الذين كذبوا على الله، والغرضُ فضيحتهم في الدار الآخرة على رءوس الأشهاد والتشهيرُ بهم خزياً ونكالاً { أَلاَ لَعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّالِمِينَ } لظلمهم وافترائهم على الله، واللعنةُ: الطرد من رحمة الله { ٱلَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } أي يمنعون الناس عن اتِّباع الحق، وسلوك سبيل الهدى الموصل إِلى الله { وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً } أي ويريدون أن تكون السبيل معوّجة أي يبغون أن يكون دين الله معوجاً على حسب أهوائهم { وَهُمْ بِٱلآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ } أي جاحدون بالآخرة منكرون للبعث والنشور { أُولَـٰئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي ٱلأَرْضِ } أي ليسوا مفلتين من عذاب الله وإِن أمهلهم { وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ } أي ليس لهم من يتولاهم أو يمنعهم من عذاب الله { يُضَاعَفُ لَهُمُ ٱلْعَذَابُ } جملة مستأنفة أي يضاعف عليهم العذاب بسبب إِجرامهم وطغيانهم { مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ ٱلسَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ } أي سبب تشديد العذاب ومضاعفته عليهم أن الله جعل لهم سمعاً وبصراً، ولكنهم كانوا صُما عن سماع الحق، عمياً عن اتباعه، فلم ينتفعوا بما منحهم الله من حواس { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ } أي خسروا سعادة الدنيا والآخرة، وخسروا راحة أنفسهم لدخولهم نار جهنم { وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } أي وغاب عنهم ما كانوا يزعمونه من شفاعة الآلهة { لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ هُمُ ٱلأَخْسَرُونَ } أي حقاً إِنهم يوم القيامة من أخسر الناس، ولا ترى أحداً أبينَ خسراناً منهم، لأنهم آثروا الفانية على الباقية، واستعاضوا عن الجِنان بلظى النيران، ثم لما ذكر تعالى حال الكفار الأشقياء، ذكر حال المؤمنين السعداء فقال { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوۤاْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ } أي جمعوا مع الإِيمان والعمل الصالح الإِخبات: وهو الاطمئنان إِليه سبحانه والخشوع له والانقطاع لعبادته { أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } أي منعَمون في الجنة لا يخرجون منها أبداً { مَثَلُ ٱلْفَرِيقَيْنِ } أي فريق المؤمنين وفريق الكافرين { كَٱلأَعْمَىٰ وَٱلأَصَمِّ وَٱلْبَصِيرِ وَٱلسَّمِيعِ } قال الزمخشري: شبَّه فريق الكافرين بالأعمى والأصم، وفريق المؤمنين بالبصير والسميع، وهو من اللفّ والطباق والمعنى حال الفريقين العجيب كحال من جمع بين العمى والصمم، ومن جمع بين السمع والبصر { هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً } الاستفهام إِنكاري أي لا يستويان مثلاً فليس حال من يبصر نور الحق ويستضيء بضيائه كحال من يخبط في ظلمات الضلالة ولا يهتدي إِلى سبيل السعادة { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } أي أفلا تعتبرون وتتعظون؟ والغرض التفريق بين أهل الطاعة والإِيمان، وأهل الجحود والعصيان.

البلاغة:
1- { عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ } إِضافة العذاب إِلى اليوم الكبير للتهويل والتفظيع.

2- { مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } بينهما طباقٌ وكذلك بين { نَعْمَآءَ } و { ضَرَّآءَ } وبين { نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ }.

3- { يَئُوسٌ كَفُورٌ } من صيغ المبالغة أي شديد اليأس كثير الكفران.

4- { كَٱلأَعْمَىٰ وَٱلأَصَمِّ } فيه تشبيه مرسل مجمل لوجود أداة التشبيه وحذف وجه الشبه أي مثل الفريق الكافر كالأعمى والأصم في عدم البصر والسمع، ومثل الفريق المؤمن كالسميع والبصير.

لطيفَة:
قال بعض الصالحين: الاستغفار بلا إِقلاع عن الذنب توبة الكذابين.

تنبيه: التحدي بعشر سور جاء بعد التحدي بالقرآن الكريم، فلما عجزوا عن الإِتيان بمثل القرآن تحداهم بعشر سور، ثم لما عجزوا تحداهم بالإِتيان بسورة مثله في البلاغة والفصاحة والاشتمال على المغيبات والأحكام التشريعية وأمثالها، وهي الأنواع التسعة وقد نظمها بعضهم بقوله:
ألا إِنما القرآنُ تسعةُ أحرفٍ *** سأنبيكها في بيت شعر بلا مَلَل
حلالٌ، حرامٌ، محكمٌ، متشابهٌ *** بشيرٌ، نذيرٌ، قصةٌ، عظةٌ، مَثَل

أم سهام 2016-06-16 16:12

رد: تفسير سورة هود
 
* تفسير صفوة التفاسير/ الصابوني (مـ 1930م -) مصنف و مدقق
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىٰ قَوْمِهِ إِنَّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } * { أَن لاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ ٱللَّهَ إِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ } * { فَقَالَ ٱلْمَلأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ ٱتَّبَعَكَ إِلاَّ ٱلَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ ٱلرَّأْيِ وَمَا نَرَىٰ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ } * { قَالَ يٰقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيۤ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ } * { وَيٰقَوْمِ لاۤ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِنَّهُمْ مُّلاَقُواْ رَبِّهِمْ وَلَـٰكِنِّيۤ أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ } * { وَيٰقَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ ٱللَّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } * { وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ ٱللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِيۤ أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ ٱللَّهُ خَيْراً ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِيۤ أَنْفُسِهِمْ إِنِّيۤ إِذاً لَّمِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ } * { قَالُواْ يٰنُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ } * { قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ ٱللَّهُ إِن شَآءَ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ } * { وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِيۤ إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ ٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } * { أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ قُلْ إِنِ ٱفْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَاْ بَرِيۤءٌ مِّمَّا تُجْرِمُونَ } * { وَأُوحِيَ إِلَىٰ نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } * { وَٱصْنَعِ ٱلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ } * { وَيَصْنَعُ ٱلْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ } * { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } * { حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ قُلْنَا ٱحْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ ٱلْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ } * { وَقَالَ ٱرْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ ٱللَّهِ مَجْريٰهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } * { وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَٱلْجِبَالِ وَنَادَىٰ نُوحٌ ٱبْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يٰبُنَيَّ ٱرْكَبَ مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ ٱلْكَافِرِينَ } * { قَالَ سَآوِيۤ إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ ٱلْمَآءِ قَالَ لاَ عَاصِمَ ٱلْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا ٱلْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ ٱلْمُغْرَقِينَ } * { وَقِيلَ يٰأَرْضُ ٱبْلَعِي مَآءَكِ وَيٰسَمَآءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ ٱلْمَآءُ وَقُضِيَ ٱلأَمْرُ وَٱسْتَوَتْ عَلَى ٱلْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ } * { وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ٱبْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ ٱلْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ ٱلْحَاكِمِينَ } * { قَالَ يٰنُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّيۤ أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلْجَاهِلِينَ } * { قَالَ رَبِّ إِنِّيۤ أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِيۤ أَكُن مِّنَ ٱلْخَاسِرِينَ } * { قِيلَ يٰنُوحُ ٱهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ } * { تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ ٱلْغَيْبِ نُوحِيهَآ إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـٰذَا فَٱصْبِرْ إِنَّ ٱلْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ }

المنَاسَبَة:
لما ذكر تعالى عناد الكافرين من أهل مكة، وتكذيبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم واتهامهم له بافتراء القرآن، ذكر هنا قصة نوح مع قومه الكافرين لتكون كالعظة والعبرة لمن كذّب وعاند، ولتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم بسرد قصص المرسلين وما جرى لهم مع أقوامهم.

اللغَة:
{ ٱلْمَلأُ } أشراف القوم وسادتهم { أَرَاذِلُنَا } الأراذل هنا: المراد بهم الفقراء والضعفاء والسَّفَلة، وهو جمع أَرْذَل بمعنى السافل الذي لا خَلاَق له ولا يبالي بما يفعل { فَعُمِّيَتْ } عمي عن كذا، وعمي عليه كذا، بمعنى التبس عليه ولم يفهمه، وخفي عليه أمره { جَادَلْتَنَا } الجدل في كلام العرب: المبالغة في الخصومة { تَزْدَرِيۤ } تحتقر { ٱلْفُلْكَ } السفينة ويطلق على المفرد والجمع { ٱلتَّنُّورُ } مستوقد النار { مُرْسَاهَا } رسا الشيء يرسو ثبت واستقر { عَاصِمَ } مانع يقال: عصمه إذا منعه ومنه الحديث " فقد عصموا مني دماءهم " { غِيضَ } غاض الماء نقص بنفسه وغضتُه أنقصته { ٱلْجُودِيِّ } جبلٌ بقرب المَوْصل.

التفسِير:
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىٰ قَوْمِهِ } أي أرسلناه رسولاً إلى قومه بعد أن امتلأت الأرض بشركهم وشرورهم { إِنَّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } أي بأني منذرٌ لكم ومخوّف من عذاب الله إن لم تؤمنوا { أَن لاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ ٱللَّهَ } أي أرسلناه بدعوة التوحيد وهي عبادة الله وحده { إِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ } أي إني أخاف عليكم إن عبدتم غيره عذاب يوم شديد مؤلم { فَقَالَ ٱلْمَلأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ } أي قال السادة والكبراء من قوم نوح { مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا } أي ما نراك إلا واحداً مثلنا ولا فضل لك علينا قال الزمخشري: وفيه تعريضٌ بأنهم أحقُّ منه بالنبوة، وأن الله لو أراد أن يجعلها في أحدٍ من البشر لجعلها فيهم { وَمَا نَرَاكَ ٱتَّبَعَكَ إِلاَّ ٱلَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا } أي وما اتبعك إلا سفلةُ الناس قال في التسهيل: وإنما وصفوهم بذلك لفقرهم جهلاً منهم واعتقاداً بأن الشرف هو بالمال والجاه، وليس الأمر كذلك، بل المؤمنون أشرف منهم على فقرهم وخمولهم { بَادِيَ ٱلرَّأْيِ } أي في ظاهر الرأي من غير تفكر أو رويّة { وَمَا نَرَىٰ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ } أي وما نرى لك ولأتباعك من مزية وشرف علينا يؤهلكم للنبوة، واستحقاق المتابعة { بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ } أي بل نظنكم كاذبين فيما تدعونه، أرادوا أن يحجوا نوحاً من وجهين: أحدهما: أن المتبعين له أراذل القوم ليسوا قدوة ولا أسوة، والثاني: أنهم مع ذلك لم يتَروَّوا في اتّباعه، ولا أمعنوا الفكر في صحة ما جاء به، وإنما بادروا إلى ذلك من غير فكرة ولا رويّة، وغرضُهم ألا تقوم الحجة عليهم بأن منهم من آمن به وصدّقه { قَالَ يٰقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيۤ } تلطف معهم في الخطاب لاستمالتهم إلى الإِيمان أي قال لهم نوح: أخبروني يا قوم إن كنتُ على برهان وأمرٍ جليٍّ من ربي بصحة دعوايَ { وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ } أي ورزقني هداية خاصة من عنده وهي النبوة { فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ } أي فخفي الأمر عليكم لاحتجابكم بالمادة عن نور الإِيمان { أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ } أي أنكرهكم على قبولها ونجبركم على الإِهتداء بها والحال أنكم كارهون منكرون لها؟ والاستفهام للإِنكار أي لا نفعل ذلك لأنه لا إكراه في الدين { وَيٰقَوْمِ لاۤ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً } أي لا أسألكم على تبليغ الدعوة أجراً، ولا أطلب على النصيحة مالاً حتى تتهموني { إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ } أي ما أطلب ثوابي إلا من الله فإنه هو الذي يثيبني ويجازيني { وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ } أي ولست بمبعد هؤلاء المؤمنين الضعفاء عن مجلسي، ولا بطاردهم عني كما طلبتم { إِنَّهُمْ مُّلاَقُواْ رَبِّهِمْ } أي إنهم صائرون إلى ربهم، وفائزون بقربه فكيف أطردهم؟ { وَلَـٰكِنِّيۤ أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ } أي ولكنكم قوم تجهلون قدرهم فتطلبون طردهم، وتظنون أنكم خير منهم { وَيٰقَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ ٱللَّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ } أي من يدفع عني عقاب الله إن ظلمتهم وطردتهم؟ { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } أي أفلا تتفكرون فتعلمون خطأ رأيكم وتنزجرون عنه؟ { وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ ٱللَّهِ } أي لا أقول لكم عندي المال الوافر الكثير حتى تتبعوني لغناي { وَلاَ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ } أي ولا أقول لكم إني أعلم الغيب حتى تظنوا بي الربوبية { وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ } أي ولا أقول لكم إني من الملائكة أُرسلت إِليكم فأكون كاذباً في دعواي { وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِيۤ أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ ٱللَّهُ خَيْراً } أي ولا أقول لهؤلاء الضعفاء الذين آمنوا بي واحتقرتموهم لفقرهم لن يمنحهم الله الهداية والتوفيق { ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ } أي أعلم بسرائرهم وضمائرهم { إِنِّيۤ إِذاً لَّمِنَ ٱلظَّالِمِينَ } أي إني إن قلت ذلك أكون ظالماً مستحقاً للعقاب { قَالُواْ يٰنُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا } أي قال قوم نوح لنوحٍ عليه السلام: قد خاصمتنا فأكثرتَ خصومتنا { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ } أي فائتنا بالعذاب الذي كنت تعدنا به إن كنت صادقاً في ما تقول { قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ ٱللَّهُ إِن شَآءَ } أي أمر تعجيل العذاب إليه تعالى لا إليَّ فهو الذي يأتيكم به إن شاء { وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ } أي ولستم بفائتين الله هرباً لأنكم في ملكه وسلطانه { وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِيۤ إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ } أي ولا ينفعكم تذكيري إياكم ونصحي لكم { إِن كَانَ ٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ } أي إن أراد الله إضلالكم وهو جواب لما تقدم والمعنى ماذا ينفع نصحي لكم إن أراد الله شقاوتكم وإضلالكم؟ { هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } أي هو خالقكم والمتصرف في شئونكم، وإليه مرجعكم ومصيركم فيجازيكم على أعمالكم { أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ } أي أيقول كفار قريش اختلق محمد هذا القرآن من عند نفسه { قُلْ إِنِ ٱفْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي } أي قل لهم يا محمد إن كنت قد افتريت هذا القرآن فعليَّ وزري وذنبي، ولا تؤاخذون أنتم بجريرتي { وَأَنَاْ بَرِيۤءٌ مِّمَّا تُجْرِمُونَ } أي وأنا بريءٌ من إجرامكم بكفركم وتكذيبكم، والآية اعتراضٌ بين قصة نوح للإِشارة إلى أن موقف مشركي مكة كموقف المشركين من قوم نوح في العناد والتكذيب { وَأُوحِيَ إِلَىٰ نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ } أي أوحى الله إلى نوحٍ أنه لن يتبعك ويصدِّق برسالتك إلا من قد آمن من قبل { فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } أي فلا تحزن بسبب كفرهم وتكذيبهم لك فإني مهلكهم { وَٱصْنَعِ ٱلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا } أي اصنع السفينة تحت نظرنا وبحفظنا ورعايتنا { وَوَحْيِنَا } أي وتعليمنا لك قال مجاهد: أي كما نأمرك { وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ } أي لا تشفع فيهم فإني مهلكهم لا محالة { إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ } أي هالكون غرقاً بالطوفان { وَيَصْنَعُ ٱلْفُلْكَ } حكايةُ حالٍ ماضيةٍ لاستحضارها في الذهن أي صنع نوحٌ السفينة كما علّمه ربُّه { وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ } أي كلما مرَّ عليه جماعة من كبراء قومه هزءوا منه وضحكوا وقالوا: يا نوحُ كنتَ بالأمس نبياً، وأصبحتَ اليوم نجاراً!! { قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا } أي إن تهزءوا منا اليوم { فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ } أي فإنّا سنسخر منكم في المستقبل عندما تغرقون مثل سخريتكم منا الآن، فأنتم أولى بالسخرية والاستهزاء { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } وعيدٌ وتهديد أي سوف تعلمون عاقبة التكذيب والاستهزاء { مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ } أي عذابٌ يُذلُّه ويهينه وهو الغرق { وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } أي وينزل عليه عذاب دائم لا ينقطع وهو عذاب جهنم { حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا } أي جاء أمرنا الموعود بالطوفان { وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ } أي فار الماء من التنور الذي يوقد به النار قال العلماء: جعل الله ذلك علامة لنوح وموعداً لهلاك قومه، وقال ابن عباس: التنور وجهُ الأرض قال الطبري: والعرب تسمي وجه الأرض تنور الأرض، قيل له: إذا رأيتَ الماء على وجه الأرض فاركب أنت ومن معك في السفينة وقال ابن كثير: التنور وجه الأرض أي صارت الأرض عيوناً تفور، حتى فار الماء من التنانير التي هي مكان النار صارت تفور ماءً، وهذا قول جمهور السلف والخلف { قُلْنَا ٱحْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ } أي احمل في السفينة من كل صنفٍ من المخلوقات اثنين: ذكراً، وأنثى { وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ ٱلْقَوْلُ } أي واحمل قرابتك أيضاً أولادك ونساءك إلا من حكم الله بهلاكه، والمراد به ابنهُ الكافر " كنعان " وامرأته " واعلة " { وَمَنْ آمَنَ } أي واحمل معك من آمن من أتباعك { وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ } أي وما آمن بنوح إلا نزرٌ يسير مع طول إقامته بينهم وهي مدة تسعمائة وخمسين سنة، قال ابن عباس: كانوا ثمانين نفساً منهم نساؤهم، وعن كعب: كانوا اثنين وسبعين نفساً، وقيل: كانوا عشرة { وَقَالَ ٱرْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ ٱللَّهِ مَجْريٰهَا وَمُرْسَاهَا } أي وقال نوح لمن آمن به اركبوا في السفينة، باسم الله يكون جريُها على وجه الماء، وباسم الله يكون رسوُّها واستقرارها قال الطبري: المعنى بسم الله حين تجري وحين تُرسي، أي حين تسير وحين تقف { إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي ساتر لذنوب التائبين، رحيمٌ بالمؤمنين حيث نجاهم من الغرق { وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَٱلْجِبَالِ } أي والسفينة تسير بهم وسط الأمواج، التي هي كالجبل في العِظَم والارتفاع، بإذن الله وعنايته ولطفه قال الصاوي: رُوي أن الله أرسل المطر أربعين يوماً وليلة، وخرج الماء من الأرض ينابيع كما قال تعالى {*فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ ٱلسَّمَآءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا ٱلأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى ٱلمَآءُ عَلَىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ*}
[القمر: 11-12] وارتفع الماء على أعلى جبل أربعين ذراعاً حتى أغرق كل شيء { وَنَادَىٰ نُوحٌ ٱبْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ } أي ونادى نوحٌ ولده " كنعان " قبيل سير السفينة وكان في ناحيةٍ منها لم يركب مع المؤمنين { يٰبُنَيَّ ٱرْكَبَ مَّعَنَا } أي اركب معنا ولا تهلكْ نفسك بالغرق { وَلاَ تَكُن مَّعَ ٱلْكَافِرِينَ } أي فتغرق كما يغرقون { قَالَ سَآوِيۤ إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ ٱلْمَآءِ } أي سأصعد إلى رأس جبل أتحصن به من الغرق، ظناً منه أن الماء لا يصل إلى رءوس الجبال { قَالَ لاَ عَاصِمَ ٱلْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ } أي قال له أبوه نوح: لا معصوم اليوم من عذاب الله ولا ناجي من عقابه إلا من رحمه الله { وَحَالَ بَيْنَهُمَا ٱلْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ ٱلْمُغْرَقِينَ } أي حال بين نوحٍ وولده موجُ البحر فغرق { وَقِيلَ يٰأَرْضُ ٱبْلَعِي مَآءَكِ } أي انشقي وابتلعي ما على وجهك من الماء { وَيٰسَمَآءُ أَقْلِعِي } أي أمسكي عن المطر { وَغِيضَ ٱلْمَآءُ } أي ذهب في أغوار الأرض قال مجاهد: نقص الماء { وَقُضِيَ ٱلأَمْرُ } أي تمَّ أمر الله بإغراق من غرق، ونجاة من نجا { وَٱسْتَوَتْ عَلَى ٱلْجُودِيِّ } أي استقرت السفينة على جبل الجودي بقرب الموصل { وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ } أي هلاكاً وخساراً لمن كفر بالله وهي جملة دعائية قال الألوسي: ولا يخفى ما في الآية من الدلالة على عموم هلاك الكفرة، بل على عموم هلاك أهل الأرض ما عدا أهل السفينة، ويدل عليه ما رُوي أن الغرقَ أصاب امرأة معها صبيٌّ لها فوضعته على صدرها، فلما بلغها الماء وضعته على منكبها، فلما بلغها الماء رفعته بيديها، فلو رحم الله أحداً من أهل الأرض لرحمها { وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ٱبْنِي مِنْ أَهْلِي } أي نادى نوح ربَّه متضرعاً إليه فقال: ربِّ إن ابني " كنعان " من أهلي وقد وعدتني بنجاتهم { وَإِنَّ وَعْدَكَ ٱلْحَقُّ } أي وعدك حقٌ لا خُلْف فيه { وَأَنتَ أَحْكَمُ ٱلْحَاكِمِينَ } أي وأنت يا ألله أعدل الحاكمين بالحق { قَالَ يٰنُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } أي قال له ربه: يا نوحُ إنَّ ولدك هذا ليس من أهلك الذين وعدتك بنجاتهم لأنه كافر ولا ولاية بين المؤمن والكافر { إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } إي إنَّ عمله سيءٌ غير صالح { فَلاَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } أي لا تطلب مني أمراً لا تعلم أصوابٌ هو أم غير صواب؟ { إِنِّيۤ أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلْجَاهِلِينَ } أي إني أنبهك وأنصحك خشية أن تكون من الجاهلين قال في التسهيل: وليس في ذلك وصفٌ له بالجهل، بل فيه ملاطفةٌ وإكرام { قَالَ رَبِّ إِنِّيۤ أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ } أي قال نوح معتذراً إلى ربه عمّا صدر عنه: ربّ إني أستجير بك من أن أسألك أمراً لا يليق بي سؤاله { وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِيۤ أَكُن مِّنَ ٱلْخَاسِرِينَ } أي وإلا تغفر لي زلتي، وتتداركني برحمتك، أكنْ ممن خسر آخرته وسعادته { قِيلَ يٰنُوحُ ٱهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا } أي اهبط من السفينة بسلامة وأمن { وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ } أي وخيراتٍ عظيمة عليك وعلى ذرية من معك من أهل السفينة، قال القرطبي: دخل في هذا كل مؤمن إلى يوم القيامة { وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ } أي وأمم أخرى من ذرية من معك نمتعهم متاع الحياة الدنيا وهم الكفرة المجرمون { ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي ثم نذيقهم في الآخرة العذاب الأليم وهو عذاب جهنم { تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ ٱلْغَيْبِ } أي هذه القصة وأشباهها من أخبار الغيوب السالفة التي لم تشهدها { نُوحِيهَآ إِلَيْكَ } أي نعلمك بها يا محمد بواسطة الوحي { مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـٰذَا } أي لم يكن عندك ولا عند أحدٍ من قومك علمٌ بها من قبل هذا القرآن { فَٱصْبِرْ إِنَّ ٱلْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ } أي فاصبر على أمر الله بتبليغ الدعوة كما صبر نوح، فإن العاقبة المحمودة لمن اتقى الله، وفيه تسلية له صلى الله عليه وسلم على أذى المشركين.

البَلاَغَة:
1- { فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ } شبّه الذي لا يهتدي بالحجة لخفائها عليه، بمن سلك مفازةً لا يعرف طرقها ومسالكها، واتبع دليلاً أعمى فيها على سبيل الاستعارة التمثيلية.

2- { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } الاستفهام للإِنكار والتقريع.

3- { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ } الأمر يراد به التهكم والاستهزاء.

4- { فَعَلَيَّ إِجْرَامِي } مجاز بالحذف أي عقوبة إجرامي وجاء بـ { إِنِ } الدالة على الشك لبيان أنه على سبيل الفرض { إِنِ ٱفْتَرَيْتُهُ } بخلاف إجرامهم فإنه محقّق { وَأَنَاْ بَرِيۤءٌ مِّمَّا تُجْرِمُونَ }.

5- { وَٱصْنَعِ ٱلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا } الأعين كناية عن الرعاية والحفظ يقال للمسافر " صحبتك عين الله " أي رعاية الله وحفظه.
6- { يٰأَرْضُ ٱبْلَعِي مَآءَكِ وَيٰسَمَآءُ أَقْلِعِي } بين الأرض والسماء طباقٌ، وبين ابلعي وأقعلي جناسٌ ناقص، وكلاهما من المحسنات البديعية.

فَائِدَة:
قال ابن عباس في قوله تعالى { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } كان ابنه من صلبه، ولكنه لم يكن مؤمناً، وما بغت امرأة نبيٍّ قط ومعنى الآية: إنه ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم معك.

أقول: نبهت الآية على أن أهله هم الصلحاء، أهل دينه وشريعته، فمن لا صلاح له لا نجاة له، ومدار الأهلية القرابة الدينية، لا القرابة البدنية.
أبي الإِسلام لا أبَ لي سواه *** إذا افتخروا بقيسٍ أو تميم
لطيفَة:
روي أن أعرابياً سمع هذه الآية { وَقِيلَ يٰأَرْضُ ٱبْلَعِي مَآءَكِ وَيٰسَمَآءُ أَقْلِعِي... } الآية فقال: هذا كلام القادرين لا يشبه كلام المخلوقين، ويروى أن " ابن المقفع " - وكان أفصح أهل زمانه - رام أن يعارض القرآن فنظم كلاماً، وجعله مفصلاً، وسمّاه سوراً، فمرَّ يوماً بصبي فسمعه يقرأ الآية فرجع إلى بيته ومحا ما كان قد بدأ به، وقال: أشهد أن هذا لا يُعارض أبداً، وما هو من كلام البشر.

تنبيه:
هذه الآية بلغت من أسرار الإِعجاز غايتها، وحوت من بدائع الفوائد نهايتها، وجمعت من المحاسن اللفظية والمعنوية ما يضيق عنه نطاق البيان، وقد اهتم بإظهار لطائفها وأسرارها العلاّمة أبو حيان حيث قال رحمه الله وطيَّب ثراه: في هذه الآية أحدٌ وعشرون نوعاً من البديع: المناسبةُ في قوله { أَقْلِعِي } و { ٱبْلَعِي } والمطابقةُ بذكر الأرض والسماء، والمجازُ في { يٰسَمَآءُ } المراد مطر السماء، والاستعارةُ في { أَقْلِعِي } والإِشارة في { وَغِيضَ ٱلْمَآءُ } فإنها إشارة إلى معانٍ كثيرة، والتمثيلُ في { وَقُضِيَ ٱلأَمْرُ } عبّر بالأمر عن إهلاك الهالكين ونجاة الناجين، والإِرداف في { وَٱسْتَوَتْ عَلَى ٱلْجُودِيِّ } فلفظ واستوت كلام تامٌ أردفه بلفظ { عَلَى ٱلْجُودِيِّ } قصداً للمبالغة في التمكن بهذا المكان، والتعليلُ في { وَغِيضَ ٱلْمَآءُ } فإنه علة للاستواء، والاحتراسُ في { بُعْداً لِّلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ } وهو أيضاً ذم لهم، والإِيجاز وهو ذكر القصة باللفظ القصير مستوعباً للمعاني الجمَّة، وعدَّد بقية الوجوه وهي: الإِيضاحُ، والمساواة، وحسنُ النَّسق، وصحة التقسيم، وحسن البيان، والتمكين، والتجنيس، والتسهيم، والمقابلة، والتهذيب، والوصف.

" مقتطفات من تفسير سيد قطب في ظلال القرآن "

وننقل هنا فقراتٍ من تفسير شهيد الإِسلام " سيد قطب " عليه الرحمة والرضوان حيث قال ما نصه: " وعند هذا المقطع من قصة نوح يلتفت السياقُ لفتةً عجيبة، إلى استقبال مشركي قريش لمثل هذه القصة التي تشبه أن تكون قصَّتهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم ودعواهم أن محمداً يفتري هذا القصص { أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ قُلْ إِنِ ٱفْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَاْ بَرِيۤءٌ مِّمَّا تُجْرِمُونَ } فالافتراء إجرام وعليَّ تبعته، وأنا أعرف أنه إجرام فمستبعدٌ أن أرتكبه، وهذا الاعتراضُ لا يخالف سياق القصة في القرآن لأنها إنما جاءت لتأدية غرضٍ معيَّن، ثم يمضي السياقُ في قصة نوح يعرض مشهداً ثانياً، مشهد نوح يتلقى وحي ربه وأمره { وَأُوحِيَ إِلَىٰ نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ * وَٱصْنَعِ ٱلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا } أي برعايتنا وتعليمنا { وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ } فقد تقرر مصيرهم، وانتهى الإِنذار، وانتهى الجدل.
والمشهد الثالث من مشاهد القصة: مشهدُ نوح يصنع الفلك { وَيَصْنَعُ ٱلْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ } والتعبير بالمضارع هو الذي يعطي المشهد حيويته وجدَّته، فنحن نراه ماثلاً لخيالنا من وراء هذا التعبير، وقومه المتكبرون يمرون به فيسخرون، يسخرون من الرجل الذي كان يقول لهم إنه رسول ثم إذا هو ينقلب نجاراً يصنع مركباً، والمشهد الرابع: مشهد التعبئة عندما حلت اللحظة المرتقبة { حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ قُلْنَا ٱحْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ.. } ثم يأتي المشهد الهائل المرهوب: مشهد الطوفان { وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَٱلْجِبَالِ... وَحَالَ بَيْنَهُمَا ٱلْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ ٱلْمُغْرَقِينَ } إن الهول هنا هولان: هولٌ في الطبيعة الصامتة، وهولٌ في النفس البشرية يلتقيان. وإننا بعد آلاف السنين لنمسك أنفسنا - ونحن نتابع السياق - والهولُ يأخذنا كأننا نشهد المشهد، { وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَٱلْجِبَالِ } ونوحٌ الوالد الملهوف يبعث بالنداء تلو النداء، وابنه الفتى المغرور يأبى إجابة الدعاء، والموجة الغامرة تحسم الموقف في سرعةٍ خاطفة راجفة { وَحَالَ بَيْنَهُمَا ٱلْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ ٱلْمُغْرَقِينَ } وينتهي كل شيء، وكأن لم يكن دعاء ولا جواب، وتلك سمة بارزة في تصوير القرآن. وتهدأ العاصفة، ويخيّم السكون، ويقضى الأمر، ويوجه الخطاب إلى الأرض والسماء بصيغة العاقل، فتستجيب كلتاهما للأمر الفاصل، فتبلع الأرض وتكف السماء { وَقِيلَ يٰأَرْضُ ٱبْلَعِي مَآءَكِ وَيٰسَمَآءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ ٱلْمَآءُ وَقُضِيَ ٱلأَمْرُ وَٱسْتَوَتْ عَلَى ٱلْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ }.

أم سهام 2016-06-23 19:06

رد: تفسير سورة هود
 
* تفسير صفوة التفاسير/ الصابوني (مـ 1930م -) مصنف و مدقق
{ وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ } * { يٰقَوْمِ لاۤ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى ٱلَّذِي فَطَرَنِيۤ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } * { وَيٰقَوْمِ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ } * { قَالُواْ يٰهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِيۤ آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ } * { إِن نَّقُولُ إِلاَّ ٱعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوۤءٍ قَالَ إِنِّيۤ أُشْهِدُ ٱللَّهَ وَٱشْهَدُوۤاْ أَنِّي بَرِيۤءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } * { مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ } * { إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى ٱللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } * { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ } * { وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } * { وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَٱتَّبَعُوۤاْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } * { وَأُتْبِعُواْ فِي هَـٰذِهِ ٱلدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ أَلاۤ إِنَّ عَاداً كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ } * { وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ وَٱسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَٱسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ } * { قَالُواْ يٰصَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَـٰذَا أَتَنْهَانَآ أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ } * { قَالَ يٰقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ ٱللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ } * { وَيٰقَوْمِ هَـٰذِهِ نَاقَةُ ٱللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِيۤ أَرْضِ ٱللَّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوۤءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ } * { فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذٰلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ } * { فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ ٱلْقَوِيُّ ٱلْعَزِيزُ } * { وَأَخَذَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ٱلصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ } * { كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّثَمُودَ } * { وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بِٱلْبُـشْرَىٰ قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ } * { فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمِ لُوطٍ } * { وَٱمْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } * { قَالَتْ يَٰوَيْلَتَىٰ ءَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَـٰذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَـٰذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ } * { قَالُوۤاْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ رَحْمَتُ ٱللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ }

المنَاسَبَة:
هذه هي القصة الثانية من القصص التي ذكرها الله في هذه السورة الكريمة، وهي قصة هود مع قومه عاد، وقد ذكرها تعالى بالإِسهاب، ولهذا سميت السورة " سورة هود " ثم أعقبها بالحديث عن ثمود وهي القصة الثالثة في هذه السورة، ثم قصة إبراهيم وبشارة الملائكة له بإسحاق وهي القصة الرابعة.

اللغَة:
{ مِّدْرَاراً } كثيراً متتابعاً من درَّت السماء تدرُّ إذا سكبت المطر بسخاء، والمدرارُ: الكثير الدرّ وهو من أبنية المبالغة { ٱعْتَرَاكَ } أصابك { نَاصِيَتِهَآ } الناصيةُ: منبت الشعر في مقدم الرأس { جَبَّارٍ } الجبار: المتكبر { عَنِيدٍ } العنيد: الطاغي الذي لا يقبل الحق ولا يذعن له، قال أبو عبيدة: العنيد والمعاند: المعارضُ بالخلاف { ٱسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا } جعلكم عمَّارها وسكانها { تَخْسِيرٍ } تضليل وإبعاد عن الخير { حَنِيذٍ } مشوي يقال: حنذتُ الشاة أحنِذُها حنْذاً أي شويتها { نَكِرَهُمْ } أنكرهم يقال: نكره وأنكره واستنكره بمعنى واحد وهو أن يجده على غير ما عهده قال الشاعر:
وأنكرتْني وما كان الذي نكِرت *** من الحوادث إلا الشيبَ والصَّلَعا
فجمع الشاعر بين اللغتين { أَوْجَسَ } استشعر وأحسَّ { بَعْلِي } زوجي.

التفسِير:
{ وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً } أي ولقد أرسلنا إلى قبيلة عاد نبياً منهم اسمه هود { قَالَ يٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ } أي اعبدوا الله وحده دون الآلهة والأوثان { مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ } أي ليس لكم معبودٌ غيره يستحق العبادة { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ } أي ما أنتم في عبادتكم غير الله إلا كاذبون عليه جل وعلا، لأنه لا إله سواه { يٰقَوْمِ لاۤ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً } أي لا أطلب منكم على النصح والبلاغ جزاءً ولا ثواباً { إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى ٱلَّذِي فَطَرَنِيۤ } أي ما ثوابي وجزائي إلا على الله الذي خلقني { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } أي أتغفلون عن ذلك فلا تعقلون أن من يدعوكم إلى الخير دون إرادة جزاءٍ منكم هو لكم ناصح أمين؟ والاستفهام للإِنكار والتقريع { وَيٰقَوْمِ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ } أي استغفروه من الكفر والإِشراك { ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ } أي ارجعوا إليه بالطاعة والإِستقامة على دينه والتمسك بالإِيمان والتوحيد { يُرْسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً } أي يرسل عليكم المطر غزيراً متتابعاً، رُوي أن عاداً كان حُبس عنهم المطر ثلاث سنين حتى كادوا يهلكون، فأمرهم هودٌ بالتوبة والاستغفار ووعدهم على ذلك بنزول الغيث والمطر، وفي الآية دليل على أن التوبة والاستغفار، سببٌ للرحمة ونزول الأمطار { وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ } أي ويزدكم عزاً وفخاراً فوق عزكم وفخاركم قال مجاهد: شدة إلى شدتكم، فإنهم كانوا في غاية القوة والبطش حتى قالوا
{*مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً*}
[فصلت: 15]؟ { وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ } أي لا تعرضوا عما أدعوكم إليه مصرّين على الإِجرام، وارتكاب الآثام { قَالُواْ يٰهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ } أي ما جئتنا بحجةٍ واضحة تدل على صدقك قال الآلوسي: وإنما قالوه لفرط عنادهم، أو لشدة عَمَاهم عن الحق { وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِيۤ آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ } أي لسنا بتاركين عبادة الأصنام من أجل قولك { وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ } أي لسنا بمصدقين لنبوتك ورسالتك، والجملة تقنيطٌ من دخولهم في دينه، ثم نسبوه إلى الخبل والجنون فقالوا { إِن نَّقُولُ إِلاَّ ٱعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوۤءٍ } أي ما نقول إلا أصابك بعض آلهتنا بجنون لما سببتها ونهيتنا عن عبادتها قال الزمخشري: دلت أجوبتهم المتقدمة على أن القوم كانوا جفاةً، غلاظ الأكباد، لا يلتفتون إلى النصح، ولا تلين شكيمتهم للرشد، وقد دلَّ قولهم الأخير على جهلٍ مفرط، وبلَهٍ متناهٍ، حيث اعتقدوا في حجارة أنها تنتصر وتنتقم { قَالَ إِنِّيۤ أُشْهِدُ ٱللَّهَ } أي قال هودٌ إني أُشهدُ الله على نفسي { وَٱشْهَدُوۤاْ أَنِّي بَرِيۤءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * مِن دُونِهِ } أي وأشهدكم أيضاً أيها القوم بأنني بريءٌ مما تشركون في عبادة الله من الأوثان والأصنام { فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ } أي فاحتالوا في هلاكي أنتم وآلهتكم ثم لا تمهلوني طرفة عين قال أبو السعود: وهذا من أعظم المعجزات، فإنه عليه السلام كان رجلاً مفرداً بين الجم الغفير من عتاة عاد، الغلاظ الشداد، وقد حقّرهم وهيّجهم بانتقاص آلهتهم، وحثهم على التصدّي له فلم يقدروا على مباشرة شيء، وظهر عجزهم عن ذلك ظهوراً بيناً وقال الزمخشري: من أعظم الآيات أن يُواجه بهذا الكلام رجلٌ واحد أمة عطاشاً إلى إراقة دمه، يرمونه عن قوسٍ واحدة، وذلك لثقته بربه وأنه يعصمه منهم، فلا تنشب فيه مخالبهم، ومثله قول نوح {*فَأَجْمِعُوۤاْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ*}
[يونس: 71] { إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى ٱللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ } أي إني لجأت إلى الله وفوضت أمري إليه تعالى مالكي ومالككم { مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ } أي ما من نسمةٍ تدبُّ على وجه الأرض إلا هي في قبضته وتحت قهره، والأخذُ بالناصية تمثيلٌ للملك والقهر، والجملةُ تعليلٌ لقوة توكله على الله وعدم مبالاته بالخلق { إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } أي إن ربي عادل، يجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، لا يظلم أحداً شيئاً { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ } أي فإن تُعرضوا عن قبول دعوتي فقد أبلغتكم أيها القوم رسالة ربي، وما على الرسول إلا البلاغ { وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ } أي فسوف يهلككم الله ويستخلف قوماً آخرين غيركم، وهذا وعيدٌ شديد { وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً } أي لا تضرون الله شيئاً بإشراككم { إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ } أي إنه سبحانه رقيبٌ على كل شيء، وهو يحفظني من شركم ومكركم { وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا } أي ولما جاء أمرنا بالعذاب، وهو ما نزل بهم من الريح العقيم { نَجَّيْنَا هُوداً وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا } أي نجينا من العذاب هوداً والمؤمنون بفضلٍ عظيم ونعمة منا عليهم { وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } أي وخلصانهم من ذلك العذاب الشديد، وهي الريح المدمرة التي كانت تهدم المساكن، وتدخل في أنوف أعداء الله وتخرج من أدبارهم، وتصرعهم على وجوههم حتى صاروا كأعجاز نخلٍ خاوية { وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ } الإِشارة لآثارهم أي تلك آثار المكذبين من قوم عاد انظروا ماذا حلّ بهم، حين كفروا بالله، وأنكروا آياته في الأنفس والآفاق الدالة على وحدانيته؟ { وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ } أي عصوا رسوله هوداً، وجمعه تفظيعاً لحالهم، وإظهاراً لكمال كفرهم وعنادهم، ببيان أن عصيانهم له عصيانٌ لجميع الرسل السابقين واللاحقين لاتفاق كلمتهم على التوحيد { وَٱتَّبَعُوۤاْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } أي أطاعوا أمر كل مستكبر على الله، حائدٍ عن الحق، لا يُذعن له ولا يقبله، يريد به الرؤساء والكبراء { وَأُتْبِعُواْ فِي هَـٰذِهِ ٱلدُّنْيَا لَعْنَةً } أي وأُلحقوا باللعنة والطرد من رحمة الله في الدنيا { وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } أي ويوم القيامة أيضاً تلحقهم اللعنة قال الرازي: جعل اللعن رديفاً لهم ومتابعاً ومصاحباً في الدنيا والآخرة، ومعنى اللعنة الإِبعادُ من رحمة الله تعالى ومن كل خير { أَلاۤ إِنَّ عَاداً كَفَرُواْ رَبَّهُمْ } هذ تشنيعٌ لكفرهم وتهويلٌ بحرف التنبيه وبتِكرار اسم عاد أي ألا فانتبهوا إنَّ عاداً كفروا بربهم إذْ عبدوا غيره، وجحدوا نعمته إذ كذبوا رسوله، فاستحقوا اللعنة في الدنيا، واللعنة في الآخرة { أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ } أي أبعدهم الله من الخير، وأهلكهم عن بكرة أبيهم، وهي جملة دعائية بالهلاك واللعنة { وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً } أي ولقد أرسلنا إلى قوم ثمود نبيا منهم وهو صالح عليه السلام { قَالَ يٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ } أي اعبدوا الله وحده ليس لكم ربٌّ معبود سواه { هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ } أي هو تعالى ابتدأ خلقكم من الأرض، فخلق آدم من تراب ثم ذريته من نطفة { وَٱسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا } أي جعلكم عمَّارها وسكانها تسكنون بها { فَٱسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ } أي استغفروه من الشرك ثم ارجعوا إليه بالطاعة { إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ } أي إنه سبحانه قريب الرحمة مجيب الدعاء { قَالُواْ يٰصَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَـٰذَا } أي كنا نرجو أن تكون فينا سيّداً قبل تلك المقالة فلما قلتها انقطع رجاؤنا فيك { أَتَنْهَانَآ أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا } أي أتنهانا يا صالح عن عبادة الأوثان التي عبدها آباؤنا؟ { وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ } أي وإننا لشاكون في دعواك، وأمرُك مريب يوجب التهمة { قَالَ يٰقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي } أي أخبروني إن كنتُ على برهانٍ وحجة واضحةٍ من ربي { وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً } أي وأعطاني النبوة والرسالة { فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ ٱللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ } أي فمن يمنعني من عذاب الله إن عصيت أمره؟ { فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ } أي فما تزيدونني بموافقتكم وعصيان أمر الله غير تضليل وإبعاد عن الخير قال الزمخشري: { غَيْرَ تَخْسِيرٍ } يعني تخسّرون أعمالي وتبطلونها { وَيٰقَوْمِ هَـٰذِهِ نَاقَةُ ٱللَّهِ لَكُمْ آيَةً } أضاف الناقة إلى الله تشريفاً لها لأنها خرجت من صخرة صماء بقدرة الله حسب طلبهم أي هذه الناقة معجزتي لكم وعلامة على صدقي { فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِيۤ أَرْضِ ٱللَّهِ } أي دعوها تأكل وتشرب في أرض الله فليس عليكم رزقها { وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوۤءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ } أي لا تنالوها بشيءٍ من السوء فيصيبكم عذاب عاجل لا يتأخر عنكم { فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ } أي ذبحوا الناقة فقال لهم صالح: استمتعوا بالعيش في بلدكم ثلاثة أيام ثم تهلكون قال القرطبي: إنما عقرها بعضهم وأضيف إلى الكل لأنه كان برضى الباقين، فعقرت يوم الأربعاء فأقاموا يوم الخميس والجمعة والسبت وآتاهم العذاب يوم الأحد { ذٰلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ } أي وعدٌ حق غير مكذوب فيه { فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ } أي فلما جاء أمرنا بإهلاكهم نجينا صالحاً ومن آمن به { بِرَحْمَةٍ مِّنَّا } أي بنعمةٍ وفضلٍ عظيم من الله { وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ } أي ونجيناهم من هوان ذلك اليوم وذُلّة { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ ٱلْقَوِيُّ ٱلْعَزِيزُ } أي القوي في بطشه، العزيز في ملكه، لا يغلبه غالب، ولا يقهره قاهر { وَأَخَذَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ٱلصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ } أي أخذتهم صيحةٌ من السماء تقطعت لها قلوبهم، فأصبحوا هامدين موتى لا حِرَاك بهم كالطير إذا جثمت { كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ } أي كأن لم يقيموا في ديارهم ولم يَعْمُروها { أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّثَمُودَ } أي ألا فانتبهوا أيها القوم إن ثمود كفروا بآيات ربهم فسحقاً لهم وبُعْداً، وهلاكاً ولعنة { وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بِٱلْبُـشْرَىٰ } هذه هي القصة الرابعة وهي قصة لوط وهلاك قومه المكذبين أي جاءت الملائكةُ الذين أرسلناهم لإِهلاك قوم لوط إبراهيمَ بالبشارة بإسحاق، قال القرطبي: لما أنزل الله الملائكة لعذاب قوم لوط مرّوا بإبراهيم فظنهم أضيافاً، وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل قاله ابن عباس، وقال السدي: كانوا أحد عشر ملَكاً على صورة الغلمان الحسان الوجوه { قَالُواْ سَلاَماً } أي سلموا عليه سلاماً { قَالَ سَلاَمٌ } أي قال لهم إبراهيم: سلام عليكم قال المفسرون: ردَّ عليهم التحية بأحسن من تحيتهم لأنه جاء بها جملة اسميّة وهي تدل على الثبات والاستمرار { فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ } أي فما أبطأ ولا تأخر مجيئه حتى جاء بعجلٍ مشويٍّ فقدمه لهم قال الزمخشري: والعجل: ولد البقرة ويسمى " الحسيل " وكان مال إبراهيم عليه السلام البقر، والحنيذ: المشوي بالحجارة المحماة في أخدود وقيل: الذي يقطر دسمه ويدل عليه " بعجلٍ سمين " { فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ } أي فلما رآهم لا يمدون أيديهم إلى الطعام ولا يأكلون منه أنكرهم { وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً } أي أحسَّ منهم الخوف والفزع قال قتادة: كان العرب إذا نزل بهم ضيف فلم يطعم من طعامهم ظنوا أنه لم يجيء بخير وأنه جاء يحدث نفسه بشرّ { قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمِ لُوطٍ } أي قالت الملائكة: لا تخف فإنا ملائكة ربك لا نأكل، وقد أُرسلنا لإِهلاك قوم لوط { وَٱمْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ } أي وامرأة إبراهيم واسمها " سارة " قائمة وراء الستر تسمع كلامهم فضحكت استبشاراً بهلاك قوم لوط { فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } أي بشرتها الملائكة بإسحاق ولداً لها ويأتيه مولودٌ هو يعقوب ابناً لولدها { قَالَتْ يَٰوَيْلَتَىٰ أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَـٰذَا بَعْلِي شَيْخاً } أي قالت سارة متعجبة: يا لهفي ويا عجبي أألد وأنا امرأة مسنّة وهذا زوجي إبراهيم شيخ هرم أيضاً فكيف يأتينا الولد؟ { إِنَّ هَـٰذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ } أي إن هذا الأمر لشيء غريب لم تجر به العادة قال مجاهد: كانت يومئذٍ ابنة تسع وتسعين سنة، وإبراهيم ابن مائة وعشرين سنة { قَالُوۤاْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ } أي أتعجبين من قدرة الله وحكمته في خلق الولد من زوجين هرمين؟ ليس هذا بمكان عجب على قدرة الله { رَحْمَةُ ٱللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ } أي رحمكم الله وبارك فيكم يا أهل بيت إبراهيم { إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ } أي إنه تعالى محمود ممجدّ في صفاته وذاته، مستحقٌ للحمد والتمجيد من عباده، وهو تعليل بديع لما سبق من البشارة.

البَلاَغَة:

1- { يُرْسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً } المراد بالسماء المطر فهو مجاز مرسل لأن المطر ينزل من السماء ولفظ " مدراراً " للمبالغة أي كثير الدر.

2- { فَكِيدُونِي جَمِيعاً } أمرٌ بمعنى التعجيز.

3- { مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ } استعارة تمثيلية شبّه الخلق وهم في قبضة الله وملكه وتحت قهره وسلطانه بالمالك الذي يقود المقدور عليه بناصيته كما يقاد الأسير والفرس بناصيته.

4- { إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } استعارة لطيفة عن كمال العدل في ملكه تعالى فهو مطلع على أمور العباد لا يفوته ظالم، ولا يضيع عنده معتصم به.

5- { وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا } الأمر كناية عن العذاب.

6- { نَجَّيْنَا هُوداً... وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } التكرار في لفظ الإِنجاء لبيان أن الأمر شديد عظيم لا سهل يسير، ويسمى هذا الإطناب.

7- { وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ } أي عصوا رسولهم هوداً وفيه تفظيع لحالهم وبيان أن عصيانهم له عصيانٌ لجميع الرسل السابقين واللاحقين، وهو مجاز مرسل من باب إطلاق الكل وإرادة البعض.

8- { أَلاۤ إِنَّ عَاداً... أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ } تكرير حرف التنبيه وإعادة لفظ " عاد " للمبالغة في تهويل حالهم.

تنبيه:
لم يقل هود عليه السلام: إِني أُشهد الله وأشهدكم وإِنما قال: { إِنِّيۤ أُشْهِدُ ٱللَّهَ وَٱشْهَدُوۤاْ أَنِّي بَرِيۤءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } وذلك لئلا يفيد التشريك بين الشهادتين والتسوية بينهما، فأين شهادة الله العلي الكبير من شهادة العبد الحقير؟!

أم سهام 2016-06-29 19:06

رد: تفسير سورة هود
 
* تفسير صفوة التفاسير/ الصابوني (مـ 1930م -) مصنف و مدقق
{ فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ ٱلرَّوْعُ وَجَآءَتْهُ ٱلْبُشْرَىٰ يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ } * { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ } * { يَٰإِبْرَٰهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَـٰذَآ إِنَّهُ قَدْ جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ } * { وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيۤءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالَ هَـٰذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ } * { وَجَآءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ قَالَ يٰقَوْمِ هَـٰؤُلاۤءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللًّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ } * { قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ } * { قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِيۤ إِلَىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍ } * { قَالُواْ يٰلُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوۤاْ إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ ٱلْلَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ ٱمْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَآ أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ ٱلصُّبْحُ أَلَيْسَ ٱلصُّبْحُ بِقَرِيبٍ } * { فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنْضُودٍ } * { مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ } * { وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ إِنِّيۤ أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ } * { وَيٰقَوْمِ أَوْفُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ بِٱلْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي ٱلأَرْضِ مُفْسِدِينَ } * { بَقِيَّتُ ٱللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } * { قَالُواْ يٰشُعَيْبُ أَصَلَٰوتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِيۤ أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنتَ ٱلْحَلِيمُ ٱلرَّشِيدُ } * { قَالَ يٰقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ ٱلإِصْلاَحَ مَا ٱسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِيۤ إِلاَّ بِٱللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } * { وَيٰقَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِيۤ أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَآ أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ } * { وَٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ } * { قَالُواْ يٰشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ } * { قَالَ يٰقَوْمِ أَرَهْطِيۤ أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ ٱللَّهِ وَٱتَّخَذْتُمُوهُ وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } * { وَيٰقَوْمِ ٱعْمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَٰمِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَٰذِبٌ وَٱرْتَقِبُوۤاْ إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ } * { وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَأَخَذَتِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ } * { كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ أَلاَ بُعْداً لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ } * { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } * { إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَٱتَّبَعُوۤاْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ } * { يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ ٱلنَّارَ وَبِئْسَ ٱلْوِرْدُ ٱلْمَوْرُودُ } * { وَأُتْبِعُواْ فِي هَـٰذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ بِئْسَ ٱلرِّفْدُ ٱلْمَرْفُودُ }

المنَاسَبَة:
لا تزال الآيات تتحدث عن قصة ضيوف إِبراهيم، وهم الملائكة الذين مروا عليه وهم بطريقهم لإِهلاك قوم لوط، وبشروه بالبشارة السارة بولادة غلام له، وقد ذكرت الآيات مرورهم على لوط وما حلَّ بقومه من النكال والدمار، وهي القصة الخامسة، ثم ذكرت قصة شعيب مع أهل مدين، وقصة موسى مع فرعون، وفي جميع هذه القصص عبرٌ وعظات.

اللغَة:
{ ٱلرَّوْعُ } الخوف والفزع { مُّنِيبٌ } الإِنابة: الرجوع والتوبة { عَصِيبٌ } شديد في الشر قال الشاعر:
وإِنك إِلاّ تُرض بكرَ بن وائلٍ *** يكنْ لك يومٌ بالعراق عصيب
{ يُهْرَعُونَ } يسرعون قال الفراء: الإِهراع الإِسراع مع رِعدة يقال أُهرع الرجل إهراعاً أي أسرع في رعدة من برد أو غضب { تُخْزُونِ } أخزاه: أهانه وأذله قال حسان:
فأخزاكَ ربي يا عُتَيْبَ بن مالكٍ *** ولقَّاك قبل الموتِ إِحدى الصَّواعق
{ سِجِّيلٍ } السّجيل والسّجين: الشديد من الحجر قاله أبو عبيدة، وقال الفراء: طينٌ طبخ حتى صار كالآجر { مَّنْضُودٍ } متتابع بعضه فوق بعض في النزول { مُّسَوَّمَةً } معلَّمة من السيما وهي العلامة { شِقَاقِيۤ } الشقاق: العداوة قال الشاعر:
ألاَ من مبلغٌ عني رسولاً *** فكيف وجدتم طعم الشقاق
{ رَهْطُكَ } رهط الرجل: عشيرته التي يتقوى بهم { ٱلْوِرْدُ } المدخل { ٱلرِّفْدُ } العطاء والإِعانة.

التفِسير:
{ فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ ٱلرَّوْعُ } أي فلما ذهب عن إبراهيم الخوفُ الذي أوجسه في نفسه، واطمأن قلبُه لضيوفه حين علم أنهم ملائكة { وَجَآءَتْهُ ٱلْبُشْرَىٰ } أي جاءته البشارة بالولد { يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ } أي أخذ يجادل ملائكتنا في شأن إهلاك قوم لوط، وغرضُه تأخير العذاب عنهم لعلهم يؤمنون قال المفسرون: لما قالت الملائكة:
{*إِنَّا مُهْلِكُوۤ أَهْلِ هَـٰذِهِ ٱلْقَرْيَةِ*}
[العنكبوت: 31] قال لهم: أرأيتم إن كان فيها خمسون من المسلمين أتهلكونهم؟ قالوا: لا، قال: فأربعون؟ قالوا: لا فما زال يتنزّل معهم حتى قال لهم: أرأستم إن كان فيها رجل واحد مسلم أتهلكونهم؟ قالوا لا فقال لهم
{*إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُواْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ ٱمْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ ٱلْغَابِرِينَ*}
[العنكبوت: 32] { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ } أي غير عجولٍ في الانتقام من المسيء إِليه { أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ } أي كثير التأوه والتأسف على الناس لرقة قلبه، منيب رجّاعٌ إِلى طاعة الله { يَٰإِبْرَٰهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَـٰذَآ } أي قالت الملائكة: يا إِبراهيم دع عنك الجدال في قوم لوط فقد نفذ القضاء بعذابهم { إِنَّهُ قَدْ جَآءَ أَمْرُ رَبَّكَ } أي جاء أمر الله بإِهلاكهم { وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ } أي نازلٌ بهم عذابٌ غير مصروفٍ عنهم ولا مدفوع { وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيۤءَ بِهِمْ } أي ولما جاءت الملائكة لوطاً أصابه سوء وضجر، لأنه ظهر أنهم من البشر فخاف عليهم من قومه { وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً } أي ضاق صدره بمجيئهم خشيةً عليهم من قومه الأشرار { وَقَالَ هَـٰذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ } أي شديد في الشر { وَجَآءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ } أي جاء قومه يسرعون إِليه لطلب الفاحشة بالضيوف كأنهم يدفعون إِلى ذلك دفعاً { وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ } أي ومن قبل ذلك الحين كانت عادتهم إِتيان الرجال وعمل الفاحشة فلذلك لم يستحيوا حين جاءوا يهرعون لها مجاهرين قال القرطبي: وكان سبب إِسراعهم أن امرأة لوط الكافرة لما رأت الأضياف وجمالهم، خرجت حتى أتت مجلس قومها فقالت لهم: إِن لوطاً قد أضاف الليلة فتيةً ما رأيت مثلهم جمالاً فحينئذٍ جاءوا يُهرعون إِليه { قَالَ يٰقَوْمِ هَـٰؤُلاۤءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ } أي قال لهم لوط: هؤلاء نساء البلدة أُزوِّجكم بهن فذلك أطهر لكم وأفضل، وإِنما قال بناتي لأن كل نبيٍّ أبٌ لأمته في الشفقة والتربية { فَاتَّقُواْ اللًّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي } أي اخشوا عذاب الله ولا تفضحوني وتهينوني في ضيوفي { أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ } أي استفهام توبيخ أي أليس فيكم رجل عاقل يمنع عن القبيح؟ { قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ } أي قال له قومه: لقد علمت يا لوط ما لنا في النساء من أرب. وليس لنا رغبة فيهن { وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ } أي وأنت تعلم غرضنا وهو إِتيان الذكور، صرّحوا له بغرضهم الخبيث قبّحهم الله { قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً } أي لو كان لي قوة أستطيع أن أدفع أذاكم بها { أَوْ آوِيۤ إِلَىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍ } أي ألجأ إِلى عشيرة وأنصار تنصرني عليكم، وجواب " لو " محذوف تقديره لبطشتُ بكم وفي الحديث " رحم الله أخي لوطاً لقد كان يأوي إِلى ركنٍ شديد " يريد صلى الله عليه وسلم أن الله كان ناصره ومؤيده، فهو ركنه الشديد وسنده القوي قال قتادة: وذُكر لنا أن الله تعالى لم يبعث نبياً بعد لوط إِلا في منعة من عشيرته، وحين سمع رسل الله تعالى تحسر لوط على ضعفه وانقطاعه من الأنصار { قَالُواْ يٰلُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوۤاْ إِلَيْكَ } أي قالت الملائكة للوط: إِنا رسلُ ربك أُرسلنا لإِهلاكهم وإِنهم لن يصلوا إِليك بضرر ولا مكروه { فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ ٱلْلَّيْلِ } أي اخرج بهم بطائفةٍ من الليل قال الطبري: أي اخرج من بين أظهرهم أنت وأهلك ببقية من الليل { وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ ٱمْرَأَتَكَ } أي لا ينظر أحدٌ منكم وراءه إِلا امرأتَك فإِنها ستهلك كما هلكوا، نُهوا عن الالتفات لئلا تتفطر أكبادهم على قريتهم قال القرطبي: إِن امرأة لوط لمّا سمعت هدَّة العذاب التفتت وقالت: واقوماه! فأدركها حجر فقتلها { إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَآ أَصَابَهُمْ } أي إِنه يصيب امرأتك من العذاب ما أصاب قومك { إِنَّ مَوْعِدَهُمُ ٱلصُّبْحُ } أي موعد عذابهم وهلاكهم الصبحُ { أَلَيْسَ ٱلصُّبْحُ بِقَرِيبٍ } استعجلهم بالعذاب لغيظه على قومه فقالوا له: أليس وقت الصبح قريباً؟ قال المفسرون: إِن قوم لوط لما سمعوا بالضيوف هرعوا نحوه، فأغلق بابه وأخذ يجادل قومه عنهم من وراء الباب، فتسوروا الجدار، فلما رأت الملائكة ما بلوطٍ من الكرب قالوا يا لوط: افتح الباب ودعنا وإِيّاهم، ففتح الباب فضربهم جبريل بجناحه فطمس أعينهم وعموا، وانصرفوا على أعقابهم يقولون: النجاءَ، النجاء كما قال تعالى {*وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ*}
[القمر: 37] ثم إِن لوطاً سرى بمن معه قبل الفجر، ولما حان وقت عذابهم أمر الله جبريل فاقتلع مَدائن قوم لوط - وهي خمسٌ - من تخوم الأرض حتى أدناها من السماء بما فيها، حتى سمع أهل السماء صراخ الديكة، ونباح الكلاب، ثم أرسلها مقلوبة وأتبعهم الله بالحجارة ولهذا قال تعالى { فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا } أي فلما جاء وقت العذاب قلبنا بهم القرى فجعلنا العالي سافلاً { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ } أي أرسلنا على أهل تلك المدن حجارة صلبة شديدة من نارٍ وطين، شبّهها بالمطر لكثرتها وشدتها { مَّنْضُودٍ } أي متتابعة، بعضُها في إِثر بعض { مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ } أي معلَّمة بعلامة قال الربيع: قد كتب على كل حجر اسم من يُرمى به قال القرطبي: وقوله { عِندَ رَبِّكَ } دليلٌ على أنها ليست من حجارة الأرض { وَمَا هِيَ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ } أي ما هذه القرى المهلكة ببعيدة عن قومك " كفار قريش " فإِنهم يمرون عليها في أسفارهم أفلا يعتبرون؟ قال المفسرون: وقد صار موضع تلك المدن بحراً أُجاجاً يعرف بـ " البحر الميت " لأن مياهه لا تغذي شيئاً من الحيوان وقد اشتهر باسم " بحيرة لوط " والأرض التي تليها قاحلة لا تنبتُ شيئاً { وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً } هذه هي القصة السادسة من القصص المذكورة في هذه السورة أي وأرسلنا إِلى قبيلة مدين أخاهم شعيباً، وقد كان شعيب من نفس القبيلة ولهذا قال " أخاهم " { قَالَ يٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ } أي اعبدوا الله وحده فليس لكم ربٌ سواه { وَلاَ تَنقُصُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ } أي لا تنقصوا الناس حقوقهم في المكيال والميزان، وقد اشتهروا بتطفيف الكيل والوزن { إِنِّيۤ أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ } أي إِني أراكم في سعةٍ تغنيكم عن نقص الكيل والميزان قال القرطبي: أي في سعة من الرزق، وكثرةٍ من النعم { وَإِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ } أي إِني أخاف عليكم إِن لم تؤمنوا عذاب يومٍ مهلك، لا يفلت منه أحد، والمراد به عذاب يوم القيامة { وَيٰقَوْمِ أَوْفُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ بِٱلْقِسْطِ } أي أتموا الكيل والوزن للناس بالعدل { وَلاَ تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ } أي لا تُنْقصوهم من حقوقهم شيئاً { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي ٱلأَرْضِ مُفْسِدِينَ } أي ولا تسعوا بالفساد في الأرض، والعثيُّ أشد الفساد { بَقِيَّةُ ٱللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } أي ما أبقاه الله لكم من الحلال خيرٌ مما تجمعونه من الحرام، إِن كنتم مصدّقين بوعد الله ووعيده وقال مجاهد: أي طاعة الله خير لكم { وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } أي ولستُ برقيب أحفظ عليكم أعمالكم وأجازيكم بها وإِنما أنا ناصح مبلّغ، وقد أعذر من أنذر { قَالُواْ يٰشُعَيْبُ أَصَلَٰوتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ } لما أمرهم شعيب عليه السلام بعبادة الله تعالى وترك عبادة الأوثان، وبإِيفاء الكيل والميزان، ردّوا عليه على سبيل السخرية والاستهزاء فقالوا: أصلاتك تدعوك لأن تأمرنا بترك عبادة الأصنام التي عبدها آباؤنا؟ إِن هذا لا يصدر عن عاقل { أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِيۤ أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ } أي وتأمرك بأن نترك تطفيف الكيل والميزان. قال الإِمام الفخر: إِن شعيباً أمرهم بشيئين: بالتوحيد، وترك البخس، فأنكروا عليه أمره بهذين النوعين فقوله { مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ } إِشارة إِلى التوحيد، { نَّفْعَلَ فِيۤ أَمْوَالِنَا } إِشارة إِلى ترك البخس، وقد يراد بالصلاة الدينُ والمعنى: دينُك يأمرك بذلك؟ وأطلق عليه الصلاة لأنها أظهر شعار الدين، وروي أن شعيباً كان كثير الصلاة وكان قومه إِذا رأوه يصلي تغامزوا وتضاحكوا، فقصدوا بقولهم { أَصَلَٰوتُكَ تَأْمُرُكَ } السخرية والهزء، كما إِذا رأيت معتوهاً يطالع كتباً ثم يذكر كلاماً فاسداً فتقول: هذا من مطالعة تلك الكتب؟ { إِنَّكَ لأَنتَ ٱلْحَلِيمُ ٱلرَّشِيدُ } أي إِنك لأنت العاقل المتصف بالحلم والرشد؟ قال الطبري: يستهزئون به فإِنهم أعداء الله قالوا له ذلك استهزاءً، وإِنما سفّهوه وجهّلوه بهذا الكلام { قَالَ يٰقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي } أي قال لهم شعيب: أخبروني إِن كنت على برهان من ربي وهو الهداية والنبوة { وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً } أي أعطاني المال الحلال، فقد كان عليه السلام كثير المال قال الزمخشري: والجواب محذوف دل عليه المعنى أي أخبروني إِن كنت على حجة واضحة، ويقينٍ من ربي، وكنتُ نبياً على الحقيقة أيصح لي أن لا آمركم بترك عبادة الأوثان، والكف عن المعاصي؟ والأنبياء لا يُبعثون إِلا لذلك { وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ } أي لست أنهاكم عن شيء وأرتكبه وإِنما آمركم بما آمر به نفسي { إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ ٱلإِصْلاَحَ مَا ٱسْتَطَعْتُ } أي لا أُريد فيما آمركم به وأنهاكم عنه إِلا إِصلاحكم وإِصلاح أمركم بقدر استطاعتي { وَمَا تَوْفِيقِيۤ إِلاَّ بِٱللَّهِ } أي ليس التوفيق إِلى الخير إِلا بتأييده سبحانه ومعونته { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } أي على الله سبحانه اعتمدت في جميع أموري، وإِليه تعالى أرجع بالتوبة والإِنابة { وَيٰقَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِيۤ } أي لا يكسبنكم عداوتي { أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَآ أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ } أي يصيبكم العذابُ كما أصاب قوم نوح بالغرق، وقوم هود بالريح، وقوم صالح بالرجفة وقال الحسن المعنى: لا يحملنكم معاداتي على ترك الإِيمان فيصيبكم ما أصاب الكفار { وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ } أي وما ديار الظالمين من قوم لوطٍ بمكان بعيد، أفلا تتعظون وتعتبرون!؟ { وَٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ } أي استغفروا ربكم من جميع الذنوب، ثم توبوا إِليه توبةً نصوحاً { إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ } أي إِنه جل وعلا عظيم الرحمة، كثير الود والمحبة لمن تاب وأناب { قَالُواْ يٰشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ } أي قالوا لنبيّهم شعيب على وجه الاستهانة: ما نفهم كثيراً مما تحدثنا به قال الألوسي: جعلوا كلامه المشتمل على فنون الحِكَم والمواعظ، وأنواع العلوم والمعارف، من قبيل التخليط والهذيان الذي لا يُفهم معناه، ولا يدرك فحواه مع أنه كما ورد في الحديث الشريف (خطيب الأنبياء) { وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً } أي لا قوة لك ولا عزَّ فيما بيننا { وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ } أي ولولا جماعتك لقتلناك رمياً بالأحجار { وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ } أي لستَ عندنا بمكرَّم ولا محترم حتى نمتنع من رجمك { قَالَ يٰقَوْمِ أَرَهْطِيۤ أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ ٱللَّهِ }؟ هذا توبيخ لهم أي أتتركوني لأجل قومي ولا تتركوني إعظاماً لجناب الرب تبارك وتعالى؟ فهل عشيرتي أعزّ عندكم من الله وأكرم؟ قال ابن عباس: إِن قوم شعيب ورهطه كانوا أعزَّ عليهم من الله وصغُر شأنُ الله عندهم، عزَّ ربنا وجلَّ ثناؤه { وَٱتَّخَذْتُمُوهُ وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً } أي جعلتم الله خلف ظهوركم لا تطيعونه ولا تعظمونه كالشيء المنبوذ وراء الظهر لا يُعبأ به، وهذا مثلٌ قال الطبري: يقال للرجل إذا لم يقض حاجة الرجل: نبذ حاجته وراء ظهره أي تركها ولم يلتفت إليها { إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } أي إنه جل وعلا قد أحاط علماً بأعمالكم السيئة وسيجازيكم عليها { وَيٰقَوْمِ ٱعْمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ } تهديدٌ شديد أي اعملوا على طريقتكم إني عاملٌ على طريقتي كأنه يقول: اثبتوا على ما أنتم عليه من الكفر والعداوة، فأنا ثابت على الإِسلام والمصابرة { سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ } أي سوف تعلمون الذي يأتيه عذاب يذله ويهينه { وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ } أي وتعلمون من هو الكاذب { وَٱرْتَقِبُوۤاْ إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ } أي انتظروا عاقبة أمركم إنني منتظر معكم { وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا } أي ولما جاء أمرنا بإِهلاكهم نجينا شعيباً والمؤمنين معه بسبب رحمة عظيمة منا لهم { وَأَخَذَتِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ } أي وأخذ أولئك الظالمين صيحةُ العذاب قال القرطبي: صاح بهم جبريل صيحةً فخرجت أرواحهم من أجسادهم { فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ } أي موتى هامدين لا حراك بهم قال ابن كثير: وذكر هٰهنا أنه أتتهم صيحة، وفي الأعراف رجفة، وفي الشعراء عذاب يوم الظلة، وهم أمةٌ واحدة اجتمع عليهم يوم عذابهم هذه النقم كلّها، وإِنما ذكر في كل سياقٍ ما يناسبه { كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ } أي كأن لم يعيشوا ويقيموا في ديارهم قبل ذلك { أَلاَ بُعْداً لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ } قال الطبري: أي ألا أبعد الله مدين من رحمته بإِحلال نقمته، كما بعدت من قبلهم ثمود من رحمته بإِنزال سخطه بهم { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } هذه هي القصة السابعة وهي آخر القصص في هذه السورة والمعنى: لقد أرسلنا موسى بشرائع وأحكام وتكاليف إِلهية، وأيدناه بمعجزاتٍ قاهرة، وبينات باهرة، كالعصا واليد { إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ } أي إِلى فرعون وأشراف قومه { فَٱتَّبَعُوۤاْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ } أي فأطاعوا أمر فرعون وعصوا أمر الله { وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ } أي وما أمر فرعون بسديد لأنه ليس فيه رشد ولا هدى، وإنما هو جهل وضلال { يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } أي يتقدم أمامهم إِلى النار يوم القيامة كما كان يتقدمهم في الدنيا { فَأَوْرَدَهُمُ ٱلنَّارَ } أي أدخلهم نار جهنم { وَبِئْسَ ٱلْوِرْدُ ٱلْمَوْرُودُ } أي بئس المدخل المدخول هي. { وَأُتْبِعُواْ فِي هَـٰذِهِ لَعْنَةً } أي أُلحقوا فوق العذاب الذي عجله الله لهم لعنةً في الدنيا { وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } أي وأُردفوا بلعنةٍ أخرى يوم القيامة { بِئْسَ ٱلرِّفْدُ ٱلْمَرْفُودُ } أي بئس العونُ الُمعان والعطاء المُعْطى لهم، وهي اللعنة في الدارين.

البَلاَغَة:
1- { ذَهَبَ الرَّوْعُ.. وَجَآءَتْهُ } بينهما طباقٌ وهو من المحسنات البديعية.

2- { جَآءَ أَمْرُ رَبَّكَ } كناية عن العذاب الذي قضاه الله لهم.

3- { أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ } الاستفهام للتعجب والتوبيخ.

4- { أَوْ آوِيۤ إِلَىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍ } قال الشريف الرضي: وهذه استعارة والمراد بها قومه وعشيرته، جعلهم ركناً له لأن الإِنسان يلجأ إِلى قبيلته، ويستند إِلى أعوانه كما يستند إِلى ركن البناء الرصين، وجاء جواب " لو " محذوفاً تقديره: لحلت بينكم وبين ما هممتم به من الفساد، والحذف هٰهنا أبلغ لأنه يوهم بعظيم الجزاء وغليظ النكال.

5- { عَالِيَهَا سَافِلَهَا } بينهما طباقٌ.

6- { عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ } فيه مجاز عقلي أسند الإِحاطة لليوم مع أن اليوم ليس بجسم باعتبار أن العذاب يكون فيه، فهو إِسنادٌ للزمان.

7- { وَٱتَّخَذْتُمُوهُ وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً } فيه استعارة تمثيلية كالشيء الذي يلقى وراء الظهر ولا يكترث به.

8- { فَأَوْرَدَهُمُ ٱلنَّارَ } فيه استعارة مكنية لأن الورود في الأصل يقال للمرور على الماء للاستسقاء منه، فشبّه النار بماءٍ يورد وحذف ذكر المشبه به ورمز له بشيء من لوازمه وهو الورود، وشبّه فرعون في تقدمه على قومه بمنزلة من يتقدم على الواردين إِلى الماء ليكسر العطش وقوله { وَبِئْسَ ٱلْوِرْدُ ٱلْمَوْرُودُ } تأكيد له لأن الورد إنما يورد لتسكين العطش وتبريد الأكباد وفي النار إلهابٌ للعطش وتقطيع للأكباد، نعوذ بالله من نار جهنم.

أم سهام 2016-07-09 18:43

رد: تفسير سورة هود
 
* تفسير صفوة التفاسير/ الصابوني (مـ 1930م -) مصنف و مدقق
{ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ ظ±لْقُرَىظ° نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ } * { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـظ°كِن ظَلَمُوغ¤اْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ ظ±لَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ ظ±للَّهِ مِن شَيْءٍ لَّمَّا جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ } * { وَكَذظ°لِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ ظ±لْقُرَىظ° وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } * { إِنَّ فِي ذظ°لِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ ظ±لآخِرَةِ ذظ°لِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ ظ±لنَّاسُ وَذَظ°لِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ } * { وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ } * { يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ } * { فَأَمَّا ظ±لَّذِينَ شَقُواْ فَفِي ظ±لنَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ } * { خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ظ±لسَّمَظ°وَظ°تُ وَظ±لأَرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } * { وَأَمَّا ظ±لَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي ظ±لْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ظ±لسَّمَظ°وَظ°تُ وَظ±لأَرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ } * { فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هَـظ°ؤُلاغ¤ءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُم مِّن قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ } * { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىظ° ظ±لْكِتَابَ فَظ±خْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ } * { وَإِنَّ كُـلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } * { فَظ±سْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } * { وَلاَ تَرْكَنُوغ¤اْ إِلَى ظ±لَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ ظ±لنَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ ظ±للَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ } * { وَأَقِمِ ظ±لصَّلظ°وةَ طَرَفَيِ ظ±لنَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ ظ±لَّيْلِ إِنَّ ظ±لْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ ظ±لسَّـيِّئَاتِ ذظ°لِكَ ذِكْرَىظ° لِلذَّاكِرِينَ } * { وَظ±صْبِرْ فَإِنَّ ظ±للَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ظ±لْمُحْسِنِينَ } * { فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ ظ±لْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ ظ±لْفَسَادِ فِي ظ±لأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَظ±تَّبَعَ ظ±لَّذِينَ ظَلَمُواْ مَآ أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ } * { وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ ظ±لْقُرَىظ° بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ } * { وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ ظ±لنَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ } * { إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذظ°لِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ظ±لْجِنَّةِ وَظ±لنَّاسِ أَجْمَعِينَ } * { وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ ظ±لرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَآءَكَ فِي هَـظ°ذِهِ ظ±لْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَىظ° لِلْمُؤْمِنِينَ } * { وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ظ±عْمَلُواْ عَلَىظ° مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ } * { وَظ±نْتَظِرُوغ¤اْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ } * { وَلِلَّهِ غَيْبُ ظ±لسَّمَظ°وَظ°تِ وَظ±لأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ ظ±لأَمْرُ كُلُّهُ فَظ±عْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }

المنَاسَبَة:
لمّا ذكر تعالى بعض قصص المرسلين، وما حلَّ بأممهم من النكال والدمار، ذكر هنا العبرة من سرد هذه القصص، وهي أن تكون شاهداً على تعجيل العقوبة للمكذبين والانتقام العاجل منهم وبرهاناً على تأييد الله ونصرته لأوليائه وأنبيائه، وقد ذكرت الآيات يوم القيامة وانقسام الناس فيه إِلى فريقين: سعداء، وأشقياء، وختمت السورة الكريمة بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالصبر على الأذى، والتوكل على الحي القيوم.

اللغَة:

{ حَصِيدٌ } مستأصل كالزرع المحصود { تَتْبِيبٍ } التباب: الهلاك والخسران قال لبيد:
فلقد بَلِيتُ وكلُّ صاحب جِدَّةٍ *** لبِلىً يعودُ وذاكُمُ التَّتْبيبُ
{ زَفِيرٌ } الزفير: إِخراج النَّفَس من شدة الجري { وَشَهِيقٌ } الشهيقُ: ردُّ النَّفَس وقال الليث: الزفير أن يملأ الرجل صدره من النَّفَس في حال الغمّ الشديد ويخرجه، والشهيقُ أن يخرج ذلك النَّفَس بشدة وقال بعض أهل اللغة: الزفير مثلُ أول نهيق الحمار، والشهيق مثل آخره { مَجْذُوذٍ } مقطوع من جذَّه يجذه إِذا قطعه { تَرْكَنُوغ¤اْ } الركون: الميلُ إِلى الشيء والرضا به { زُلَفاً } الزُّلف: جمع زُلفة وهي الطائفة من أول الليل قال ثعلب: هي أول ساعات الليل، وأصلها من الزلفى وهي القربة
{*وَأُزْلِفَتِ ظ±لْجَنَّةُ*}
[الشعراء: 90] قُرِّبت { أُتْرِفُواْ } التَّرف: البطر يقال فلان مترف أي أبطرته النعمة وسعة العيش { مِرْيَةٍ } شك وريب.

سَبَبُ النّزول:
عن ابن مسعود أن رجلاً جاء إِلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إِني عالجتُ امرأةً في أقصى المدينة، وإِني أصبتُ منها من دون أن أمسَّها، وأنا هذا فاقض فيَّ ما شئتَ! فقال له عمر: لقد سترك الله لو سترت على نفسك، فلم يردَّ عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم شيئاً، فانطلق الرجل ونزلت هذه الآية { وَأَقِمِ ظ±لصَّلاَةَ طَرَفَيِ ظ±لنَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ ظ±لَّيْلِ إِنَّ ظ±لْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ ظ±لسَّـيِّئَاتِ } فأتبعه رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً فدعاه فتلاها عليه.

التفسِير:
{ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ ظ±لْقُرَىظ° نَقُصُّهُ عَلَيْكَ } أي ذلك القصص من أخبار القرى التي أهلكنا أهلها بكفرهم وتكذيبهم الرسل، نقصه عليك يا محمد ونخبرك عنه بطريق الوحي { مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ } أي من هذه القرى ما هو عامر قد هلك أهلُه وبقي بنيانُه، ومنها ما هو خراب قد اندثر بأهله فلم يبق له أثر كالزرع المحصود { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـظ°كِن ظَلَمُوغ¤اْ أَنفُسَهُمْ } أي وما ظلمناهم بإِهلاكهم بغير ذنب، ولكنْ ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصي فاستحقوا عذاب الله ونقمته { فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ ظ±لَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ ظ±للَّهِ مِن شَيْءٍ } أي ما نفعتهم آلهتهم التي عبدوها من دون الله، ولا دفعت عنهم شيئاً من عقاب الله وعذابه { لَّمَّا جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ } أي حين جاء قضاء الله بعذابهم { وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ } أي وما زادتهم تلك الآلهة غير تخسير وتدمير { وَكَذظ°لِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ ظ±لْقُرَىظ° وَهِيَ ظَالِمَةٌ } أي مثل ذلك الأخذ والإِهلاك الذي أخذ الله به أهل القرى الظالمين المكذبين، يأخذ تعالى بعذابه الفجرة الظلمة قال الألوسي: وفي الآية من إِنذار الظالم ما لا يخفى كما قال عليه السلام " إن الله ليُملي للظالم حتى إِذا أخذه لم يفلته " ثم قرأ الأية { إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } أي إِن عذابه موجع شديد، وهذا مبالغة في التهديد والوعيد { إِنَّ فِي ذظ°لِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ ظ±لآخِرَةِ } أي إِن في هذه القصص والأخبار لعظة وعبرة لمن خاف عذاب الله وعقابه في الآخرة { ذظ°لِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ ظ±لنَّاسُ } أي يجتمع فيه الخلائق للحساب والثواب والعقاب { وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ } أي يشهده أهل السماء والأرض، والأولون والآخرون قال ابن عباس: يشهده البر والفاجر { وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ } أي ما نؤخر ذلك اليوم - يوم القيامة - إِلا لزمنٍ معيَّن سبق به قضاء الله، لا يتقدم ولا يتأخر { يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } أي يوم يأتي ذلك اليوم الرهيب لا يتكلم أحدٌ إِلا بإِذن الله تعالى { فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ } أي فمن أهل الموقف شقيٌّ، ومنهم سعيد كقوله
{*فَرِيقٌ فِي ظ±لْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي ظ±لسَّعِيرِ*}
[الشورى: 7] { فَأَمَّا ظ±لَّذِينَ شَقُواْ فَفِي ظ±لنَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ } أي فأما الأشقياء الذين سبقت لهم الشقاوة فإِنهم مستقرون في نار جهنم، لهم من شدة كربهم { زَفِيرٌ } وهو إِخراج النَّفَس بشدة { وَشَهِيقٌ } وهو ردُّ النَّفَس بشدة، وقال بعض المفسرين: شبِّه صراخهم في جهنم بأصوات الحمير قال الطبري: في روايته عن قتادة: صوتُ الكافر في النار صوت الحمار، أوله زفير وآخره شهيق { خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ظ±لسَّمَظ°وَظ°تُ وَظ±لأَرْضُ } أي ماكثين في جهنم أبداً على الدوام ما دامت السماوات والأرض قال الطبري: إِن العرب إِذا أرادت أن تصف الشيء بالدوام أبداً قالت: هذا دائمٌ دوام السماوات والأرض بمعنى أنه دائمٌ أبداً، فخاطبهم جل ثناؤه بما يتعارفون به بينهم قال ابن زيد: ما دامت السماء سماءً، والأرض أرضاً والمعنى خالدين فيها أبداً وقال الزمخشري: فيه وجهان: أحدهما أن تراد سماوات الآخرة وأرضها وهي دائمة مخلوقة للأبد، والثاني أن يكون عبارة عن التأبيد ونفي الانقطاع { إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ } الاستثناء في أهل التوحيد، لأن لفظة { شَقُواْ } تعم الكفار والمذنبين، فاستثنى الله من خلود أهل الشقاوة العصاة من المؤمنين، فإِنهم يطهرون في نار جهنم ثم يخرجون منها بشفاعة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم ويدخلهم الله الجنة ويقال لهم:
{*طِبْتُمْ فَظ±دْخُلُوهَا خَالِدِينَ*}
[الزمر: 73] { إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } أي يفعل ما يريد يرحمْ ويعذب كما يشاء ويختار، لا معقّب لحكمه، ولا رادّ لقضائه { وَأَمَّا ظ±لَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي ظ±لْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ظ±لسَّمَظ°وَظ°تُ وَظ±لأَرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ } هذا بيانٌ لحال الفريق الثاني " أهل السعادة " اللهم اجعلنا منهم أي وأما السعداء الأبرار فإِنهم مستقرون في الجنة، لا يُخْرجون منها أبداً، دائمون فيها دوام السماوات والأرض، أو ما دامت سماواتُ الجنة وأرض الجنة حسب مشيئته تعالى، وقد شاء تعالى لهم الخلود والدوام { عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ } أي عطاءً غير مقطوع عنهم، بل هو ممتد إِلى غير نهاية { فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هَـظ°ؤُلاغ¤ءِ } أي لا تكن في شكٍ من عبادة هؤلاء المشركين في أنها ضلال بمعنى لا تشك في فساد دينهم { مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُم مِّن قَبْلُ } أي هم متبعون لآبائهم تقليداً من غير حجة ولا برهان، وهذه تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم ووعدٌ له بالانتقام منهم، إِذ حالُهم حالُ من سبقهم من الضالين المكذبين، وقد بلغك ما نزل بأسلافهم فسينزل بهم مثله { وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ } أي وسنعطيهم جزاءهم من العذاب كاملاً غير منقوص وقال ابن عباس: ما قُدِّر لهم من الخير والشر { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىظ° ظ±لْكِتَابَ فَظ±خْتُلِفَ فِيهِ } قال الطبري: يقول تعالى مسلياً نبيه في تكذيب مشركي قومه له: لا يحزنك يا محمد تكذيب هؤلاء لك، فلقد آتينا موسى التوراة كما آتيناك الفرقان، فاختلف في ذلك الكتاب، فكذَّب به بعضُهم، وصدَّق به بعضُهم، كما فعل قومك { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } أي ولولا حكم الله السابق بتأخير الحساب والجزاء إِلى يوم القيامة لقُضي بينهم في الدنيا فجوزي المحسن بإِحسانه، والمسيء بإِساءته، ولكن سبق القدر بتأخير الجزاء إِلى يوم الحساب { وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ } أي وإن الكفار قومك لفي شك من هذا القرآن مُريب لهم، إِذ لا يدرون أحقٌ هو أم باطل؟ { وَإِنَّ كُـلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ } أي وإنَّ كلا من المؤمنين والكافرين لمَّا ينالوا جزاء أعمالهم وسيوفيهم ربُّك جزاءها في الآخرة { إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } أي عليمٌ بأعمالهم جميعاً، صغيرها وكبيرها، وسيجازيهم عليها { فَظ±سْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ } أي استقم يا محمد على أمر الله واثبُت وداوم على الاستقامة كما أمركَ ربُّك { وَمَن تَابَ مَعَكَ } أي ومن تاب من الشرك والكفر وآمن معك { وَلاَ تَطْغَوْاْ } أي لا تجاوزوا حدود الله بارتكاب المحارم { إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي إِنه تعالى مطلّع على أعمالكم ويجازي عليها { وَلاَ تَرْكَنُوغ¤اْ إِلَى ظ±لَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ ظ±لنَّارُ } أي لا تميلوا إِلى الظلمة من الولاة وغيرهم من الفسقة الفجرة فتمسكم نار جهنم قال البيضاوي: الركونُ هو الميل اليسير أي لا تميلوا إِليهم أدنى ميل فتمسكم النار بركونكم إِليهم، وإِذا كان الركونُ اليسير إِلى من وجد منه ما يسمى ظلماً كذلك، فما ظنك بالركون إِلى الظالمين الموسومين بالظلم، والميل إِليهم كلَّ الميل؟! { وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ ظ±للَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ } أي ليس لكم من يمنعكم من عذابه ثم لا تجدون من ينصركم من ذلك البلاء قال القرطبي: والآية دالة على هجران أهل الكفر والمعاصي فإِن صحبتهم كفرٌ أو معصية إِذ الصحبةُ لا تكون إِلا عن مودَّة، وأما صحبة الظالم على التقيَّة فمستثناةٌ من النهي بحال الاضطرار { وَأَقِمِ ظ±لصَّلاَةَ طَرَفَيِ ظ±لنَّهَارِ } أي أقم الصلاة المكتوبة على تمامها وكمالها أول النهار وآخره، والمراد صلاة الصبح والعصر لأنهما طرفا النهار { وَزُلَفاً مِّنَ ظ±لَّيْلِ } أي ساعاتٍ منه قريبةً من النهار، والمراد بهما المغرب والعشاء { إِنَّ ظ±لْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ ظ±لسَّـيِّئَاتِ } أي إن الأعمال الصالحة ومنها الصلوات الخمس تكفّر الذنوب الصغائر، لحديث " الصلواتُ الخمسُ كفارةٌ لما بينهما ما اجتُنبت الكبائرُ " قال المفسرون: المراد بالحسنات الصلواتُ الخمسُ واستدلوا على ذلك بسبب النزول، وهذا قول الجمهور، والأظهر أن المراد بها العموم وهو اختيار ابن كثير حيث قال: المعنى إِن فعل الخيرات يكفّر الذنوب السالفة كما جاء في الحديث " ما من مسلم يُذنب ذنباً فيتوضأ ويصلي ركعتين إلا غُفر له " { ذظ°لِكَ ذِكْرَىظ° لِلذَّاكِرِينَ } أي ذلك المذكور من الاستقامة والمحافظة على الصلاة، عظةٌ للمتعظين وإِرشادٌ للمسترشدين { وَظ±صْبِرْ فَإِنَّ ظ±للَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ظ±لْمُحْسِنِينَ } أي اصبر يا محمد على ما تلقى من المكاره ومن أذى المشركين، فإنَّ الله معك وهو لا يضيع ثواب المحسنين { فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ ظ±لْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ ظ±لْفَسَادِ فِي ظ±لأَرْضِ } أي فهلاَّ كان من الأمم الماضية قبلكم أُولُو عقل وفضل، وجماعةٌ أخيارٌ ينهون الأشرار عن الإِفساد في الأرض { إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ } استثناء منقطع أي لكنْ قليلاً منهم، نهَوْا عن الفساد فَنَجَوْا قال في البحر: " لولا " في الآية للتحضيض صحبها معنى التأسف والتفجع مثل قوله
{*يظ°حَسْرَةً عَلَى ظ±لْعِبَادِ*}
[يس: 30] والغرضُ التأسف على تلك الأمم التي لم تهتد كقوم نوح وعاد وثمود ومن تقدم ذكره { وَظ±تَّبَعَ ظ±لَّذِينَ ظَلَمُواْ مَآ أُتْرِفُواْ فِيهِ } أي واتَّبع أولئك الظلمة شهواتهم، وما نُعّموا به من الاشتغال بالمال واللذات وآثروها على الآخرة { وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ } أي وكانوا قوماً مصرِّين على الإِجرام { وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ ظ±لْقُرَىظ° بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ } أي ما جرت عادة الله تعالى أن يهلك القرى ظلماً وأهلُها مصلحون في أعمالهم، لأنه تعالى منزّه عن الظلم، وإِنما يهلكهم بكفرهم ومعاصيهم { وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ ظ±لنَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً } أي لو شاء الله لجعل الناس كلَّهم مؤمنين مهتدين على ملة الإِسلام، ولكنَّه لم يفعل ذلك للحكمة { وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ } أي ولا يزالون مختلفين على أديان شتى، وملل متعددة ما بين يهودي، ونصراني، ومجوسي، إِلا ناساً هداهم الله من فضله وهم أهل الحق { وَلِذظ°لِكَ خَلَقَهُمْ } اللام لامُ العاقبة أي خلقهم لتكون العاقبة اختلافهم ما بين شقي وسعيد قال الطبري: المعنى وللاختلاف بالشقاء والسعادة خلقهم، فريق في الجنة، وفريقٌ في السعير { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ظ±لْجِنَّةِ وَظ±لنَّاسِ أَجْمَعِينَ } أي تمَّ أمر الله ونفذ قضاؤه بأن يملأ جهنم من الجنّ والإِنس من الكفرة الفجرة جميعاً قال الألوسي: والجملة متضمنة معنى القسم ولذا جيء باللام في { لأَمْلأَنَّ } وكأنه قال: واللهِ لأملأن جهنم من أتباع إِبليس من الإِنس والجن أجمعين { وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ ظ±لرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ } أي كل هذه الأخبار التي قصصناها عليك يا محمد من أخبار الرسل السابقين، إِنما هي بقصد تثبيتك على أداء الرسالة، وتطمين قلبك، ليكون لك بمن مضى من إِخوانك المرسلين أسوة فتصبر كما صبروا { وَجَآءَكَ فِي هَـظ°ذِهِ ظ±لْحَقُّ } أي جاءك في هذه الأنباء التي قصها الله عليك النبأ اليقيني الصادق { وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَىظ° لِلْمُؤْمِنِينَ } أي وجاءك في هذه الأخبار أيضاً ما فيه عظة وعبرة للمعتبرين، وخصَّ المؤمنين بالذكر لانتفاعهم بمواعظ القرآن { وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ظ±عْمَلُواْ عَلَىظ° مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ } أي اعملوا على طريقتكم ومنهجكم إِنا عاملون على طريقتنا ومنهجنا، وهو أمرٌ ومعناه التهديد والوعيد { وَظ±نْتَظِرُوغ¤اْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ } تهديدٌ آخر أي انتظروا ما يحلُّ بنا إِنا منتظرون ما يحل بكم من عذاب الله { وَللَّهِ غَيْبُ ظ±لسَّمَظ°وَظ°تِ وَظ±لأَرْضِ } أي علمُ ما غاب وخفي فيهما، كلُّ ذلك بيده وبعلمه { وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ ظ±لأَمْرُ كُلُّهُ } أي إِليه يردُّ أمر كل شيء، فينتقم ممن عصى، ويثيب من أطاع وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتهديد للكفار بالانتقام منهم { فَظ±عْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } أي اعبد ربَّك وحده، وفوّضْ إِليه أمرك، ولا تعتمدْ على أحدٍ سواه، فإِنه كافي من توكُّل عليه { وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } أي لا يخفى عليه شيء من أعمال العباد، ويجازي كلاً بعمله.

البَلاَغَة:
1- { مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ } شبَّه ما بقي من آثار القرى وجدرانها بالزرع القائم على ساقه، وشبَّه ما هلك مع أهله ولم يبق له أثر بالزرع المحصود بالمناجل على طريق الاستعارة المكنية.

2- { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـظ°كِن ظَلَمُوغ¤اْ أَنفُسَهُمْ } فيه طباق السلب.

3- { إِذَا أَخَذَ ظ±لْقُرَىظ° } مجازٌ عن الأهل أي أخذ أهل القرى.

4- { شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ } بينهما طباقٌ وهو من المحسنات البديعية.

5- { فَأَمَّا ظ±لَّذِينَ شَقُواْ... وَأَمَّا ظ±لَّذِينَ سُعِدُواْ } فيه لفٌ ونشر مرتب.

6- { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ } الكلمة هنا كناية عن القضاء والقدر.

7- { إِنَّ ظ±لْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ ظ±لسَّـيِّئَاتِ } بينهما طباقٌ.

8- { ذِكْرَىظ° لِلذَّاكِرِينَ } بينهما جناس الاشتقاق.

تنبيه:
خلود أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، ثابتٌ مقطوعٌ به بالنصوص العديدة، وأما الاستثناء بالمشيئة في هذه السورة فقد استعمل في أسلوب القرآن للدلالة على الثبوت والاستمرار، والنكتة في ذكره بيان أنَّ هذه الأمور إِنما كانت بمشيئته تعالى ولو شاء لغيَّرها، وليس شيء خارج عن مشيئته، فالإِيمان والكفر، والسعادة والشقاوة، والخلود والخروج كلها بمشيئته تعالى.

فَائِدَةَ:
أشار الشهاب إِلى لطيفةٍ من البلاغة القرآنية، وهي أن الأوامر بأفعال الخير أفردت للنبي صلى الله عليه وسلم وإِن كانت عامة في المعنى { فَظ±سْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ، وَأَقِمِ ظ±لصَّلاَةَ، وَظ±صْبِرْ } وفي المنهيات جمعت للأمة { وَلاَ تَطْغَوْاْ، وَلاَ تَرْكَنُوغ¤اْ إِلَى ظ±لَّذِينَ ظَلَمُواْ } كذا في العناية.


الساعة الآن 01:27

جميع المواد المنشورة بالموقع تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع ولا يتحمل أي مسؤولية عنها

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd