الرئيسية | الصحيفة | خدمات الإستضافة | مركز الملفات | الحركة الانتقالية | قوانين المنتدى | أعلن لدينا | اتصل بنا |

أفراح بن جدي - 0528861033 voiture d'occasion au Maroc
educpress
للتوصل بجديد الموقع أدخل بريدك الإلكتروني ثم فعل اشتراكك من علبة رسائلك :

فعاليات صيف 2011 على منتديات الأستاذ : مسابقة استوقفتني آية | ورشة : نحو مفهوم أمثل للزواج

العودة   منتديات الأستاذ التعليمية التربوية المغربية : فريق واحد لتعليم رائد > منتديات الثقافة والآداب والعلوم > منتدى الثقافة والفنون والعلوم الإنسانية > الفكر و التاريخ و الحضارة > مختارات الدكتور محمد عابد الجابري



إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
قديم 2017-01-31, 20:50 رقم المشاركة : 6
خادم المنتدى
مدير التواصــل
 
الصورة الرمزية خادم المنتدى

 

إحصائية العضو








خادم المنتدى غير متواجد حالياً


وسام المشاركة السيرة 1438ه

وسام المشاركة في مسابقة السيرة النبوية العطرة

العضو المميز لشهر فبراير

افتراضي رد: في ذكرى رحيل المفكر محمد عابد الجابري .. عندما يغيب الكبار


محمد عابد الجابري : ــالمغرب وموريتانيا –

رؤية تقدمية بقيت يتيمة!




نعيد نشر هذه المجموعة من المقالات للمفكر الراحل محمد عابد الجابري تزامنا مع الضجة التي خلقتها تصريحات الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون حول الصحراء المغربية. و قد نشر هذا المقال بعنوان « المغرب وموريتانيا – رؤية تقدمية بقيت يتيمة » يوم الثلاثاء 24 يوليو 2007.


أبرزنا في المقال السابق كيف أن الظروف الموضوعية قد فرضت على المغرب غداة استقلاله مباشرة، الاعتراض على قرار فرنسا/ديجول إجراء استفتاء في المستعمرات الفرنسية في إفريقيا، ومنها موريتانيا، لتقرير ما إذا كانت تريد الاستقلال أو البقاء مع فرنسا. كانت حجة المغرب أن وضع موريتانيا يختلف عن وضع المستعمرات الفرنسية؛ أولاً للروابط التي تربطها بالمغرب (العلاقات القبلية والتجارية والثقافية… الخ). وثانياً، وهذا هو أساس الظرفية التي جعلت المغرب يتخذ ذلك القرار، هو موقف « حزب النهضة » الموريتاني آنذاك بقيادة زعيمه « حرمه ولد بابانا » الذي قدِمَ إلى المغرب مع وفد كبير لتهنئة الملك محمد الخامس بالاستقلال وللبيعة والمطالبة بالمساعدة لتحرير موريتانيا.
كانت الاستجابة تفرض نفسها، ليس فقط لأن « علال الفاسي »، زعيم الحركة الوطنية المغربية، قد رفع شعار استرجاع المغرب في حدوده التاريخية، لكن أيضاً وبالدرجة الأولى بسبب قدوم زعيم وقيادات الحزب الوطني الموريتاني إلى الرباط وتجديده البيعة… الخ. لقد تكون إجماع وطني فعلي في المغرب بضرورة تلبية نداء موريتانيا، فقدمت الحكومة المغربية قضية موريتانيا لهيئة الأمم المتحدة وعملت من أجلها. صوت واحد ارتفع يقرر خياراً آخر هو صوت الشهيد « المهدي بن بركة »، وفي نفس الاتجاه كان رأي المرحوم « عبد الرحيم بوعبيد ». وكان كاتب هذه السطور آنذاك من الأطر العليا للحزب الذي كان من قادته هذان الرجلان. كان ذلك في أواخر خمسينيات القرن الماضي، وكان هذا الحزب يمثل المعارضة الوطنية التقدمية. لقد أعلن الشهيد المهدي بن بركة في منفاه الاختياري، خارج المغرب، أنه لابد من ترك الشعب الموريتاني يقرر مصيره. كما عبر المرحوم عبد الرحيم لاحقاً عن رأي الحزب (الاتحاد الوطني للقوات الشعبية) في القضية بعد أن جرى الاستفتاء واختارت موريتانيا البقاء مع فرنسا طبقاً لبرنامج الجنرال ديجول. قال بالحرف الواحد: « إن الشعب المغربي في موريتانيا قد اختار الحرية وقد قاوم الاستعمار في سبيلها. وما دام قد آمن بالحرية إلى هذا الحد، فليس من المعقول أن يقبل العبودية تحت أي شكل من أشكالها » (يشير بذلك إلى الوضع الاستبدادي الذي كان يعيشه المغرب في السنوات الأولى من عهد المرحوم الحسن الثاني). ثم أضاف: « وإذن فلإثارة حماس الشعب المغربي في موريتانيا من جديد لقضية الوحدة الوطنية يجب أن تسود الحرية في الوطن الأم، يجب أن نكون نحن هنا أحراراً ليكون من حقنا أن ندعو إخواننا في موريتانيا إلى الحرية التي نتمتع بها ».
كان موقف الاتحاد من قضية موريتانيا آنذاك يتلخص في القول إنه من غير الممكن للمغرب وهو لم ينته بعد من ترتيب علاقته مع فرنسا التي انتزع منها الاعتراف باستقلاله الذي لم يتوطد بعد، أن يخوض حرباً ضدها في منطقة تبعد عن مركز الثقل المغربي آلاف الكيلومترات، بينما كانت موريتانيا قريبة من مركز ثقل الوجود الفرنسي في السنغال وتيندوف. لذلك كان من الأجدى القبول بالاستفتاء في موريتانيا ودفع « حزب النهضة » لخوض معركة الاستقلال من خلال الاستفتاء، حتى إذا لم يفز – وهو ما كان متوقعاً- فسيكون في إمكان المغرب التعاون معه بوصفه معارضة قوية في عين المكان. ولا شك أن مسؤوليات الاستقلال ومشاكله ومطالبه، ستجعل الحزب الحاكم في موريتانيا (حزب المختار ولد داده) يعاني من تراجعات قد تنتهي بفوز « حزب النهضة » في انتخابات لاحقة تحت شعار الاتحاد مع المغرب.
هذا النوع من « السباحة ضد التيار » هو ما كان يفرضه المنطق الوطني التقدمي المتفتح. وسيتكرر هذا النوع من السباحة ضد التيار، وبنفس المنطق، عندما اقترح كاتب هذه السطور في أواسط السبعينيات، وعلى صفحات جريدة الحزب التي كان يشرف عليها، تغيير استراتيجية المغرب بشأن الساقية الحمراء ووادي الذهب (الصحراء الغربية) وذلك بمنح الاستقلال الذاتي لهذه المنطقة كحل للمشكل الذي كان قد بلغ أوجه، سواء على الصعيد السياسي أو العسكري.
تلك قصة أخرى سنعود إليها بتفصيل في مقال مقبل. أما الآن فلنواصل الحديث عن موقف المغرب من ما كان يسمى « قضية موريتانيا ». لقد بقيت وجهة نظر الاتحاد يتيمة معزولة أمام الواقع الذي فرض نفسه بالطريقة التي شرحناها قبل. لقد قرر المغرب الرسمي تلبية طلب الوفد الموريتاني برئاسة « حرمه ولد بابانا »، فوافق على انتقال فصائل من « جيش التحرير المغربي » إلى الجنوب: فريق اتجه إلى الحدود الشرقية وقد اتخذ مقراً لقيادته مدينة « أرفود » بالرشيدية، وفريق آخر اتجه إلى أكادير ومنها سيتجه إلى تيندوف المطلة على الأراضي الموريتانية التي كانت الهدف الرئيسي.
  • إقرأ أيضا
  • محمد عابد الجابري : الصحراء المغربية .. نقطة اللارجوع
  • محمد عابد الجابري : الصحراء المغربية – فرنسا وإسبانيا
  • محمد عابد الجابري : الصحراء المغربية وقضية الديمقراطية !

بدأ جيش التحرير بفتح باب الانخراط لأبناء الجنوب، ولما أكمل استعداداته بدأ حملاته على القوات الفرنسية المرابطة قريباً من تيندوف. وفي الوقت نفسه تحركت جماهير السكان بقيادة أطر الحركة الوطنية لعرقلة تحركات الجيش الفرنسي بإقليم أكادير ومحاصرة قواته في ثكناتها (فالجلاء لم يكن قد تم بعد)، وتنظيم عملية إمداد جيش التحرير بالمؤونة والمتطوعين. أما الفريق من جيش التحرير الذي عسكر في « أرفود » ونواحيها، فكانت مهمته القيام بمناوشات ضد القوات الفرنسية لعرقلة تحركاتها إلى تيندوف من الجزائر.
لم تكن الطريق بين أكادير وتيندوف تحت السيادة المغربية، بل كان معظمها تحت حكم إسبانيا (إيفني، طنطان، طرفاية، الساقية الحمراء ووادي الذهب). لقد اعتمد « جيش التحرير المغربي » في هذا المجال على السابقة التي وقعت في الشمال. فكما أن إسبانيا ساعدت المغاربة -أو على الأقل غضت الطرف- عن تأسيس « جيش التحرير » في المنطقة التي كانت تحكمها نكاية بفرنسا، فقد كان يعتقد أن الموقف نفسه ستقفه إسبانيا في الجنوب وللسبب نفسه. من هنا بادر قادة « جيش التحرير » إلى ربط الصلات مع الحاكم الإسباني في « سيدي إفني » و »الساقية الحمراء »، خصوصا والمسافة من قواعد « جيش التحرير » إلى موريتانيا كانت نحو 700 كيلومتر. كان المغرب الرسمي وجيش التحرير يتوقعان أن ما حدث في الشمال يمكن أن يحدث في الجنوب! وهكذا غادرت قوات جيش التحرير « كولمين » في أكتوبر 1956 وعند وصولها إلى حدود موريتانيا لم تكن قد أنشأت لها بعد قواعد تصلح لانطلاق عملياتها العسكرية فتعرضت للانكشاف أمام القوات الفرنسية التي هاجمتها، فكانت معركة خاسرة عسكرياً، ولكنها خلقت جواً وطنياً جديداً في موريتانيا. ولم تمر سوى أيام حتى وقعت معركة أخرى مع القوات الفرنسية في الجانب الشرقي من موريتانيا، فانتصر « جيش التحرير » وأسر ضابطاً وجنوداً. وأمام ذلك الخطر، قررت فرنسا جر إسبانيا إلى جانبها والتحالف معها، وذلك ما حصل.
هكذا حدث ما كان لا بد أن يحدث: الاصطدام مع القوات الإسبانية. لقد نظم « جيش التحرير » الهجوم على القوات الإسبانية في 23 نوفمبر 1957 بمنطقة « سيدي إفني » فحرر المناطق السبع التابعة لمدينة إيفني كما حرر كلاً من طنطان والسمارة وقرية أوسرد، وحوصرت القوات الإسبانية في طرفاية والعيون ووادي الذهب. وقد استمرت المعارك إلى حدود 10 فبراير 1958، وهو تاريخ الهجوم المشترك بين فرنسا وإسبانيا والمعروف بـ »إيكوفيون »(المكنسة) والذي استعملت فيه الدولتان، علاوة على السلاح الثقيل والطائرات، بعض القبائل، الشيء الذي أدى إلى هزيمة « جيش التحرير ».
هنا دخلت الحكومتان المغربية والإسبانية في مفاوضات أدت إلى جلاء القوات الإسبانية عن المدينتين المغربيتين، طرفاية وطنطان (شمال الصحراء الغربية على المحيط الأطلسي)، وفي المقابل قررت الحكومة المغربية وضع حد لنشاط « جيش التحرير » وإنهاء مهمته وتصفيته، وبالتالي الانتقال بقضية الساقية الحمراء ووادي الذهب (الصحراء الغربية) إلى الأمم المتحدة.






    رد مع اقتباس
قديم 2017-01-31, 20:55 رقم المشاركة : 7
خادم المنتدى
مدير التواصــل
 
الصورة الرمزية خادم المنتدى

 

إحصائية العضو








خادم المنتدى غير متواجد حالياً


وسام المشاركة السيرة 1438ه

وسام المشاركة في مسابقة السيرة النبوية العطرة

العضو المميز لشهر فبراير

افتراضي رد: في ذكرى رحيل المفكر محمد عابد الجابري .. عندما يغيب الكبار


محمد عابد الجابري : الصحراء المغربية – فرنسا وإسبانيا

نعيد نشر هذه المجموعة من المقالات للمفكر الراحل محمد عابد الجابري تزامنا مع الضجة التي خلقتها تصريحات الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون حول الصحراء المغربية. و قد نشر هذا المقال بعنوان « الصحراء المغربية – فرنسا وإسبانيا » يوم الثلاثاء 17 يوليو 2007.


يندرج الوضع التاريخي للصحراء المغربية تحت ظاهرة عامة ترجع إلى بدايات القرن الخامس عشر الميلادي حين دشنت كل من البرتغال وإسبانيا، متنافستين، حركة التوسع الاستعماري متجهة صوب الشواطئ المغربية على البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي، مباشرة بعد سقوط الأندلس. ومنذ ذلك الوقت أضحت معظم المدن الشاطئية المغربية، شمالاً وغرباً، هدفا لتوسع استعماري أوروبي نجح المغرب في مقاومته ورد الغزاة على أعقابهم مرات كثيرة، إلى أن تكالبت عليه الدول الاستعمارية في القرن التاسع عشر متنافسة، ثم متراضية بعد أن تفاهمت واتفقت على تقسيم الأقطار التي تتنافس عليها في أفريقيا، مما كانت نتيجته أن بات المغرب من نصيب فرنسا (ومعها إسبانيا) الشيء الذي كرسته معاهدة الحماية المبرمة بين السلطان عبد الحفيظ ووزير خارجية فرنسا عام 1912.

اعتبرت كل من فرنسا وإسبانيا أن معاهدة الحماية تخص فقط الأراضي المغربية التي كانت تحت سيادة السلطان حين توقيعها. أما الجانب المغربي، وخاصة السلطان عبد الحفيظ ومخزنه، فليس واضحاً ما إذا كان قد طرح قبل توقيع معاهدة الحماية، الحدود التاريخية للمغرب أو لا. وكيفما كان الحال فقد كان لثورة المغاربة ورفضهم لهذه المعاهدة، ثم لتنازل السلطان عبد الحفيظ عن العرش محتجاً على كون فرنسا تتصرف كدولة محتلة وليس طبقاً لمعاهدة الحماية، أن أصبحت قضية الاحتلال الاستعماري للمغرب مسألة واحدة في نظر المغاربة: لا فرق في ذلك بين الأراضي التي سبق لفرنسا أن احتلتها شرقاً (مثل تيندوف وتوات وكولومب بشار والقنادسة… الخ) وضمتها لإدارتها في مستعمرتها الجزائر، والأراضي التي اقتطعتها من المغرب جنوباً (شنقيط -موريتانيا) وجعلتها مستعمرة مرتبطة بمستعمرتها السنغال والسودان الغربي (مالي)، ولا بين الأراضي التي كانت تحتلها إسبانيا شمالاً (سبتة ومليلية) وجنوباً (طرفاية وإيفني وطنطان والساقية الحمراء ووادي الذهب)، والأراضي التي أخذت كل من فرنسا وإسبانيا تحتلها بموجب معاهدة الحماية.
ولم تكن هذه الرؤية التي يتحدد فيها المغرب، في نظر أهله ووجدانهم ومؤرخيهم، بحدوده التاريخية الممتدة إلى نهر السنغال وتمبكتو، مبنية على مجرد الذاكرة أو العاطفة، بل كان ذلك مؤسساً على استمرار المقاومة. فمنذ بداية القرن العشرين والمقاومة الشعبية المغربية تتصدى للاحتلال جنوباً وشمالاً. وكانت « ثورة » السلطان عبد الحفيظ على أخيه عبد العزيز داخلة هي الأخرى في هذا الإطار أو على الأقل استمدت شرعيتها من الانخراط في عملية مقاومة الاحتلال الأجنبي.
هذا جانب، وهناك جانب آخر لابد من إبرازه لفهم التطورات التي حصلت، ويتعلق الأمر باستمرار التنافس بين فرنسا وإسبانيا حتى بعد توقيع معاهدة الحماية واستلام إسبانيا المنطقة الشمالية بموجب هذه المعاهدة. كانت إسبانيا (هي والبرتغال) سباقة إلى التوسع الاستعماري منذ بدايات القرن الخامس عشر كما ذكرنا، ولكن تضاءل شأنها أمام كل من فرنسا وإنجلترا اللتين تقدمتا عليها تكنولوجياً وبالتالي اقتسمتا العالم فيما بينهما ولم تتركا لإسبانيا في القارة الأفريقية إلا « الفتات ». ومن الطبيعي والحالة هذه أن يبقى في « نفس » إسبانيا شيء ضد فرنسا التي هيمنت على المغرب هيمنة تضاءل معها الوجود الإسباني في المنطقة الشمالية التي كانت تديرها إسبانيا، طبقاً لمعاهدة الحماية، باسم سلطان المغرب ممثلاً في خليفته في تطوان.
كان من جملة ردود فعل إسبانيا على الهيمنة الفرنسية، عدم اعترافها بعزل الملك الوطني محمد الخامس وتنصيب آخر مكانه فأعلنت أن خليفة السلطان الشرعي في تطوان –عاصمة منطقة حكمها- هو الخليفة محمد الخامس. ليس هذا وحسب بل لقد جعلت إسبانيا من راديو « درسة تطوان » الذي تشرف عليه –كما كانت فرنسا تشرف على (راديو ماروك بالرباط)- جعلت منه صوتاً مناصراً للوطنية المغربية، كما سمحت لـ »حزب الإصلاح » في منطقتها بالتحرك ضد السياسة الفرنسية، فأصبح امتدادا علنيا (بعد أن كان سرياً) لـ »حزب الاستقلال » قائد الحركة الوطنية بالمنطقة الفرنسية.
  • إقرأ أيضا
  • محمد عابد الجابري : الصحراء المغربية .. نقطة اللارجوع
  • محمد عابد الجابري : المغرب وموريتانيا – رؤية تقدمية بقيت يتيمة!
  • محمد عابد الجابري : الصحراء المغربية وقضية الديمقراطية !

ليس هذا وحسب، بل فتحت إسبانيا باب اللجوء السياسي أمام رجال حركة المقاومة التي قامت في « المنطقة الفرنسية » غداة نفي محمد الخامس، فكان المقاومون الذين ينكشف أمرهم يهربون إلى المنطقة الشمالية وإلى إيفني جنوباً (والتي كان تحت الإدارة الإسبانية)، وأكثر من ذلك سمحت لهؤلاء المقاومين اللاجئين بتأسيس « جيش التحرير » تحت مسمعها ومرآها في تطوان، كما كان الذين قصدوا إيفني من المقاومين المغاربة ينشطون في تزويد المقاومة بالسلاح وفي تنظيم المقاومة الشعبية للوجود الفرنسي في المناطق الجنوبية من المغرب. أضف إلى ذلك أن « مركز الاتصال » والتزويد بالسلاح من الخارج كان في مدريد بعلم من السلطات الإسبانية.
أعتقد أننا الآن في وضع يمكننا من الجواب عن سؤال قلما يطرح، مع أنه أساسي في فهم التطورات اللاحقة التي عرفتها قضية الصحراء المغربية! هذا السؤال يمكن صياغته كما يلي: لماذا اتجه المغرب عند بداية الاستقلال إلى المطالبة بموريتانيا ولم يتجه أولاً إلى تحرير المناطق الجنوبية الشاطئية التي تفصله عنها: إيفني، طرفاية، طنطان، وبالخصوص الساقية الحمراء ووادي الذهب (الصحراء الغربية حالياً)، وهي المناطق التي لابد من المرور عبرها إلى موريتانيا!؟
فعلاً إنها مفارقة شبيهة بتلك التي تحكي عن جحا حينما سُئل: « أين أذنك؟ »، فأشار إلى أذنه اليسرى بيده اليمنى! (وقد ينتج عن ذلك حجب النظر بالذراع!). إنها مفارقة تاريخية فعلاً، كما يبدو لنا الأمر الآن! غير أن المفارقات التاريخية كثيراً ما تكون في وقتها خططاً سياسية مقصودة، وفي كثير من الأحيان معقولة ومبررة! وفي الفقرة التالية « شيء » من البيان.
كانت الحركة الوطنية في المغرب على صلة بسكان الأقاليم الجنوبية التي وضعتها فرنسا خارج معاهدة الحماية, ومنها تيندوف وإقليم شنقيط (موريتانيا) الذي يليها. ومعلوم أن السلطات الفرنسية لم تضم إقليم تيندوف إلى إدارتها في الجزائر إلا في أواخر الأربعينيات، وكان هذا الضم بدوافع اقتصادية واستراتيجية. أما موريتانيا فكانت مستعمرة فرنسية لكنها ظلت على صلة بالمغرب منذ القدم، وقد تكفي الإشارة إلى أن المؤسسين للدولة المغربية –بعد إمارة الأدارسة- هم المرابطون الملثمون وهم من موريتانيا الحالية. ومعروف أن الملك المغربي أحمد المنصور السعدي قد فتح السودان (مالي) في أوائل القرن السادس عشر. وقد بقي هذا الإقليم تابعاً للمغرب إلى سنة 1893، سنة احتلال فرنسا لتك المنطقة.
كان المغرب حاضراً إذن في المناطق الصحراوية التي تمتد إلى النيجر، حضوراً معنوياً تارة وفعلياً تارةً أخرى، وهذا نتج عنه أمران: فمن جهة كانت حدود المغرب تمتد، على صعيد الذاكرة الحية، إلى ما وراء نهر السنغال، ومن جهة أخرى كان سكان الصحراء إلى السنغال مرتبطين بالمغرب دينياً (البيعة، الخطبة باسم ملك المغرب، الطرق الصوفية، الخ)، وسياسياً وعاطفياً وتجارياً، لأنه لم يكن ينافس المغرب على هذه الناحية غير فرنسا.
وكما كان لثورات الأقاليم الجنوبية وثورات الريف والأطلس أصداء واسعة في مختلف ربوع الصحراء، كان لإقدام فرنسا على عزل الملك محمد الخامس صدى كبير في المناطق الصحراوية. وكان ذلك منطلقاً لنشأة حركة وطنية في موريتانيا ذات توجه مغربي عربي إسلامي ضداً على حركة أخرى أنشأتها فرنسا. وعندما أعلن استقلال المغرب كان على رأس الحركة الأولى (حزب النهضة) المرحوم « حرمة ولد بابانا »، وعلى رأس الحركة الأخرى المضادة والمنافسة حزب « المختار ولد داداه » الذي كان موالياً للسياسة الفرنسية.
كان من الطبيعي أن تتوافد الوفود الصحراوية من موريتانيا وغيرها على الرباط عند إعلان الاستقلال للتهنئة وتأكيد الولاء للمغرب. وكان أهم وفد هو الوفد الموريتاني برئاسة حرمة ولد بابانا الذي قدم لإعلان ولاء الشعب الموريتاني للمغرب وملكه وطلب المساعدة لتأسيس جيش لمقاومة الوجود الفرنسي في موريتانيا والصحراء. لم يكن من الممكن أن يرفض محمد الخامس تجديد البيعة له من أهل شنقيط ولم يكن من الممكن أن تتغاضى الحركة الوطنية عن مبادرة أهل شنقيط. وهكذا تبنى « حزب الاستقلال » قضية موريتانيا. وعندما أعلن الجنرال « شارل ديجول » عن تنظيم استفتاءات في الأقطار الأفريقية التي تستعمرها فرنسا لتقرير مصيرها والاختيار بين الانفصال عن فرنسا أو الاستقلال مع الارتباط بفرنسا، هب المغرب، ملكاً وشعباً، يطالب رسمياً ودوليا بموريتانيا كأرض مغربية لا ينطبق عليها ما ينطبق على المستعمرات الفرنسية الأفريقية. لقد كان هناك إجماع وطني على هذا الاختيار الذي كان يفرض نفسه.





    رد مع اقتباس
قديم 2017-01-31, 20:57 رقم المشاركة : 8
خادم المنتدى
مدير التواصــل
 
الصورة الرمزية خادم المنتدى

 

إحصائية العضو








خادم المنتدى غير متواجد حالياً


وسام المشاركة السيرة 1438ه

وسام المشاركة في مسابقة السيرة النبوية العطرة

العضو المميز لشهر فبراير

افتراضي رد: في ذكرى رحيل المفكر محمد عابد الجابري .. عندما يغيب الكبار




محمد عابد الجابري : الصحراء المغربية وقضية الديمقراطية !


نعيد نشر هذه المجموعة من المقالات للمفكر الراحل محمد عابد الجابري تزامنا مع الضجة التي خلقتها تصريحات الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون حول الصحراء المغربية. و قد نشر هذا المقال بعنوان « الصحراء المغربية و قضية الديمقراطية ! » يوم الثلاثاء 10 يوليو 2007.





بدأت في الشهر الماضي – ومن المقرر أن تستأنف في الشهر القادم- مفاوضات بين وفد مغربي وآخر من « البوليساريو »، بحضور « الأطراف المعنية » ورعاية الأمم المتحدة. أما موضوع المفاوضات فيتعلق بقضية الصحراء المغربية. وكما نبهنا على ذلك في خاتمة المقال الماضي، فقد ارتأينا أن نتوقف إلى حين عن متابعة سلسلة المقالات التي كنا ننشرها لننتقل إلى سلسلة أخرى نشرح فيها فصول هذه القضية كما عشناها.

وغني عن البيان القول إننا سنعبر هنا عن وجهة نظرنا، ولكن بإمكاننا التأكيد على أن وجهة النظر هذه لم تنشأ لدينا من خلال « القراءة والكتاب والتأمل »، بل اكتسبناها داخل الحركة الوطنية المغربية من خلال المعاشرة مع رجال جيش التحرير وقادته، والممارسة السياسية النضالية داخل التيار التقدمي فيها.
وأكثر من ذلك، فكاتب هذه السطور هو ابن الصحراء المغربية الشرقية وقد رأى بأم عينيه وخلال سنوات طفولته كيف كان الاحتلال الفرنسي في الجزائر يقتطع أجزاء من الأراضي المغربية ويدفع بالحدود داخل التراب المغربي ليوسع من مساحة « الجزائر الفرنسية » كما كان « يحلم » بها، وكان من آخر ما فعله في هذا الصدد عام 1949 هو ضم « تندوف » وناحيتها وإنزال العلم المغربي وإحلال العلم الفرنسي محله في مكتب حاكمها الفرنسي. أما بعد قيام الثورة الجزائرية عام 1954، فقد دأبت سلطات الاحتلال على اقتطاع أجزاء من الصحراء الشرقية المغربية وعلى طول الحدود مع الجزائر لتقليص ساحة التجمع والتدريب التي كانت تتحرك فيها الثورة الجزائرية داخل تراب المغرب « المستقل ». لم تكن هذه الاقتطاعات من التراب المغربي تعني آنذاك شيئاً في ذهن كاتب هذه السطور، فلقد كان الاتجاه شرقاً أو غرباً من مسقط رأسه فكيك (فجيج)، لا يعني أكثر من التحرك داخل نفس البلد، خصوصاً أنه كانت لعائلته ولسكان مسقط رأسه عموماً ممتلكات موثقة في الشرق (من بشار إلى توات) أهم وأكبر مما كان لديهم في جهة الغرب، كما أن العمال والتجار كانت وجهتهم في الغالب نحن الشرق: أعني نحو الجزائر. وعندما قامت الحركة الوطنية في مسقط رأسه لم يكن ارتباطها بـ »جمعية علماء الجزائر » و »حزب الشعب الجزائري » بأقل من ارتباطها بزعماء الحركة الوطنية المغربية في فاس والرباط.
ولم يشعر صاحبنا وجميع أفراد بلده وناحيتها، بأن الجزائر شيء والمغرب شيء آخر إلا عندما صادقت الحكومة الجزائرية على قرار أجازته منظمة الوحدة الأفريقية في أديس أبابا (فبراير 1963) ينص على أن الحدود التي تركها الاستعمار هي المعترف بها. ومع أن الحكومة المغربية قد سجلت تحفظها على ذلك القرار، فإن سكان المنطقة الشرقية من المغرب قد حملوا مسؤولية ما حدث للحكومة المغربية التي فضلت، أثناء مفاوضات الاستقلال، القبول بالحدود التي فرضتها في الجهة الشرقية قوات الاحتلال في الجزائر – وكانت ما تزال ترسمها- والثورة الجزائرية حامية الوطيس. لقد كان الوطنيون في المغرب يرون أنه لابد من الدخول في حرب تحرير ضد القوات الفرنسية من أجل استرجاع ما اقتطع من أراضيهم، وسيكون ذلك في نظرهم في إطار التضامن مع الثورة الجزائرية.
فعلاً، بدأ قسم من « جيش التحرير » تحركاته في هذا الإطار بالناحية الشرقية انطلاقاً من تافيلالت وفجيج، غير أن احتكاكات حدثت مع جيش التحرير الجزائري جعلت الحكومة المغربية تقرر توقيف نشاط جيش التحرير المغربي ثم حله، لتكتفي بتصريح من الحكومة الجزائرية المؤقتة يفيد أن قضية الحدود بين المغرب والجزائر ستعرف حلها الأخوي عند استقلال الجزائر. وكان ذلك التصريح تأجيلاً للقضية إلى أجل غير مسمى.
عندما وصلت قضية الصحراء المغربية إلى هذه المرحلة من تطورها، كانت قضية الديمقراطية في المغرب تجتاز مرحلة شبيهة. والواقع أن قضية الصحراء وقضية الديمقراطية في مغرب الاستقلال تتشابهان في كثير من الوجوه؛ أهمها بالنسبة لموضوعنا هنا هو أنهما عانتا معا من التأجيل ، خلال العشرين سنة الأولى من الاستقلال، وأنهما عادتا لتحتلا معاً الواجهة السياسية والوطنية عندما بلغ التفريط في كل منهما درجة من الخطورة أصبحت تهدد كيان الدولة المغربية.
وكما عانت قضية الديمقراطية من « التأجيل » في السنوات الثلاث من الاستقلال (1956-1960)، ومن الانقلاب ضدها طوال العشرية التالية (1963-1974)، عرفت قضية الصحراء المغربية وضعاً مماثلاً طوال الفترة نفسها. وهكذا فتأجيل الاشتغال بقضية الصحراء الغربية التي كانت تحت الاحتلال الإسباني كان من قبيل الأمر الواقع بين سنتي 1956-1958 حين كان « الاهتمام » منصرفاً إلى « استرجاع موريتانيا »، ثم أصبح هذا التأجيل سياسة مقصودة ابتداء من سنة 1959 حين تقرر حل جيش التحرير العامل في الصحراء المغربية، الغربية والشرقية، التي لم تسترجعها اتفاقية الاستقلال عام 1956، تلت ذلك متابعة خافتة من طرف الحكومة المغربية لقضية صحرائنا في الأمم المتحدة، إلى أن كان صيف عام 1974، (أي مباشرة بعد المحاولتين الانقلابيتين 1971-1972 وأحداث 1973).
  • إقرأ أيضا
  • محمد عابد الجابري : الصحراء المغربية .. نقطة اللارجوع
  • محمد عابد الجابري : المغرب وموريتانيا – رؤية تقدمية بقيت يتيمة!
  • محمد عابد الجابري : الصحراء المغربية – فرنسا وإسبانيا

فعلاً يشكل صيف عام 1974 نقطة انطلاق لمسلسل واحد، تشابكت فيه قضية استرجاع الصحراء مع قضية استعادة الديمقراطية. ولذلك، فعندما رفعنا في « الاتحاد الوطني للقوات الشعبية » -أثناء الإعداد للمؤتمر الاستثنائي الذي سيتحول فيه اسم هذه المنظمة العتيدة، إلى « الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية- أقول عندما رفعنا في خريف سنة 1974، شعار « التحرير والديمقراطية » ووضعناه تحت شعار أعم هو « استمرار حركة التحرير الشعبية »، لم يكن ذلك من قبيل اختراع الشعارات من أجل الدعاية السياسية، بل كنا في الحقيقة نؤكد على ضرورة استمرار وإنجاح المسلسل الذي تقرر السير فيه منذ يونيو 1974، أي مسلسل استكمال تحرير التراب الوطني وبناء الديمقراطية، وبعبارة أخرى: استئناف النضال من أجل استرجاع الصحراء، وفي نفس الوقت استئناف المسيرة الديمقراطية التي أوقفت سنة 1963 (مؤامرة تصفية الاتحاد والمقاومة في 16 يوليو).
كانت نقطة الانطلاق هي ذلك اللقاء الذي جرى بين المرحوم الحسن الثاني والمرحوم عبد الرحيم بوعبيد (الكاتب الأول للاتحاد) في يونيو 1974. لقد جرى ذلك اللقاء على إثر قرار إسبانيا (فرانكو) إجراء استفتاء في صحرائنا الغربية، وكان الهدف هو إقامة شبه دولة « مستقلة » تابعة لها. ولما تبين للمغرب، حكماً ومعارضةً، أن هذا المخطط كان بتواطؤ مع الحكومة الجزائرية، والتي كانت تطمح إلى الوصول بحدودها الغربية إلى المحيط الأطلسي عبر هذه الدولة المزعومة، اكتست القضية حينئذ بعداً آخر: تطويق المغرب وعزله من الشمال والشرق والجنوب (والمحيط الأطلسي من الغرب). كان هدف إسبانيا من ذلك ضمان استمرار احتلال سبتة ومليلية وضمان تأييد الحكام الجزائريين. أما هدف هؤلاء فكان ضمان استمرار استتباع تندوف ومنطقتها والحصول على منفذ إلى المحيط الأطلسي (على مسافة 300 كيلومتر) لتسويق معادن هذه المنطقة (حديد « كارت جبيلات)، خصوصاً بعد أن تبين أن تصديره عبر الموانئ الجزائرية على مسافة 1500 كيلو متر، مكلف جداً.
لقد باتت وحدة التراب الوطني في نظر المغاربة مهددة بجد، فكان لا بد من الإجماع الوطني. وهذا كان يتطلب في حينه تفاهماً وتوافقاً بين الحكم والمعارضة، أي حل المشكل الديمقراطي أولاً. فما كان يجعل من المعارضة طرفاً في مقابل الحكم كطرف آخر، هو ما تعرّضَ له مسار الديمقراطية في المغرب من انتهاكات وانقلابات سنوات 1960-1963، وما تلا ذلك من تبني الحكم الفردي المطلق كاختيار. وكما أن قضية الصحراء عرفت تطورات سلبية باتت تهدد وحدة التراب الوطني، فقد عرفت قضية الديمقراطية بدورها، وفي الفترة نفسها، تطورات باتت هي الأخرى تهدد كيان الدولة. كان من الضروري إذن استخلاص الدرس من محاولة انقلاب الصخيرات 1971 ومحاولة انقلاب أوفقير 1972 وحوادث مارس 1973، كما كان من الضروري استخلاص العبرة من حل جيش التحرير عام 1959، ومن سياسة تهميش قضية استكمال وحدة ترابنا الوطني.
ذلك ما تم في لقاء 1974 بين الملك وبوعبيد. لقد وقع الاتفاق آنذاك على الشروع في مسلسل يؤدي في الحين إلى العمل معاً على استرجاع الصحراء الغربية من جهة، ومن جهة أخرى إطلاق المعتقلين الاتحاديين والشروع في الإعداد لانتخابات محلية وتشريعية.
كان ذلك سنة 1974. والنتيجة التي يمكن استخلاصها اليوم من تطور قضية الصحراء وقضية الديمقراطية في المغرب منذ ذلك الوقت إلى اليوم، هي ما يراه العالم أجمع: مفاوضات حول قضية الصحراء مشكوك في أن تسفر عن شيء يختلف عما هو قائم الآن، واستعداد لانتخابات تشريعية لن تسفر في نظر جميع المراقبين عن شيء يختلف عما هو قائم اليوم.





    رد مع اقتباس
قديم 2017-01-31, 21:47 رقم المشاركة : 9
خادم المنتدى
مدير التواصــل
 
الصورة الرمزية خادم المنتدى

 

إحصائية العضو








خادم المنتدى غير متواجد حالياً


وسام المشاركة السيرة 1438ه

وسام المشاركة في مسابقة السيرة النبوية العطرة

العضو المميز لشهر فبراير

افتراضي رد: في ذكرى رحيل المفكر محمد عابد الجابري .. عندما يغيب الكبار


محمد عابد الجابري : تجديد التفكير في مشروع سابق للتصحيح والتجديد









يعتقد معظم الذين سمعوا عن ابن رشد أو كتبوا عنه أو تعصبوا له أو ضده، من القدماء والمحدثين- أنه كان فيلسوفا تميز بشروحه لكتب أرسطو، وبرده على الغزالي وبانتصاره لفلسفة أرسطو في هذا الرد وفي كتب أخرى. هذا إلى جانب كونه فقيها كتب في الفقه كتابا متميزا هو « بداية المجتهد ونهاية المقتصد »، وأنه ألف في الطب كتاب « الكليات » …
كل هذا صحيح، ولكن يبقى مع ذلك أن ابن رشد ظل مظلوما، لم يعطعه القدماء ولا المحدثون حقه كاملا، سواء في أوربا العصور الوسطى التي شغل الناس فيها قرونا، أو في العالم العربي والإسلامي الذي بقي ذكره فيه محدودا، أو يكاد، في مؤلفات أصحاب التراجم و »الطبقات » (طبقات الأطباء خاصة)، أو في رسائل الدبلوم والدكتوراه التي هيأها أصحابها من المعاصرين العرب وغير العرب عن ابن رشد، في القرن العشرين!
أقول إن ابن رشد بقي مظلوما ليس فقط بسبب نقص في المعرفة به من جانب من ذكروه أو اهتموا به، بل أيضا لأن « التاريخ » نفسه ظلمه في بعض كتبه التي ظلت مفقودة. ذلك لأن فيلسوف قرطبة لم يكن مجرد مؤلف ينشر المعرفة بفهم ثاقب وبأسلوب متين ناضج، وبروح نقدية واتجاه عقلاني أصيل فحسب، بل كان في كل ما كتب ينزع نحو التغيير والإصلاح والتجديد. كان صاحب مشروع، أعلن عنه هو نفسه في غير ما مناسبة …
كان ابن رشد يعمل في كل ما كتب من أجل تحقيق هدف استراتيجي واحد هو: إعادة بناء الفكر والثقافة في عصره، وذلك بإعادة تأصيل الأصول في كل مجال من مجالات الثقافة العربية الإسلامية: في العقيدة، والشريعة، والفلسفة، والطب، والعلم، واللغة، والسياسة …
– ففي مجال العقيدة أكد بعبارات صريحة أن هدفه من التأليف فيها (خصوصا كتبه الثلاثة: « الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة »، و »فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، »، و »تهافت التهافت ») كان، كما عبر هو نفسه: » تصحيح عقائد شريعتنا مما داخلها من التغيير » والرجوع بهـا إلى « الظاهر من العقائد التي قصد الشرع حمل الجمهور عليها »، ووضع « قانون للتأويل » يبين للعلماء ما يجب تأويله، وما يجوز، وما لا يجوز، وكيف؟
أما في مجال الفقه فقد دشن عمله فيه بكتابه « الضروري في أصول الفقه » الذي افتتحه بتوجيه نقد قوي لفقهاء عصره الذين قال عنهم: « إن هاهنا طائفة تشبه العوام من جهة، والمجتهدين من جهة، وهم المسمون في زماننا هذا بالفقهاء، فينبغي أن ننظر في أي الصنفين أولى أن نلحقهم؟ وظاهر من أمرهم أن مرتبتهم مرتبة العوام وأنهم مقلدون. والفرق بين هؤلاء وبين العوام أنهم يحفظون الآراء التي للمجتهدين فيخبرون بها العوام من غير أن تكون عندهم شروط الاجتهاد، فكأن مرتبتهم في ذلك مرتبة الناقلين عن المجتهدين. ولو وقفوا في هذا لكان الأمر أشبه، لكن يتعدون فيقيسون أشياء لم ينقل فيها عن مقلََّّديهم حكم على ما نقل عنهــم في ذلك، فيجعلون أصلا ما ليس بأصل، ويصيِّرون أقاويل المجتهدين أصولا لاجتهادهم، وكفى بذلك ضلالا وبدعة ». من أجل ذلك قرر تصحيح الوضع بفتح باب الاجتهاد وبيان أسباب الخلاف بين أئمة الفقه، فكان ذلك موضوع كتابه « بداية المجتهد ونهاية المقتصد »، « الذي لم يعمل مثله » حسب عبارة القدماء. وقد عرض فيه الفقه الإسلامي عرضا نقديا يقوم على مقارنة المذاهب الفقهية الأربعة وبيان وجوه الاختلاف بينها ودواعيه، وترجيح ما اعتبره أقرب إلى مقاصد الشرع.
– وأما في المجال الفلسفي فقد أعلن فيلسوف قرطبة بكل صراحة في أول كتاب له في الفلسفة، أن غرضه هو استخلاص الآراء العلمية التي يقتضيها مذهب أرسطو وحذف الأقاويل الجدلية منها، مبينا أنه إنما اعتمد مؤلفات أرسطو دون غيرها من كتب القدماء (اليونان) لكونها « أشدها إقناعا وأثبتها حجة ». وهكذا جاءت شروحه على أرسطو غنية تتجاوز مجرد الشرح إلى آراء وأفكار اجتهادية لم تنقل عن أرسطو وإنما استخلصها من خط تفكيره، حجته في ذلك أن مذهب أرسطو يقتضي تلك الأفكار مع أنه لم يصرح بها. ومن هنا يصح أن يقال عنه إنه لم يكن مجرد شارح لـ »المعلم الأول » (أرسطو) بل كان مكملا له، بذل كل جهده لسد ثغرات مذهبه!
– أما في مجال الطب، الذي ألف فيه « كتاب الكليات في الطب »، فقد كان هدفه الأساسي منه بناء الطب على العلم، والعلم الطبيعي خاصة، لتكون الممارسة الطبية في الجزئيات منتظمة تحت « كليات » علمية وليس على مجرد التخمين والتقليد والتجارب العفوية التي كان يعتمدها أصحاب الوصفات الجاهزة من مؤلفي « الكنانيش » (التي تصف الدواء لكل داء) وغيرهم من المؤلفين في الأمراض والأدوية (يستثني بني زهر) من الذين يحصرون اهتمامهم في الجزئيات مغفلين الأسس والقواعد والكليات. والنتيجة أن أطباء عصره صاروا كما قال « أبعد خلق الله عن هذه الصناعة » (يعني علم الطب).
لقد كان الدافع له إلى البدء بتأليف « الكليات في الطب » هو إنقاذ الطب بوصفه علما له أسسه وأصوله وقواعده. يقول في مقدمة كتابه: « الغرض في هذا القول أن نثبت هاهنا من صناعة الطب جملة كافية على جهة الإيجاز والاختصار، تكون كالمدخل لمن أحب أن يستقصي أجزاء الصناعة، وكالتذكرة أيضا لمن نظر في الصناعة، ونتحرى في ذلك الأقاويل المطابقة للحق، وإن خالف ذلك آراء أهل الصناعة ». ويؤكد المعنى نفسه في خاتمة الكتاب حيث يقول: « وبالجملة: من يحصل له ما كتبناه من الأقاويل الكلية يمكنه أن يقف على الصواب والخطأ من مداواة أصحاب الكنانيش في نفس العلاج والتركيب ».
أما في مجال العلوم الطبيعية، فقد رافقه منذ بداية مسيرته العلمية مشروع من أعظم المشاريع العلمية، هو مشروع إصلاح علم الفلك الذي كان يعتمد في عصره الاعتماد كله على بطليموس ونظامه الكوني. وكان الذي حرك هذه الرغبة في نفسه كون نظريات بطليموس لم تكن على وفاق مع ما تقرره العلوم الطبيعية الأخرى. إن العلم، في نظر ابن رشد واحد، لأن الحقيقة واحدة، فإذا عارضت العلوم بعضها بعضا ضاعت الحقيقة. كان ابن رشد مهتما بهذه المشروع طوال مسيرته العلمية التي بدأت وهو في السابعة والعشرين من عمره عندما قصد إلى بعض الجبال المرتفعة بناحية مراكش بالمغرب بهدف إجراء قياسات علمية حول حركة بعض الكواكب. ولكن كثرة أشغاله وتعدد مشاريعه العلمية جعلاه يؤجل الانكباب على إصلاح الفلك مرة بعد مرة إلى أن تقدمت به السن ووجد نفسه غير قادر على إنجاز هذا المشروع الذي يتطلب القيام برصد حركات الكواكب وتتبع مساراتها، فصرف النظر عنه وكلُّه أمل في أن يأتي من بعده من يتولى ذلك. قال في هذا الشأن: « »وقد كنت في شبابي أؤمل أن يتم لي هذا الفحص. وأما في شيخوختي هذه فقد يئست من ذلك إذ عاقتني العوائق عن ذلك قبل. ولكن لعل هذا القول يكون منبها لفحص من يفحص بعدُ عن هذه الأشياء، فإن علم الهيئة (الفلك) في وقتنا هذا هي هيئة موافقة للحسبان لا للوجود »، يعني أن علم الفلك في زمانه كان يقوم على نظريات حسابية (رياضية) لم يكن يراعى فيها ما هو موجود فعلا على مستوى الطبيعة ». وتشاء الأقدار أن يتصدى لهذه المهمة من بعده تلميذه نور الدين أبو اسحق البطروجي الذي ألف في الموضوع كتابا صار هو المرجع المعتمد في موضوعه – بأوربا- إلى أن ظهر كوبرنيك بنظريته التي أعلنت ميلاد علم الفك الحديث.
وبعد، فقد كان هدفنا من هذا العرض السريع للوجه الآخر لابن رشد، وجهه الحقيقي، التنبيهَ إلى أن فيلسوف قرطبة لم يكن مجرد عالم يهوى العلم، بل كان صاحب رسالة حددها لنفسه بكل وضوح، وعمل من أجلها باجتهاد منقطع النظير، رسالة القيام بالتصحيح الضروري في كافة مجالات الثقافة والعلم في عصره، وذلك بالتصدي لوجوه الجمود والتقليد والتحريف التي كانت منتشرة والقيام بالتالي بإعادة بناء المعرفة في مختلف المجالات بالرجوع إلى الأصول وتجديد الفهم واعتماد البرهان العقلي فيما يكفي فيه النظر العقلي المجرد، والركون إلى ما تعطيه التجربة فيما لا بد فيه منها.
ومع ذلك سيظل ابن رشد أكثر كثيرا مما ذكرنا لو أننا أهملنا ما بقي مجهولا من نشاطه العلمي منذ وفاته إلى ما قبل سنتين أو ثلاث! ذلك لأن جميع ما ذكرنا كان موجودا مسطورا في كتبه التي كانت بين أيدي الناس، منشورة أو مخطوطة. ولكن شاء القدر أن يبقى كتابان من كتبه مفقودين، لا يعرف عنهما غير اسميهما. الأول هو كتابه « الضروري في النحو » الذي خصصه لمشروع هام غير مسبوق، هو مشروع إعادة بناء النحو العربي بحيث يصبح كما قال : » أقرب إلى الأمر الصناعي (=الطريقة العلمية) وأسهل تعليما وأشد تحصيلا للمعاني »، ويكون منهج التأليف فيه وعرض مسائله وفق « الترتيب » الذي هو « مشترك لجميع الألسنة ». كان هذا الكتاب مفقودا ولم يكتشف وينشر إلا قبل سنتين، في موريتانيا.
أما الكتاب الثاني، وهو في « السياسة »، فما زال أصله العربي مفقودا، ولم يبق منه سوى ترجمة له إلى العبرية. وقد عملنا على إعادته إلى لغته الأصلية، لغة الضاد، بالتعاون مع زميل مختص في العبرية، ونشرناه بعنوان « الضروري في السياسة » ضمن المشروع الذي أشرفنا عليه عام 1998 والذي لأعنا فيه نشر وتحقيق « مؤلفات ابن رشد الأصيلة »، التي كتبها فيلسوف قرطبة ابتداء أي التي تقع خارج الشروح على أرسطو.
« تجديد التفكير في مشروع متجدد » يتطلب أيضا استحضار هذا الكتابين: الضروري في النحو » و »الضروري في السياسة ».





    رد مع اقتباس
قديم 2017-01-31, 21:49 رقم المشاركة : 10
خادم المنتدى
مدير التواصــل
 
الصورة الرمزية خادم المنتدى

 

إحصائية العضو








خادم المنتدى غير متواجد حالياً


وسام المشاركة السيرة 1438ه

وسام المشاركة في مسابقة السيرة النبوية العطرة

العضو المميز لشهر فبراير

افتراضي رد: في ذكرى رحيل المفكر محمد عابد الجابري .. عندما يغيب الكبار


محمد عابد الجابري : نوع آخر من المستعمل يجب أن يهمل

من بين العلوم الإنسانية التي حققت تقدما هائلا في العقود الأخيرة: علم اللسانيات أو الألسنية. وقد استفادت اللغات الأوربية وتستفيد من نتائجه التطبيقية في إعادة تأسيس وهيكلة علم النحو فيها، فغدت قواعد اللغة في كثير من تلك اللغات تصاغ وتدرس لأبناء البلد وللطلبة الأجانب بصورة تختلف كثيرا عما كانت عليه منذ نصف قرن من الزمان. وإذا كانت القواعد ذاتها لم تتغير فإن طريقة عرضها وضبطها وأسلوب التعبير عنها قد عرفا من التجديد والتيسير والضبط ما جعل من الدرس النحوي المعاصر فيها، معاصرا فعلا، بمنهاجه ومضمونه، فغدا يعتمد أكثر فأكثر على مفاهيم جديدة كمفهوم البنية والنمط والنموذج وغيرها من المفاهيم التي تشكل في الفكر المعاصر « مفاتيح العلوم »، سواء منها العلوم الرياضية والفيزيائية أو العلوم الإنسانية.
ونحن في العالم العربي ما زلنا في مؤخر القافلة/ أو على الأصح نحن واقفون وراءها نتفرج. إننا لا ننكر أن هناك اهتماما متزايدا بالألسنية المعاصرة في كثير من الجامعات العربية، كما أننا نعرف أن كثيرا من المجلات الثقافية عندنا تعمل، إما بالترجمة وإما بالعرض والتلخيص، على « إطلاع » القارئ العربي، على بعض مسائل هذا العلم الجديد. غير أن ما يتداول عندنا من أبحاث وآراء ويجري من مناقشات ما زال معظمه، إن لم يكن كله، أجنبيا، بمعنى أن حظ اللغة العربية فيه سواء كميدان للبحث أو للتطبيق حظ ضئيل جدا

نحن نعلم أن الألسنية المعاصرة هي علم عام للغة، وبالتالي فالمتخصصون فيها يعتبرون ما يتوصلون إليه من قوانين ونتائج، قوانين ونتائج عامة لا تخص لغة دون لغة. ومع ذلك فإنه لا أحد ينكر أن لكل لغة خصوصيتها، وأن درجة هذه الخصوصية تختلف من لغة إلى أخرى. فاللغات التي هي من أرومة واحدة كاللغات المتفرعة من اللاتينية هي لغات متقاربة الخصوصية، بينما أن هناك لغات من أرومة مختلفة تماما لا نظن أنها تقبل أن تطبق عليها النظريات الألسنية الرائجة اليوم بمثل الدرجة التي تطبق بها في اللغات الأوروبية التي تشكل المجال اللغوي الأساسي الذي استخلصت منه تلك النظريات.

واللغة العربية كما نعرف جميعا تنتمي إلى أرومة تختلف أصلا عن أرومة اللغات الأوروبية، ولذلك فحاجتنا إلى « ألسنية عربية » هي من جنس حاجتنا إلى « علم اجتماع عربي ». نريد أن نقول: إنه، كما لا يجوز تطبيق نتائج الأبحاث الاجتماعية التي تجرى في المجتمع الأمريكي، مثلا، على المجتمع العربي، فكذلك لا يجوز أن تطبق نتائج الأبحاث اللسانية التي تجرى في اللغات الأوروبية الحديثة على اللغة العربية تطبيقا استنساخيا.

وما يهمنا من هذه المسألة التي أثرناها هنا ليس الألسنية ذاتها ولا حتى تحديد درجة قابلية نتائجها للتطبيق على لغة كاللغة العربية، بل ما يهمنا أساسا هو الدعوة مرة أخرى- فقد سبقت دعوات مماثلة- إلى التفكير في تجديد النحو العربي، نقصد بذلك جعله معاصرا للغة العربية التي نريدها معاصرة، وهنا كما في مجالات أخرى نريد أن نربط، في دعوتنا إلى « تدوين » جديد لقواعد اللغة العربية، بين الاستفادة من علم اللسانيات المعاصر، مناهج ونتائج، وبين الاستفادة من الدرس الذي يمكن استخلاصه من الظروف والملابسات التي تحكمت في وضع النحو العربي في عصر التدوين على يد الخليل وسيبويه والكسائي ومن عاصرهم أو جاء بعدهم من النحاة.

وهنا لا بد من التذكير أولا بأن الشكوى من مبالغة النحاة في التقعيد والتعسف في التعليل والتنظير شكوى قديمة. وقد احتفظت لنا كتب الأدب بنوادر تعبر عن تضايق واستغراب أهل اللغة العربية، أعني أولئك الذين كانوا يتكلمونها بالسليقة، من تعسف النحاة في التنظير لـ »كلام العرب » ومناقشاتهم لتراكيبه وعباراته. وما مخاطبة أحد الإعراب لجماعة من النحاة سمع مناقشتهم، قائلا: « إنكم تتكلمون قي كلامنا بكلام ليس من كلامنا »، إلا واحد من المؤشرات التي تدل على أنه كان هناك وعي مبكر، بابتعاد النحاة عن حدود « المعقول ».

ولم يكن أصحاب السليقة هم وحدهم الذين تضايقوا من تفريعات النحاة وتأويلاتهم، بل لقد انتقلت عدوى « الثورة على النحاة » إلى علماء كبار من أمثال ابن حزم الأندلسي الذي وجه نقدا لاذعا لتأويلات وتفسيرات النحاة خاصة منها ما يتعلق بما سموه بـ »العلل » (العلل النحوية). قال أبو محمد ابن حزم عن هذه « العلل »: إنها « كلها فاسدة لا يرجع منها شيء إلى الحقيقة البتة، وإنما الحق من ذلك أن هذا سُمع من أهل اللغة الذين يرجع إليهم في ضبطها ونقلها، وما عدا هذا، مع أنه تحكم فاسد متناقض، فهو أيضا كذب، لأن قولهم: كان الأصل كذا فاستثقل فنقل إلى كذا… ، شيء يعلَم كل ذي حس أنه كذب لم يكن قط، ولا كانت العرب عليه مدة، ثم انتقلت إلى ما سمع منها بعد ذلك »، وإنما هو من عمل النحاة وتعليلاتهم التنظيرية الخيالية. من أجل ذلك دعا ابن حزم إلى الاكتفاء في النحو بما هو ضروري لمعرفة قواعد اللغة العربية وترك تعليلات النحاة جانبا. يقول « وأما التعمق في علم النحو ففضول لا منفعة بها، بل هي مشغلة عن الأوكد، ومقطعة دون الأوجب والأهم، وإنما هي أكاذيب. فما هو الشغل بما هذه صفته؟ وأما الغرض من هذا العلم فهي المخاطبة، وما بالمرء حاجة إليه في قراء الكتب المجموعة في العلوم فقط « .

ويأتي ابن مضاء القرطبي، بعد أكثر من قرن ليؤلف كتابا بعنوان « الرد على النحاة »، كرر فيه دعوة ابن حزم بأسلوب هادى فنادى بإلغاء نظرية العامل في النحو، وما تقوم عليه من تعليل وقياس، والاكتفاء بتقرير القواعد، كتقرير أن الفاعل مرفوع دون البحث عن من « فعل » الفعل ولا عن السبب الذي من أجله كان الرفع لا النصب.

غير أن دعوة ابني مضاء القرطبي بقيت صيحة في واد، فبقي النحو العربي كما كان مثقلا بكثير من التعليلات والتخريجات التي لا تفيد وظيفة النحو في شيء، بل بالعكس تعقدها وتجعل من الوسيلة غاية ومن الأداة هدفا. وعندما أثيرت قضية النحو العربي في العقود الأخيرة- منذ الخمسينات- انقسم ذوو الاختصاص من الباحثين واللغويين العرب المعاصرين إلى قسمين: قسم يطالب بإلغاء نظرية العامل واتخاذ ذلك منطلقا لتبسيط النحو العربي وتحديثه، وقسم يدافع عن تلك النظرية بوصفها تشكل قوام النحو العربي وأساس أصالته وخصوصيته، الشيء الذي يجعل من إلغائها إلغاء لقواعد اللغة العربية ككل، في نظرهم.

نحن لا نريد الدخول في نقاش يقع خارج اختصاصنا، وإذن فكل ما نريده، هو أن ننبه إلى مسألة تنتمي إلى الميدان الذي نشتعل فيه، ميدان البحث الإبيستيمولوجي في تراثنا، وهو ميدان العلوم العربية في تداخلها وترابطها على مستوى المنهج والمفاهيم وأسس التفكير وطرائقه. نريد أن ننبه إلى أن نظرية العامل في النحو هي، من الناحية الإبيستيمولوجية، امتداد لجملة من المبادئ والقواعد التي كرستها مناقشات المتكلمين لتصبح عبارة عن مبادئ تؤسس الحجاج والجدال في علم الكلام. وبما أن معظم النحاة الأوائل كانوا متكلمين، وبما أن علم الكلام كان يعتبر علما عقليا، فلقد كان من الطبيعي أن تؤسس تواعد التفكير في علم الكلام البحثَ والنقاش في العلوم العربية الإسلامية الأخرى وفي مقدمتها النحو. ومن جملة تلك القواعد مجموعة من المبادئ تؤسس، معرفيا، ما يسمى في النحو بـ « نظرية العامل ».

من هذه المبادئ مبدأ يصوغه النحاة هكذا: « لكل فعل فاعل »، وهو صياغة نحوية لمبدأ من مبادئ المتكلمين يعبرون عنه بقولهم: « لكل حادث محدِث »، وهي القضية العامة التي يوظفونها في برهنتهم على حدوث العالم. ومن ذلك أيضا قول النحاة: « لا يكون للفعل إلا فاعل واحد »، وهذا أيضا صيغة لمبدأ المتكلمين القائل: « لا يمكن أن يكون العالم من صنع الهين، لأنه لو كان هناك أكثر من إله واحد لحصل التنازع بينهما »، ومن هنا « باب التنازع » في النحو. أما المبدأ النحوي القائل « لا يجوز التقاء ساكنين » فهذا امتداد لمبدأ المتكلمين القائل: « العرض لا يبقى زمانين ». ذلك لأنه بما أن الحركة عندهم عرض والسكون عرض، فإنه لا يمكن أن يبقى السكون ولا الحركة أكثر من « آن » واحد. و »الآن »، أو « الوقت » عندهم هو أصغر جزء من الزمان لا يقبل القسمة إلى ما دونه فهو جوهر فرد. وإذن، « لا يجوز التقاء ساكنين » لأن بعد كل سكون حركة وبعد كل حركة سكون، بل سكون الشيء عندهم هو بقاؤه متحركا في مكانه، كما أن الحركة هي مجموعة من السكنات والحركات. لقد نقل النحاة هذا التصور للحركة والسكون إلى النحو مثقلا بمضامين بعيدة عن النحو، مضامين كلامية ميتافيزيقية. ومثل ذلك فعلوا في « العلة » و »القياس »…حتى جاءت العلل النحوية من جنس علل المتكلمين، كما لاحظ القدماء ذلك.

هكذا اتخذ النحو العربي صورة « منطق اللغة » بدل أن يكون مجرد قواعد لها. وهذا الفهم المنطقي للنحو كان النحاة يعونه ويكرسونه، وذلك ما أكده السيرافي النحوي في مناظرته المشهورة مع متى المنطقي حينما قال « والنحو منطق، ولكنه مسلوخ من العربية. والمنطق نحو، ولكنه مفهوم باللغة »، مؤكدا خلط النحاة بين قواعد اللغة وقواعد التفكير، تماما كما كان المتكلمون يفعلون.

لنختم إذن بالقول إن تبسيط النحو العربي أو تجديده، وبعبارة أفضل إعادة تدوينه، يجب أن تنطلق من التحرر من الأسس غير اللغوية التي كان يصدر عنها النحاة القدماء والتي كانت تنتمي إلى علم غير علمهم… إنه نوع آخر من « المستعمل » الذي يجب أن يهمل.





    رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are معطلة


مــــواقـــع صـــديــقــة مــــواقـــع مـــهــــمــــة خـــدمـــــات مـــهـــمـــة
إديــكـبـريــس تربويات
منتديات نوادي صحيفة الشرق التربوي
منتديات ملتقى الأجيال منتديات كاري كوم
مجلة المدرس شبكة مدارس المغرب
كراسات تربوية منتديات دفاتر حرة
وزارة التربية الوطنية مصلحة الموارد البشرية
المجلس الأعلى للتعليم الأقسام التحضيرية للمدارس العليا
مؤسسة محمد السادس لأسرة التعليم التضامن الجامعي المغربي
الصندوق الوطني لمنظمات الاحتياط الاجتماعي التعاضدية العامة للتربية الوطنية
اطلع على وضعيتك الإدارية
احسب راتبك الشهري
احسب راتبك التقاعدي
وضعية ملفاتك لدى CNOPS
اطلع على نتائج الحركة الإنتقالية

منتديات الأستاذ

الساعة الآن 09:07 لوحة المفاتيح العربية Profvb en Alexa Profvb en Twitter Profvb en FaceBook xhtml validator css validator

RSS RSS 2.0 XML MAP HTML
جميع المواد المنشورة بالموقع تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع ولا يتحمل أي مسؤولية عنها

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd