منتديات الأستاذ التعليمية التربوية المغربية : فريق واحد لتعليم رائد - جدّتي وجدّتهم

جدتي وجدتهم

كنا ونحن في طريقنا إلى مدرستنا الإبتدائية
نمر بمجموعة فنادق منتشرة على جوانب بعضها في مجموعة واحدة
تفرّدت بها منطقة السملالية بمراكش

كانت حافلات تلك الفنادق لا تكفّ عن الحركة ..
دائمة في مسيرها نحر رحلاتها ذهابا وإيابا بشكل يومي ..

بعض تلك الحافلات الفخمة تجمع مجموعة من الأجانب الطاعنين في السن
وكأطفال نحن وبكل الفضول نقف لنتمعّن في أولائك الأجساد البالية
كل فرد من المجموعة لا يقل عمره عن السبعين وما فوق ..

ما يثير التساؤل ببراءة طفولية هن أولائك النساء الهرماات
تجد المرأة منهن لا تستطيع المشي إلا بصعوبة ..
في يدها عكازة وعلى وجهها الأبيض الجاف نظارة سميكة أو بدونها ..
تلبس جينزا وقميصا , أو بنطلونا مكوي كما يجب مع تيشورت ..
أو تنورة قصيرة فوق الركبة أو تحتها بقليل مع حذاء أنيق ..
والشعر بقصة قصيرة دون أن تنسى وضع القليل من مساحيق التجميل ..
وأضافر طويلة مرتّبة الشكل بعناية مع صبغها بلون زهري أو أحمر فاتح ..
أصابعها متزيّنة بخواتم خفيفة راقية وساعة أغلبها ماركة عالمية ..
أما العطر الذي يفوح منها وهي مارة بقربنا ..
فلا يخفى عن أحد سحر العطورات الفرنسية ..

كلما مرت هذه العجوز بمنظر طبيعي أو أطفال تلتقط الصور ..
كنا نقف في صف لنتصوّر ..
مستأنسين بتلك اللمعة التي تنطلق من الكامرا ..
وفرحين مستبشرين بصاحبة الكامرا وهي تبتسم في وجوهنا ..
ربما لأن تلك الإبتسامة لم نعتدها في وجوه من يحيطون بنا ..
جافة ملامحهم .. مكفهرّة نفسياتهم .. حتى نسوا أن الإبتسامة صدقة ..

حينما أرى هذه المرأة بهذه الأناقة أتذكر جدتي ..

جدتي تفرّغت للعبادة رغم أميّتها وسجيتها وبساطتها الشديدة
كانت تتعبّد وتمسك التسبيح لـ تمرر خرزاته بين السبابة والإبهام
وتدندن بكلمات تتوسل بها الله حسن الخاتمة وألا يتركها إلى أرذل العمر
كي لا تكون عالة على أبنائها ..
أراها أحيانا وهي في غمار الصلاة تتابعنا بعينيها كلما مررنا من جانبها ..
ومرة .. بعد أن قامت من السجود إلتفتت لترى عباءتها معلقة
فمسكتها لتحملق فيها وترى إذا أمي خيّطت التمزق الذي بها أم لا
ولسانها لا يتوقف عن الإستمرار في قراءة الفاتحة :
... إهدنا الصراط المستقيم , صفية لم تخِط لي عباءتي , صراط الذين أنعمت عليهم ....

كانت ( شياكتها ) من قفطان بلدي تلبس عليه فلطيطة طويلة ( مِأزرة )..
وعلى رأسها حجابا لا تزيله سواء في البيت أو خارجه
فوق حجابها تضع قطعة قماش طويلة تلف بها رأسها كأنها عمامة ..

تجلس في الزاوية تراقبنا بنظراتها وتتعجب من حركاتنا الطفولية
تخاطبنا بلهجتها الأمازيغية :

أكّم يهْدُو ربي أتاروا .. كّاور سواكال ميكّاتين .. آه أربي أُرتْ سّفليد
(( الله يهديكم يا أطفال ألا تهدؤون ؟ يا ربي لا يسمعون الكلام ))

تنظر إلى التلفاز في تيه فكري تارة ,, وإلى سبحتها أخرى ..
أراها كمّن يتحين الخاتمة ..
أراها وقد شبعت من الدنيا ولا تطمع في البقاء ..
أراها كأنها تقول لنفسها :

لقد أدّيت مهمتي في هذه الحياة ..
تزوجت .. أنجبت .. ربيت .. زوجتهم ..
اطمأننت على فلذات كبدي فهم بخير ..
اللهم ارحمني برحمتك ..
واغفر لي وخذني إليك قريبا وأنت راض عني ..

إنها جدتي وجدتهم بعيون الطفولة ..

أم القاسم الشريف
فطيمة المراكشية
المملكة المغربية

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــ