أرغم رجل التعليم أن يتحول إلى كائن شهري، ينتظر بفارغ الصبر انتهاء الشهر، يعده بدقة لا خطأ فيها أيامه، بل ويستعين بيومية ورقية و أخرى في هاتفه النقال المنتهي رصيده غالبا، كم يتمنى أن يمر الشهر كالسهم، لكنه يعاكسه فيتحول حولا.

في اليوم الأخير من كل شهر يهرول إلى أقرب شباك بنكي، يسحب دريهماته المعدودات كلها خوفا من الاقتطاعات، ثم يلج مقهى قصية ليعب فنجان قهوة سوداء إستعدادا للقيام بدراسة استراتيجية، دراسة ميزانية الشهر المقبل، وما أدراك ما ميزانية شهر بطوله و عرضه و تعدد استحقاقاته.

خصم مقدار الكراء، وقيمة فاتورة الماء والكهرباء، وديون البقال والخضار والسماك والصيدلية و …، عندئذ لا يتبقى إلا فتات الفتات، ماذا عساه أن يفعل بطلبات الأبناء، فهذا يريد كساء والأخر لعبة، والزوجة تريد أثاثا جديدا، وهو بدون حذاء.

دين البقال إذن يجب أن يؤجل، عليه بخارطة الحي حتى يتفادى كل درب يوصل إليه، و إن التقيا صدفة ما العمل؟ عليه أن يعد قصة كذبة سامحه الله، وهل بيده حيلة؟

هو الذي يطلب منه كل شيء، أن أكون معلما، مربيا، قدوة، مسعفا، منشطا، إداريا، متخلقا، صبورا، …، و أن يكون لعمله مردودية، و أن يكون نفسه حتى يواكب مستجدات عمله فالعصر في تطور مستمر؟ وأن ينفتح على المحيط، وأن يكون له إشعاع فيه، وأن …، وأن …، وأن …

هوالذي يعمل في مدرسة لا تستحق هذا الاسم، فساحتها عندما تمطر تصبح حقل أوحال، و عندما تصحو تمسي إعصار غبار، حجراتها من البناء المفكك الذي انتهت صلاحيته بسنوات، أرضية القسم محفرة لا ينقطع غبارها مع حركة أرجل الأطفال الصغيرة التي لا تكل، السقف ينز ماء شتاء، فيتحول الأستاذ إلى لاعب شطرنج مكرها، يحول هذه الطاولة يسارا، و الأخرى يمينا، و يجر الثالثة أماما، و يدفع أخرى للوراء حتى لاتسقط قطرات المطر المتسربة على التلاميذ و كتبهم، لكنه يخسر اللعبة دائما، فثقوب السقف لا تحصى، وأعداد التلاميذ تفوق الأربعين؟؟

لا معينات بيداغوجية لديه إلا الطباشير وسبورة سوداء عمرها عقود وحنجرته وإيمانه بأن ما لا يدرك كله لا يترك جله، وأن عليه أن يوصل لأبناء الأحياء الشعبية ما يستطيع من معرفة، لأنه منهم وهم منه.

عندما يطلب زيادة في أجرته لأن أسعار كل شيء زادت، من مواد غذائية وفاتورات الماء والكهرباء وثمن الأدوية والكراء والنقل … كل شيء، كل شيء، يكون جواب الحكومة كالتالي:

{{ إن أجرتك تشكل عبئا على ميزانية الدولة، فلها انعكاس مالي خطير يحد من قدرتنا على الاستثمار، أما ارتفاع تكلفة المعيشة فلسنا مسؤولين عنها، بل الأسواق العالمية؟ و لتعلم أن طلبك موضوع دراسة استراتيجية، تكلفت به لجنه من أفضل الخبراء الذين لا يشق لهم غبار و من جميع التخصصات، شكلوا عشرين لجينة لتدقيق أمالك و طموحاتك، و كل لجينة فرخت عشرات الخلايا لمقاربة طلباتك من كل الزوايا التي تعرفها و التي لا تعرفها، فانتظر و تحلى بالصبر، و قم بعملك أحسن قيام، فالجواب على طلبك آت لا ريب فيه، و لتطمئن أكثر سيكون الرد في الفترة الممتدة بين 2010 و 3010 ، فارتح إذن؟؟}}

وهل التهاب الأسعار، وطلبات الكاري بالزيادة، وغذاء وكساء وتطبيب و … الأبناء والزوجة والأم والأب ستنتظر؟

أجره البسيط له انعكاس غير مرغوب فيه على ميزانية الدولة؟ أما غلاء المعيشة والضرائب المجحفة فليس لها انعكاس على أجره المحدود، يا لمنطق الحداثة والعصرنة والمردودية والاستحقاق والحقوق و …………….







هل توافقوني الرأي ؟

موضوع مميز
أين المناقشون؟؟

موضوع مميز أخي الكريم .
كل ما أشرت إليه في هذه السطور و بين السطور صحيح و واقع ملموس للأسف .
للإشارة هذ الواقع لا ينطبق فقط على الأستاذ بل هو واقع كل الكادحين من أبناء الشعب .
أما ما يجعل رجل التعليم بصفة خاصة " كائنا شهريا " كما ذكرت أخي فهو اعتماده على أجرته فقط ، لا أتحدث هنا عن أصحاب الساعات الإضافية، بل أقصد أولئك المتعففين المحتسبين الذين يكتفون براتبه الشهري لمواجهة متطلبات الحياة التي لا تنتهي ..
و إذا استحضرنا هنا ظاهرة " الرشوة " المستشرية في جل الوظائف الأخرى سوى التدريس و التي تتخذ مسميات عدة ك "القهوة " أو "التدويرة" و للإشارة فقد تطورت وتضخمت في السنوات الأخيرة فأصبح يطلق عليها : "الكاميلا " ، قد نفهم جيدا لماذا يضطر الأستاذ إلى تعداد أيام الشهر و انتظار أجرته الصافية و النقية من كل الشوائب السالفة الذكر.
مع أجمل تحية .

واقع ملموس للأسف و اتفق معك كليا و خاصة مع هذه المعيشة الصعبة