لماذا فشلت كل محاولات إصلاح الحقل التربوي رغم توفر مقدمات الإصلاح ومن أهمها الإقرار بوجود أزمة؟
إن الإعتراف بوجود أزمة تربوية هو بالفعل شرط ضروري لمواجهة الحالة الراهنة للقطاع التربوي، كما أن الشعور والاعتراف بوجود أزمة متعددة الأوجه، ومن لدن مختلف الفئات المجتمعية هو أمر إيجابي يستدعي قدرا كبيرا من التفكير في أوجه هذه الأزمة واستراتيجيات الإصلاح، بعيدا عن المقاربات الظرفية الانفعالية.
في خضم الحديث عن الإصلاح، تختلف الرؤى وتتعدد بتعدد حقول ومجالات الإصلاح، المتراوحة بين المجالات الإجرائية المرتبطة بالممارسة داخل القسم، وبين المجالات الأوسع، والمرتبطة باللغات والمواد الدراسية وما إلى ذلك.
كل تلك المجالات في حاجة إلى إصلاح عميق، يتطلب مساهمات من مواقع مختلفة. لكن لا بد من توفر شرطين جوهريين من أجل ترسيخ الإصلاح وتثبيته.
الشرط الأول هو ربط كل مقاربات الإصلاح وإجراءاته بالمعرفة العلمية التربوية. فالحقل التربوي ليس حقلا مستباحا طالما أن المعني به هو الإنسان.
إن علوم التربية حققت تراكما معتبرا على مستوى التنظير والبحث والتأليف حتى وصل الأمر إلى نحت تجارب وتأسيس نماذج ومدارس ذات هويات محددة تميز كل بلد، اعتمادا على الغايات التربوية التي رسمها لنفسه، واعتمادا على الفلسفة التربوية، وهذان العنصران بمثابة أساس تنبني عليه سائر الأشياء الأخرى ذات الصلة، كالمناهج التربوية والسياسات التربوية، واقتصاديات التربية. لذلك من غير اللائق أبدا تجاوز المقاربات العلمية والقفز عليها وتغليب مقاربات ظرفية أومزاجية تتحكم فيها اعتبارات لا صلة لها بالعلوم التربوية.
الشرط الثاني الضروري لترسيخ الإصلاح، هو فك عقدتين اثنتين طالما قيدتا محاولات الإصلاح ومثلتا حاجزا حقيقيا أمام المواجهة الصريحة للمأزق التربوي الذي يعد الحفاظ على توازنات معينة أحد محدداته.
العقدة الأولى ترتبط بمصدر المال المرصود لقطاع التربية، و تتجلى في أن مصدر تمويل قطاع التربية هو مزيج من الميزانية الرسمية والدعم المالي الآتي من جهات خارجية.
إن المؤسسات والجهات الدولية الداعمة لها تصوراتها للإصلاح التي تتقاطع أحيانا وتتعارض أحيانا أخرى مع التصورات المحلية، وبالموازاة مع الدعم الذي يتوصل به المغرب من طرف المؤسسات الدولية، فإنه يتوصل أيضا بمقترحات ومطالب، إذ تربط الجهات المانحة الحصول على المنحة بتنفيذ عدد من الشروط وتقيد بين الدعم والنجاح في تنفيذ المطالب.
التعليم هو أحد المجالات الحساسة التي تتصل بهوية البلد ومستقبله، وينبغي أن يكون من القطاعات الأكثر استقلالية عن كل المؤثرات التي قد تعصف بأسسه الفلسفية والقيمية. فالتعليم هو قبل كل شيء مجموعة من الاختيارات الاستراتيجية التي تؤطر النماذج الاجتماعية والثقافية، لذلك يجب أن تكون المحددات الوحيدة له هي ما يتصل بتحقيق الغايات الكبرى وأهداف المنهاج، وينبغي أن تكون هذه موضوعة ومرسومة باستقلالية تامة وفي معزل عن أي تأثيرات فئوية أو إيديولوجية.
العقدة الثانية التي ينبغي فكها من أجل السير على طريق الإصلاح تتعلق بالهدر المدرسي.
ينبغي الوقوف طويلا عند قضية الهدر المدرسي. فالاختلاف حول كون الهدر المدرسي إشكالية تربوية غير وارد، وقد وصفت منظمة اليونسكو في أحد مؤتمراتها الهدر المدرسي بالآفة العالمية، لكن في الوقت نفسه، تقر العلوم التربوية بأن الهدر حقيقة لا يمكن إلغاؤها بالمرة، فهي من نتائج التعليم الجماعي، وأفضل ما يمكن أن يقوم به نظام تربوي جيد هو تقليص نسبة الهدر، وتوفير مسالك لإدماج المخرجات.
إن التعامل مع الهدر بالشكل الراهن اليوم هو الذي ترتب عليه الخلل الكبير الذي يعيشه المشتغلون بالتربية إذ أنتج رهان القضاء عليه واقعا مليئا بالمتناقضات التي لا تتناسب إطلاقا مع المفاهيم العصرية للتربية، وحول الممارسة التربوية إلى معاناة للمشتغلين بالتعليم داخل الفصل بفعل الاكتظاظ غير المعقول ولا المقبول تربويا، وغياب الانضباط، ووصولا إلى غياب نجاعة البرامج، مرورا بسائر القضايا الأخرى التي تعكس درجة خطورة المأزق التربوي الذي تتخبط فيه المدرسة المغربية.
إن رفع رهان القضاء الكامل على الهدر المدرسي تحول إلى ضغط أفقد الدولة طريق الإصلاح التربوي الحقيقي لأنها ببساطة وضعت رهانا غير قابل للتحقق. فكل الدراسات التربوية منذ عدة عقود، وفي بلدان مختلفة وتجارب تربوية مختلفة كذلك، أقرت بأن التعليم الجماعي سيبقى دائما يخلف ضحايا من الذين لم ينجحوا في مسايرة إيقاعه، حتى في الأنظمة التربوية التي تعد متقدمة بناء على معايير بناء المناهج فيها، وإنجازات المتعلمين، وانسجام التعليم مع الحاجيات الاجتماعية والنفسية للمتعلمين وغير ذلك.
من الضروري تبعا لهذا أن تتعامل الدولة مع الهدر كمعطى لازم للنظام التربوي وأن تركز الجهود في كيفية إدماج المخرجات كما قلنا، دون الوقوع في خطإ رفع تحد بالانتصار على الهدر المدرسي، وهو تحد خاسر منذ البداية.
هذه شروط جوهرية، والاستجابة لها صعبة، لأنها تتطلب مواقف وقرارات على درجة كبيرة من الجرأة والوضوح والمصارحة. لكنها ضرورية وعليها يتوقف الإصلاح.
بقلم: روبن هود