في جلسةٍ تالية ، بدوتُ مُنهارة نفسياً فقلتُ بغصّة وحرقة :
ـ أشعر بتأنيب الضمير يا أستاذ ، أشعر بالوقاحة أحياناً ، أشعر بالنّقيصة ، حتّى التعبير لمْ يُساعدني ، بخلَ عليّ وأنا أُريد أن أتخلّص من مأساة الشعور بالذّنْب .. نعم أُستاذي ـ أُسمّيها مأساة ،مأساة َنفسي ، مأساةٌ أعاني مِنها منذ زمن ،وها أنا الآنْ أنوي الخروج مِنها ، على الآقل بلا ضرر كبير .؟
ـ .....! صامتاً ، أوقف عينيه في عيني .
ـ " باندفاع " إنّها مأساة شُعوري ، صدّقني أُريد أن أهجر الحياة ، أنْ أودّعها إنْ أنا بقيتُ في هكذا شُعور يُغيّبني ويُعذبني بل يقتُلني في كل ثانية .. فهلاّ ساعدتّني وأنْقذتني .. إنْ فعلتَ ذلك َ ، لن أنسى لكَ مَعروفاً أسديْتُه لي ..!
ـ هوّني عليكِ قليلاً . ابتسمَ .
ـ إنها مأساةٌ حقيقية أحْكيها لك لم أحكيها لغيركَ لكأنّها حصرياً لمن هو عزيزاً في نفسي .
بدا الاستاذ مُتلوناً لكأنه لا يُريد أن يسمع مني .
ـ ياأستاذ وانا اقترب منه .. لا أدري والله أربّي يَكرهني أم انا كرهتُ نفسي .! تصوّر فتاةً مثلي تقول ذلكَ لماذا .؟ أليس أني وصلتُ إلى ضيْق مُقْفل وطريقٍ مَسدود ؟
هزّ رأسه وأرخاه قليلاً وامتدّ بصره إلى السّماء وأخذ نفساً عميقاً :
ـ يجبْ أن يتبدّل كُلّ شيء في نفسك ،ففي داخلك كثيرٌ من ضيْق وعالمك قاتمٌ إلى حدٍّ بَعيد ، وعليكِ من هذه اللحظة أن تُغيّري نهجك القَهْري وتُبسطيه على شساعته فالحياة بَسْطة .. فإذا ما انبسطتْ الحياة تفتحتْ جوارحك وازدهرتْ نفسك وحتْماً ستعوّضينَ ذلك النّقص أو الشُّعور المأساوي الذي يُراودك .. واعْلمي أنّ الشعور المُحبط تجاه الحياة يجبْ أن يُبدّل بنتاجٍ آمن..! فلو أسْمينا الشعور المأخوذ من حقّ الزوجية ، إنْ لمْ يُستأثر بقيمْ الدّواخل أي ما في دواخل النفس من أحساس ملموس وشعور يتلامس من التمكين النفسي لفهم الآخر وتنامي التعايش الآمنْ تبقى العِلاقة مُزجاة نتيجتها نقْص يُعوّض.!
ـ ...برزتْ عيني بحركة استغراب واندهاش .
ـ افهميني .. أنا لا أُبرّر موقف أي أحد .. فالمواقف كثيرة لا تُحصى ويَصْعب تمحيصها بشكل دقيق فالتفاصيل تكون غامضة في هكذا مواقف ، فالسرائر إنْ لم تكنْ دافئة ، فإن برودة تغييبها تحتاج إلى من يُدفئُها وحياة المودة يَلزم من يُفنّدها على حقيقتها.؟! وأي شُعور جديد غير مقبول ولا مُبرّر له .. فكل وعاء يحتاج إلى إطار ، وهذا الاطار نحن من نُشكّله .!
سحبتُ نفساً عميقاً وقلتُ :
ـ أتقول مثلاً أنّها طبيعة بشرية.
قاطعني الاستاذ :
ـ أتسمّينَ المُستأجر إطاراً والخفاء وعاء .لكيْ تقتربين من طبيعة بشريّتك .. انا اقول أن الروح البشرية كالمحرّك أي أنّكِ تحتاجينَ إلى رعايةٍ واضحة لزيادة عُمره الافتراضي وكُلّما خفيَ الشعور نقص العُمر الافتراضي ، وقيْسي هذا بكل شيء .. أم تجدينَ في الأستئجار المَخْفيّ عن الأعين ، مآلاتٍ فتُعرّفينها بالحاجة إلى علائق ..! أليس هذا سبباً رئيساً لزيادة القلق في نفسك، فالنوازع تسدّ أمل الإشباع فنستبدله بما هو أدنىَ منه ، فنحسبُه تعويضاً عمّا غَفلناهُ وما جهلناهُ من قُصور .
ـ أُستاذي .. لم آتِ لسماع مواعظ ، أنا أحتاج إلى علاجٌ فاعل وسريع ، علاجٌ يُخفّف عنّي تأنيب الضمير ، قُلت لك بوضوح أنا أعاني من خِزْي ما ارتكبتهُ ، من خِزْي وقاحتي .. أشعر بالذنْب ، أشعر بالعَار ..! قُل لي ،كيف الخلاص .؟ كيف النجاة .؟ ما هو العمل .؟! أريد الخروج من وصْمة العَار الذي لحقتني .؟! أريد الغُسْل من خطيئتي .؟! فهل أغتسل بوحْل ما اقترفته ، فأزداد إغْراقاً ، فإنْ فعلتُ ذلك فقد خيرٌ قضيتُ على أكثر من رجل .
قال الاستاذ ، وكأنّ عينيه خرجتْ من جِفْنيهما :
ـ " كوّر اصابع يده اليُسرى ، وكأنه يطلب مني الهدوء " واقع الشّر ،عذابٌ نفسي كما النار تَقْضي بهشيمها على كل شيء ، فإنْ لمْ تُطفيئيها ، لنْ تستريحي ، لن يهدأ بالٌ لكِ .!
قاطَعْته :
ـ "صرختُ وقد اهتزّ بدني " جئتُ لتمُدّني بعونٍ وقوة تُنسيني عذابي ، لا أَنْ أسمع مواعظ تقهرني .. وتزيدني عذاباً وقهراً ذا غُصّةٍ فوق عذابي فأنا اتجرّع مَذاقه الضّائق وأحْتسي قهْراً يَعْصف بي.! لا أريد عذاباً فوق عذابي ، لنْ أتقبّل من أحدٍ تودّداً وإن بسطَ الذهبَ ولو افتدى برجالٍ مثله . وإنْ عزمتُ لا يقدر أحدٌ لأنْ يُبعدني . أشعُر بريحٍ تشتعل في داخلي ، ريحٌ عاتية تُصرصرُ في جوانبي ، تغلي في قلبي فتقلّب عقلي على نارها .. وأخشىَ أنْ يسوقني قدري إلى زلِلَها.. إنها حقيقتي وهذا خطْبي ، فافعلْ ما تشاء .؟!
ـ " ابتسمَ " من الواجب أن تكوني على بسطة وأريحية أكثر ويكون عزْمكِ للتغيير أفضل .. وأنْ تُحاسبي نفسكِ على كُل تهوّرٍ ، وبالهدوء تيُحلّ القهْر وينزاح العذاب ، فهو خيرٌ من صُراخٍ لا شيء فيه ، فقد قرأنا في الاثر أنّه يُصيب أحدنا من مُجرد لحظة جلوسه بالقرب من نافخ الكِيْر ، فيصيبنا الشرر وربما تحترق ملابسنا من أثر تطاير شرارة النار.. فمنْ يستشعر الانتقام في نفسه ، تبقى وصْمة عذابهُ أشدّ عذاباً من خِزي عذابه الآوّل ..! فوطأَةِ الاخطاءات جسيمة وقوتها تُعتّم كل جميل فيك .. فلا شي بعْدها غير الجُنون أو إلى مَوتة الفَجأة أو إلى سُكون أشدّ وأقسى عذاباً فكُلما أزدادتْ قوة الوخزات في نفسك كُلما استثارتْ شدائد الطعنات الجارحة ، وفي الظلام تجدين القوة الدافعة إلى الانتقام ،وكُلما أستشعرتي بذلك كلما اقتربتِ من النهاية .. سكتَ ثم أردفَ واعْلمي ، ان طريق النور ، ليس درباً واحداً ، بل للنور دروبٌ كثيرة .. كدروب الأمل ، لا تكونْ بلا أشواك ، والشمس لا تخلو من وهج قاسٍ ، والورد الجميل به شوكه مُؤلم .. هكذا هي الحياة كل شيء فيها ، جانبٌ مُشرق وآخر مُظلم .!!
ـ لكني " قاطعته " لكني راغبةٌ في حياةٍ بلا شوك ولا وخْز .!
وعلى غير عادتي ، بقيتُ صامتة ، فأحسّ بي الاستاذ وقال :
ـ طاقة التأنيب قاسيةٌ عليكِ لا تتحمّلينها .. والشحنة السالبة ، تغْذيةٌ لطاقة سلبية تكون ضِعْفَ قوتك ، ونصيحتي أنْ ترشّشيه بطاقة بديلة ، طاقة إيجابية إيمانية ، بطاقة القيمْ التي ترتكز على فهم الاخر .. فالقلم الذي نكتب به ، إنْ لم نفهم حاجته تبقى الغاية منه مُعطلة لاننا لم نبلغَ الهدف منه .؟!
سكت بثرهة وأنا اقاوم ما في نفسي :
ـ حاولي ذلك ، فالفشل واردٌ ، عززّي الثقة فهي الطريق الأَمْثل .!! لنْ يفقهَ أحدٌ بدايته وكذا النهاية ، قد تكون بيده أحياناً ، فهو يملك قرارها بتصرّفه .! نحن كبشر جميعاً نُصيب ونُخطي ، هذا قدرنا ، والأختيار مُمكن إنْ نحن أحسنَا القرار ..! ولقرار بأيدينا نحن نقطعه ونحن نحسم أمره .. بكلمة، بفعل بتصرف؟! فالطريق واضحَ المعالم تكون نهايته مُمكنة .. وما عليكِ إلاّ أن تُقرّري مُواصلة المَصير أو التوقّف عن المَسِير .. واعْلمي أنّ البقاء في الوسط غير مُمكن ، فأيّ السبيلينْ سلكتِ، تجدينَ قراراً وتلتمسينَ صَواب الاختيار، والحياة دوماً ليستْ مَفروشة والسهول غير مُنبسطة في أكثرها ،قد تجدينَ مَطبّات وموانع كالحصوات فتسقطينَ عليها او تسقط عليكِ ، وقد تجدينَ الممشى صلباً لكنك فجأة يقع بك ، فكلّ بأسبابه هو رهينٌ .!
أخذ ورقة وقلماً وكتب :
" إنْ ثقلتْ موازين العلاقة الانسانية بقدر ما آمنَ به الفرد من خلاص ، فعليه أن يُعوّض ما هو مُثْقلٌ به ، بشعور أخفّ لتعديل موازين حياته ، فإن تحوّل الشعور إلى قول لا فِعْل فيه ، فإنّ هذا القوْل سيكون له تأثيرٌ بالغ لتقليب موازينهُ المُعتدلة إلى موازين تُثقله في قادم أيامه ، وعليه البحث عمّا يُوازي الفِعْل بنفس القوة التي يُؤمن بها من شعور ، فالطاقة الايجابية تُعطّل الطاقة السلبيّة بقدرة مُؤثرة .! "
مدّ يده ، ناولني الورقة وسحبَ القلم ..وانصرفْ.