الحفظ حفظان : أعمى وبصير 31/01/2010





استوقفي مقال السيد احميدة العوني : "تعود الحفظ الآلي مضر باللغة العربية " الذي نشر يوم 24-01-2010 على موقع وجدة سيتي فقرأت المقال الذي عبر فيه صاحبه عن معارضته للاستظهار والحفظ معتبرا ذلك مضرا بالتعلم خصوصا تعلم اللغة العربية" هذا ما استفتح به الأستاذ محمد شركي مقاله" الاستظهار أو الحفظ ليس عملية آلية وهو أجدى وأنفع لتعلم اللغة العربية وغيرها" المنشور بوجدة ستي يوم 27-01-2010، وقد رد فيه عن مقالي المشار إليه في كلامه. وأول ما أود قوله في مقالي هذا هو أن أشكر محمدا على هذا التعقيب، ورغم أني أجد في تعقيبه اتهاما أود أن أبرئ نفسي منه، فإني أعتز بما كتبه في رده. وبهذه المناسبة أرجو من شركي أن لا تكون مقالاته كلها تعقيبات وردودا تظهر المساوئ، بل أود أن تكون بعض مقالاته تعزيزا وتثمينا لما يقرؤه، حتى يكون في ذلك توحيد للجهود قصد الرفع من مستوى المتعلمين المغاربة في العربية وفي غير العربية. وعلى كل حال فلست إلا تلميذا متعلما أقبل النصح والتوجيه بصدر رحب، وإن كنت عزمت على الرد على رجل أكبر مني سنا وعلما فإن اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية.
إني يا أستاذي لا أعارض الحفظ معارضة مطلقة، كما جاء في مقالكم، فللحفظ فوائد جلى لا تنكر، وهذا ما أشرت إليه في بداية مقالي حيث قلت: " حينما نتحدث عن النحو نتذكر القواعد، وحين نتحدث عن القواعد نتذكر الحفظ، نبادر فنقول إن الحفظ ليس عيبا عندما يكون المقام مقام حفظ، فللحفظ فوائد لا تنكر وقديما " فطن الناقد القديم حين نصح شاعرا ناشئا بحفظ عشرة آلاف بيت مما كتبه العرب ثم ينساها، فكأن النسيان لا يقل أهمية عن الحفظ، وهو لم يكن يعني هنا أن تمسح عن قلبه، بل ألا تخطر بباله حين ينظم شعره"1 إني أتفق معكم في أن حفظ القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف وأشعار العرب مهم جدا في تكوين ملكة اللغة العربية لدى المتعلمين صغارا وكبارا، وهذا معروف في التراث التربوي، فابن خلدون مثلا يجعل الحفظ من أهم وسائل اكتساب اللغة العربية، إذ يقول: " ووجه التعليم لمن يبتغي هذه الملكة ( اللسان المضري ) ويروم تحصيلها أن يأخذ بنفسه بحفظ كلامهم القديم الجاري على أساليبهم من القرآن والحديث، وكلام السلف، ومخاطبات فحول العرب في أسجاعهم وأشعارهم...حتى يتنزل لكثرة حفظهم لكلامهم من المنظوم والمنثور منزلة من نشأ بينهم ولقن العبارة عن المقاصد منهم" المقدمة. ص.559.ت. درويش الجويدي. ط.2006.
إن الحفظ الذي عارضته في مقالي هو حفظ النحو حفظا آليا، أي خاليا من الفهم، وقد بينت بأمثلة أن المتعلم فعلا يحفظ ولا يفهم ما يحفظ من قواعد، وأحسب أن هناك كثيرا ممن يحفظون قواعد نحوية كثيرة لكن يلحنون في كلامهم مكتوبا كان أم شفويا. وعليه فإن هذا النوع من الحفظ لا يمكن أن ينفع اللغة العربية في شيء. أما حفظ القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف , وكلام العرب الفصيح فأمر آخر لا علاقة لمقالي به إطلاقا. وهنا أحس أن أستاذي قولني ما لم أقل. لذا أدعوه أن يقرأ المقال مرة أخرى، على ضوء هذه التوضيحات.
إن ابن خلدون وهو من هو يميز بين الحفظ والفهم أو الاستعمال حينما يتعلق الأمر بالقواعد، قال :" والسبب في أن صناعة العربية إنما هي معرفة قوانين هذه الملكة ومقاييسها خاصة، فهو علم بكيفية، لا نفس كيفية. فليست نفس الملكة، وإنما هي بمثابة من يعرف صناعة من الصنائع علما، ولا يحكمها عملا. مثل أن يقول بصير بالخياطة، غير محكم لملكتها، في التعبير عن بعض أنواعها: الخياطة هي أن تدخل الخيط في خرت الإبرة ثم تغرزها في لفقي الثوب مجتمعين، وتخرجها من الجانب الآخر بمقدار كذا...ثم يتمادى في وصفه إلى آخر العمل...وهو إذا طولب أن يعمل ذلك بيده لا يحكم منه شيئا2" ثم قال: "وهكذا العلم بقوانين الإعراب مع هذه الملكة في نفسها، فإن العلم بقوانين الإعراب إنما هو علم بكيفية العمل، وليس هو نفس العمل. وكذلك تجد كثيرا من جهابذة النحاة، والمهرة في صناعة العربية المحيطين علما بتلك القوانين، إذا سئل في كتابة سطرين إلى أخيه أو ذي مودته أو شكوى ظلامة أو قصد من قصوده، أخطأ فيها الصواب وأكثر من اللحن، ولم يُجِدْ تأليف الكلام لذلك، والعبارة عن المقصود فيه عن أساليب اللسان العربي3"
إن الحفظ حفظان: حفظ بصير وحفظ أعمى، فالاول مقرون بالفهم، الذي يسعف الحافظ على استعماله في المقام المناسب، أما الحفظ الأعمى فهو حفظ آلي لا يتحكم فيه الحافظ، بل هو مخزون في ذاكرته يستظهره حرفيا، ولعل هذا ما هو معروف حتى عند من حفظ القرآن الكريم ولم يتلق العلوم العربية الأخرى التي تساعده على فهم ما حفظ فهما لغويا على الخصوص، لذلك لا يستطيعون الحديث باللغة العربية الفصيحة، وهذا ما أشار إليه ابن خلدون كذلك. ما ندعو إليه هو أن يكون المحفوظ مفهوما وأن يتدرب الحافظ على استعمال ما يحفظ، أما إذا لم يستطع ذلك فاعلم أنه حفظ أعمى. وهذا ما تحدثت عنه في مقال منشور عنوانه "توجيهات ذهبية للتلاميذ والطلبة" حيث جاء فيه:" إننا لا نرفض الحفظ رفضا مطلقا، لأن للحفظ فوائد لا تنكر، لكننا نرفض الحفظ الأعمى لأنه خنق للتفكير وتعطيل للعقل، وفي المقابل نحث على الحفظ البصير، أي المقرون بالفهم. فالفهم يساعد على الحفظ وييسره وكلما كان المحفوظ مفهوما ترسخ في الذهن وعز على النسيان أن يمحوه.
إن الحفظ في حقيقة أمره ما هو إلا قراءة وقراءة وقراءة، أي تكرار القراءة، حتى يعلق المقروء في الذاكرة ويقع في حبالها. وبالتكرار يتضح المقروء ويفهم، فكثيرا ما نقرأ شيئا مرة واحدة فلا نفهم شيئا أو نفهم بعض الفهم لكن حينما نعيد القراءة مرة أو مرات تتبدى لنا أمور جديدة كأننا نقرأ غير الذي قرأناه أول مرة. وعليه فإن القراءة بعين العقل مرات متعددة في زمن طويل هو في نهاية المطاف حفظ رفيع محمود. العبرة ليست" بكثرة القراءة ولكن بدقتها"، إن أهم شرط للقراءة المفيدة "أن تكون مزدانة بالتركيز والادكار"، فلا خير في قراءة كثيرة مضطربة لا عمق فيها ولا تركيز".
ومن غريب ما قرأت في مقال شركي قوله: " ومعجزة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم هي الحفظ حيث استظهر وهو لا يقرأ ولا يكتب كتاب الله عز وجل، ولم يكن ذلك منقصة بل معجزة"، إن الاستشهاد بحفظ الرسول عليه السلام، وحفظه معجزة كما قلتم، ليس في محله إطلاقا هنا فيما نحن بصدده، فهل يجوز أن نستند إلى معجزات الرسول عليه السلام لنقارنه بالبشر، أو لنثبت فكرة من الأفكار، إنها معجزة خاصة به صلى الله عليه وسلم. وما أبرئ نفسي منه قوله في السياق نفسه " ولم يكن ذلك منقصة بل معجزة" . أظن يا أستاذي أنك ذهبت بعيدا بعيدا في تحليلك هذا، فمن قال إن حفظ الرسول صلى الله عليه وسلم منقصة؟! إني أبرئ نفسي من هذا.
واستشهادك بمعجزة الرسول عليه السلام المتمثلة في الحفظ وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب كاستشهادك بحفظ الملائكة، فهل يستقيم أن نستشهد بالملائكة ومعجزات الرسل لنثبت أمورا للبشر؟! ومما أود التنبيه إليه أيضا استشهاد الأستاذ بقوله تعالى: ( قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم)، فهل "حفيظ" في الآية الكريمة تعني الحفظ الذي تحدثنا عنه في المقال، باعتباره مرتبطا بالتعلم أم أن "حفيظ" لا علاقة لها بموضوعنا؟
وأخيرا أود أن أتساءل مع محمد شركي حول ما ذكره من أن التلاميذ في الباكالوريا لا يستطيعون كتابة جملة واحدة في السبورة إلا إذ رجعوا إلى الدفتر، ألا يمكن تفسير هذا بما قلته إن تعليمنا يُحَفّظ المتعلمين تحفيظا آليا، أي يستعمل أسلوب التحفيظ لا التفهيم، بحيث لا يستطيعون التصرف فيما يحفظون، ثم إن هذا الحفظ الأعمى بل التحفيظ عطل قدراتهم على إنتاج أصيل، وتمثيلكم بالفلسفة يوحي أن التحفيظ هو الوسيلة المعتمدة في التقويم، لذلك يلجأ المتعلمون إلى القصاصات لأنهم لا يقوون على استظهار الكلام الفلسفي، فلو علمناهم وعودناهم على الفهم والتصرف في المعلومات بأسلوبهم عوض الاستظهار الحرفي لما وجدت هذه القصاصات... خلاصة القول إن الحفظ حفظان: بصير وأعمى، وشكرا .Oujda City :: Portail d'actualitأ© Marocain