بلاغة أقواله صلى الله عليه وسلم:
ومن بلاغته عليه الصلاة والسلام – ما أوتي من الحكمة البالغة وأعطي من العلوم الجمة الباهرة، وهو أمي من أمة أمية، لم يقرأ كتابا، ولا درس علما، ولا صحب عالما ولا معلما، فأتى بما بهر العقول وأذهل الفطن من إتقان ما أبان، وإحكام ما أظهر، ولم يتعثر فيه بزلل في قول أو عمل.
ومن صفة بلاغته صلى الله عليه وسلم أن كلامه يقل عدد حروفه وتكثر معانيه ويجل عن الصنعة وينزه عن التكلف، وكان كما قال الله عنه: ﴿وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ﴾[ص:86] ، فكيف وقد عاب التشديق، وجانب أصحاب التقعير، واستعمل المبسوط في موضع البسط، والمقصور في موضع القصر، وهجر القريب الوحشي، ورغب عن الهجين السوقي فلم ينطق إلا عن ميراث حكمه، ولم يتكلم إلا بكلام قد حُف بالعصمة، وشيد بالتأييد، ويسر بالتوفيق، وألقى الله المحبة عليه، وغشاه بالقبول، وجمع له بين الحلاوة والمهابة، وبين حسن الإفهام وقلة عدد الكلام، ومع استغنائه عن إعادته، وقلة حاجة السامع إلى معاودته، لم تسقط له كلمة، ولا زلت له قدم، ولا بارت له حجة ولم يقم له خصم، ولا أفحمه خطيب، بل يبذ الخطب الطوال بالكلام القصير، ولا يلتمس إسكات الخصم إلا بما يعرفه الخصم، ولا يحتج إلا بالصدق، ولا يطلب الفوز والظفر إلا بالحق، ولا يستغني بالخلابة.
ولا يستعمل المواربة ، ولا يهمز ولا يلمز ولا يبطئ ولا يعجل، ولا يسهب ولا يحصر، ثم لم يسمع الناس بكلام قط أعم نفعاً ولا اصدق لفظاً، ولا أعدل وزناً، ولا أجمل مذهباً، ولا أكرم مطلباً، ولا أحسن موقعاً، ولا أسهل مخرجاً، ولا أفصح عن معناه، ولا أبين في فحواه، من كلامه صلى الله عليه وسلم. وعموما فإن الله عز وجل قد فضل نبيه محمد صلى الله عليه وسلم على غيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بأن أعطاه جوامع الكلم، فكان صلى الله عليه وسلم يتكلم بالقول الموجز القليل اللفظ الكثير المعاني. أعطاه مفاتيح الكلام وهو ما يسره له من البلاغة والفصاحة، والوصول إلى غوامض المعاني وبدائع الحكم ومحاسن العبارات والألفاظ التي أغلقت على غيره وتعذرت عليه.
قال العز بن عبدالسلام: «ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه بعث بجوامع الكلم، واختصر له الحديث اختصارا، وفاق العرب في فصاحته وبلاغته»([15])، فقد ورد في الحديث أن الرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أعطيت فواتح الكلم وخواتمه وجوامعه"([16]) وفواتح الكلم هي مفاتيح الكلم جمع مفتاح وهو ما يتوصل به إلى استخراج المغلقات التي يتعذر الوصول إليها.. ومن كان في يده مفتاح شيء مخزون سهل عليه الوصول إليه. وخواتم الكلم: حسن الوقوف ورعاية الفواصل. وجوامع الكلم معناه التنبيه بالقليل على الكثير والكف عن الإطالة والكشف عن الجهالة بإعانة ويسر وانقياد.
قال ابن رجب الحنبلي: «فجوامع الكلم التي خص بها النبي صلى الله عليه وسلم نوعان:
أحدهما: ما هو في القرآن كقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ﴾[النحل:90] قال الحسن البصري: لم تترك هذه الآية خيرا الا أمرت به، ولا شرا إلا نهت عنه. الثاني: ما هو في كلامه صلى الله عليه وسلم، وهو منتشر موجود في السنن المأثورة عنه»([17]) ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه الشيخان عن عمر رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى"([18]) قال الشافعي : «هذا الحديث ثلث العلم ويدخل في سبعين بابا من الفقه»([19]).
وقال القاضي عياض: «وأما كلامه المعتاد، وفصاحته المعلومة وجوامع كلمه وحكمه المأثورة، فقد ألف الناس فيها الدواوين، وجمع في ألفاظها ومعانيها الكتب، ومنها مالا يوازي فصاحةً ولا يبارى بلاغةً»([20]). فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "اتق الله حيثما كنت واتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن"([21])، وقوله: "الدين النصيحة قلنا لمن يا رسول الله، قال لله عز وجل ولكتابه ولرسوله ولائمة المسلمين وعامتهم"([22]). وقوله "دع ما يريبك إلى ما يريبك"([23]).
وقوله للأنصار: " إنكم ما علمت تكثرون عند الفزع وتقلون عند الطمع "([24]) وقوله: "الناس كلهم سواء كأسنان المشط"([25]) و" والمرء يكثر بإخوانه المسلمين ولا خير في صحبة من لا يرى لك مثل الذي ترى له"([26]) و" المسلمون تتكافأ دماؤهم يسعى بذمتهم أدناهم ويجير عليهم أقصاهم وهم يد على من سواهم"([27]) ، فتفهم رحمك الله قلة حروف هذه الأحاديث وكثرة معانيها!!. وقال عليه الصلاة والسلام: "اليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول"([28]) وقال: " ليس منا من حلق ومن سلق ومن خرق"([29]) أي: ليس منا من حلق الشعر عند الرزية، ورفع عنده الصوت، وشق الثياب.
وقال "إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ووأد البنات ومنع وهات"([30]) وقال: "الناس كإبل المائة لا يوجد فيها راحلة"([31]) وقال: "ما أملق تاجر صدوق"([32]) وقال: "ما قل وكفى خير مما كثر وألهى"([33])، وقال: "يحمل هذا العلم كل من خلق عدو له ينفون عنه تحريف الغالين، انتحال المبطلين وتأويل الجاهلين"([34])، وقال: "لا تزال أمتي صالحاً أمرها مالم ترا الأمانة مغنما والصدقة مغرما"([35])، وقال : "المستشار مؤتمن"([36]) و"المستشار بالخيار إن شاء قال وإن شاء امسك".
وقال: "رحم الله عبدا قال خيرا فغنم أو سكت فسلم"([37])، وقال: "افصلوا بين حديثكم بالاستغفار"([38]) وقال: "إن الله يرضى لكم ثلاثا ويكره لكم ثلاثا فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ويكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال"([39])، وقال عليه الصلاة والسلام: "يقول ابن آدم مالي مالي - قال - وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت"([40]) وقال: " لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب"([41]) وقال: "إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون"([42])، وقال: " إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلسا يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون "([43]) وقال:" ولا يؤم الرجل فى بيته ولا فى سلطانه ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه "([44]) وقال: "إياكم والمشارة فإنها تميت الغرة وتجيب العرة"([45])، وكان يقول: " اللهم إن أعوذ بك من دعاء لا يسمع وقلب لا يخشع ونفس لا تشبع "([46]) أوصى رجلا بثلاث فقال له " أكثر من ذكر الموت يسلك الله عما سواه وعليك بالدعاء فانك لا تدري متى يستجاب لك وعليك بالشكر فإن الشكر زيادة"([47]). وقال عن البغي: "وإياك والبغي ، فإن الله عز وجل يقول :﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾[يونس:23] وإياك والنكث، فإن الله عز وجل يقول :﴿فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ﴾[الفتح:10] وإياك والمكر، فإن الله عز وجل يقول: ﴿وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ﴾[فاطر:43]"([48]).
وسئل عليه الصلاة والسلام: "أي العمل أفضل؟ فقال:" اجتناب المحارم ولا يزال فوك رطبا من ذكر الله"([49]) وسئل: أي الأصحاب خير؟ قال: "صاحب إذا ذكرت الله تبارك وتعالى أعانك وإذا نسيته ذكرك"([50]). وقال: " دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء والبغضاء هي الحالقة حالقة الدين لا حالقة الشعر والذي نفس محمد بيده لا تؤمنوا حتى تحابوا أفلا أنبئكم بشيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم"([51]) وقال "تهادوا تحابوا"([52]) وعن الحسن بن ذكوان: أن داود عليه السلام قال: "أوصاني ربي عز و جل بتسع خصال: أوصاني بخشيته في السر والعلانية والعدل في الغضب والرضا والاقتصاد في الغنى والفقر وأوصاني أن أصل من قطعني وأن أعطي من حرمني وأعفو عمن ظلمني وأن يكون نظري عبرا وصمتي تفكرا وقولي ذكرا"([53]). ومن كلامه صلى الله عليه وسلم مما لم يسبقه إليه عربي، ولم يشاركه فيه عجمي، ولم يدع لأحد ولا ادعاه أحد – ما صار مستعملا ومثلا سائرا، فمن ذلك قوله: "يا خيل الله اركبي"([54])، وقوله: "الآن حمي الوطيس"([55])، وقوله: "لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين"([56])، وقد ضرب الحارث بن خذاف بهذا الحديث مثلا عندما أمر بالكلام عند مقتل يزيد بن المهلب فقال: «يا أيها الناس اتقوا الفتنة فإنها تقبل بشبهة وتدبر ببيان، وإن المؤمن لا يلسع من جحر مرتين»([57]). وقال ابن الأشعث لأصحابه وهو على المنبر، «قد علمنا إن كنا نعلم، وفهمنا إن كنا نفهم أن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، وقد – والله - لسِعت بكم من جحر ثلاث مرات، وأنا أستغفر الله من كل ما خالف الإيمان، واعتصم به من كل ما قرب من الكفر»([58])، فاللهم صلي على سيدنا محمد وآله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. كتبه الدكتور عبد الواحد بن عبد الله الخميسي رئيس قسم اللغة العربية بجامعة الإيمان
========
[15]- غاية السول في تفضيل الرسول صلى الله عليه وسلم، 47.
[16]- مصنف بن أبي شيبة، 1/327، وقال عنه الألباني صحيح في السلسة الصحيحة برقم: 1483.
[17]- جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي،2/4،5.
[18]- أخرجه البخاري في صحيحه ،1/3، برقم:1.
[19]- اتحاف القاري بدرر البخاري،2/7.
[20]- الشفا بتعريف حقوق المصطفى،1/77.
[21]- أخرجه أحمد في مسند،5/153، برقم: 21392، تعليق شعيب الأرنؤوط : حسن لغيره وهذا إسناد رجاله ثقات رجال الشيخين غير ميمون بن أبي شبيب فقد روى له مسلم في المقدمة
[22]- أخرجه مسلم في صحيحه،1/74، برقم:55.
[23]- أخرجه الترمذي في سننه،4/668، برقم: 2518، قال عنه الألباني صحيح في إرواء الغليل2574.
[24]- كنز العمال،14/53، برقم: 37951.
[25]- كنز العمال،9/66، برقم: 24823، قال عنه الألباني ضعيف جدا.
[26]- كنز العمال،9/66، برقم: 24823، قال عنه الألباني ضعيف جدا.
[27]- أخرجه أبو داوود في سننه،3/34، برقم: 2753، وقال عنه الألباني حسن صحيح.
[28]- أخرجه البخاري في صحيحه، 1/653، برقم: 1427.
[29]- أخرجه أبو داود في سننه،3/163، برقم: 3132، قال عنه الألباني: صحيح.
[30]- أخرجه البخاري في صحيحه،2/848، برقم: 2277.
[31]- أخرجه أحمد في مسنده، 9/70، برقم: 5029، قال شعيب الأرنؤوط إسناده صحيح على شرط الشيخين.
[32]- كنز العمال،4/60، برقم: 9358.
[33]- أخرجه ابن حبان في صحيحه،8/121، برقم: 3329، قال شعيب الأرنؤوط : إسناده صحيح على شرط مسلم.
[34]- مسند الشاميين للطبراني،1/344، برقم: 599، قال عنه الألباني صحيح.
[35]- البيان والتبيين للجاحظ،1/ 223.
[36]- أخرجه أبو داود في مسنده، 4/495، برقم: 5130، قال عنه الألباني: صحيح.
[37]- الجامع الكبير للسيوطي،1/679، برقم: 397، قال الألباني: حسن انظر حديث رقم : 3496 في صحيح الجامع .
[38]- الكامل في اللغة والأدب،1/240.
[39]- أخرجه مسلم في صحيحه،5/130، برقم: 4578.
[40]- أخرجه مسلم في صحيحه،8/211، برقم: 7609.
[41]- أخرجه البخاري في صحيحه،5/ 2364، برقم: 6072.
[42]- أخرجه مسلم في صحيحه،8/89، برقم: 7124.
[43]- أخرجه الترمذي في سننه، 4/370، برقم: 2018، قال الشيخ الألباني : صحيح.
[44]- أخرجه أبو داود في سننه، 1/227، برقم: 582، قال الشيخ الألباني : صحيح.
[45]- أعلام النبوة للماوردي،1/254.
[46]- أخرجه الطبراني في المعجم الكبير،2/305، برقم: 2271، وهو عند أحمد وإسناده صحيح.
[47]- حلية الأولياء،7/305.
[48]- الفوائد لابن منده،1/126، برقم: 43.
[49]- الأحاديث التي في الإحياء ولم يجد لها السبكي إسنادا (من كتاب طبقات الشافعية الكبرى)،6/290.
[50]- الإخوان لابن أبي الدنيا،1/94، برقم: 42، قال الشيخ الألباني : ( ضعيف ) انظر حديث رقم: 2880 في ضعيف الجامع.
[51]- أخرجه أحمد في مسنده،1/164، برقم: 1412، تعليق شعيب الأرنؤوط: إسناده ضعيف لانقطاعه.
[52]- أخرجه البخاري في الأدب المفرد،1/208، برقم: 594، قال الشيخ الألباني : حسن.
[53]- إصلاح المال،1/99، برقم: 328.
[54]- كنز العمال، برقم: 4363. وهو في سنن أبي داود برقم:54.
[55]- أخرجه أحمد في مسنده، 3/298، برقم: 1776، تعليق شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين، وهو عند مسلم بلفظ: هذا حين حمي الوطيس برقم: 1775.
[56]- أخرجه البخاري في صحيحه،5/ 2271، برقم: 5782.
[57]- البيان والتبيين للجاحظ،1/220.
[58]- البيان والتبيين للجاحظ،1/221.