منتديات الأستاذ التعليمية التربوية المغربية : فريق واحد لتعليم رائد

منتديات الأستاذ التعليمية التربوية المغربية : فريق واحد لتعليم رائد (https://www.profvb.com/vb/)
-   تفسير (https://www.profvb.com/vb/f297.html)
-   -   تفسير سورة المائدة (https://www.profvb.com/vb/t159932.html)

أم سهام 2015-06-01 13:12

تفسير سورة المائدة
 
* تفسير صفوة التفاسير/ الصابوني (مـ 1930م -) مصنف و مدقق
{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ ٱلأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي ٱلصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ ٱللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } * { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ ٱللَّهِ وَلاَ ٱلشَّهْرَ ٱلْحَرَامَ وَلاَ ٱلْهَدْيَ وَلاَ ٱلْقَلاۤئِدَ وَلاۤ آمِّينَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَٱصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبرِّ وَٱلتَّقْوَىٰ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } * { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ وَٱلْدَّمُ وَلَحْمُ ٱلْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ وَٱلْمُنْخَنِقَةُ وَٱلْمَوْقُوذَةُ وَٱلْمُتَرَدِّيَةُ وَٱلنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ ٱلسَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِٱلأَزْلاَمِ ذٰلِكُمْ فِسْقٌ ٱلْيَوْمَ يَئِسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَٱخْشَوْنِ ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلإِسْلٰمَ دِيناً فَمَنِ ٱضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } * { يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ ٱلْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ ٱللَّهُ فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَٱذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَيْهِ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } * { ٱلْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيّبَـٰتُ وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَٱلْمُحْصَنَـٰتُ مِنَ ٱلْمُؤْمِنَـٰتِ وَٱلْمُحْصَنَـٰتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَٰفِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِيۤ أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِٱلإِيمَٰنِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي ٱلآخِرَةِ مِنَ ٱلْخَٰسِرِينَ } * { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلٰوةِ فٱغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى ٱلْمَرَافِقِ وَٱمْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى ٱلْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَٱطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَىۤ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ ٱلْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ مَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } * { وَٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ ٱلَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } * { يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَآءَ بِٱلْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىۤ أَلاَّ تَعْدِلُواْ ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } * { وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } * { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُوْلَـۤئِكَ أَصْحَابُ ٱلْجَحِيمِ }

اللغَة: { ٱلْعُقُودِ } أصل العقد في اللغة: الربط تقول عقدتُ الحبل بالحبل ثم استعير للمعاني قال الزمخشري: العقد العهدُ الموثّق شبّه بعقد الحبل قال الحطيئة:
قومٌ إِذا عقدوا عقداً لجارهم *** شدّوا العناج وشدّوا فوقه الكَرَبا
{ بَهِيمَةُ ٱلأَنْعَامِ } البهيمة ما لا نطق له لما في صوته من الإِبهام والأنعام جمع نَعَم وهي الإِبل والبقر والغنم { ٱلْقَلاۤئِدَ } جمع قلادة وهي ما يقلد به الهدي من لحاء الشجر ليُعلم أنه هدي { يَجْرِمَنَّكُمْ } يكسبنكم يقال: جرم ذنباً أي كسبه وأجرم اكتسب الإِثم { شَنَآنُ } الشنآن: البغض { ٱلْمَوْقُوذَةُ } الوقذ: ضرب الشيء حتى يسترخي ويشرف على الموت { ٱلنُّصُبِ } صنمٌ وحجر كانت الجاهلية تنصبه وتذبح عنده وجمعه أنصاب كذا في اللسان { ٱلأَزْلاَمِ } القداح جمع زَلَم كان أحدهم إِذا أراد سفراً أو غزواً أو تجارة ضرب بالقداح وهو الاستقسام بالأزلام { مَخْمَصَةٍ } مجاعة لأن البطون فيها تُخمص أي تضمر والخمص ضمور البطن { ٱلْجَوَارِحِ } الكواسب من سباع البهائم والطير كالكلب والفهد والصقر والشاهين.

سَبَبُ النّزول: عن ابن عباس أن المشركين كانوا يحجون البيت ويهدون الهدايا ويعظّمون الشعائر وينحرون، فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم فنزلت { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ ٱللَّهِ.. } الآية.

التفسِير: { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ } الخطاب بلفظ الإِيمان للتكريم والتعظيم أي يا معشر المؤمنين أوفوا بالعقود وهو لفظ يشمل كل عقدٍ وعهد بين الإِنسان وربه وبين الإِنسان والإِنسان قال ابن عباس: العقود العهود وهي ما أحلَّ الله وما حرّم وما فرض في القرآن كله من التكاليف والأحكام { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ ٱلأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ } أي أُبيح لكم أكل الأنعام وهي الإِبل والبقر والغنم بعد ذبحها إِلا ما حُرّم عليكم في هذه السورة وهي الميتة والدم ولحم الخنزير الخ { غَيْرَ مُحِلِّي ٱلصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } أي أُحلت لكم هذه الأشياء من غير أن تستحلوا الصيد وأنتم محرمون { إِنَّ ٱللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } أي يقضي في خلقه بما يشاء لأنه الحكيم في أمره ونهيه { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ ٱللَّهِ } أي لا تستحلوا حُرمات الله ولا تعتدوا حدوده قال الحسن: يعني شرائعه التي حدها لعباده وقال ابن عباس: ما حرّم عليكم في حال الإِحرام { وَلاَ ٱلشَّهْرَ ٱلْحَرَامَ وَلاَ ٱلْهَدْيَ وَلاَ ٱلْقَلاۤئِدَ } أي ولا تستحلوا الشهر الحرام بالقتال فيه، ولا ما أُهدي إِلى البيت أو قُلّد بقلادة ليعرف أنه هدي بالتعرض له ولأصحابه { وَلاۤ آمِّينَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً } أي ولا تستحلوا قتال القاصدين إِلى بيت الله الحرام لحج أو عمرة، نهى تعالى عن الإِغارة عليهم أو صدهم عن البيت كما كان أهل الجاهلية يفعلون { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَٱصْطَادُواْ } أي إِذا تحللتم من الإِحرام فقد أُبيح لكم الصيد { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ } أي لا يحملنكم بغضُ قوم كانوا قد صدوكم عن المسجد الحرام على أن تعتدوا عليهم { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبرِّ وَٱلتَّقْوَىٰ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ } أي تعاونوا على فعل الخيرات وترك المنكرات، وعلى كلْ ما يقرب إِلى الله { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } أي خافوا عقابه فإِنه تعالى شديد العقاب لمن عصاه { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ وَٱلْدَّمُ وَلَحْمُ ٱلْخِنْزِيرِ } أي حُرّم عليكم أيها المؤمنون أكل الميتة وهي ما مات حتف أنفه من غير ذكاة والدم المسفوح ولحم الخنزير قال الزمخشري: كان أهل الجاهلية يأكلون هذه المحرمات: البهيمة التي تموت حتف أنفها والفصيد وهو الدم في الأمعاء يشوونه ويقولون لم يحرم من فُزد - أي فصد - له وإِنما ذكر لحم الخنزير ليبيّن أنه حرام بعينه حتى ولو ذبح بالطريق الشرعي { وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ } أي ما ذكر عليه غير اسم الله أو ذبح لغير الله كقولهم باسم اللات والعزّى { وَٱلْمُنْخَنِقَةُ } هي التي تُخنق بحبلٍ وشبهه { وَٱلْمَوْقُوذَةُ } هي المضروبة بعصا أو حجر { وَٱلْمُتَرَدِّيَةُ } هي التي تسقط من جبل ونحوه { وَٱلنَّطِيحَةُ } هي التي نطحتها بهيمة أُخرى فماتت بالنطح { وَمَآ أَكَلَ ٱلسَّبُعُ } أي أكل بعضَه السبع فمات { إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ } أي إِلا ما أدركتم فيه الروح من هذه الأشياء فذبحتموه الذبح الشرعي قبل الموت قال الطبري معناه: إِلاّ ما طهرتموه بالذبح الذي جعله الله طهوراً { وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ } أي وما ذُبح على الأحجار المنصوبة قال قتادة: النُّصبُ حجارةٌ كان أهل الجاهلية يعبدونها ويذبحون لها فنهى الله عن ذلك قال الزمخشري: كانت لهم حجارة منصوبة حول البيت يذبحون عليها ويشرحون اللحم عليها، يعظمونها بذلك ويتقربون به إِليها فنهى الله المؤمنين عن هذا الصنيع { وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِٱلأَزْلاَمِ } أي وحُرّم عليكم الاستقسام بالأزلام أي طلب معرفة ما قُسم له من الخير والشر بواسطة ضرب القداح قال في الكشاف: كان أحدهم إِذا أراد سفراً أو غزواً أو تجارة أو نكاحاً أو أمراً من معاظم الأمور ضرب بالقداح وهي مكتوب على بعضها: نهاني ربي، وعلى بعضها أمرني ربي، وبعضُها غُفْلٌ فإِن خرج الآمر مضى لغرضه وإِن خرج الناهي أمسك وإِن خرج الغفل أعاد { ذٰلِكُمْ فِسْقٌ } أي تعاطيه فسقٌ وخروجٌ عن طاعة الله لأنه دخولٌ في علم الغيب الذي استأثر الله به علاّم الغيوب { ٱلْيَوْمَ يَئِسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ } أي انقطع طمع الكافرين منكم ويئسوا أن ترجعوا عن دينكم قال ابن عباس: يئسوا أن ترجعوا إِلى دينهم أبداً { فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَٱخْشَوْنِ } أي لا تخافوا المشركين ولا تهابوهم وخافون أنصركم عليهم وأجعلكم فوقهم في الدنيا والآخرة { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } أي أكملت لكم الشريعة ببيان الحلال والحرام { وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } بالهداية والتوفيق إِلى أقوم طريق { وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلإِسْلٰمَ دِيناً } أي اخترت لكم الإِسلام ديناً من بين الأديان وهو الدين المرضي الذي لا يقبل الله ديناً سواه {*وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ٱلإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ*}
[آل عمران: 85] { فَمَنِ ٱضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي فمن ألجأته الضرورة إِلى تناول شيء من المحرمات المذكورة، في مجاعةٍ حال كونه غير مائل إِلى الإِثم ولا متعمد لذلك، فإِن الله لا يؤاخذه بأكله، لأن الضرورات تُبيح المحظورات { يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ } أي يسألونك يا محمد ما الذي أُحل لهم من المطاعم والمآكل؟ { قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَاتُ } أي قل لهم أُبيح لكم المستلذات وما ليس منها بخبيث، وحُرّم كل مستقذر كالخنافس والفئران وأشباهها { وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ ٱلْجَوَارِحِ } أي وأُحل لكم صيد ما علمتم من الجوارح وهي الكلاب ونحوها مما يُصطاد به { مُكَلِّبِينَ } أي مُعلمين للكلاب الاصطياد قال الزمخشري: المكلِّب مؤدبُ الجوارح ورائضها واشتقاقه من الكَلَب لأن التأديب أكثر ما يكون في الكلاب { تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ ٱللَّهُ } أي تعلمونهنَّ طرق الاصطياد وكيفية تحصيل الصيد، وهذا جزءٌ مما علّمه الله للإِنسان { فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ } أي فكلوا مما أمسكن لكم من الصيد إِذا لم تأكل منه، فإِن أكلت فلا يحل أكله لحديث " إِذا أرسلتَ كلبَك المُعلَّم فقتل فكلْ، وإِذا أكل فلا تأكل فإِنما أمسكه على نفسه " وعلامة المعلَّم أن يسترسل إِذا أُرسل، وينزجر إِذا زُجر، وأن يُمسك الصيد فلا يأكل منه، وأن يذكر اسم الله عند إِرساله فهذه أربع شروط لصحة الأكل من صيد الكلب المعلَّم { وَٱذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَيْهِ } أي عند إِرساله { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } أي راقبوا الله في أعمالكم فإِنه سريع المجازاة للعباد { ٱلْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَاتُ } أي أبيح لكم المستلذات من الذبائح وغيرها { وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ } أي ذبائح اليهود والنصارى حلالٌ لكم { وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ } أي ذبائحكم حلالٌ لهم فلا حرج أن تُطعموهم وتبيعوه لهم { وَٱلْمُحْصَنَاتُ مِنَ ٱلْمُؤْمِنَاتِ } أي وأُبيح لكم أيها المؤمنون زواج الحرائر العفيفات من المؤمنات { وَٱلْمُحْصَنَاتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ } أي وزواج الحرائر من الكتابيات (يهوديات أو نصرانيات) وهذا رأي الجمهور وقال عطاء: قد أكثر الله المسلمات وإِنما رخص لهم يومئذٍ { إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } أي إِذا دفعتم لهن مهورهن { مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ } أي حال كونكم أعفاء بالنكاح غير مجاهرين بالزنى { وَلاَ مُتَّخِذِيۤ أَخْدَانٍ } أي وغير متخذين عشيقات وصديقات تزنون بهن سراً قال الطبري: المعنى ولا منفرداً ببغية قد خادنها وخادنته واتخذها لنفسه صديقةً يفجر بها { وَمَن يَكْفُرْ بِٱلإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي ٱلآخِرَةِ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ } أي ومن يرتد عن الدين ويكفر بشرائع الإِيمان فقد بطل عمله وهو من الهالكين، ثم أمر تعالى بإِسباغ الوضوء عند الصلاة فقال { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلاةِ } أي إِذا أردتم القيام إِلى الصلاة وأنتم محدثون { فٱغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى ٱلْمَرَافِقِ } أي اغسلوا الوجوه والأيدي مع المرافق { وَٱمْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى ٱلْكَعْبَينِ } أي امسحوا رءوسكم واغسلوا أرجلكم إِلى الكعبين أي معهما قال الزمخشري: وفائدة المجيء بالغاية { إِلَى ٱلْكَعْبَينِ } لدفع ظن من يحسبها ممسوحة لأن المسح لم تُضرب له غاية في الشريعة وفي الحديث " ويلٌ للأعقاب من النار " وهذا الحديث يردُّ على الإِمامية الذين يقولون بأن الرجلين فرضهما المسحُ لا الغسل، والآية صريحة لأنها جاءت بالنصب { وَأَرْجُلَكُمْ } فهي معطوفة على المغسول وجيء بالمسح بين المغسولات لإِفادة الترتيب { وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَٱطَّهَّرُواْ } أي إِن كنتم في حالة جنابة فتطهروا بغسل جميع البدن { وَإِن كُنتُم مَّرْضَىۤ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ } أي إِن كنتم مرضى ويضركم الماء، أو كنتم مسافرين ولم تجدوا الماء { أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ ٱلْغَائِطِ } أي أتى من مكان البراز { أَوْ لاَمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ } أي جامعتموهنَّ { فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً } أي ولم تجدوا الماء بعد طلبه فاقصدوا التراب الطاهر للتيمم به { فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ } أي امسحوا وجوهكم وأيديكم بالتراب بضربتين كما وضّحت السنة النبوية { مَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ } أي ما يُريد بما فرض عليكم من الوضوء والغسل والتيمم تضييقاً عليكم { وَلَـٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي يطهركم من الذنوب وأدناس الخطايا بالوضوء والتيمم، وليتم نعمته عليكم ببيان شرائع الإِسلام ولتشكروه على نعمه التي لا تحصى { وَٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ ٱلَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } الخطاب للمؤمنين والنعمةُ هنا الإِسلام وما صاروا إِليه من اجتماع الكلمة والعزة أي اذكروا يا أيها المؤمنون نعمة الله العظمى عليكم بالإِسلام وعهده الذي عاهدكم عليه رسوله حين بايعتموه على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } أي اتقوا الله فإِنه عالم بخفايا نفوسكم فيجازيكم عليها { يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ } أي كونوا مبالغين في الإِستقامة بشهادتكم لله وصيغة قوّام للمبالغة { شُهَدَآءَ بِٱلْقِسْطِ } أي تشهدون بالعدل { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىۤ أَلاَّ تَعْدِلُواْ } أي لا يحملنكم شدة بغضكم للأعداء على ترك العدل فيهم والاعتداء عليهم { ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ } أي العدل مع من تبغضونهم أقرب لتقواكم لله { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } أي مطلع على أعمالكم ومجازيكم عليها قال الزمخشري: وفي هذا تنبيه عظيم على أن العدل إِذا كان واجباً مع الكفار الذين هم أعداء الله وكان بهذه الصفة من القوة، فما الظن بوجوبه مع المؤمنين الذين هم أولياؤه وأحباؤه؟! { وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } أي وعد الله المؤمنين المطيعين { لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } أي لهم في الآخرة مغفرة للذنوب وثواب عظيم وهو الجنة { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُوْلَـۤئِكَ أَصْحَابُ ٱلْجَحِيمِ } لما ذكر مآل المؤمنين المتقين وعاقبتهم ذكر مآل الكافرين المجرمين وأنهم في دركات الجحيم دائمون في العذاب قال أبو حيان: وقد جاءت الجملة فعلية بالنسبة للمؤمنين متضمنة الوعد بالماضي الذي هو الدليل على الوقوع، وفي الكافرين جاءت الجملة إِسمية دالة على ثبوت هذا الحكم لهم وأنهم أصحاب النار فهم دائمون في عذاب الجحيم.

البَلاَغَة: 1- { لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ ٱللَّهِ } فيه استعارة استعار الشعيرة وهي العلامة للمتعبدات التي تعبَّد الله بها العباد من الحلال والحرام.

2- { وَلاَ ٱلْقَلاۤئِدَ } أي ذوات القلائد وهي من باب عطف الخاص على العام لأنها أشرف الهدي كقوله
{*مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وَمَلاۤئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ*}
[البقرة: 98].

3- { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبرِّ وَٱلتَّقْوَىٰ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ } فيه من المحسنات البديعية ما يسمى بالمقابلة.

4- { وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ } أطلق العام وأراد به الخاص وهو الذبائح.

5- { مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ } بينهما طباق لأن معنى محصنين أي أعفاء ومسافحين أي زناة.

6- { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلاةِ } أي إِذا أردتم القيام إِلى الصلاة فعبّر عن إِرادة الفعل بالفعل وأقام المسبّب مقام السبب للملابسة بينهما، وفي الآية إِيجاز بالحذف أيضاً إِذا قمتم إِلى الصلاة وأنتم محدثون.

الفَوائِد: الأولى: يحكى أن أصحاب الكِنْدِيّ - الفيلسوف - قال له أصحابه: أيها الحكيم إِعمل لنا مثل هذا القرآن فقال: نعم أعمل مثل بعضه، فاحتجب أياماً كثيرة ثم خرج فقال: والله ما أقدر ولا يطيق هذا أحد، إِني فتحتُ المصحف فخرجت سورة المائدة فنظرت فإِذا هو قد نطق بالوفاء، ونهى عن النكث، وحلّل تحليلاً عامّاً، ثم استثنى استثناءً، ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين ولا يقدر أحدٌ أن يأتي بهذا إِلا في مجلدات.

الثانية: جرت سنة الجاهلية على مبدأ العصبية العمياء الذي عبّر عنه الشاعر الجاهلي بقوله:
وهل أنا إِلا من غُزيّة إِن غوتْ *** غويتُ وأن ترشد غُزية أرشد
وجاء الإِسلام بهذا المبدأ الإِنساني الكريم { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبرِّ وَٱلتَّقْوَىٰ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ } وشتّان بين المبدأين.

الثالثة: روي أن رجلاً من اليهود جاء إِلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال يا أمير المؤمنين: آيةٌ في كتابكم تقرءونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً! قال أيَّ آية تعني؟ قال { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } الآية فقال عمر: والله إِني لأعلم اليوم الذي نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، والساعة التي نزلت فيها، نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية عرفة في يوم جمعة.

abouimane 2015-06-03 12:10

رد: تفسير سورة المائدة
 
جزاك الله خيرا
سلاميــ

أم سهام 2015-06-07 11:33

رد: تفسير سورة المائدة
 
* تفسير صفوة التفاسير/ الصابوني (مـ 1930م -) مصنف و مدقق
{ يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ } * { وَلَقَدْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ ٱثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ ٱللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ ٱلصَّلٰوةَ وَآتَيْتُمُ ٱلزَّكَاةَ وَآمَنتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذٰلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ } * { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱصْفَحْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ } * { وَمِنَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَىٰ أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ ٱللَّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } * { يَا أَهْلَ ٱلْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ ٱلْكِتَابِ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ } * { يَهْدِي بِهِ ٱللَّهُ مَنِ ٱتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ ٱلسَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِّنِ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } * { لَّقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَآلُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ ٱلْمَسِيحَ ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً وَللَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } * { وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ وَٱلنَّصَٰرَىٰ نَحْنُ أَبْنَٰؤُاْ ٱللَّهِ وَأَحِبَّٰؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَللَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ } * { يَا أَهْلَ ٱلْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَىٰ فَتْرَةٍ مِّنَ ٱلرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } * { وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن ٱلْعَٱلَمِينَ } * { يَٰقَوْمِ ٱدْخُلُوا ٱلأَرْضَ ٱلمُقَدَّسَةَ ٱلَّتِي كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَٰسِرِينَ } * { قَالُوا يَامُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ } * { قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ ٱلَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمَا ٱدْخُلُواْ عَلَيْهِمُ ٱلْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى ٱللَّهِ فَتَوَكَّلُوۤاْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } * { قَالُواْ يَامُوسَىۤ إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فَٱذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاۤ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } * { قَالَ رَبِّ إِنِّي لاۤ أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَٱفْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ ٱلْقَوْمِ ٱلْفَاسِقِينَ } * { قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي ٱلأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْفَاسِقِينَ }

المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى ما شرعه لعباده المؤمنين في هذه السورة الكريمة من الأحكام، ومن أعظمها بيان الحلال والحرام، ذكر هنا نعمته عليهم بالهداية إِلى الإِسلام ودفع الشرور عنهم والآثام، ثم أعقبه ببيان نعمته تعالى على أهل الكتاب " اليهود والنصارى " وأخذه العهد والميثاق عليهم ولكنهم نقضوا العهد فألزمهم الله العداوة والبغضاء إِلى يوم القيامة، ثم دعا الفريقين إِلى الاهتداء بنور القرآن، والتمسك بشريعة خاتم المرسلين، وترك ما هم عليه من ضلالات وأوهام.

اللغَة: { نَقِيباً } النقيب: كبير القوم الذي يبحث عن أحوالهم ومصالحهم فهو كالكفيل عن الجماعة { وَعَزَّرْتُمُوهُمْ } التعزير: التعظيم والتوقيرْ { سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ } قصد الطريق ووسطه { قَاسِيَةً } صلبة لا تعي خيراً والقاسية والعاتية بمعنى واحد { خَآئِنَةٍ } خيانة ويجوز أن يكون صفة للخائن كما يقال: رجل طاغية وراوية للحديث { فَأَغْرَيْنَا } هيجنا وألزمنا مأخوذٌ من الغِراء، وغَري بالشيء إِذا لصق به { فَتْرَةٍ } انقطاع { يَتِيهُونَ } التيه: الحيرة والضياع.

سَبَبُ النّزول: أراد بنو النضير أن يلقوا على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم الرحى وأن يغدروا به وبأصحابه فأنزل الله { يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ.. } الآية.

التفسِيْر: { يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ } أي اذكروا فضل الله عليكم بحفظه إِياكم من أعدائكم { إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ } أي يبطشوا بكم بالقتل والإِهلاك { فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ } أي عصمكم من شرهم وردَّ أذاهم عنكم { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } بامتثال أوامره واجتناب نواهيه { وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ } أي فليثقْ المؤمنون بالله فإِنه كافيهم وناصرهم، ثم ذكر تعالى أحوال اليهود وما تنطوي عليه نفوسهم من الخيانة ونقض الميثاق فقال { وَلَقَدْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَآئِيلَ } أي عهدهم المؤكد باليمين { وَبَعَثْنَا مِنهُمُ ٱثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً } أي وأمرنا موسى بأن يأخذ اثني عشر نقيباً - والنقيبُ كبير القوم القائم بأمورهم - من كل سبطٍ نقيبٌ يكون كفيلاً على قومه بالوفاء بالعهد توثقةً عليهم قال الزمخشري: لما استقر بنو إِسرائيل بمصر بعد هلاك فرعون أمرهم الله تعالى بالسير إِلى " أريحاء " بأرض الشام كان يسكنها الكنعانيون الجبابرة وقال لهم: إِني كتبتها لكم داراً وقراراً فجاهدوا من فيها فإِني ناصركم، وأمر موسى بأن يأخذ من كل سِبْطٍ نقيباً فاختار النقباء وسار بهم فلما دنا من أرض كنعان بعثهم يتجسّسون الأخبار فرأوا قوماً أجسامهم عظيمة ولهم قوةٌ وشوكة فهابوهم ورجعوا وحدثوا قومهم وكان موسى قد نهاهم أن يتحدثوا بما يرون فنكثوا الميثاق وتحدثوا إِلا إِثنين منهم { وَقَالَ ٱللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ } أي ناصركم ومعينكم { لَئِنْ أَقَمْتُمُ ٱلصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ ٱلزَّكَاةَ } اللام للقسم أي وأقسم لكم يا بني إِسرائيل لئن أديتم ما فرضتُ عليكم من إِقامة الصلاة وإِيتاء الزكاة { وَآمَنتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ } أي وصدقتم برسلي ونصرتموهم ومنعتموهم من الأعداء { وَأَقْرَضْتُمُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً } أي بالإِنفاق في سبيل الخير ابتغاء مرضاة الله { لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } أي لأمحونَّ عنكم ذنوبكم، وهذا جواب القسم قال البيضاوي: وقد سدَّ مسدَّ جواب الشرط { وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } أي تجري من تحت غرفها وأشجارها أنهار الماء واللبن والخمر والعسل { فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذٰلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ } أي من كفر بعد ذلك الميثاق، فقد أخطأ الطريق السويّ وضلّ ضلالاً لا شبهة فيه { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ } أي بسبب نقضهم الميثاق طردناهم من رحمتنا { وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً } أي جافة جافية لا تلين لقبول الإِيمان { يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ } قال ابن كثير: تأولوا كتابه - التوراة - على غير ما أنزله وحملوه على غير مراده وقالوا على الله ما لم يقلْ، ولا جُرْم أعظمُ من الاجتراء على تغيير كلام الله عز وجل { وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ } أي تركوا نصيباً وافيا مما أُمروا به في التوراة { وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ } أي لا تزال يا محمد تظهر على خيانةٍ منهم بنقض العهود وتدبير المكايد، فالغدرُ والخيانة عادتُهم وعادةُ أسلافهم إِلا قليلاً منهم ممن أسلم { فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱصْفَحْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ } أي لا تعاقبهم واصفح عمن أساء منهم، وهذا منسوخ بآية السيف والجزية كما قال الجمهور { وَمِنَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَىٰ أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ } أي ومن الذين ادعوا أنهم أنصار الله وسمّوا أنفسهم بذلك أخذنا منهم أيضاً الميثاق على توحيد الله والإِيمان بمحمد رسول الله { فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ } أي فتركوا ما أُمروا به في الإِنجيل من الإِيمان بالأنبياء ونقضوا الميثاق { فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ } أي ألزمنا وألصقنا بين فِرَق النصارى العداوة والبغضاء إِلى قيام الساعة قال ابن كثير: ولا يزالون متباغضين متعادين، يكفِّر بعضهم بعضاً، ويلعن بعضهم بعضاً، وكل فرقةٍ تمنع الأخرى دخول معبدها. . وهكذا نجد الأمم الغربية - وهم أبناء دين واحد - يتفنّن بعضهم في إِهلاك بعض، فمن مخترعٍ للقنبلة الذرية إِلى مخترع للقنبلة الهيدروجينية وهي مواد مدمّرة لا يمكن أن يتصور العقل ما تحدثه من تلفٍ بالغ وهلاك شامل
{*إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي ٱلدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ*}
[التوبة: 85] ثم قال تعالى { وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ ٱللَّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } تهديد لهم أي سيلقون جزاء عملهم القبيح { يَا أَهْلَ ٱلْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ ٱلْكِتَابِ } الخطاب لليهود والنصارى أي يا معشر أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم بالدين الحق يبيّن لكم الكثير مما كنتم تكتمونه في كتابكم من الإِيمان به، ومن آية الرجم، ومن قصة أصحاب السبت الذين مسخوا قردة وغير ذلك مما كنتم تخفونه { وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } أي يتركه ولا يبيّنه وإِنما يبيّن لكم ما فيه حجة على نبوته وشهادة على صدقه، ولو ذكر كل شيء لفضحكم قال في التسهيل: وفي الآية دليل على صحة نبوته لأنه بيّن ما أخفوه في كتبهم وهو أميٌّ لم يقرأ كتبهم { قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ } أي جاءكم نور هو القرآن لأنه مزيل لظلمات الشرك والشك وهو كتاب مبين ظاهر الإِعجاز { يَهْدِي بِهِ ٱللَّهُ مَنِ ٱتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ ٱلسَّلاَمِ } أي يهدي بالقرآن من اتبع رضا الله طرق النجاة والسلامة ومناهج الاستقامة { وَيُخْرِجُهُمْ مِّنِ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذْنِهِ } أي يخرجهم من ظلمات الكفر إِلى نور الإِيمان بتوفيقه وإرادته { وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } هو دين الإِسلام، ثم ذكر تعالى إِفراط النصارى في حق عيسى حيث اعتقدوا ألوهيته فقال { لَّقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَآلُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ } أي جعلوه إِلهاً وهم فرقةٌ من النصارى زعموا أن الله حلَّ في عيسى ولهذا نجد في كتبهم " وجاء الرب يسوع " وأمثاله، ويسوع عندهم هو عيسى { قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ ٱلْمَسِيحَ ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً } أي قل لهم يا محمد لقد كذبتم فمن الذي يستطيع أن يدفع عذاب الله لو أراد أن يهلك المسيح وأمه وأهل الأرض جميعاً؟ فعيسى عبد مقهور قابلٌ للفناء كسائر المخلوقات ومن كان كذلك فهو بمعزل عن الألوهية ولو كان إِلهاً لقدر على تخليص نفسه من الموت { وَللَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا } أي من الخلق والعجائب { يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ } أي هو قادر على أن يخلق ما يريد ولذلك خلق عيسى من غير أب { وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي لا يعجزه شيء، ثم حكى عن اليهود والنصارى افتراءهم فقال { وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ وَٱلنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ ٱللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } أي نحن من الله بمنزلة الأبناء من الآباء ونحن أحباؤه لأننا على دينه قال ابن كثير: أي نحن منتسبون إِلى أنبيائه وهم بنوه وله بهم عناية وهو يحبنا { قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم }؟ أي لو كنتم كما تدَّعون أبناءه وأحباءه فلم أعدَّ لكم نار جهنم على كفركم وافترائكم؟ { بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ } أي أنتم بشر كسائر الناس وهو سبحانه الحاكم في جميع عباده { يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ } أي يغفر لمن شاء من عباده ويعذب من شاء لا اعتراض لحكمه ولا رادَّ لأمره { وَللَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ } أي الجميع ملكه وتحت قهره وسلطانه وإِليه المرجع والمآب، ثم دعاهم إِلى الإِيمان بخاتم المرسلين فقال { يَا أَهْلَ ٱلْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَىٰ فَتْرَةٍ مِّنَ ٱلرُّسُلِ } أي يا معشر اليهود والنصارى لقد جاءكم محمد صلى الله عليه وسلم يوضّح لكم شرائع الدين على انقطاع من الرسل ودروسٍ من الدين، وكانت الفترة بين عيسى ومحمد ومدتها خمسمائة وستون سنة لم يُبعث فيها رسول { أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ } أي لئلا تحتجوا وتقولوا: ما جاءنا من رسول يبشر بالخير وينذر من الشر { فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ } هو محمد صلى الله عليه وسلم { وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } قال ابن جرير: أي قادرٌ على عقاب من عصاه وثواب من أطاعه، ثم ذكر تعالى ما عليه اليهود من العناد والجحود فقال { وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ } أي اذكر يا محمد حين قال موسى لبني إِسرائيل يا قوم تذكّروا نعمة الله العظمى عليكم واشكروه عليها { إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً } أي حين بعث فيكم الأنبياء يرشدونكم إِلى معالم الدين وجعلكم تعيشون كالملوك لا يغلبكم غالب بعد أن كنتم مملوكين لفرعون مقهورين فأنقذكم منه بإِغراقه قال البيضاوي: لم يُبعث في أمةٍ ما بعث في بني إِسرائيل من الأنبياء { وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن ٱلْعَٱلَمِينَ } أي من أنواع الإِنعام والإِكرام من فلق البحر وتظليل الغمام وإِنزال المنّ والسلوى ونحوها { يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } قال البيضاوي: هي أرض بيت المقدس سميت بذلك لأنها كانت قرار الأنبياء ومسكن المؤمنين ومعنى { الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } أي التي وعدكموها على لسان أبيكم اسرائيل وقضى أن تكون لكم { وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ } أي ولا ترجعوا مدبرين خوفاً من الجبابرة قال في التسهيل: روي أنه لما أمرهم موسى بدخول الأرض المقدسة خافوا من الجبارين الذين فيها وهمّوا أن يرجعوا إِلى مصر { قَالُوا يَامُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ } أى عظام الأجسام طوال القامة لا قدرة لنا على قتالهم وهم العمالقة من بقايا عاد { وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُواْ مِنْهَا } أي لن ندخلها حتى يسلّموها لنا من غير قتال { فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ } أي لا يمكننا الدخول ما داموا فيها فإِن خرجوا منها دخلناها { قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ ٱلَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمَا } أي فلما جبنوا حرضهم رجلان من النقباء ممن يخاف أمر الله ويخشى عقابه وفيهما الصلاح واليقين { ٱدْخُلُواْ عَلَيْهِمُ ٱلْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ } أي قالا لهم لا يهولنكم عِظَم أجسامهم، فأجسامهم عظيمة وقلوبهم ضعيفة فإِذا دخلتم عليهم باب المدينة غلبتموهم بإِذن الله { وَعَلَى ٱللَّهِ فَتَوَكَّلُوۤاْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } أي اعتمدوا على الله فإِنه ناصركم إِن كنتم حقاً مؤمنين { قَالُواْ يَامُوسَىۤ إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فَٱذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاۤ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } وهذا إِفراط في العصيان ومع سوء الأدب بعبارةٍ تقتضي الكفر والاستهانة بالله ورسوله، وأين هؤلاء من الصحابة الأبرار الذين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لسنا نقول لك كما قالت بنو إِسرائيل ولكن نقول لك اذهب أنت وربك فقاتلا إِنّا معكما مقاتلون؟! { قَالَ رَبِّ إِنِّي لاۤ أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَٱفْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ ٱلْقَوْمِ ٱلْفَاسِقِينَ } أي قال موسى حينذاك معتذراً إِلى الله متبرءاً من مقالة السفهاء: يا ربّ لا أملك قومي، لا أملك إِلا نفسي وأخي هارون فافصل بيننا وبين الخارجين عن طاعتك بحكمك العادل { قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي ٱلأَرْضِ } استجاب الله دعاءه وعاقبهم في التّيه أربعين سنة والمعنى: قال الله لموسى إِن الأرض المقدسة محرم عليهم دخولها مدة أربعين سنة يتيهون في الأرض ولا يهتدون إِلى الخروج منها { فَلاَ تَأْسَ عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْفَاسِقِينَ } أي لا تحزن عليهم فإِنهم فاسقون مستحقون للعقاب قال في التسهيل: روي أنهم كانوا يسيرون الليل كله فإِذا أصبحوا وجدوا أنفسهم في الموضع الذي كانوا فيه.

البَلاَغَة: 1- { أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ } بسط الأيدي كناية عن البطش والفتك، وكف الأيدي كناية عن المنع والحبس.

2- { وَبَعَثْنَا مِنهُمُ } فيه التفات عن الغيبة إِلى المتكلم ومقتضى الظاهر وبعث وإِنما التفت اعتناءً بشأنه.

3- { وَيُخْرِجُهُمْ مِّنِ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ } فيه استعارة استعار الظلمات للكفر والنور للإِيمان.

4- { وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً } فيه تشبيه بليغ أي كالملوك في رغد العيش وراحة البال فحذف أداة الشبه ووجه الشبه فأصبح بليغاً.

5- الطباق بين { يَغْفِرُ.. وَيُعَذِّبُ }.

6- { أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمَا } جملة اعتراضية لبيان فضل الله على عباده الصالحين.

الفوَائِد: الأولى: إِنما سميت الأرض المقدسة أي المطهرة لسكنى الأنبياء المطهرين فيها فشرفت وطهرت بهم فالظرف طاب بالمظروف.

الثانية: قال بعض العارفين لبعض الفقهاء: أين تجد في القرآن أن الحبيب لا يعذب حبيبه؟ فسكت ولم يردّ عليه فتلا عليه هذه الآية { قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم } ففي الآية دليل على أن المحب لا يعذب حبيبه ذكره ابن كثير.

أم سهام 2015-06-17 12:06

رد: تفسير سورة المائدة
 
* تفسير صفوة التفاسير/ الصابوني (مـ 1930م -) مصنف و مدقق
{ وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ٱبْنَيْ ءَادَمَ بِٱلْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ ٱلآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ } * { لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّيۤ أَخَافُ ٱللَّهَ رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ } * { إِنِّيۤ أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ ٱلنَّارِ وَذَلِكَ جَزَآءُ ٱلظَّالِمِينَ } * { فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ } * { فَبَعَثَ ٱللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي ٱلأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـٰذَا ٱلْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ ٱلنَّادِمِينَ } * { مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي ٱلأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِٱلّبَيِّنَٰتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ بَعْدَ ذٰلِكَ فِي ٱلأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ } * { إِنَّمَا جَزَآءُ ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي ٱلأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُوۤاْ أَوْ يُصَلَّبُوۤاْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ ٱلأَرْضِ ذٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي ٱلدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } * { إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } * { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱبْتَغُوۤاْ إِلَيهِ ٱلْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } * { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } * { يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ ٱلنَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } * { وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقْطَعُوۤاْ أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } * { فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } * { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

المنَاسَبَة: لمّا ذكر تعالى تمرد بني إِسرائيل وعصيانهم لأمر الله في قتال الجبارين، ذكر قصة ابني آدم وعصيان " قابيل " أمر الله وإِقدامه على قتل النفس البريئة التي حرمها الله، فاليهود اقتفوا في العصيان أوَّل عاصٍ لله في الأرض، فطبيعةُ الشر فيهم مستقاةٌ من ولد آدم الأول، فاشتبهت القصتان من حيث التمرد والعصيان، ثم ذكر تعالى عقوبة قُطّاع الطريق والسُرَّاق الخارجين على أمن الدولة والمفسدين في الأرض.

اللغَة: { قُرْبَاناً } القُربان ما يُتقرب به إِلى الله { تَبُوءَ } ترجع يقال: باء إِذا رجع إِلى المباءة وهي المنزل { فَطَوَّعَتْ } سوَّلت وسهَّلت يقال: طاع الشيءُ إِذا سهل وانقاد وطوَّعه له أي سهّله { يَبْحَثُ } يفتش وينقّب { سَوْءَةَ } السوأة: العورة { يَاوَيْلَتَا } كلمة تحسر وتلهف قال سيبويه: كلمةٌ تقال عند الهلكة { يُنفَوْاْ } نفاه: طرده وأصله الإِهلاك ومنه النّفاية لرديء المتاع { خِزْيٌ } الخزي: الفضيحة والذل يقال أخزاه الله أي فضحه وأذله { ٱلْوَسِيلَةَ } كل ما يتوسل به إِلى الله { نَكَالاً } عقوبة.

سَبَبُ النّزول: عن أنسٍ أن رهطاً من عُرينة قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتووا المدينة - استوخموها - فبعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى إِبل الصدقة وأمرهم أن يشربوا من ألبانها وأبوالها، فلما صحُّوا قتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم واستاقوا النَّعَم فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم فجيء بهم فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم وسُمِرت أعينهم وألقوا في الحرة حتى ماتوا فنزلت { إِنَّمَا جَزَآءُ ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ.. } الآية.

التفسِير: { وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ٱبْنَيْ ءَادَمَ بِٱلْحَقِّ } أي اقرأ يا محمد على هؤلاء الحسدة من اليهود وأشباههم خبر " قابيل وهابيل " ابنيْ آدم ملتبسةً بالحق والصِّدق وذكّرهم بهذه القصة فهي قصة حق { إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ ٱلآخَرِ } أي حين قرَّب كلٌ منهما قرباناً فتُقبل من هابيل ولم يُتقبل من قابيل قال المفسرون: سبب هذا القربان أن حوّاء كانت تلد في كل بطنٍ ذكراً وأنثى وكان يزوّج الذكر من هذا البطن الأنثى من البطن الآخر فلما أراد آدم أن يزوّج قابيلَ أخت هابيل ويزوّج هابيل أخت قابيل رضي هابيل وأبى قابيل لأن توأمته كانت أجمل فقال لهما آدم: قرّبا قرباناً فمن أيكما تُقبل تزوجها، وكان قابيل صاحب زرع فقرّب أرذل زرعه وكان هابيل صاحب غنم فقرّب أحسن كبشٍ عنده فقبل قربانُ هابيل بأن نزلت نارٌ فأكلته فازداد قابيل حسداً وسخطاً وتوعّده بالقتل { قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ } أي قال قابيل لأخيه هابيل لأقتلنك قال: لمَ؟ قال لأنه تقبل قربانك ولم يتقبل قرباني قال: وما ذنبي؟ { قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ } أي إِنما يتقبل ممن اتقى ربه وأخلص نيته قال البيضاوي: توعّده بالقتل لفرط الحسد له على تقبل قربانه فأجابه بأنك أُتيت من قِبَل نفسك بترك التقوى لا من قِبَلي وفيه إِشارة إِلى أن الطاعة لا تُقبل إِلا من مؤمن متّقٍ لله { لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ } أي لئن مددتَ إِليَّ يدك ظلماً لأجل قتلي ما كنتُ لأقابلك بالمثل قال ابن عباس المعنى: ما أنا بمنتصر لنفسي { إِنِّيۤ أَخَافُ ٱللَّهَ رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ } أي لا أمدُّ يدي إِليك لأني أخاف ربَّ العالمين قال الزمخشري: قيل: كان هابيل أقوى من القاتل ولكنه تحرّج عن قتل أخيه خوفاً من الله { إِنِّيۤ أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ ٱلنَّارِ } أي إِن قتلتني فذاك أحبُّ إِليَّ من أن أقتلك قال أبو حيان: المعنى إِن سبق بذلك قَدَرٌ فاختياري أن أكون مظلوماً ينتصر الله لي لا ظالماً وقال ابن عباس: المعنى لا أبدؤك بالقتل لترجع بإِثم قتلي إِن قتلتني، وإِثمك الذي كان منك قبل قتلي فتصير من أهل النار { وَذَلِكَ جَزَآءُ ٱلظَّالِمِينَ } أي عقاب من تعدّى وعصى أمر الله { فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ } أي زيّنت له نفسه وسهّلت له قتل أخيه فقتله فخسر وشقي قال ابن عباس: خوّفه بالنار فلم ينته ولم ينزجر { فَبَعَثَ ٱللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي ٱلأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ } أي أرسل الله غراباً يحفر بمنقاره ورجله الأرض ليُري القاتل كيف يستر جسد أخيه قال مجاهد: بعث الله غرابين فاقتتلا حتى قتل أحدهما صاحبه ثم حفر له فدفنه، وكان ابن آدم هذا أول من قُتِل، وروي أنه لما قتله تركه بالعراء ولم يدر كيف يدفنه حتى رأى الغراب يدفن صاحبه فلما رآه { قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـٰذَا ٱلْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي } أي قال قابيل متحسراً يا ويلي ويا هلاكي أضعفتُ أن أكون مثل هذا الطير فأستر جسد أخي في التراب كما فعل هذا الغراب؟ { فَأَصْبَحَ مِنَ ٱلنَّادِمِينَ } أي صار نادماً على عدم الاهتداء إِلى دفن أخيه لا على قتله قال ابن عباس: ولو كانت ندامته على قتله لكانت الندامة توبةً له { مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي ٱلأَرْض } أي من أجل حادثة " قابيل وهابيل " وبسبب قتله لأخيه ظلماً فرضنا وحكمنا على بني إِسرائيل أن من قتل منهم نفساً ظلماً بغير أن يقتل نفساً فيستحق القصاص وبغير فسادٍ يوجب إِهدار الدم كالردّة وقطع الطريق { فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعاً } أي فكأنه قتل جميع الناس قال البيضاوي: من حيث انه هتك حرمة الدماء وسنَّ القتل وجرأ الناس عليه، والمقصود منه تعظيم قتل النفس وإِحيائها في القلوب ترهيباً عن التعرض لها وترغيباً في المحاماة عليها { وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً } أي ومن تسبَّب لبقاء حياتها واستنقذها من الهَلَكة فكأنه أحيا جميع الناس قال ابن عباس في تفسير الآية: من قتل نفساً واحدةً حرّمها الله فهو مثلُ من قتل الناس جميعاً ومن امتنع عن قتل نفسٍ حرمها الله وصان حرمتها خوفاً من الله فهو كمن أحيا الناس جميعاً { وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِٱلّبَيِّنَٰتِ } أي بعدما كتبنا على بني إِسرائيل هذا التشديد العظيم وجاءتهم رسلنا بالمعجزات الساطعات والآيات الواضحات { ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ بَعْدَ ذٰلِكَ فِي ٱلأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ } أي ثم إِنهم بعد تلك الزواجر كلها يسرفون في القتل ولا يبالون بعظمته قال ابن كثير: هذا تقريعٌ لهم وتوبيخ على ارتكابهم المحارم بعد علمهم بها وقال الرازي: إِن اليهود مع علمهم بهذه المبالغة العظيمة أقدموا على قتل الأنبياء والرسل وذلك يدل على غاية قساوة قلوبهم ونهاية بعدهم عن طاعة الله تعالى، ولما كان الغرض من ذكر هذه القصص تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم لأنهم عزموا على الفتك به وبأصحابه كان تخصيص بني إِسرائيل بهذه المبالغة العظيمة مناسباً للكلام ومؤكداً للمقصود، ثم ذكر تعالى عقوبة قُطّاع الطريق فقال { إِنَّمَا جَزَآءُ ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } أي يحاربون شريعة الله ودينه وأولياءه ويحاربون رسوله { وَيَسْعَوْنَ فِي ٱلأَرْضِ فَسَاداً } أي يفسدون في الأرض بالمعاصي وسفك الدماء { أَن يُقَتَّلُوۤاْ } أي يُقتلوا جزاء بغيهم { أَوْ يُصَلَّبُوۤاْ } أي يُقتلوا ويُصلبوا زجراً لغيرهم، والصيغةُ للتكثير { أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ } معناه أن تُقطع أيديهم اليمنى وأرجلهم اليسرى { أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ ٱلأَرْضِ } أي يُطردوا ويُبعدوا من بلدٍ إِلى بلد آخر { ذٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي ٱلدُّنْيَا } أي ذلك الجزاء المذكور ذلٌ لهم وفضيحة في الدنيا { وَلَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } هو عذاب النار، قال بعض العلماء: الإِمام بالخيار إِن شاء قتل، وإِن شاء صلب، وإِن شاء قطع الأيدي والأرجل، وإِن شاء نفى وهو مذهب مالك.
وقال ابن عباس: لكلّ رتبةٍ من الحِرَابة رتبةٌ من العقاب فمن قَتَل قُتل، ومن قتل وأخذ المال قُتل وصُلب، ومن اقتصر على أخذ المال قطعت يده ورجله من خلاف، ومن أخاف فقط نُفي من الأرض، وهذا قول الجمهور { إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ } أي لكن الذين تابوا من المحاربين وقُطّاع الطريق قبل القدرة على أخذهم وعقوبتهم { فَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي واسع المغفرة والرحمة لمن تاب وأناب يقبل توبته ويغفر زلّته، ثم أمر تعالى المؤمنين بالتقوى والعمل الصالح فقال { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱبْتَغُوۤاْ إِلَيهِ ٱلْوَسِيلَةَ } أي خافوا عقابه واطلبوا ما يقربكم إِليه من طاعته وعبادته قال قتادة: تقربوا إِليه بطاعته والعمل بما يرضيه { وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي جاهدوا لإِعلاء دينه لتفوزوا بنعيم الأبد { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ } أي لو كان لكل كافر جميع ما في الأرض من خيرات وأموال ومثله معه { لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي وأراد أن يفتدي بها نفسه من عذاب الله ما نفعه ذلك وله عذاب مؤلم موجع { يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ ٱلنَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } أي دائم لا ينقطع وفي الحديث " يُجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له: أرأيتَ لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنتَ تفتدي به؟ فيقول نعم فيقال له: قد كنتَ سُئلتَ ما هو أيسرُ من ذلك ألاّ تشرك بي فأبيت فيؤمر به إِلى النار " ثم ذكر تعالى عقوبة السارق فقال { وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقْطَعُوۤاْ أَيْدِيَهُمَا } أي كل من سرق رجلاً كان أو امرأة فاقطعوا يده { جَزَآءً بِمَا كَسَبَا } أي مجازاة لهما على فعلهما القبيح { نَكَالاً مِّنَ ٱللَّهِ } أي عقوبة من الله { وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي حكيم في شرعه فلا يأمر بقطع اليد ظلماً { فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ } أي رجع عن السرقة { وَأَصْلَحَ } أي أصلح سيرته وعمله { فَإِنَّ ٱللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ } أي يقبل توبته فلا يعذبه في الآخرة { إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي مبالغ في المغفرة والرحمة، ثم نبّه تعالى على واسع ملكه وأنه لا معقّب لحكمه فقال { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي ألم تعلم أيها المخاطب أن الله تعالى له السلطان القاهر والملك الباهر وبيده ملكوت السماوات والأرض والاستفهام للتقرير { يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي يعذّب من يشاء تعذيبه ويغفر لمن يشاء غفران ذنبه وهو القادر على كل شيء الذي لا يعجزه شيء.

البَلاَغَة: 1- الطباق بين كلمة { قَتَلَ... وأَحْيَا } وهو من المحسنات البديعية وكذلك بين { يُعَذِّبُ.. وَيَغْفِرُ }.

2- { يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ } هو على حذف مضاف أي يحاربون أولياء الله لأن الله لا يُحارب ولا يُغالب فالكلام على سبيل المجاز.

3- الاستعارة { وَمَنْ أَحْيَاهَا } لأن المراد استبقاها ولم يتعرض لقتلها، وإِحياء النفس بعد موتها لا يقدر عليه إِلا الله تعالى.

4- { لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ } قال الزمخشري: هذا تمثيلٌ للزوم العذاب لهم وأنه لا سبيل لهم إِلى النجاة منه بوجهٍ من الوجوه.

5- طباق السلب { لَئِن بَسَطتَ.. مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ }.

الفوَائِد: الأولى: النفي من الأرض كما يكون بالطرد والإِبعاد يكون بالحبس ولهذا قال مالك رحمه الله: النفيُ: السجنُ ينفى من سعة الدنيا إِلى ضيقها قال الشاعر وهو في السجن:
خرجنا عن الدنيا وعن وصل أهلها *** فلسنا من الأحيا ولسنا من الموتى
إِذا جاءنا السّجان يوماً لحاجةٍ *** عجبنا وقلنا: جاء هذا من الدنيا
الثانية: السرُّ في تقديم السارق على السارقة هنا وتقديم الزانية على الزاني في قوله
{*ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِي فَٱجْلِدُواْ*}
[النور: 2] أن الرجل على السرقة أجرأ، والزنى من المرأة أشنع وأقبح فناسب ذكر كلٍ منهما المقام.

الثالثة: قال الأصمعي: قرأتُ يوماً هذه الآية { وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ } وإِلى جنبي أعرابي فقلت
{*وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ*}
[البقرة: 218] سهواً فقال الأعرابي: كلامُ من هذا؟ قلت: كلام الله قال: ليس هذا بكلام الله أعِدْ فأعدت وتنبهتُ فقلت { وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } فقال: نعم هذا كلام الله فقلت: أتقرأ القرآن؟ قال: لا. قلت: فمن أين علمتَ أني أخطأتُ؟ فقال يا هذا: عزَّ فحكم فقطع، ولو غفر ورحم لما قطع.

الرابعة: اعترض بعض الملحدين على الشريعة الغراء في قطع يد السارق بالقليل من المال ونظم ذلك شعراً فقال:
يدٌ بخمسِ مئين عسجدٍ وُديتْ *** ما بالُها قُطعتْ في رُبْع دينار؟
تحكّمٌ مالنا إِلا السكوتُ له *** وأن نعوذَ بمولانا من النّار
فأجابه بعض العلماء بقوله:
عزُّ الأمانة أغلاها وأرخصَها *** ذلُّ الخيانةِ فافهم حكمةَ الباري
أي لمّا كانت أمينة كانت ثمينة، فلما خانت هانت، ويا له من قول سديد.

" كلمة وجيزة حول قطع يد السارق "

يعيب بعض الغربيين على الشريعة الإِسلامية قطع يد السارق ويزعمون أن هذه العقوبة صارمة لا تليق بمجتمع متحضر ويقولون: يكفي في عقوبته السجن ردعاً له، وكان من أثر هذه الفلسفة التي لا تستند على منطقٍ سليم أن زادت الجرائم وكثرت العصابات وأصبحت السجون ممتلئة بالمجرمين وقطاع الطريق الذين يهدّدون الأمن والاستقرار، يسرق السارق وهو آمن مطمئن لا يخشى شيئاً اللهم إِلا ذلك السجن الذي يُطعم ويُكسى فيه فيقضي مدة العقوبة التي فرضها عليه القانون الوضعي ثم يخرج منه وهو إِلى الإِجرام أميل وعلى الشر أقدر، يؤكد هذا ما نقرؤه ونسمعه عن تعداد الجرائم وزيادتها يوماً بعد يوم، وذلك لقصور العقل البشري عن الوصول إلى الدواء الناجع والشفاء النافع لمعالجة مثل هذه الأمراض الخطيرة، أما الإِسلام فقد استطاع أن يقتلع الشر من جذوره ويدٌ واحدة تقطع كافية لردع المجرمين فيا له من تشريع حكيم!!

أم سهام 2015-06-19 15:03

رد: تفسير سورة المائدة
 
* تفسير صفوة التفاسير/ الصابوني (مـ 1930م -) مصنف و مدقق
{ يٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي ٱلْكُفْرِ مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَٱحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَمْ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } * { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَآءُوكَ فَٱحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَٱحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِٱلْقِسْطِ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ } * { وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ ٱلتَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ ٱللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذٰلِكَ وَمَآ أُوْلَـٰئِكَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ } * { إِنَّآ أَنزَلْنَا ٱلتَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلرَّبَّانِيُّونَ وَٱلأَحْبَارُ بِمَا ٱسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ ٱللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ فَلاَ تَخْشَوُاْ ٱلنَّاسَ وَٱخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَافِرُونَ } * { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ ٱلنَّفْسَ بِٱلنَّفْسِ وَٱلْعَيْنَ بِٱلْعَيْنِ وَٱلأَنْفَ بِٱلأَنْفِ وَٱلأُذُنَ بِٱلأُذُنِ وَٱلسِّنَّ بِٱلسِّنِّ وَٱلْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ } * { وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِعَيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلتَوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ ٱلإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلتَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ } * { وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ ٱلإِنْجِيلِ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ } * { وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَٱحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ ٱلْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَىٰ الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } * { وَأَنِ ٱحْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَٱحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَٱعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلنَّاسِ لَفَاسِقُونَ } * { أَفَحُكْمَ ٱلْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ }

المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى قصة ابني آدم وإِقدام الأخ على قتل أخيه بسبب البغي والحسد وذكر أحكام الحرابة والسرقة، أعقبه بذكر أمر المنافقين وأمر اليهود في حسدهم للنبي صلى الله عليه وسلم وتربصهم به وبأصحابه الدوائر، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم ألا يحزن لما يناله من أذى من أعداء الإِنسانية فالله سيعصمه من شرهم، وينجيه من مكرهم، ثم ذكر ما أنزل الله من أحكام نورانية في شريعة التوراة.

اللغَة: { يَحْزُنكَ } الحُزْن والحَزَن خلاف السرور { السُّحْتِ }: الحرام سمي بذلك لأنه يسحتُ الطاعات أي يذهبها ويستأصلها وأصل السحت: الهلاك قال تعالى
{*فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ*}
[طه: 61] أي يستأصلكم ويهلككم { ٱلأَحْبَارُ } جمع حَبْر وهو العالم مأخوذ من التحبير وهو التحسين { وَقَفَّيْنَا } أتبعنا { مُهَيْمِناً } المهيمن: الرقيب على الشيء الحافظ له، من هيمن عليه أي راقبه ويأتي بمعنى العالي والمرتفع على الشيء { شِرْعَةً } الشِّرعة: السُّنَّة والطريقة يقال: شرع لهم أي سنَّ لهم { مِنْهَاجاً } المنهاج: الطريق الواضح

سَبَبُ النّزول: عن البراء بن عازب قال: " مُرَّ على النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي محمّماً مجلوداً فدعاهم فقال: هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قالوا نعم فدعا رجلاً من علمائهم فقال: أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قال: لا، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجده الرجم ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إِذا أخذنا الشريف تركناه، وإِذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد فقلنا: تعالوا فلنجتمعْ على شيء نقيمه على الشريف والوضيع فاجتمعنا على التحميم والجلد مكان الرجم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم إِني أول من أحيا أمرك إِذ أماتوه فأمر به فرجم " فأنزل الله { يٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي ٱلْكُفْرِ } إِلى قوله { إِنْ أُوتِيتُمْ هَـٰذَا فَخُذُوهُ } يقولون: ائتوا محمداً فإِن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه وإِن أفتاكم بالرجم فاحذروا.

التفسِير: { يٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي ٱلْكُفْرِ } الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم على وجه التسلية أي لا تتأثر يا محمد ولا تحزن لصنيع الذين يتسابقون نحو الكفر ويقعون فيه بسرعة { مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ } أي من المنافقين الذين لم يُجاوز الإِيمان أفواههم يقولون بألسنتهم آمنا وقلوبهم كافرة { وَمِنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ } أي ومن اليهود { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ } أي هم مبالغون في سماع الأكاذيب والأباطيل وفي قبول ما يفتريه أحبارهم من الكذب على الله وتحريف كتابه { سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ } أي مبالغون في قبول كلام قومٍ آخرين لم يحضروا مجلسك تكبراً وإِفراطاً في العداوة والبغضاء وهم يهود خيبر، والسماعون للكذب بنو قريظة { يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } أي يُزيلونه ويُميلونه عن مواضعه بعد أن وضعه الله تعالى فيها والمراد تحريف أحكام الله وتغييرها بأحكام أخرى قال ابن عباس: هي حدود الله في التوراة غيروا الرجم بالجلد والتحميم - يعني تسويد الوجه - { يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَٱحْذَرُواْ } أي إِن أمركم محمد بالجلد فاقبلوا وإِن أمركم بالرجم فلا تقبلوا قال تعالى ردّاً عليهم { وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً } أي ومن يرد الله كفره وضلالته فلن يقدر أحدٌ على دفع ذلك عنه { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَمْ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ } أي لم يرد الله أن يطهّر قلوبهم من رجس الكفر وخبث الضلالة لقبح صنيعهم وسوء اختيارهم { لَهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا خِزْيٌ } أي ذلٌ وفضيحة { وَلَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } هو الخلود في نار جهنم قال أبو حيان: والآية جاءت تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وتخفيفاً عنه من ثقل حزنه على مسارعتهم في الكفر وقطعاً لرجائه من فلاحهم { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ } أي الباطل كرره تأكيداً وتفخيماً { أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ } أي الحرام من الرشوة والربا وشبه ذلك { فَإِن جَآءُوكَ فَٱحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } أي إِن تحاكموا إِليك يا محمد فيما شجر بينهم من الخصومات فأنت مخير بين أن تحكم بينهم وبين أن تُعرض عنهم قال ابن كثير: أي إِن جاءوك يتحاكمون إِليك فلا عليك ألا تحكم بينهم لأنهم لا يقصدون بتحاكمهم إِليك اتباع الحق بل ما يوافق أهواءهم { وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً } أي لأن الله عاصمك وحافظك من الناس { وَإِنْ حَكَمْتَ فَٱحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِٱلْقِسْطِ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ } أي فاحكم بينهم بالعدل والحق وإِن كانوا ظلمةً خارجين عن طريق العدل لأن الله يحب العادلين، ثم قال تعالى منكراً عليهم مخالفتهم لأحكام التوراة { وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ ٱلتَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ ٱللَّهِ } أي كيف يحكّمك يا محمد هؤلاء اليهود ويرضون بحكمك وعندهم التوراة فيها حكم الله يرونه ولا يعملون به؟ قال الرازي: هذا تعجيبٌ من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بتحكيم اليهود إِيّاه بعد علمهم بما في التوراة من حد الزاني ثم تركهم قبول ذلك الحكم، فعدلوا عما يعتقدونه حكماً حقاً إِلى ما يعتقدونه باطلاً طلباً للرخصة فظهر بذلك جهلهم وعنادهم { ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذٰلِكَ } أي يعرضون عن حكمك الموافق لكتابهم بعد أن وضح لهم الحق وبان { وَمَآ أُوْلَـٰئِكَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ } أي ليسوا بمؤمنين لأنهم لا يؤمنون بكتابهم " التوراة " لإِعراضهم عنه وعن حكمك الموافق لما فيه قال في التسهيل: وهذا إِلزامٌ لهم لأن من خالف كتاب الله وبدّله فدعواه الإِيمان باطلة، ثم مدح تعالى التوراة بأنها نور وضياء فقال { إِنَّآ أَنزَلْنَا ٱلتَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ } أي أنزلنا التوراة على موسى فيها بيانٌ واضح ونور ساطع يكشف ما اشتبه من الأحكام { يَحْكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسْلَمُواْ } أي يحكم بالتوراة أنبياء بني إِسرائيل الذين انقادوا لحكم الله { لِلَّذِينَ هَادُواْ } أي يحكمون بالتوراة لليهود لا يخرجون عن حكمها ولا يُبدّلونها ولا يُحرّفونها { وَٱلرَّبَّانِيُّونَ وَٱلأَحْبَارُ } أي العلماء منهم والفقهاء { بِمَا ٱسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ ٱللَّهِ } أي بسبب أمر الله إِياهم بحفظ كتابه من التحريف والتضييع { وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ } أي رقباء لئلا يُبدّل ويُغيّر { فَلاَ تَخْشَوُاْ ٱلنَّاسَ وَٱخْشَوْنِ } أي لا تخافوا يا علماء اليهود الناس في إِظهار ما عندكم من نعت محمد صلى الله عليه وسلم والرجم بل خافوا مني في كتمان ذلك { وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً } أي ولا تستبدلوا بآياتي حطام الدنيا الفاني من الرشوة والجاه والعَرَض الخسيس { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَافِرُونَ } أي من لم يحكم بشرع الله كائناً من كان فقد كفر وقال الزمخشري: ومن لم يحكم بما أنزل الله مستهيناً به فأولئك هم الكافرون والظالمون والفاسقون وصفٌ لهم بالعتوّ في كفرهم حين ظلموا آيات الله بالاستهزاء والاستهانة وتمرّدوا بأن حكموا بغيرها قال أبو حيان: والآية وإِن كان الظاهر من سياقها أن الخطاب فيها لليهود إِلا أنها عامة في اليهود وغيرهم.
. وكل آية وردت في الكفار تجرُّ بذيلها على عصاة المؤمنين { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ ٱلنَّفْسَ بِٱلنَّفْسِ } أي فرضنا على اليهود في التوراة أن النفس تُقتل بالنفس { وَٱلْعَيْنَ بِٱلْعَيْنِ } أي تُفقأ بالعين إِذا فقئت بدون حق { وَٱلأَنْفَ بِٱلأَنْفِ } أي يُجدع بالأنف إِذا قطع ظلماً { وَٱلأُذُنَ بِٱلأُذُنِ } أي تقطع بالأذن { وَٱلسِّنَّ بِٱلسِّنِّ } أي يقلع بالسنِّ { وَٱلْجُرُوحَ قِصَاصٌ } أي يُقتص من جانيها بأن يُفعل به مثل ما فعله بالمجني عليه وهذا في الجراح التي يمكن فيها المماثلة ولا يُخاف على النفس منها { فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ } قال ابن عباس: أي فمن عفا عن الجاني وتصدَّق عليه فهو كفارةٌ للمطلوب وأجرٌ للطالب وقال الطبري: من تصدَّق من أصحاب الحق وعفا فهو كفارة له أي للمتصدِّق ويكفّر الله ذنوبه لعفوه وإِسقاطه حقه { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ } أي المبالغون في الظلم لمخالفة شرع الله { وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِعَيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلتَوْرَاةَِ } أي أتبعنا على آثار النبيّين بعيسى بن مريم وأرسلناه عقيبهم مصدقاً لما تقدّمه من التوراة { وَآتَيْنَاهُ ٱلإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ } أي أنزلنا عليه الإِنجيل فيه هدى إِلى الحق ونور يُستضاء به في إِزالة الشبهات { وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلتَوْرَاةِ } أي مُعترفاً بأنها من عند الله، والتكرير لزيادة التقرير { وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ } أي وهادياً وواعظاً للمتقين { وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ ٱلإِنْجِيلِ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فِيهِ } أي وآتينا عيسى بن مريم الإِنجيل وأمرناه وأتباعه بالحكم به { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ } أي المتمردون الخارجون عن الإِيمان وطاعة الله { وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ } أي وأنزلنا إِليك يا محمد القرآن بالعدل والصدق الذي لا ريب فيه { مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلْكِتَابِ } أي مصدّقاً للكتب السماوية التي سبقته { وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ } أي مؤتمناً عليه وحاكماً على ما قبله من الكتب قال الزمخشري: أي رقيباً على سائر الكتب لأنه يشهد لها بالصحة والثبات قال ابن كثير: اسم المهيمن يتضمن ذلك فهو أمينٌ وشاهد وحاكم على كل كتابٍ قبله جمع الله فيه محاسن ما قبله وزاده من الكمالات ما ليس في غيره { فَٱحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ } أي فاحكم يا محمد بين الناس بما أنزل الله إِليك في هذا الكتاب العظيم { وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ ٱلْحَقِّ } أي لا توافقهم على أغراضهم الفاسدة عادلاً عمّا جاءك في هذا القرآن قال ابن كثير: أي لا تنصرفْ عن الحق الذي أمرك الله به إِلى أهواء هؤلاء من الجهلة الأشقياء { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } أي لكل أمةٍ جعلنا شريعة وطريقاً بيناً واضحاً خاصاً بتلك الأمة قال أبو حيان: لليهود شرعةٌ ومنهاج وللنصارى كذلك والمراد في الأحكام وأما المعتقد فواحدٌ لجميع الناس توحيدٌ وإِيمان بالرسل وجميع الكتب وما تضمنته من المعاد والجزاء { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } أي لو أراد الله لجمع الناس كلهم على دين واحد وشريعة واحدة لا ينسخ شيءٌ منها الآخر { وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم } أي شرع الشرائع مختلفة ليختبر العباد هل يذعنون لحكم الله أم يُعرضون، فخالف بين الشرائع لينظر المطيع من العاصي { فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ } أي فسارعوا إِلى ما هو خيرٌ لكم من طاعة الله واتباع شرعه { إِلَىٰ الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } أي معادكم ومصيركم أيها الناس إِلى الله يوم القيامة فيخبركم بما اختلفتم فيه من أمر الدين ويجازيكم بأعمالكم { وَأَنِ ٱحْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ } أي أُحكم بين أهل الكتاب بهذا القرآن ولا تتّبع أهواءهم الزائفة { وَٱحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيْكَ } أي احذر هؤلاء الأعداء أن يصرفوك عن شريعة الله فإِنهم كذَبةٌ كفرةٌ خونة { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَٱعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ } أي فإِن أعرضوا عن الحكم بما أنزل الله وأرادوا غيره فاعلم يا محمد أنما يريد الله أن يعاقبهم ببعض إِجرامهم { وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلنَّاسِ لَفَاسِقُونَ } أي أكثر الناس خارجون عن طاعة ربهم مخالفون للحق منهمكون في المعاصي { أَفَحُكْمَ ٱلْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ } الاستفهام للإِنكار والتوبيخ والمعنى أيتولون عن حكمك ويبتغون غير حكم الله وهو حكم الجاهلية؟ { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } أي ومن أعدل من الله في حكمه، وأصدقُ في بيانه، وأحكم في تشريعه لقومٍ يصدّقون بالعليّ الحكيم!!

البَلاَغَة: 1- { يٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ } الخطاب بلفظ الرسالة للتشريف والتعظيم.
2- { يُسَارِعُونَ فِي ٱلْكُفْرِ } إِيثار كلمة " في " على كلمة " إِلى " للإِيماء إِلى أنهم مستقرون في الكفر لا يبرحونه وإِنما ينتقلون بالمسارعة عن بعض فنونه إِلى بعضٍ آخر.

3- { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ } صيغة فعّال للمبالغة أي مبالغون في سماع الكذب.

4- { لَهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا خِزْيٌ } تنكير الخزي للتفخيم وتكرير لهم { وَلَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ } لزيادة التقرير والتأكيد وبين كلمتي " الدنيا والآخرة " طباقٌ.

5- { وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ } تعجيبٌ من تحكيمهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهم لا يؤمنون به ولا بكتابه.

6- { وَمَآ أُوْلَـٰئِكَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ } الإِشارة بالبعيد للإِيذان ببعد درجتهم في العتو والمكابرة.

7- { فَلاَ تَخْشَوُاْ ٱلنَّاسَ } خطابٌ لرؤساء اليهود وعلمائهم بطريق الإٍلتفات والأصل " فلا يخشوا ".

8- { فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ } أي بادروا فعل الخيرات وفيه استعارة حيث شبهه بالمتسابقين على ظهور الخيل إِذ كل واحد ينافس صاحبه في السبق لبلوغ الغاية المقصودة.

الفَوَائِد: قال الفخر الرازي: خاطب الله محمداً صلى الله عليه وسلم بقوله
{*يَٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ*}
[الأحزاب: 1] في مواضع كثيرة وما خاطبه بقوله { يٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ } إِلا في موضعين أحدهما { يٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي ٱلْكُفْرِ } والثاني في هذه السورة أيضاً وهو قوله
{*يَـٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ*}
[المائدة: 67] وهذا الخطاب لا شك أنه خطاب تشريف وتعظيم.

تنبيه: يقول شهيد الإِسلام " سيد قطب " طيَّب الله ثراه في تفسير الظلال ما نصه " إِن الجاهلية في ضوء هذا النص القرآني البليغ { أَفَحُكْمَ ٱلْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ } هي حكم البشر للبشر وعبودية البشر للبشر ورفض أُلوهية الله والخروج من عبوديته إلى عبودية غير الله، إنه مفرق الطريق فإما حكم الله، وإما حكم الجاهلية ولا وسط ولا بديل، إما أن تنفّذ شريعة الله في حياة الناس أو ينفّذ حكم الجاهلية وشريعة الهوى ومنهج العبودية لغير الله، والجاهلية ليست فترة من الزمان ولكنها وضع من الأوضاع يوجد بالأمس واليوم وغداً والناسُ إما أنهم يحكمون بشريعة الله ويقبلونها ويسلمون بها تسليماً فهم إذاً مسلمون وإما أنهم يحكمون بشريعة من صنع البشر فهم في جاهلية وهم خارجون عن شريعة الله ".


الساعة الآن 02:22

جميع المواد المنشورة بالموقع تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع ولا يتحمل أي مسؤولية عنها

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd