منتديات الأستاذ التعليمية التربوية المغربية : فريق واحد لتعليم رائد

منتديات الأستاذ التعليمية التربوية المغربية : فريق واحد لتعليم رائد (https://www.profvb.com/vb/)
-   سير و شخصيات (https://www.profvb.com/vb/f328.html)
-   -   طه عبد الرحمن فيلسوف الأخلاق (https://www.profvb.com/vb/t126223.html)

بالتوفيق 2013-07-22 21:35

طه عبد الرحمن فيلسوف الأخلاق
 
طه عبد الرحمان .. فيلسوف الأخلاق وعبد الخفاء

هسبريس - حسن الأشرف
كاتب ومهتم بفكر طه عبد الرحمان
الأحد 21 يوليوز 2013 - 15:25


اسمه ذو رنة مشرقية لا تخطئها الأذن، رغم أن الرجل مغربي قح، فهو رُداني الأصل ودكالي المنشأ، فقد رضع من أثداء الرودانيات الحليب الذي يُمزَج به تواضع الهامات السامقة، وأخذ من أرض دكالة شموخ العظماء غير مُتكبر، وعطاء الكرام غير مجذوذ.
ولا تخطئ العين التواضع الرهيب للفيلسوف المغربي الذي يحرص أيما حرص على "الفرار" من الأضواء والتعاطي مع صحافة وإعلام بلاده، كأنه يطبق المقولة المأثورة عن ابن القيم الجوزية "من أراد الظهور فهو عبد الظهور، ومن أراد الخفاء فهو عبد الخفاء، أما من أراد الله وهو عبدٌ له، فهو الذي إذا شاء أظهره وإذا شاء أخفاه، لا يختار لنفسه ظهورا".
إنه المفكر والفيلسوف الدكتور طه عبد الرحمان، رائد المنطق والأخلاقيات، والملقب بـ "فيلسوف الأخلاق" أحيانا، و"فقيه الفلسفة" أحيانا أخرى، والذي يعد من القامات الرفيعة في سماء الفكر والمعرفة في المغرب والعالم الإسلامي، وهو المقام الذي لم يشفع له عند قطاع عريض من المغاربة الذين حتى لم يعلموا بأن مفكرهم الفذ عانى من أزمة صحية شديدة تطلبت تنقله إلى أمريكا للعلاج منذ أسابيع خلت.
مسار حياة
ولد طه عبد الرحمان في مدينة الجديدة سنة 1944، متنفحا عبق مطالبة المغاربة باستقلال البلاد من ربقة الاستعمار الفرنسي الغاشم، وفي عاصمة منطقة دكالة تابع طه دراسته الابتدائية، وبعدها انتقل إلى المدينة المجاورة الدار البيضاء ليكمل فيها دراسته الثانوية، ليحول وجهته صوب العاصمة الرباط حيث حصل على شهادة الإجازة في الفلسفة.
كان الطالب طه قد أبان عن نباهة لافتة ترتكز على القدرة الفائقة في التحليل والاستنباط المنطقي للأشياء، جسَّدها أكثر في دراسته الجامعية التي قضاها في جامعة السوربون بفرنسا، وعلى مدرجاتها حصل على إجازة ثانية في الفلسفة ودكتوراه السلك الثالث عام 1972 متوجا بحثه الذي أفرده لموضوع "اللغة والفلسفة: رسالة في البنيات اللغوية لمبحث الوجود"، ثم حصل على دكتوراه الدولة عام 1985 عن أطروحته "رسالة في الاستدلال الحجاجي والطبيعي ونماذجه".
وطه عبد الرحمان يشبه الطيور الوفية التي تعود دوما إلى أعشاشها حيث ترعرت، إذ بعد أن اغترف من علوم الفسلفة وفنونها ما شاء الله له أن يغترف، عاد الفيلسوف إلى حضن وطن خلال السبعينات من القرن المنصرم ليقوم بتدريس الطلبة دروس المنطق في جامعة محمد الخامس بالرباط.
ولأن نبوغه الفكري لا يمكن إلا أن تنحني له الهامات أينما حل وارتحل فإن الرجل حصل من ضمن ما حاز عليه على جائزة المغرب للكتاب مرتين، وجائزة الإسيسكو في الفكر الإسلامي والفلسفة عام 2006، كما أنه عمل أستاذا زائرا في العديد من الجامعات المغربية، وتقلد عضوية الكثير من الهيئات والجمعيات الفلسفية في العالم، كما أنه عضو محكم ومستشار في عدد من المجلات العلمية، وهو أحد مؤسسي اتحاد كتاب المغرب، ومن خيرة خبراء أكاديمية المملكة المغربية.
تواضع من غير منقصة
واعتاد طه عبد الرحمان ألا يلتفت، بالرغم من الحظوة العلمية والفكرية الباذخة التي اعترف له بها البعيدون قبل القريبين داخل وخارج البلاد، إلى عدسات المصورين ولا إلى أقلام الصحفيين، فهو يبدو كمن لا يكترث بهذه "القشور" التي تصده عن استكمال مساره المعرفي والفلسلفي المتميز.
وُعرف عن طه عبد الرحمان، وفق إفادات طلبته والقريبين من محيطه، بأنه كثير التأمل لا يتحدث غلا لماما، وعندما يتكلم فإنه يُجبر الآخرين على الإنصات كأن الدرر تخرج من فيه لا جملا عادية، فقد برع بحكمته التي زينت آراءه وأفكاره من طول تفحصه لكتب العلماء والفلاسفة.
ويقول عدد من طلبته الذين أضحوا أساتذة ومتخصصين في مجالاتهم الفكرية والثقافية بأن الرجل سهل وطيع بدون ضعف، ومتواضع من غير ذل، كأنه ـ وهو المشهور عنه انتصاره لفسلفة الأخلاق ـ يعيش الحديث المأثور : "طوبى لمن تواضع من غير منقصة، وذَلَّ في نفسه من غير مسكنة".
وكم مرة شوهد طه عبد الرحمان في محاضراته التي يلقيها بالجامعات والمراكز العلمية بالمغرب، وقد جلس متواضعا بدون "أبهة" ولا بطولة زائفة كأنه ليس صاحب المحاضرة، بل إنه كثيرا ما يحرص على مغادرة كرسيه في منصة الندوة ليستقبل الزوار من يعرف ولا يعرف أحيانا.
صوفية طه اختيارية
كثيرون يرجعون السلوكيات الراقية للفيسلوف المغربي طه عبد الرحمان إلى مرجعيته وتربيته الصوفية، خاصة في أحضان الزاوية البودشيشية، وهو ما يقر به الرجل الذي يعترف بأفضال التربية الروحية التي يزكيها التصوف في بلورة تصوراته الفسلفية ومعاملاته في الحياة.
الدكتور عباس ارحيلة، صاحب كتاب "نظرات في مشروع طه عبد الرحمان"، أفرد حيزا لأوجه التشابه بين فيلسوف الأخلاق طه وبين الفيلسوف الإسلامي الغزالي، ومن ذلك أنهما جاءا معا في أتون شعور سائد بالهزيمة النفسية والذهنية لدى العرب والمسلمين، وأيضا تمردهما على أشكال التقليد في الفكر، وتركيز فلسلفتهما حول الدين الإسلامي في عمقه الروحي والأخلاقي".
ومن مظاهر التشابه أيضا بين طه والغزالي، وفق ارحيلة، نشأتهما معا في أسرة صوفية باعتبار "الحاجة النفسية إلى الطاقة الروحية في إنجاز مشروعهما الفلسفي، ورغبتهما في خلق التوازن بين البرهان العقلي والصدق الإيماني".
وقد تحدث طه عبد الرحمان يوما عن صوفيته التي تختلف في بعض الركائز عن صوفية الغزالي عندما قال: "لا يجمعني أنا والغزالي إلا خوض غمار الصوفية؛ فلم أدخل فيها فارّاً ولا شاكّا كما دخل فيها؛ ذلك أن الغزالي فرّ إلى التصوف اضطرارا، بينما أقبلتُ عليه اختياراً".
وأردف طه "كان إقبالي على التصوف لسببين، أولهما: أردتُ أن أُقوّيَ صلتي بالله حبّاً فيه لذاته، لا فراراً من غيره، بل كانت هذه المتعة أكبر من أنشغل بسواها، والسبب الثاني هو أن أتحقق من طبيعة المعاني التي هي فوق طور العقل الفلسفي، هل هي غير عقلية كليا أم أنها عقلية بوجه ما؟".
مشروع طه المعرفي
الباحث في الكاتب والباحث في شؤون الحركات الإسلامية منتصر حمادة قال، في حديث مع مجلة هسبريس، إنه من الصعب تلخيص مشروع طه عبد الرحمن المعرفي، بحكم أنه حرر في "فلسفة الدين"، وفي "فقه الفلسفة"، وحرر أيضا في المنطق، حتى أنه يوصف برائد الدرس المنطقي في المجال التداولي المغربي، وأيضا في الأخلاقيات، وهو الملقب بـ"فيلسوف الأخلاق".
في الصنف الأول من التصنيف، يقول حمادة، نجد مؤلفات طه عبد الرحمان المرجعية التي تحمل عنوان: "العمل الديني وتجديد العقل"، "في أصول الحوار وتجديد علم الكلام"؛ و"روح الحداثة"، وخاصة "روح الدين".
وفي الصنف الثاني، يضيف الباحث ذاته، نجد "فقه الفلسفة" (الجزء الأول والثاني)، و"الحق العربي في الاختلاف الفلسفي"، ثم "الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري".
وفي الصنف الثالث، نجد بالدرجة الأولى كتابه الشهير والعصي على الهضم والفهم عند المتخصصين، فبالأحرى عند غير المتخصصين، أي كتابه "اللسان والميزان أو التكوثر العقلي"، والصادر سنة 1998، ولا يستقيم الخوض في واقع الدرس المنطقي اليوم في مجالنا التداولي العربي، دون الاستشهاد بهذا العمل بالذات على غرار الاستشهاد بأعمال الراحل إدوارد سعيد مثلا، عندما نتحدث عن الاستشراق. وأخيرا في الصنف الرابع نجد كتابه "سؤال الأخلاق"، و"سؤال العمل".
"الأخلاق هي الحل"
وبخلاف الذين يرفعون شعار "الإسلام هو الحل" من أبناء التيار الإسلامي الحركي، أو "الإسلام هو المشكلة" من لدن التيار العلماني، فإنه يمكن اختزال ـ لو جاز هذا التعبير ـ المشروع العلمي لطه عبد الرحمان في كونه مشروع لفيلسوف مُجدد يرفع شعار "الأخلاق هي الحل"، في معرض تبني مشروع إصلاحي إسلامي المرجعية" يورد منتصر حمادة للمجلة.
أما في مشاريعه الفلسفية، يكمل المتحدث، فإن الأمور معقدة للغاية، رغم أنها بديهية لديه، مادام قد وجد ضالته وراحته في ثنائية "الكتابة ـ الحرية"، وهي برأيه، نعمة/ راحة نفسية/ روحية ما بعدها نعمة.
وبالنسبة لمنتصر فإن "الأخلاق هي الحل" هي ما يصطلح عليه طه عبد الرحمن بـ"العمل التزكوي"، كما جاء في آخر أعماله الصادرة في غضون مطلع العام الماضي 2012، أي "روح الدين"، و"سؤال العمل"، وكما جاء أيضا في أحد أعماله المؤسسة: "العمل الديني وتجديد العقل".
وخلص الباحث إلى أن "المرجعية الأخلاقية لهذا الفيلسوف المجدد لا تحول دون أن يُصبح علامة فارقة ومفصلية في التنظير الفلسفي العربي الراهن، حتى إنه يعترف بفضل هذه المرجعية في هذا التنظير، كما نقرأ على الخصوص في كتابه "العمل الديني وتجديد العقل"، وهذا أمر عصي على الفهم عند الذين تشبعوا بعقليات متصلبة عقديا أو إيديولوجيا، سواء كان التصلب دينيا أو مادي المرجعية".
حسن السرات*: هذا هو طه..الفيلسوف والإنسان
الفيلسوف والإنسان يلتقيان في القرآن والحياة، فالخطاب الفلسفي والمنطقي عند طه عبد الرحمن ليس بعيدا عن القرآن والحياة، بل هو من صلبهما خرج وفيهما عرج؛ فكثير من المفاهيم الفلسفية التي نحتها طه بجدارة وعلم واجتهاد تولدت في باطنه الروحي أو روحه الباطني، وهو معتكف في الآيات والسور. وما أن يبدأ القارئ لطه في القراءة أو الاستماع إليه حتى يدرك أن لحديثه طلاوة وعليه حلاوة، وأنه ليس من صنف الأحاديث الجافة والمبهمة، ثم إن طه منظم غاية التنظيم في الفكر والقول، ومحكم غاية الإحكام في الاستدلال والاستنتاج.
وطه في الحياة والعلاقات هو طه في الفكر والإبداع. رجل متواضع جدا نافر من الأضواء والكراسي البارزة، ليس بطامع في متاع من أمتعة الحياة الدنيا. مشفق على نفسه وعلى من معه غاية الإشفاق. لو أراد أن تكون له العمارات والحسابات والصخب والجلبة والضجيج لكان ذلك عنده ميسورا وكبيرا، ولكنه آثر الله والآخرة. بل إنك إذا اقتربت من الرجل وجدت فطرة وبراءة الطفولة وابتعادها عن التكلف والتصنع. ولعلمت أن جسد الرجل في الحانوت وقلبه في الملكوت. يتحدث إليك من الآخرة وهو في هذه الدنيا، فقد غادر وسافر، وهو هنا مجرد زائر وعابر.
وطه شاعر مرهف جدا حتى يخيل إليك من رقته وعذوبته وإنسانيته وروحانيته أنه كائن زجاجي عجيب لا شحم فيه ولا عظم، ولا طين ولا صلصال، بل تدرك أن الرجل من شدة رقته ومعراجه أتعب البدن فلم يعد يتحمل النور العظيم، فذابت الأشكال وتزينت الأعمال، وتطيبت الأقوال، عندها تتساءل "هل أنا مع كائنات الملأ الأعلى في المسكن الأدنى، أم أن الذين في السماء تدلوا ليكونوا مع الذين في الأرض، وجميعهم لهم مقام معلوم".


نسمة المنتدى 2013-07-23 00:01

رد: طه عبد الرحمن فيلسوف الأخلاق
 

بارك الله فيك اخي الكريم على التقاسم الطيب

بالتوفيق 2013-07-23 09:36

رد: طه عبد الرحمن فيلسوف الأخلاق
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة نسمة المنتدى (المشاركة 666219)

بارك الله فيك اخي الكريم على التقاسم الطيب

شكرا جزيلا لمروركم و تفاعلكم الجميلين

بالتوفيق 2013-07-23 09:44

رد: طه عبد الرحمن فيلسوف الأخلاق
 
طه عبد الرحمن
من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة

طه عبد الرحمن (وُلد عام 1944 في الجديدة، بالمغرب، فيلسوف مغربي، متخصص في المنطق وفلسفة اللغة والأخلاق ويعد أحد أبرز الفلاسفة والمفكرين في العالم الإسلامي منذ بداية السبعينيات من القرن العشرين.
سيرته:
تلقى طه عبد الرحمن دراسته الابتدائية بمدينة الجديدة، ثم تابع دراسته الإعدادية بمدينة الدار البيضاء، ثم بـجامعة محمد الخامس بمدينة الرباط حيث حصل على الإجازة في الفلسفة، واستكمل دراسته بـجامعة السوربون، حيث حصل منها على إجازة ثانية في الفلسفة ودكتوراه السلك الثالث عام 1972 برسالة في موضوع اللغة والفلسفة: رسالة في البنيات اللغوية لمبحث الوجود، ثم دكتوراه الدولة عام 1985 عن أطروحته رسالة في الاستدلال الحِجَاجي والطبيعي ونماذجه.
درَّس المنطق وفلسفة اللغة في جامعة محمد الخامس بالرباط منذ 1970إلى حين تقاعده عام2005. وهو عضو في "الجمعية العالمية للدراسات الحِجَاجية" وممثلها في المغرب، وعضو في "المركز الأوروبي للحِجَاج"، وهو رئيس منتدى الحكمة للمفكرين والباحثين بالمغرب. حصل على جائزة المغرب للكتاب مرتين، ثم على جائزة الإسيسكو في الفكر الإسلامي والفلسفة عام 2006.
مميزات منهجه:
تتميز ممارسته الفلسفية بالجمع بين "التحليل المنطقي" و"التشقيق اللغوي" والارتكاز إلى إمدادات التجربة الصوفية، وذلك في إطار العمل على تقديم مفاهيم متصلة بالتراث الإسلامي ومستندة إلى أهم مكتسبات الفكر الغربي المعاصر على مستوى "نظريات الخطاب" و"المنطق الحجاجي" و"فلسفة الأخلاق"، الأمر الذي جعله يأتي بطريقة في التفلسف يغلب عليها التوجه "التداولي" و"الأخلاقي".
أعماله:
اللغة والفلسفة. رسالة في البنيات اللغوية لمبحث الوجود (بالفرنسية)،1979.
رسالة في منطق الاستدلال الحجاجي والطبيعي ونماذجه (بالفرنسية)، 1985.
المنطق والنحو الصوري، 1985.
في أصول الحوار وتجديد علم الكلام، 1987.
العمل الديني وتجديد العقل، 1989.
تجديد المنهج في تقويم التراث، [ط1، 1994]، ط2 ، 2001.
فقه الفلسفة.1-الفلسفة والترجمة، 1996.
اللسان والميزان، أو التكوثر العقلي، 1998.
فقه الفلسفة.2- القول الفلسفي، كتاب المفهوم والتأثيل، 1999.
سؤال الأخلاق.مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية، 2000.
حوارات من أجل المستقبل، 2000.
الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، 2002.
الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري،2005.
روح الحداثة.المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية،2006.
الحداثة والمقاومة، 2007.
سؤال العمل. بحث عن الأصول العملية في الفكر والعلم، 2012.
رُوح الدين. من ضيق العَلمانية إلى سعة الائتمانية، 2012.
أعمال حول فكره:
إبراهيم مشروح، طه عبد الرحمن: قراءة في مشروعه الفكري، 2009.
بوزبرة عبد السلام، طه عبد الرحمن ونقد الحداثة، 2011.
يوسف بن عدي، مشروع الإبداع الفلسفي العربي: قراءة في أعمال طه عبد الرحمن، 2012.

لطه عبد الرحمن اتصالات جيدة مع الفاعليات الدولية المتعلقة بالدراسات الإسلامية والحوارات الفكرية، ومنها مساهمته في كلمة سواء

صانعة النهضة 2013-07-24 15:24

رد: طه عبد الرحمن فيلسوف الأخلاق
 
يسرني أخي توفيق أن أضيف هذه المعلومات حول الدكتور طه
عبد الرحمان

مشروعه الفلسفي
يمكن القول بأن المشروع الفلسفي للدكتور طه عبد الرحمن ينقسم، منطقيا وليس مرحليا، إلى عناصر ثلاث. أولا، فك الارتباط والتماهي بين الفلسفة عموما، ومفهوم الحداثة خصوصا، وبين الفكر الغربي. وبذلك يصبح ممكنا أن تقوم لكل ثقافة فلسفة خاصة، وفكر حداثي خاص، مميز لها. ثانيا، إعادة الارتباط بين الأخلاق باعتبارها عمل وليس نظر وبين الفلسفة النظرية، عموما، ومفهوم الحداثة خصوصا. وبذلك يصبح الفكر النظري والعمل الأخلاقي وجهان لعملة واحدة. ثالثا، تأسيس مفهوم العمل الأخلاقي على مبادئ وقيم الدين الإسلامي وعلى قراءة معاصرة للقرآن الكريم. وذلك باعتبار الدين الإسلامي رسالة إنسانية في المقام الأول.
وقد ترتب على هذا التصور معارضته للفكر الغربي الحديث على أساس استبعاده للأخلاق بالمعنى العملي، ومعارضته للفكر الإسلامي القديم والحديث على أساس النقص في التنظير لهذا المبدأ الأخلاقي. وبالتالي أصبح من الضروري إنشاء نسق "حداثي - أخلاقي" جديد يكمل النقص في الجانبين، وهو ما يمثل مضمون محاولته.
يطرح الدكتور طه عبد الرحمن مبدأ تعدد الحداثة، الذي يمثل العنصر الأول في مشروعه، كما يلي،
ما نشاهده في واقعنا هو نقل للحداثة الموجودة في واقع الحداثة الغربية هذا النقل ليس فيه ابتكار ولا جمال.. كيف نتصرف مع هذا الواقع، كيف نصبح لا ناقلين للحداثة بل مبدعين لها؟ في نظري يجب التفريق بين واقع الأشياء وبين روح الأشياء.. ما معنى الروح؟ هي مجموعة القيم ومجموعة المبادئ التي يكون هذا الواقع تجسيداً لها وتطبيقاً لها؛ بمعنى أنه ينبغي أن نبحث عن الحداثة كقيم لا عن الحداثة كواقع، هذا الواقع موجود لا ننكره ونتصل به ونقلده وننقل عنه وما إلى ذلك ولكن ليس هذا الواقع هو الذي سيدخلنا إلى الحداثة؛ فإذا لابد أن نبحث عن هذه المبادئ وهذه القيم التي يعد الواقع تحقيقاً لها. (حوار قناة الجزيرة، الجزء السادس)
وتأكيدا لهذا التعدد في فهم الحداثة، ينقد الدكتور طه الحضارة الغربية الحديثة، ويسميها حضارة القول على أساس لا أخلاقيتها كما يلي،
وعلى الجملة، فإن ما أنتجته حضارة القول هو مضار ثلاث أصابت الإنسان في كيانه الخلقي: مضرة التضييق التي جعلت الفعل الخلقي فعلا محدودا ومضرة التجميد التي جعلته فعلا مقطوعا ومضرة التنقيص التي جعلته فعلا منبوذا؛ وعلى هذا، يكون "الحد" و"القطع" و"النبذ" هو نصيب الفعل الخلقي من حضارة القول، وفي هذا منتهى ظلم الإنسان متى عرفنا أن الحقيقة الإنسانية لا تتحدد إلا بالأخلاق؛ لذا يتعين العمل على دفع هذا الظلم عن الإنسان حتى تعود إليه هويته. (سؤال الأخلاق، مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية، ص 79 – 80)
كما يشير إلى النقص في "التنظير" في الفكر الإسلامي الحديث كما يلي،
اعلم أن "اليقظة الدينية" التي دخل فيها العالم الإسلامي في العقدين الأخيرين، أثارت عند الأنصار والخصوم من المواقف المتفاوتة والمتباينة ما قد لا تؤمن عواقبه إن لم يكثر به التلبيس وتقع به الفتنة. واعلم أيضا أن هذه "اليقظة العقدية"، على انتشارها في الآفاق وتأثيرها في النفوس، تفتقر إلى سند فكري محرر على شروط المناهج العقلية والمعايير العلمية المستجدة، فلا نكاد نظفر عند أهلها لا بتأطير منهجي محكم، ولا بتنظير علمي منتج، ولا بتبصير فلسفي مؤسس. (العمل الديني وتجديد العقل، ص 9)
في ظل هذا النقد المزدوج يجد الدكتور طه نقطة البدء في إدراك أن للمنطق، بالمعنى الغربي الحديث، حدود، وأن الطريق هو البحث فيما وراء حدود المنطق،
لما تم اختصاصي في المنطقيات والعقليات تبين لي حدود هذه المنطقيات... وأن تكويني الفلسفي يحتم عليّ أن أطلب الحقيقة ولو من وراء الحدود وأن الفلسفة تقتضي سبر الأغوار.. فكل ذلك جعلني أطلب طريقا آخر لتبين ما وراء حدود المنطق، فكنت على يقين على أن لغة هذا المستوى لا يمكن أن تكون لغة العبارة، لأن العبارة هي لغة العقل المحدود الذي ظهرت لي حدوده وقيوده، فلابد أن تكون لغة إشارة، فلابد أن تكون هذه اللغة لغة إشارة وإشارة أصيلة ومجاز بليغ حتى يمكن أن ننفذ إلى ما وراء حدود العقل،. (حوار – قناة الجزيرة - الجزء الأول)
وما هو وراء حدود المنطق هو القيم والأخلاق الدينية، وهذه نجدها في صورتها الأكمل في الدين الإسلامي باعتباره دعوة عالمية. (حوار – قناة الجزيرة - الجزء الرابع). والهدف النهائي هو وضع نظرية أخلاقية إسلامية تفلح في مواجهة لا أخلاقية الحضارة الغربية،
ليس يخفى أننا كنا نسعى منذ صدور كتابنا: العمل الديني وتجديد العقل إلى الإسهام في تجديد الفكر الديني الإسلامي بما يؤهله لمواجهة التحديات الفكرية التي ما فتئت الحضارة الحديثة تتمخض عنها، بل كنا نسعى، على وجه الخصوص، إلى وضع نظرية أخلاقية إسلامية مستمدة من صميم هذا الفكر، نظرية تفلح في التصدي للتحديات الأخلاقية لهذه الحضارة بما لم تفلح به نظائرها من النظريات الأخلاقية غير الإسلامية أو غير الدينية. (سؤال الأخلاق، ص 171)
- يتبع -

صانعة النهضة 2013-07-24 15:26

رد: طه عبد الرحمن فيلسوف الأخلاق
 
منهجه
يعتمد الدكتور طه عبد الرحمن بشكل أساسي على المنطق الصوري في معالجة الموضوع، وهذا بطبيعة الحال نتيجة لكونه أحد كبار المناطقة في الفكر العربي المعاصر. لذلك نجد أن معالجته تعتمد أولا، على معالجة مشكلة المصطلحات، ثم على التقسيم المنطقي للموضوع، ثم على الاستدلال المنطقي لإثبات القضايا محل البحث. ولكنه في نفس الوقت، باعتبار تخصصه أيضا، يعلم ما وصل إليه الفكر المعاصر من حدود للمنطق وللرياضيات وفلسفة العلم، كما يعلم ما وصل إليه هذا الفكر من تجاوز لمفهوم الفصل الكامل بين الذات والموضوع، الذي يمثل المسلمة الضمنية الأساسية في المنطق الصوري التقليدي.
لذلك يمكن تقسيم منهجيته إلى، أولا معالجة مشكلة المصطلحات، ثم قضية حدود المعرفة، ثم قضية الفصل بين الذات والموضوع.
ضرورة نحت مصطلحات جديدة
يطرح الدكتور طه عبد الرحمن مشكلة المصطلحات في الثقافة العربية الإسلامية المعاصرة كما يلي،
اننا جرينا على عادتنا في استخدام المفاهيم المتداولة في الممارسة الإسلامية العربية حيث يستخدم غيرنا مفاهيم تحذو حذو المنقول الفلسفي الغربي حذو النعل بالنعل... الأمر الذي أدى إلى قيام ازدواجية في الفكر الإسلامي العربي لم تورث أهله إلى حد الآن إلا الجمود على ما نقلوه، فحرموا أيما حرمان من ممارستهم حقهم في الإبداع الفلسفي المختلف. (سؤال الأخلاق، ص 30)
لذلك يصبح ضروريا الاعتماد على مصطلحات نابعة من ثقافتنا وإنشاء ما يلزم من مصطلحات،
أنا كتبت كتابا اسمه "فقه الفلسفة" والجزء الأول فيه المفهوم الفلسفي، المفاهيم هي المدخل للمعرفة ومدخل إلى ضبط السلوك المعرفي للإنسان فنحن نحتاج حقا إلى إعادة النظر في كل المفاهيم التي نتلقاها، لأننا –كما قلت- نستخدمها بوجوهها الأصلية في حين أن واقعنا لا يطابق هذه الوجوه، فلذلك ينبغي إعادة النظر، (حوار دار الحكمة)
وتطبيقا لذلك يقوم الدكتور طه بنحت المصطلحات باعتبار ذلك أمرا ضروريا لتحقيق مشروعه. فعلى سبيل المثال يطرح مصطلحات "العقل المجرد" و"العقل المسدد" و"العقل المؤيد" للتعبير عن ثلاث درجات أساسية للعقلانية.
الفصل بين الذات والموضوع
يبني الدكتور طه ربطه بين الأخلاق وبين الفكر المجرد على أساس سقوط مفهوم الفصل التام بين الذات والموضوع، وبالتالي يصبح منهجه متضمنا باستمرار نوع من الوصل بينهما. ويثبت هذه القضية كما يلي،
إن الخبر في الدين لا ينفك عن القيمة الأخلاقية... والفصل القاطع بين الخبر والقيمة لا يمكن التسليم به، وذلك لثبوت الحقيقتين الآتيتين:
أولاهما، أن الفصل بين الخبر والقيمة في عموم المعرفة، إن لم يكن قد حسم الأمر فيه بالبطلان، فلا أقل من أنه موضع أخذ ورد، وأنصار الرد فيه أكثر من أنصار الأخذ، ذلك أن كثيرا من التفرقات التي كانت مسلمة عند الجمهور قد صار مشكوكا فيها عند فقهاء العلم المعاصرين، نحو "التفرقة بين الواقعة والنظرية" و"التفرقة بين الملاحظة والنظرية" و"التفرقة بين التعريف والنظرية" و"التفرقة بين التحليل والتركيب" و"التفرقة بين الواقعي والمثالي" و"التفرقة بين الواقعي والاعتقادي" و"التفرقة بين الصوري والتجريبي"؛ وقد كانت "التفرقة بين الواقعة والقيمة" أكثرها استقطابا لأنظار الفلاسفة ومثارا لجدل عميق وخصيب بينهم ليس هذا موضع تفصيله. (سؤال الأخلاق، ص 47)
المنهج العقلي العلمي
والنتيجة المباشرة لاعتماد منهج عدم الفصل التام بين الذات والموضوع هي معارضة المنهج العقلي العلمي السائد الذي يعتمد على هذا الفصل، وبالتالي يصبح للبعد الأخلاقي للإنسان مكانا أساسيا في المنهج العقلي العلمي. ويطرح الدكتور طه موقفه هذا كما يلي،
لقد قام النمط المعرفي الغربي الحديث منذ نشأته في مطلع القرن السابع عشر على أصلين اثنين يقضيان بقطع الصلة بصنفين من الاعتبارات التي يأخذ بها كل متدين. أما الأصل الأول، فيمكن أن نصوغه كما يلي: "لا أخلاق في العلم"... وأما الأصل الثاني، فيمكن أن نصوغه كما يلي: "لا غيب في العقل". (سؤال الأخلاق، ص 92)
ولذلك يصبح بالإمكان الاعتماد على منهج علمي آخر لا يعتمد على هذا الفصل،
تبين أنه يبقى في الإمكان سلوك منهج علمي آخر يولد ضربا من ضروب العقل لا يكون بأوصاف العقل المجرد، أو قل أن ابتكار منهج مغاير للمنهج العقلي العلمي المتداول في العلوم النظرية السائدة حاليا، منهج لا يقل عقلانية وعلمية عن منهج هذه العلوم، هو حقيقة يجب التسليم بها.ٍ (العمل الديني وتجديد العقل، ص 21)


- يتبع-

صانعة النهضة 2013-07-24 15:28

رد: طه عبد الرحمن فيلسوف الأخلاق
 
فلسفته
ترتكز محاولة الدكتور طه عبد الرحمن لتحقيق هذا المشروع الفلسفي على طرح تصور معين لمفهوم "العقل" و"العقلانية" يؤدي بشكل تلقائي إلى إمكانية تحقيق المشروع. وبناء على هذا المفهوم المركزي يصبح ممكنا نقد الحداثة الغربية، ونقد الفكر الإسلامي القديم والحديث، ونقل (أي ترجمة) الفكر الغربي الحديث بصورة صحيحة، وقراءة (أي فهم) التراث الإسلامي قراءة صحيحة، وأخيرا تقديم التصور الأخلاقي الصحيح اللازم لمعالجة مشكلات الحداثة الغربية وتأسيس الحداثة الإسلامية البديلة.
مفهومه للعقلانية
مفهوم العقلانية عند الدكتور طه يعتمد أولا على رفض اعتبار العقل شيئا مستقلا، باعتبار ذلك مفهوما تجزيئيا للإنسان. فالعقل هو فاعلية للإنسان ككل وليس كيانا مستقلا فاعلا. ثم يعتمد ثانيا على الربط بين الفاعلية النظرية المجردة (العقل النظري) وبين الشعور الذاتي الداخلي (القلب)، تطبيقا لعدم الفصل التام بين الذات والموضوع. وثالثا، على تقسيم الفاعلية العقلية إلى ثلاث مستويات أساسية، هي التجريد، والعمل، واليقين الصوفي، ويقابلها ثلاثة مفاهيم للعقل "العقل المجرد"، "العقل المسدد"، "العقل المؤيد".
في هذا الإطار يعارض الدكتور طه النزعة التجزيئية للعقل، بالمفهوم الغربي، ويقرر موقفه كما يلي،
فعلى هذا، لا يعدو العقل أن يكون فعلا من الأفعال أو سلوكا من السلوكيات التي يطلع بها الإنسان على الأشياء في نفسه وفي أفقه، مثله في ذلك مثل البصر بالنسبة للمبصرات، فالبصر ليس جوهرا مستقلا بنفسه، وإنما هو فعل معلول للعين، فكذلك العقل هو فعل معلول لذات حقيقية، وهذه الذات هي التي تميز بها الإنسان في نطاق الممارسة الفكرية الإسلامية العربية، ألا وهي "القلب"، فالعقل للقلب كالبصر للعين. (العمل الديني وتجديد العقل، ص 18)
ويرتكز الدكتور طه في ذلك على أن المنطق الرياضي (نظرية جودل المشهورة) يثبت وجود حدود للعقل في "قدرة الأنساق في السيطرة على الواقع"، ولذلك،
إذا صح أن الصياغة الصورية للنظريات (أو الصورنة) هي بالذات إضفاء الصيغة العقلانية عليها أو "عقلنتها"، صح معه أيضا أن حدود هذه الصياغة هي حدود العقلنة ذاتها، بمعنى أنه لا يمكن إخضاع الواقع لعقلنة كاملة، ما دام هناك من الحقائق ما لا يمكن تعقيله. ولما كان العقل المجرد هو عين هذا التعقيل، تبين بما لا يدع مجالا للشك قصوره عن درك حقائق علمية ثابتة. (العمل الديني وتجديد العقل، ص 43)
والطريق لمعالجة مشكلة حدود العقل المجرد هو عملية إكمال لهذا العقل، وهذا يتم من خلال الربط بين النظر المجرد وبين العمل، والعمل هو على مقتضي الشرع الإلهي،
السبيل هو بالذات الدخول في عملية "إكمال"أو تكميل" للعقل المجرد،... من خلال إقدار المتقرب على الفعل وإقامة نظره المجرد على العمل المشخص... ولا عمل أقرب إلى أن يسانده العقل والنقل من العمل على مقتضى الشرع الإلهي الأسمى. وعلى هذا، فالعمل الشرعي هو أنفع الأعمال في جلاء الحدود وأنجع الوسائل في رفع القيود. (العمل الديني وتجديد العقل، ص 53)
ويصبح العقل المكمل بواسطة العمل هو "العقل المسدد"،
ولما كان العقل المجرد بفضل تنزيله على العمل وتوجيهه على مقتضاه، يأخذ في ترك وصفه العقلاني الأصلي ليتجه إلى الاتصاف بوصف عقلاني أفضل وأعقل، ارتأينا أن نخص هذا العقل الذي يسدده العمل ويجدد لباسه باسم "العقل المسدد". (العمل الديني وتجديد العقل، ص 53)
وهذا العقل المسدد، من خلال الإخلاص في العمل والمداومة عليه، يصل إلى مرحلة "العقل المؤيد"، كما يلي،
ولما كان العقل المسدد، بفضل تنزيله على التجربة الحية وتأييده بأوصافها، يترك وصفه العقلاني الأصلي ليتخذ وصفا عقلانيا جديدا أعقل منه وأكمل وأفضل، اخترنا أن نطلق على هذا العقل الجديد الذي يؤيده العمل القائم على التجربة اسم "العقل المؤيد". (العمل الديني وتجديد العقل، ص 116)
والعقل المؤيد يعتمد على التوسل بالتجربة الروحية الحية، والتي اشتهرت باسم التصوف،
سنبين في هذا الباب كيف أن العقل المؤيد يتدارك الآفات الخلقية والعلمية التي تقع فيها الممارسة المسددة، وكيف ينبني على طرائق تحقيقية وتوجهات كمالية، وذلك بأن نترصد الممارسة التي اشتهرت في تاريخ الإسلام بالتعويل على التجربة وطلب الكمال في العمل الشرعي، وهي: "التصوف". (العمل الديني وتجديد العقل، ص 119)
وبذلك يختص العقل المجرد بوصف الأشياء، والعقل المسدد بأفعال الأشياء، والعقل المؤيد بهويتها الباطنية،
إذا كان العقل المجرد يطلب أن يعقل من الأشياء أوصافها الظاهرة أو بالاصطلاح "رسومها"، وكان العقل المسدد يقصد أن يعقل من الأشياء أفعالها الخارجية أو "أعمالها"، فإن العقل المؤيد على خلاف منهما يطلب، بالإضافة إلى هذه الرسوم وتلك الأعمال، الأوصاف الباطنة والأفعال الداخلية للأشياء أو "ذواتها"، والمراد بـ "الذات"، ما به يكون الشيء هو هو، أو قل "هويته". (العمل الديني وتجديد العقل، ص 121)


- يتبع-

صانعة النهضة 2013-07-24 15:31

رد: طه عبد الرحمن فيلسوف الأخلاق
 
موقفه من الفلسفة الإسلامية


على أساس هذه التصورات ينقد طه عبد الرحمن الفكر الإسلامي الحديث كما يلي،
يتضح مما ذكرناه أن السلفية أخذت بطريقين في الرجوع إلى النصوص الإسلامية الأصلية: طريق "التسلف النظري" الذي سلكته بالخصوص السلفية الوهابية، وطريق "التسلف النقدي" الذي انتهجته السلفية النهضوية والسلفية الوطنية، وقد نحت في هذين الطريقين منحى العقلانية المجردة وإن تفاوت الطريقان في وجوه الأخذ بهذا المنحى: ففي التسلف النظري، وقع تطبيق مقولات العقل المجرد من غير التفات إلى العمل، أما في التسلف النقدي، فقد وقع تطبيق هذه المقولات المجردة مع مراقبة العمل الشرعي بواسطتها. والتسلف النقدي، وإن بدا أوعى من "النظري" من حيث تبصره بضرورة نقل المعارف والتجارب المكتسبة واشتراطه مصاحبة العمل للنظر، فإنه لا يقل تعلقا بشروط العقلانية المجردة،...
وليس هذا التعلق بالعقلانية المجردة المشعور به والمرتب في التسلف النقدي، وغير المشعور به والعفوي في التسلف النظري إلا أثرا من آثار نفوذ العقلانية الغربية ذات الأصل الديكارتي، وقد اشتدت الدعوة إليها في السلفية بشقيها "النظري" و"النقدي"، وما زالت تزيد في الاشتداد، مع أن هذه العقلانية أخذت في مراجعة أصولها وإعادة رسم حدودها في موطنها الغربي نفسه. (العمل الديني وتجديد العقل، ص 102 - 103)
كما ينقد الفكر الإسلامي القديم على أساس هامشية مفهوم الأخلاق فيه، "فالمتكلمون والفلاسفة تذبذبوا بين القول بتبعية الدين للأخلاق والقول باستقلال الأخلاق عن الدين" و"الفقهاء والأصوليون فقد جعلوا رتبة الأخلاق لا تتعدى المصالح الكمالية"،
في حين لو أنهم اتبعوا المنطق السليم في فهم حقيقة الدين، لتبينوا أن الأخلاق أولى برتبة المصالح الضرورية من غيرها؛ فما ينبغي لدين إلهي، ناهيك بالإسلام، أن ينزل إلى الناس، مقدما الاهتمام بشؤون الحياة المادية للإنسان على الاهتمام بكيفيات الارتقاء بحياته الروحية! وهل في المصالح ما يختص بكيفيات هذا الارتقاء غير الأخلاق! ثم هل في شؤون الإنسان ما هو أدل على إنسانيته من شأنه الخلقي! والصواب أن الدين والأخلاق شيء واحد، فلا دين يغير أخلاق ولا أخلاق بغير دين. (سؤال الأخلاق، ص 51)
ويرى أن أعلى درجات العقلانية، العقل المؤيد، تظهر في التصوف
ومتى نال المتقرب درجة العبدية، حصل له التأييد. وليس أدل على هذا التأييد من كون الامتنان الرباني يخرجه من وصف الافتقار إلى وصف الغنى، ومن وصف الاضطرار إلى وصف الاقتدار؛ والغنى صفة الخالق، والاقتدار صفة الفاعل، ومازال الحق يغطي العبد بالأوصاف الخالقية والأوصاف الفاعلية ما بقي هو على حال الافتقار والاضطرار، حتى يصير بين يديه متملكا بخالقيته ومتصرفا بفاعليته... إن العقل المؤيد لا تظهر كمالاته في الممارسة العقلانية الإسلامية بقدر ما تظهر في الممارسة الصوفية. (العمل الديني وتجديد العقل، ص 146)
-يتبع -


صانعة النهضة 2013-07-24 15:33

رد: طه عبد الرحمن فيلسوف الأخلاق
 
نقده للحداثة
وتأسيسا على مذهبه الأخلاقي ينقد الدكتور طه الحداثة الغربية وعقلانيتها العلمية – التقنية مطالبا بظهور مبدأ أخلاقي جديد يستبدل مفهوم السيادة على الطبيعة بمفهوم "المسودية لسيد الكون"،
خلاصة القول في هذا المقام أن المراتب الثلاث لعقلانية النظام العلمي – التقني، وهي النظم والتنظيم والانتظام، تدعو إلى مبادئ سلوكية تضر بالأخلاق الدينية ضررا يتزايد بحسب مراتب هذه العقلانية، فمرتبة النظم تستبعد هذه الأخلاق، ومرتبة التنظيم تستحوذ عليها، ومرتبة الانتظام تصطنع بديلا لها.
بيد أن الإضرار بالأخلاق الدينية – إن إقصاء أو استيلاء أو استبدالا – ما لبث أن انعكست آثاره السلبية على النظام العلمي – التقني للعالم، ذلك أن هذا النظام لم يبلغ مراده من وراء قطع صلته بهذه الأخلاق، ألا وهو تحصيل كمال السيادات الثلاث: التنبؤ والتحكم والتصرف! بل إنه صار لا يقدر على أن يمنع نفسه من الانجرار التدريجي إلى مسار تحفه الأخطار والأهوال من كل جانب، الأمر الذي دعا بعض الفلاسفة الأخلاقيين إلى التفكير في وسائل تصحيح هذا المسار الذي يفضي بالإنسانية إلى المفاسد، بل يلقي بها إلى المهالك، إن عاجلا أو آجلا، وكان ثمرة هذا التفكير ظهور بعض النظريات الأخلاقية الجديدة. (سؤال الأخلاق، ص 123)
والحل يكمن في إنشاء نظرية أخلاقية ترتكز على الدين،
وهكذا، يتضح أن الأخلاقيات التي تستحق أن تناظر النظام العلمي – التقني وتقدر على أن تمحو الآثار السيئة لتحولات هذا النظام المتوالية والمتسارعة، ليست هي النظريات التي تعتمد التعقل والتنكر مثل نظرية المسؤولية ونظرية التواصل ونظرية الضعف – لخروجها جميعا عن شرط التناسب – وإنما هي نظرية تستبدل مكان صفة التعقل مبدأ "التخلق" الجالب للحكمة المؤيدة، وتستبدل مكان صفة التنكر مبدأ "التعرف" الجالب للبصيرة المسددة، وبما أن الحكمة المؤيدة لا تحصل إلا بترك العمل بمبدأ السيادة على الكون وبالإقرار بهذه السيادة لسيد الكون الحق، وأن البصيرة المسددة لا تنال إلا بالخروج عن الشعور بحال السيادة والدخول في الشعور بحال المسودية لسيد الكون أو قل حال العبودية له، فقد جاز تسمية هذه النظرية المبنية على التخلق المفضي إلى الحكمة المؤيدة وعلى التعرف المؤدي إلى البصيرة المسددة باسم "نظرية التعبد"؛ فالتعبد إذن عبارة عن الجمع بين التخلق الحكيم والتعرف البصير. (سؤال الأخلاق، ص 133 – 134



بالتوفيق 2013-07-24 17:45

رد: طه عبد الرحمن فيلسوف الأخلاق
 
إضافات مهمة و غوص في تفاصيل منهج و فكر و أعمال الأستاذ طه عبد الرحمن
سيدتي
لقد جعلتم الموضوع دراسة تفصيلية أكاديمية في فكر طه عبد الرحمن
بارك الله فيكم
إنكم تتركون دائما بصمات رائعة و مفيدة في المواضيع التي تشاركون فيها
شكري مجدد لكم و متواصل و مستمر

abouimane 2013-08-01 09:07

رد: طه عبد الرحمن فيلسوف الأخلاق
 
جزاك الله خيرا
سلاميــ

بالتوفيق 2013-08-01 13:58

رد: طه عبد الرحمن فيلسوف الأخلاق
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة abouimane (المشاركة 669682)
جزاك الله خيرا
سلاميــ

مرور طيب لطيف
متابعة كاملة
بارك الله فيكم

ام زين 2013-08-01 14:10

رد: طه عبد الرحمن فيلسوف الأخلاق
 
جزاك الله خيرا بارك الله فيك
في موضوعك الراقي

بالتوفيق 2013-08-01 14:20

رد: طه عبد الرحمن فيلسوف الأخلاق
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ام زين (المشاركة 669819)
جزاك الله خيرا بارك الله فيك
في موضوعك الراقي


شكرا جزيلا على المتابعة و التتبع و الاهتمام

بالتوفيق 2014-02-16 12:42

رد: طه عبد الرحمن فيلسوف الأخلاق
 



طه عبد الرحمن .. من زلزال "روح الدين" إلى تسونامي "بؤس الدَّهرانيَّة"

منتصر حمادة

الأحد 16 فبراير 2014 - 11:10

هسبريس


سنتان بالضبط بعد صدور كتابه "روح الدين: من ضيق العلمانية إلى سعة الائتمانية"، والذي زلزل فيه المؤلف لائحة من القراءات التي اشتغلت على مفهوم العَلمانية، سواء تعلق الأمر بالقراءات التي تنهل من فكرانية (إيديولوجية) حداثية أو إسلامية، يعود طه عبد الرحمن عبر كتاب جديد يُسلط فيه الضوء على المفهوم، من خلال كتاب لا يقل أهمية، ويعلو مراتب في التفكيك والنقد، والإحالة على عمل يحمل عنوان "بؤس الدَّهرانيَّة: النقد الائتماني لفصل الأخلاق عن الدين". (صدر الكتاب مؤخرا عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، الطبعة الأولى 2014، وجاء في 191 صفحة من الحجم الكبير).

بما أن المؤلف اشتهر بالانطلاق من مُسلّمات في مُجمل إصداراته، فسوف نؤسِّس هذا العرض المتواضع على مُسلّمة أيضا، مفادها أنه من الصعب اختزال أعمال طه عبد الرحمن، باستثناء أعماله الحوارية، ونخص بالذكر كتاب "حوارات من أجل المستقبل" و"الحوار أُفقا للفكر"، ومَرد ذلك أن مؤلفاته قائمة على منهجية استدلالية منطقية، بدليل الحضور الكبير للمُسلمات في هذه المؤلفات، وبالتالي فإن أي إخلال بمضامين خطاب استدلالي، تسيء بشكل أو بآخر إلى مضامين هذه الأعمال، ولكن "ما العمل" مع إكراه التعريف بأهم هذه المضامين للجمهور غير المُتخصص، أو الترويج لها للجمهور المُتتبع، ومن هنا أسباب نزول هذه المواد التقريرية العابرة، التي ينطبق عليها شعار "القليل خير من العدم"، لأن السائد عند البعض، صرف النظر بالكلية، ورفع شعار اللامبالاة من الأعمال والمشروع، فالأحرى الحديث عن تعريف أو ترويج! (بخصوص الحضور اللافت للمُسَلّمات في أغلب أعمال طه عبد الرحمن، فقد افتتح المؤلف مدخل الباب الأول من هذا العمل، بمٌسلمة مؤرقة لأهل العقلانيات المُجرَّدة، مفادها أن "العقل ليس ذاتا مُدرَكة، وإنما فعل إدراكي"، وافتتح الفصل الأول من العمل بالإشارة إلى حتمية تحديد أدنى قدر من المُسلَّمات التي يبني عليها نظره في الدَّهرانيّة، لأن الخلو من المُسلَّمات، في أي مجال، أمر مُتعذر، فما الظن بمجال الدين والأخلاق الذي هو أعلق بحياة الإنسان. ص 32).

تضمّن المدخل العام للكتاب مجموعة من المفاتيح التي تنير الطريق أمام المتلقي قبل السفر في مُجمل فصول العمل، وافتتح المؤلف المدخل بالتوقف عند أبرز الآليات التي توسّلت بها الحداثة في إقامة مشروعها الدنيوي، وخَصَّ بالذكر آلية "تفريق المجموع"، أو آلية "فصل المتصل"، ومن هنا، فيما يتعلق بتعامل الحداثة مع المرجعية الدينية، قامت بفصل العلم عن الدين، وفصلت عنه الفن والقانون كما فصلت السياسة والأخلاق، ووصف المؤلف هذا المشروع ـ القائم على انتزاع قطاعات الحياة ـ من الدين باسم عام هو "الدُّنيانية"، حيث تتعدد صور الدُّنيانية بتعدد هذه الفصول، فتكون العَلمانية، مثلا، هي الصورة الدُّنيانية التي اختصت بفصل الدين عن السياسية [أو "العَلمانية الجزئية" بتعبير عبد الوهاب المسيري]، والعِلمانية هي الصورة الدُّنيانية التي اختصت بفصل العلم عن الدين. (يُشير المؤلف في أولى صفحات العمل إلى لطيفة هامة: عقل ما قبل الحداثة يصل الأشياء بعضها ببعض (ص 27)، بينما عقل الحداثة يفصل الأشياء بعضها ببعض ص 28).

تأسيسا على هذا الفصل، يَخلُصُ طه عبد الرحمن إلى أن انعكاسات هذه الفصول الدُّنيانية ليست ذات لون واحد، وإنما تختلف باختلاف أشكال هذه الفصول، من قبيل أن انفصال القانون عن الدين ليس كانفصال العلم عنه، ولا انفصال السياسة كانفصال الفن، لولا أن أشد هذه الفصول خطرا من وجهة نظره، يبقى فصل "الأخلاق عن الدين" [الإحالة هنا عن العنوان الفرعي للكتاب]، إذ انعكس بشدة على صلة الأخلاق بالإيمان، فضلا عن صلة الدين بالإيمان، كما فتح الطريق لأن يَدَّعي بعض المعاصرين أحوالا شعورية وأنماطا سلوكية غير مسبوقة تُصادِم الوجدان قدر مُصادَمتها للعقل مثل الاتصاف بـ"أخلاقية بلا ألوهية"، والتمتع بـ"روحانيات بلا إله" [بتعبير المفكر الفرنسي أندريه كونت سبونفيل] أو "روحانيات بلا دين" أو "روحانيات بلا إيمان"، ناهيك عن الأخذ بـ"دين بلا دين" أو بـ"الديني بلا دين"، أو حتى "الكون أمام الإله ومع الإله بغير الإله"، ومن هنا أسباب نزول المُصطلح الذي خَصَّ به طه عبد الرحمن هذه الصورة البارزة من الدُّنيانية، مقترحا أن يكون هذا الاسم هو "الدَّهرانيَّة"، إشعارا بأن فصل الأخلاق عن الدين يَنزَع عن الأخلاق لباسها الروحي ويكسوها لباسا زمنيا؛ وبهذا، تكون الدَّهرانيَّة أختا للعَلمانية كما هي أخت للعِلمانية، إذ كلها بنات للدنيانية. (ص 13).

التدقيق في مقتضيات هذه المفاهيم الجديدة ("الائتمانية"، "الدُّنيانية"، "الدَّهرانيَّة"..)، تطلّب من المؤلف التذكير بأنه نجََز في التاريخ الغربي الحديث، الانفصال عن أرباب الكنيسة الكاثوليكية، دفعا لتحكمهم في الرقاب والقلوب ولظهورهم بالفساد والظلم؛ وكون هذا الانفصال اشتهر باسم "انفصال السياسة عن الدين"؛ كما تمت، قبلَ ذلك، الدعوة إلى الانفصال عن أركان الدين المسيحي، لدرء آفتين عرضَتا له وهما: "لا عقلانيات المعتقدات" و"لا تسامحية المعتقدين"؛ وعُرِفَ هذا الانفصال الثاني باسم "انفصال الأخلاق عن الدين"؛ ولقد أُطلق على هذين الانفصالين: السياسي والأخلاقي اسم واحد جُعل له مقابل عربي هو "العَلمانية"، لولا أن المؤلف استقر رأيه على أن يخُصّ مصطلح العَلمانية بالدلالة على انفصال السياسة، وأن يضع مصطلح الدَّهرانيَّة للدلالة على انفصال الأخلاق، مقترحا مصطلح "الدُّنيانية" للدلالة على عموم انفصال نشاطات الحياة المختلفة عن الدين. (ص 29) ولما كان الانفصال عن أركان الدين ـ مع الأخذ بعين الاعتبار أن الأخلاق أحد هذه الأركان ـ أقوى من الانفصال عن أربابه، فقد لزمَ أن تكون الدَّهرانيَّة أقوى من العلمانية، ناهيك عن آثارها المختلفة التي تجلت في الفصل بين الأخلاق والإيمان، بل الفصل بين الدين والوحي، والفصل بين الدين والإيمان، بل الفصل بين الاعتقاد والإيمان، ومن هنا تشكِّل الدَّهرانيَّة نسقا تصوريا وتأويليا للعلاقة بين الأخلاق والدين يستحق أن ينزل رتبة ما يُسمّى بـ"الأنموذج"؛ وتظهر هذه النسقية في الصيغ المختلفة التي اتخذها، فضلا عن المُسَلمات المُضمرة العامة التي تجمع بينها. (ص 30)

كما اختار المؤلف لمنهج النقد الذي اتبعه في مقاربة الدَّهرانيَّة اسم "النقد الائتماني"؛ ومعلوم عند متتبعي أعمال المؤلف، أن مفهوم الائتمانية كان أحد مفاتيح كتابه الفصل الأخير من كتابه ما قبل الأخير: "روح الدين: من ضَيق العَلمانية إلى سَعة الائتمانية" (المركز الثقافي العربي، بيروت- الدار البيضاء، ط 1، 2012)، حيث التأسيس الأولي لما اصطلح عليه بـ"الفلسفة الائتمانية" والتي استعرض في مدخل "بؤس الدَّهرانيَّة" المبادئ الأول التي تقوم عليها عقلانيتها، مُعتبرا في هذا الصدد ـ بعد التفصيل في مراتب العقلانية بين عقلانية مُجردة وعقلانية مُسَدّدة وعقلانية مُؤيّدة ـ أنه إذا كانت الفلسفة الدَّهرانيَّة تتوسل بالعقل المُجرّد وحده، واقعة في شبهة الانقلاب والانتكاس، فإن الفلسفة الائتمانية تنبني على العقل المؤيَّد، متقيةً مفاسد العقل المُجرّد وعوائق العقل المُسدَّد، (ص 14) متوقفا ببعض التفصيل عند أهم مبادئ العقل الأولى التي تتحدد بها الفلسفة الائتمانية، وجاءت كالتالي:

ـ هناك أولا مبدأ الشهادة، ومفاده أن الشهادة بمختلف معانيها تجعل الإنسان يستعيد فطرته، مُحَصلا حقيقة هويته ومعنى وجوده، وهو مبدأ يُقابل مبدأ الهوية المُجرّد الذي تأخذ به الفلسفة غير الائتمانية، ليخلُصَ إلى أن الهوية الائتمانية ـ أو المُؤيدة ـ تفضُل الهوية غير الائتمانية ـ أو المُجرّدة ـ إذ أنها تزدوج بالغيرية، وليس الذي بُني على الغيرية كالذي لم يُبْن عليها؛ فوجود الغيرية خير من عدمها، نظرا لأنها تحفظ مما ليس يُحفظ منه بدونها كعبادة الذات أو اتباع الهوى؛ وإذا كان فضل غيرية المخلوقات، فما الظن بغيرية الخالق!

ـ هناك ثانيا مبدأ الأمانة، ومفاده أن الأمانة بمختلف وجوهها تجعل الإنسان يتجرّد من روح التملك، مُتحملا كافة مسؤولياته التي يوجبها كمال عقله، ومن أهم مقتضيات هذا المبدأ أن كل الموجودات، في العالم الائتماني، عبارة عن أمانات لدى الإنسان (يشير المؤلف في هامش ص 17 إلى وجود فوارق جوهرية بين نظرية "الأمانة الإسلامية" ونظرية "المسؤولية الحديثة")، مُضيفا أن مبدأ الأمانة هذا يقابل مبدأ عدم التناقض المُجرّد (أو مبدأ الاتساق المُجرّد) الذي تأخذ به الفلسفة غير الائتمانية؛ فإذا كان "مبدأ عدم التناقض" يقضي بأن الشيء ونقيضه لا يجتمعان، فإن مبدأ الأمانة يُقيد هذه القضية المُجرّدة، إذ يقضي بأن الشي ونقيضه لا يجتمعان متى كان العقل مسؤولا، بدءا من المسؤولية عن عدم الجمع بين الشيء ونقيضه، وانتهاءً بالمسؤولية على نتائجه النظرية وآثاره العملية. (ص 16).

ـ وأخيرا، مبدأ التزكية، ومقتضاه أن التزكية بمختلف مراتبها خيار لا ثاني له يجعل الإنسان يُجاهد نفسه للتحقق بالقيم الأخلاقية والمعاني الروحية المُنزَلة، ابتغاء لمرضاة خالقه، وحفظا لأفضلية الإنسان في الوجود، وتصديا لجديد التحديات والأزمات في القيم الإنسانية داخل عالم يزداد ضيقا، مُعتبرا أن الأصل في التزكية هو الترقية ـ أي التنمية الخُلُقية والروحية ـ وليس مُجَرّد التقويم، تصحيحا أو علاجا أو وقاية، وهنا إشارة دقيقة من إشارات "الفلسفة الائتمانية": يرى طه عبد الرحمن أن واجب الإنسان، في العالم الائتماني، أن يطلب التقدم المعنوي كما يطلب التقدم المادي، بل واجبه أن يجعل التقدم المادي تابعا للتقدم المعنوي، وإلا فلا تقدُّمَ في الإنسانية، (ص 17)، وهذه لوحدها إشارة تُزَلْزِل فلسفات مادية مُعاصرة في ربوع العالم.

واضح هنا أيضا أن "مبدأ التزكية" من حيث منطقه، يقابل مبدأ "الثالث المرفوع المجرَّد" الذي تأخذ به الفلسفة غير الائتمانية، وإذا كان مبدأ الثالث المرفوع يقضي بأن الشيء إما هو وإما نقضيه، فإن مبدأ التزكية الذي يُسطّر معالمه المؤلف، يُقيد هذه القضية المُجرّدة، إذ يقضي بأن الشيء إما هو وإما نقيضه متى كان العمل مطلوبا، بدءا من الأعمال الخارجية وانتهاء بالأعمال الداخلية، ليخلُصَ إلى أن العمل في البدل الائتماني هو بمنزلة المعيار الذي يُتوسّل به في الحكم على النظر كله، فإما هو نظر تَحصُل بها تزكية النفس، فيُؤتى، أو هو نظر تَحصُل به تدسيتها، فيُصرَف. (ص 19)

وبناء على هذه المبادئ العقلية الثلاثة، أي "مبدأ الشهادة" و"مبدأ الأمانة" و"مبدأ التزكية"، يتضح أن مشروع فيلسوف الأخلاق الذي أصبح يحمل عنوان "الفلسفة الائتمانية" يستمد عقلانية التأييد من النصوص المؤسِّسة للتراث الإسلامي، مُتضَمِّنا لفلسفات ثلاث هي: "فلسفة الشهادة" و"فلسفة الأمانة" و"فلسفة التزكية"؛ لذلك صَحَّ بأن توصف هذه الفلسفة بأنها فلسفة إسلامية خالصة، وجلّي أن الأمر هنا لا علاقة بجنس الفلسفة التي اقترنت بمن تسموا بـ"فلاسفة الإسلام" من أمثال الكندي والفارابي وابن رشد وابن سينا والتي حملت، في الأصل، اسم "الفلسفة الإسلامية"، من منطلق أن هؤلاء، على غزارة علمهم وسعة اطلاعهم، لم يخوضوا إلا في بحر الفلسفة اليونانية التي تقوم على عقلانية التجريد؛

أما مُتفلسفة هذا العصر من المسلمين، [بيت القصيد في فصول كبيرة من العمل، رغم أن المؤلف لا يستشهد بأي رأي صادر عن هؤلاء، على اعتبار أن لائحة المراجع تضمنت فقط المراجع الأجنبية] فلم يتكلفوا حتى عناء التوفيق بين الفلسفة الغربية والإسلام، بل أخذوا يتلقفون قضاياها تلقفا أشبه باللقم منه بالتلقي، ويُقلدون مفكريها التقليد الأعمى، وهؤلاء، للمفارقة، أبعد ما يكون من المتقدمين عن الفلسفة الإسلامية، فلا هم قادرون على التصرف فيما يتلقفون، ولا، بالأحرى، هم يطيقون أن يتصوروا خلاف ما يُقلدون. (ص 20). ونطلع في مدخل الباب الثاني للعمل على تفاصيل أدق بخصوص بعض المآزق المعرفية التي يسقط فيها المُقلدون المنتمون إلى مجالنا التداولي، فمادام ديدن هؤلاء المقلِّدة هو الإقبال بالكلية على إنتاج المفكرين الذي ظنوا أنهم قطعوا صلتهم بالعالم الروحي، ثائرين على الكنيسة لأنهم لا يرومون إلا أن يَحظوْا بقسط من التقدم المادي، فقد فاتهم أن يتبيّنوا أن ما يتهافتون عليه من نظريات وأنساق فكرية لا يخول من أن يحمل آثار المعاني الدينية الكبرى لأصحابها، تثليثا وتجسيدا وتأليها، إما لأن قلوب هؤلاء أُشربت بها أيما إشراب، وإما لأنهم تعاطوا إلى إخفاء أصولها في الدين وإلباسها لباس العقل، فكان أن نقل هؤلاء المقلدون إلى ثقافتهم من هذه الآثار الدينية التي تخالف أصولها الاعتقادية ما ظنوه فكرا كونيا تتلقاه العقول السليمة بالقبول، وما هو، على الحقيقة، إلا مذاهب وآراء تخص ثقافة المنقول عنهم ولا تُلزم في شيء سواهم. (ص 134)
وفي سياق نقد التيار الدَّهراني، أو الدَّهرانيين، من مفكرين ومُقلدين وأتباع هؤلاء، أقام المؤلف الدليل على مسائل أساسية ثلاث: أولاها، أن دعوى "فصل الأخلاق عن الدين" التي يقوم بها الدَّهرانيون دعوى باطلة. والثانية، أن بطلان دعوى الدَّهرانيين في فصل الأخلاق عن الدين يستلزم بطلان تصوراتهم للأخلاق والدين. والثالثة، أن تقليد المثقفين: عربا ومسلمين، لهؤلاء المفكرين في تصوراتهم الباطلة للأخلاق والدين لا يُجديهم نفعا في دفع قرائهم، بأساليب ملتوية أو مشبوهة، إلى التسليم بالفصل بين الأخلاق والدين.

بتعبير آخر، توقف عنده مليا المؤلف في الفصل الأخير من الكتاب، إذا كان مفكرو الحداثة، بفصلهم الأخلاق عن الدين، قد ظلموا الأخلاق والدين معا، فإن ظُلم المقلدين ـ أو "مُحترفي التقليد"، من مُثقفينا للدين والأخلاق أعظم من ظلم الذين يُقلدون لأسباب عدة:

أحدها أنهم يُقلدونهم ويتبعونهم فيما لا ينبغي تقليدهم وابتاعهم، لأن، في مجالات تراثهم، غَناءً عن هذا الذي يقلدون ويتبعون فيه غيرهم.

والثاني، أنهم يقعون في تشويه ما ينقلون عن هؤلاء المفكرين، بحكم إنهم يقطعون المنقول عن سياقاته الأصلية.

والثالث أنهم يتعثرون في استيعاب مضامين ما يُقلدون، فضلا عن آلياتها التي هم أعجز عن الارتياض عليها كما يرتاض عليها أصحابها، إن لم يصل الأمر إلى تحميل هذه المضامين على محاميل وتأويلات هي نقيض دلالاتها في أصولها.

والرابع، أنهم يغالون في تصديق ما يقلدون إلى غاية أن يضفوا عليه صفة الإعجاز والتقديس.

والخامس، أنهم يشددون على قرائهم في التسمك بمنقولهم، بحجة أنه لا دخول إلى عالم الحداثة إلا من بابه، مُكرسين بشكل أو بآخر، عُقد تُبقيهم عبيدا يستمرئون عبوديتهم. (ص 184)

جاءت مُجمل مضامين الفصول السبعة التي تضمنتها أحدث إصدارات طه عبد الرحمن للترحال مع مفهوم الدَّهرانية في ثنايا بابين يتضمن أولهما مدخلا فرعيا وأربعة فصول، ويتضمن الثاني مدخلا فرعيا وثلاثة فصول؛

وهكذا أفرد المؤلف الباب الأول منها لنقد الأنموذج الدَّهراني، فأحصى له صيغا أربعا هي "الصيغة الطبيعية" و"الصيغة النقدية" و"الصيغة الاجتماعية" و"الصيغة الناسوتية" (موضوع الفصل الأول)؛ مُبيّنا كيف أن هذه الصيغ الدَّهرانيَّة تنبني على تصورات عن علاقة الإله بالإنسان تنُمُّ عن بؤس فكري شديد، وهي "التصور الخارجي" و"التصور التسيّدي" و"التصور التجزيئي" (موضوع الفصل الثاني)؛ ثم اجتهد المؤلف ـ كما جرى في أغلب أعماله، بعد نقد الدعاوى لينتقل في مرحلة ثانية نحو الإتيان ببديل ـ في وضع أنموذج بديل يجتنب الشبهات والأخطاء التي وقع فيها هذا الأنموذج الدَّهراني، واصطلح عليه اسم "الأنموذج الائتماني"، ما دام يرفع شعار الفلسفة الإصلاحية الائتمانية، ويتأسس هذا النموذج البديل على مبادئ خمسة مأخوذة من مفاهيم محورية في الثقافة الإسلامية، وهي: "الشهادة" و"الأمانة" و"الآية" و"الفطرة" و"الجمْع" (موضوع الفصل الثالث)؛ وأخيرا تطرق إلى ما سماه "ظلم الدَّهرانيَّة"، مُوضّحا كيف أن التصورات الدَّهرانيَّة أضرت بماهية الإنسان، دينيا وخُلُقيا (موضوع الفصل الرابع)، وهذه جزئية دقيقة وهامة جدا، تتطلب الكثير من التفكر لأهميتها وراهنيتها، ونوجز أهم مضامينها كما جاءت في خاتمة هذا الفصل، حيث اعتبر طه عبد الرحمن أن "المفكرين الدَّهرانيين بنوا تصورهم للأخلاق على مُسلَّمات أحصى منها أربعا تؤدي كلها إلى إلغاء الأخلاق؛ أولاها "التزام الأخلاق الواحدة"؛ والثانية "الأخلاق بلا عبادة"؛ والثالثة "الأخلاق بلا شهادة"؛ والرابعة "الفرق بين الأخلاق والروح"، مُوضحا ومُشتغلا على بطلان هذه المُسلمات، فتكون الأخلاق الدهرية التي وضعها هؤلاء عبارة عن أخلاق ذاتية أو "نفسية"، أي أخلاق قائمة على "النسبة" أو "المِلكية"؛ والأخلاق التي تكون بهذا الوصف أخلاق بلا روح؛ والأخلاق بلا روح كَلا أخلاق، فلا تنفع الإنسانَ في خاصيته الإنسانية، ولا، بالأحرى تنفعه، في خاصيته الروحية؛ وفي هذا غاية الظلم لأخلاقية الإنسان في بعدها الروحي؛ فلولا أن هذه الأخلاقية تحفظ خاصيته الإنسانية، لَتردّى إلى درك البهيمية؛ ولولا أنها تحفظ خاصيته الروحية، لَتردّى إلى درك الشيطانية" (ص 128).. لهذا نجدّد التذكير بأن المعني هنا بهذا التنظير، في هذا العمل وغيره، يُلقب بفيلسوف الأخلاق الأبرز في المجال التداولي الإسلامي العربي.

أما الباب الثاني فقد خُصّصَ لنقد التقليد الفكري الذي اندفع فيه المثقفون في المجال التداولي الإسلامي، حيث توقف المؤلف مليا عند طبيعته التي وصفها بالغريبة وآثاره السيئة؛ كما وقف عند دعاوى ثلاث يقوم عليها الاتجاه الدَّهراني في الأخلاقيات، دعاوى قلّد فيها هؤلاء المثقفون مفكري الحداثة (هناك في المجال التداولي الغربي)، وهي: "حصر الأخلاق في التعامل مع الآخر" و"الفرق بين الديني والروحي" و"دهرية الروحانيات" (وليس الروح، أو الروحي، حيث يقصد بالروحانيات هنا ـ كما جاء في تدقيق تضمنه المدخل العام للكتاب ـ النزعات التي تبالغ في الانتساب إلى المجال الروحي، بحيث قد تنكر الوجود المادي بالمرة، وقد لا يكون تحتها أي روحيات حقيقية، وإنما هي رياضات بدنية للتغلب على بعض الدوافع النفسية، كما نجدها اليوم في بعض الروحانيات الأسيوية التي غزا بعضها المجتمع الغربي الحديث، هامش ص 23).

وهكذا تصدى المؤلف بالنقد والإبطال لهذه الدعاوى الثلاث (موضوع الفصل الخامس)؛ قبل أن ينعطف على أدلة متواترة ثلاثة يستند إليها أهل التقليد الفكري للقدح في روحيات التراث الإسلامي، وهي "توريث القيم البالية" و"ترك العلم" و"التمسك بالطقوس"، كاشفا وجوه تناقضها وتهافتها (موضوع الفصل السادس)، كما توقف عند معالم يؤس العقلانية التي تُميّز المقلّد، مُبيّنا كيف أنها عقلانية مقلوبة ومنكوسة معا، أي انقلب اتجاها الأفقي واتجاهها العمودي جميعا (موضوع الفصل السابع).

في أهم خلاصات الفصل الخامس المُخصص لنقض دعاوى "حصر الأخلاق في التعامل مع الآخر" و"الفرق بين الديني والروحي" و"دهرية الروحانيات"، يرى المؤلف أن الذي يأخذ بالروحانيات الحداثية، على شنيع تناقضاته، إنما يأخذ بالذي هو أدنى أو أفقر، على اعتبار أن الروحيات الائتمانية تتأسس على التزكية التي تعلو بدرجات على الروحانيات الحداثية، إذ تقوم، أصلا، على مبدإ الفطرة الذي يفتح الإنسان على أرحب وجود؛ فيلزم أن المقلّد إنما يؤْثِر البؤس الروحي لنفسه على الثراء الروحي الذي تورّثه هذه الروحيات العليا. (ص 154)، أما خلاصة الفصل السابع، فلا تقل أرقا عند أهل الحداثة المُقلدة، حيث اعتبر طه عبد الرحمن أن روحيات التسيُّد التي يُقلِّد فيها المثقف غيره من مُفكري الحداثة لن تورثّه إلا عقلا مقلوبا أو منكوسا أو هما معا؛ والعقل الذي يكون بهذا الوصف عقل ميئوس منه، لا هو يقدر على أن يدفع آفات المجتمع، ولا أن يقي أبناء هذا المجتمع من عثرات التاريخ؛ لأن من انقلب أو انتكس عقلُه، لا يُمكن أن يُرجى خيره، بل ينبغي أن يُتقّى شره، مُضيفا أنه ليس من سبيلٍ إلى دفع الآفات المجتمعية والعثرات التاريخية إلا بإنشاء إنسان جديد ينبذ التقليد نبذا كليا؛ فهذا الإنسان هو وحده الذي يكون قد تعاطى مناضلة نفسه، حتى استرجع فطرته الأولى، والأمل معقود على هذا الإنسان المُجدِّد في قيام مجتمع يستبدل بآفات الاجتماع آيات مُبهرات وفي تحقُّق تاريخ يستبدل بعثرات التاريخ ثورات مُبصرات. (ص 181)

في خاتمة الفصل والكتاب يؤاخذ طه عبد الرحمن الشيء الكثير على أهل الحداثة المُقلّدة، كونهم نسوا حقيقتين من حقائق التراث: إحداهما أن العبادة ظلت في ثقافتنا إلى اليوم أقرب إلى صورتها الفطرية، فلم يتصرف فيها أهلها بالتغيير والتعديل، عبر تاريخهم، تصرّف رجال الكنيسة في عبادتهم؛ والثانية أن العبادة فيها ذات صبغة خاتَمية، بحيث تنسخُ غيرَها ولا ينسخها، مما يجعل قدرتها على التواصل والعقل والتجديد أقرب إلى الصورة الفطرية للدين. (ص 184)، موجها لهم النصح بتدارك ما يمكن تداركه عبر طريقين اثنين، يوصلان إلى الصورة الفِطرية لدينهم؛ أحدهما طريق التفقه، متى اكتفوا بالنظر؛ إذ يُطلعهم على الطرق المميَّزة التي اتُّبِعت في حفظ دينهم، نصوصا وأعمالا؛ والثاني طريق التزكية متى أخذوا بالعمل؛ إذ يُزيل عن الفطرة ما غشَّاها، مع مرور الزمن، من طبقات دنيوية مُترسّبة، مفجِّرا طاقتها الروحية على مقتضى ما جاء به دينهم؛ وعلى هدا، فظلم المُقلدة الدَّهرانيين للماهية الدينية والخُلُقية للمسلم أنكى من ظلم مُفكري الحداثة الدَّهرانيين للماهية الدينية والخُلُقية للمسيحي. (ص 186)

نختتم هذا العرض بإشارة لطيفة، نعتقد أنها حُبلى بالدلالات: باستثناء الاستشهاد ببعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ومقتطفات عابرة من بعض أعماله السابقة ("العمل الديني وتجديد العقل"، "اللسان والميزان"، "فقه الفلسفة: القول الفلسفي"، "روح الدين".. وبالكاد)، فإن العمل لم يتضمن أي مراجع باللغة العربية، والمُطلع على لائحة المراجع التي جاءت في آخر الكتاب (من ص 187 إلى ص 191، وضمت حوالي 80 مرجعا)، سيعاين لائحة لمراجع أجنبية، لفلاسفة غربيين قدامى ومعاصرين، فيما يُشبه انخراطا للمؤلف في حالة "اشتباك معرفي" مع الفكر الغربي تحديدا، باعتباره ـ أي المؤلف ـ قلما محسوبا أو منتميا إلى المجال التداولي الإسلامي، وبالتالي، يمكن قراءة العمل باعتباره مساهمة لفيلسوف مُسلم في سياق دحض الأطروحات الغربية المروجة للدَّهرانية والدُّنيانية. (من باب التذكير فقط، العنوان الفرعي لكتاب "سؤال الأخلاق" والصادر في غضون سنة 2000، كان كالتالي: "مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية").

تأسيسا على ما سبق، يتضح أن الفيلسوف المُجدد طه عبد الرحمن لا زال وفيا لمشروعه الإصلاحي القائم على مرجعية الإصلاح الأخلاقي، أولا وأخيرا، منذ أولى إصداراته في هذا الصدد (نخص بالذكر هنا، كتابه المرجعي "العمل الديني وتجديد العقل") حتى كتابه هذا، والمؤلفات القادمة، بحول الله.

بالتوفيق 2014-02-16 12:43

رد: طه عبد الرحمن فيلسوف الأخلاق
 
http://img32.imageshack.us/img32/7599/ppwy.jpg

خادم المنتدى 2014-03-01 08:22

رد: طه عبد الرحمن فيلسوف الأخلاق
 
http://img824.imageshack.us/img824/1716/is3.gif

بالتوفيق 2014-03-01 09:30

رد: طه عبد الرحمن فيلسوف الأخلاق
 
بارك الله فيكم أخي الكريم على المواكبة و الاهتمام

أحمد نجيب 2 2014-03-01 16:36

رد: طه عبد الرحمن فيلسوف الأخلاق
 
شكرا لك لك جزيلا وبارك الله فيك

بالتوفيق 2014-03-02 09:08

رد: طه عبد الرحمن فيلسوف الأخلاق
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أحمد نجيب 2 (المشاركة 722428)
شكرا لك لك جزيلا وبارك الله فيك


الشكر موصول لكم على العناية و المتابعة و الاهتمام

صانعة النهضة 2014-03-06 10:48

رد: طه عبد الرحمن فيلسوف الأخلاق
 

صانعة النهضة 2014-03-06 10:50

رد: طه عبد الرحمن فيلسوف الأخلاق
 
مباشر من قناة الجزيرة


http://i1.ytimg.com/vi/XtAzecbs7aU/hqdefault.jpg

صانعة النهضة 2014-03-06 10:53

رد: طه عبد الرحمن فيلسوف الأخلاق
 
الملك محمد السادس يكرم الفيلسوف المغربي الكبير الدكتور طه عبد الرحمان




http://afkarmoassira.com/imagesnews/1390476637.jpg




أفكار معاصرة - وكالات


أضيف في 23 يناير 2014 الساعة 30 : 11




كرم الملك محمد السادس الفيلسوف الصوفي طه عبد الرحمن، خلال ترؤسه مساء الاثنين بمسجد أبي العباس السبتي بمراكش، حفلا دينيا إحياء لليلة المولد النبوي الشريف.

جاء ذلك بعد أن سلم الملك لطه عبد الرحمن جائزة محمد السادس للفكر والدراسات الإسلامية (شهادة تكريمية).

وتمنح هذه الجائزة كل سنة كمكافأة للشخصيات العلمية المرموقة لتشجيع المغرب على إنجاز أبحاث عالية المستوى في مجال الدراسات الإسلامية.

وحصل المفكر والمتصوف طه عبد الرحمن على جائزة المغرب للكتاب التي فاز بها مرتين، وجائزة منظمة الإسيسكو (المنظمة الإسلامية للثقافة والعلوم والتربية‏‏) في الفكر الإسلامي والفلسفة عام 2006.

ولد طه عبد الرحمن سنة 1944 بمدينة الجديدة (غربي المغرب) وهو أكاديمي متخصص في المنطق وفلسفة اللغة والأخلاق، وهو أستاذ في جامعة محمد الخامس بالرباط منذ 1970 إلى حين تقاعده عام 2005.

ومن مؤلفاته “اللغة والفلسفة. رسالة في البنيات اللغوية لمبحث الوجود” (بالفرنسية)، و”رسالة في منطق الاستدلال الحجاجي والطبيعي ونماذجه” (بالفرنسية)، و”المنطق والنحو الصوري”، “في أصول الحوار وتجديد علم الكلام”، “العمل الديني وتجديد العقل”، “تجديد المنهج في تقويم التراث”، “فقه الفلسفة”، “سؤال الأخلاق.. مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية”، و”روح الدين.. من ضيق العَلمانية إلى سعة الائتمانية”.

وتحاول الدولة منذ سنوات تشجيع التصوف من اجل ان ينافس الاسلام السياسي وان لا يترك له المجال فارغا للانتشار ولهذا يوجد على راس وزارة الأوقاف منذ اكثر من عشر سنوات وزير أوقاف صوفي هو احمد التوفيق



بالتوفيق 2014-03-06 12:13

رد: طه عبد الرحمن فيلسوف الأخلاق
 
شكرا جزيلا لكم صانعة النهضة على الإضافات المهمة في الموضوع

تحياتي و تقديري الكبيرين

صانعة النهضة 2014-05-14 09:37

رد: طه عبد الرحمن فيلسوف الأخلاق
 
الفيلسوف طه عبد الرحمن.. نقد للحداثة وتأسيس للأخلاقية الإسلامية



http://t1.hespress.com/cache/thumbna..._915966983.jpg



بخطاب المهتم بالإصلاح الأخلاقي، وبلهجة السائل عن حدود انعكاس التصورات الغربية المعاصرة المتداولة حول "ماهية الإنسان" وحدود علاقته بالخالق، وبالدين والأخلاق على الواقع الإسلامي، انبري الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن، خلال محاضرة علمية سنوية نظمها مركز مغارب للدراسات في الاجتماع الإنساني نهاية الأسبوع الماضي، لمواصلة الدفاع عن مشروعه الفكري في نقد روح الحداثة الغربية، وبيان ضعف نظريتها القائمة على إقامة الحد الفاصل بين الدين وغيره من الموضوعات كالسياسة والأخلاق، وخطورة مآلاتها التي انتهت إلى الدعوة "للخروج من الأخلاق وإقبارها".


ويعود عبد الرحمن، خلال هذا الدرس الفلسفي، الذي من المرتقب أن يشكل أرضية لإصداره الفكري المقبل، إلى طرح موضوع فصل النظرية الغربية بين الدين والسياسة وإعلان اشتباكها مع الفكرة الدينية في ارتباطها بسائر مجالات الحياة، باعتباره موضوعا سجاليا.


وفي زمن الربيع العربي، أضحت هذه الإشكالات تثير لدى النخبة الثقافية كما لدى رجل الشارع تساؤلات مقلقة، خاصة في ظل سياق ماتزال شعوب المنطقة تبحث فيه عن نموذج لبناء دولتها وتأسيس قيم اجتماعها السياسي، ما يفرض أيضا على الفكر الإسلامي إعمال النظر، والاستعانة بالنقد والتحليل، والبحث عن سبل التجديد، واضعا جملة هذه النظريات تحت مجهر العقل.


وفي هذا السياق، يرى عبد الرحمن، أن الفلسفة الغربية، بعد إقرارها بالعلمانية أو ما يسميه بـ"الدنيانية" كفصل كلي للدين عن السياسة، واعتنقت ما يطلق عليه "الدهرانية" كفصل للدين عن الأخلاق وربطها بقيمة عقلية مجردة، ستعلن في وقت لاحق خروجها الكلي عن هذه الأخلاق ونفيها لها وإقبارها، لتنحدر بالإنسانية إلى دركات "موت القاعدة الأخلاقية".


وهو ما يجد صداه حسب المفكر المغربي في ظواهر أضحت مشاعة في المجتمعات المتقدمة المعاصرة، ومشروعة بقوة القانون داخلها كـ"المثلية الجنسية"، أو "قتل المرضى والمحتضرين الميؤوس منهم" (الموت الرحيم)، وهذا التوجه يٌطلق عليه عبد الرحمن "مابعد الدهرانية".


سهام النقد الصريح وجهها الفيلسوف المغربي بشكل مباشر لمفكرين ومثقفين ''من أبناء الثقافة العربية والإسلامية'' الذين نزعوا إلى تبني هذا الاتجاه الــ"مابعد الدهراني" الداعي إلى الخروج عن الأخلاق كلية، لا فصلها عن الدين فحسب، أو ربطها بقيمة مجردة كونية كما يدعو إلى ذلك كانط، ليُحلق بهم وصف " المُقلدين" الذين سقطوا في "التخلف الجذري"، والذين يسوغون الانعكاسات الخطيرة لهذا "الشرود الأخلاقي" في الحياة العامة للناس.


ويرى الفيلسوف المغربي أن التيار الغربي الداعي إلى الخروج عن الأخلاق المُروق عنها، اختار وضع "الإنسان" ضمن ثلاث صيغ رئيسية، عبر عنها 3 مفكرين غربيين في مقدمتهم الألماني "فريدريك نيتشه"، الذي سوق لنموذج "الإنسان الفائق" منزعه الاستجابة للغرائز وتمجيدها، واعتبار الروح لا تعدو كونها "مُسخَّرة للجسم"، أما المفكر الفرنسي "جورج باتاي" الذي يقدم نموذجا "للإنسان السيد" فيميل تصوره إلى عبادة "الجسد الخالص" ونزع كل قيمة أخلاقية أوعقلية على الفعل الإنساني، وآخر هذه الصيغ نموذج "الإنسان المارد" الذي طرحه المفكر الفرنسي " ماركيز دي ساد" ، فهو نموذج الإنسان المُحب للإفساد، داعيا إلى هتك كل قيمة أخلاقية أيا كانت مرجعيتها، بل لا يرى تحقق ذاته إلا في حين يتجاوز تلك القيم و يعمد إلى ارتكاب الأفعال الشنيعة المنافية للفطرة الإنسانية.


هذه "الصور الإنسانية" التي أعاد طه عبد الرحمن تحديد ملامحها، مستعينا بأدوات التحليل النقدي الفلسفي، تدفعه إلى التحذير من "سيادة" هذه الثقافة، التي تقبر الأخلاق وتنفيها، مفصحا عن توجسه من تسللها لتحتل مكان ثقافات ورؤى أخرى، فتلبس بذلك لباس "الثقافة السائدة"، في الوقت الذي تخالف فيه كل فطرة إنسانية سليمة، وتدعو لـ"التعدي" على المقدس وإنكاره، وتُلغي القاعدة الأخلاقية، وتجعل ذات لا محدود القدرات .
ومن هذا المنطلق يدعو المفكر المغربي إلى إعادة تجديد الفكر الإسلامي، واعتماد وسائله وعُدته المعرفية بما فيها الأدوات التراثية لدراسة الواقع الإسلامي ونقد ما يفد إليه من أفكار وأطروحات، والعمل على إبداع الحداثة من داخله، لا استرادها من الخارج، فمتى استكانت عقول الثقافات الأخرى عن البحث والتفكير، سادت هذه "الثقافة" (الداعية للخروج عن الأخلاق)، وعملت على "قتل" أرواح الثقافات والحضارات أخرى، لتعيش "هي" على رفاتها.


أما فصل الدين عن مناحي الحياة المختلفة، كما تقره النظرية الغربية، وإخراجه من السياسة والأخلاق وغيرها من المجالات، فالرد عليها عند طه عبد الرحمن ينبني على الفكرة الإسلامية القرآنية القائمة على "ائتمانية" الإنسان، والتي تحمله مسؤولية الأمانة على الأرض، وتزكيته فتدفعه لمجاهدة نفسه من أجل تحقيق القيم الأخلاقية، وتذكره "بشاهديته" على وحدانية الخالق بما ينسجم وفطرته، وهذه الفكرة الإسلامية كما استنبطها "طه عبد الرحمن" تجعل من الدين عنصرا قويما وأساسيا لا يؤثث مختلف تفاصيل الحياة فقط، بل ويربطها بغايات سامية، تتواءم والفطرة الإنسانية.


ويعد المفكر المغربي طه عبد الرحمن (مواليد 1944) أحد أبرز المفكرين في العالم الإسلامي الذي أولوا عناية بالغة بفلسفة الأخلاق، دون النزوع إلى اعتناق مذهب سياسي أو إيديولوجي معين، ولعل المشروع الإصلاحي الإسلامي التي يدعو فيه طه عبد الرحمن إلى ربط الصلة مع الأخلاق لا الانفصال عنها، يجد جذوره في التكوين والتربية الصوفية التي تلقاها هذا المفكر، لتجعل منه أحد أهم دعاة النظر إلى الدين الإسلامي في بعده الروحي والأخلاقي.


وعلى غرار فلاسفة مغاربة كمحمد عابد الجابري وعبد الله

العروي، انشغل طه عبد الرحمن بالبحث عن سبل تجديد الفكر العربي الإسلامي، ونهضة الشعوب المنتمية إلى الرقعة الجغرافية العربية، وحينها استقر رأي الجابري على أن "إعادة قراءة التراث" وتمحيصه هي الحل للخروج من المأزق الحضاري للثقافة العربية الإسلامية.


واعتبر عبد الله العروي أن الضروري إعلان "القطيعة الكبرى" مع كل موروثات هذه الثقافة، والدخول في غمار الحداثة وفقا لشروطها، فيما بنى طه عبد الرحمن مشروعه الفكري على البعد الأخلاقي في التجربة الإسلامية، عائدا إلى أصولها ونصوصها المؤسسة لمساءلتها واستنباط الأدوات المعرفية الكفيلة بنقد الحداثة الغربية وتجديد الفكر الإسلامي من الداخل.


ويجنحُ طه عبد الرحمن إلى إبداع نحت المطلحات الفلسفية التي يستند إليها في عرض أطروحاته وتأسيسها، ويجعل منها أداة مفاهيمية أساسية في تشكيل المعنى، فيرفض القول بـ"العلمانية" ويسميها "الدٌنيانية" (الدنيا)، ويسمي فصل الدين عن الأخلاق "دهرانية" (دهر)، بينما يطلق على الخروج عن الأخلاق (مابعد الدهرانية) وجميعها مفردات مستحدثة أبدعها هذا المفكر مستندا إلى الموروث اللغوي العربي والتفسيرات القرآنية لهذه المصطلحات.


وبدأ طه عبد الرحمن، تدريس الفسلفة والمنطق، بجامعة محمد الخامس بالعاصمة الرباط، منذ سنة 1970، وحصل على دكتوراه الدولة من جامعة السربون في باريس في شعبة الفلسفة، وقام بتأليف عدة مؤلفات من أهمها "روح الحداثة"و "العمل الديني وتجديد العقل" و"روح الدين"، آخرها كتابه "بؤس الدهرانية".


*وكالة أنباء الأناضول
ماي 2014



بالتوفيق 2014-05-14 17:34

رد: طه عبد الرحمن فيلسوف الأخلاق
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة صانعة النهضة (المشاركة 741784)
الفيلسوف طه عبد الرحمن.. نقد للحداثة وتأسيس للأخلاقية الإسلامية



http://t1.hespress.com/cache/thumbna..._915966983.jpg



بخطاب المهتم بالإصلاح الأخلاقي، وبلهجة السائل عن حدود انعكاس التصورات الغربية المعاصرة المتداولة حول "ماهية الإنسان" وحدود علاقته بالخالق، وبالدين والأخلاق على الواقع الإسلامي، انبري الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن، خلال محاضرة علمية سنوية نظمها مركز مغارب للدراسات في الاجتماع الإنساني نهاية الأسبوع الماضي، لمواصلة الدفاع عن مشروعه الفكري في نقد روح الحداثة الغربية، وبيان ضعف نظريتها القائمة على إقامة الحد الفاصل بين الدين وغيره من الموضوعات كالسياسة والأخلاق، وخطورة مآلاتها التي انتهت إلى الدعوة "للخروج من الأخلاق وإقبارها".


ويعود عبد الرحمن، خلال هذا الدرس الفلسفي، الذي من المرتقب أن يشكل أرضية لإصداره الفكري المقبل، إلى طرح موضوع فصل النظرية الغربية بين الدين والسياسة وإعلان اشتباكها مع الفكرة الدينية في ارتباطها بسائر مجالات الحياة، باعتباره موضوعا سجاليا.


وفي زمن الربيع العربي، أضحت هذه الإشكالات تثير لدى النخبة الثقافية كما لدى رجل الشارع تساؤلات مقلقة، خاصة في ظل سياق ماتزال شعوب المنطقة تبحث فيه عن نموذج لبناء دولتها وتأسيس قيم اجتماعها السياسي، ما يفرض أيضا على الفكر الإسلامي إعمال النظر، والاستعانة بالنقد والتحليل، والبحث عن سبل التجديد، واضعا جملة هذه النظريات تحت مجهر العقل.


وفي هذا السياق، يرى عبد الرحمن، أن الفلسفة الغربية، بعد إقرارها بالعلمانية أو ما يسميه بـ"الدنيانية" كفصل كلي للدين عن السياسة، واعتنقت ما يطلق عليه "الدهرانية" كفصل للدين عن الأخلاق وربطها بقيمة عقلية مجردة، ستعلن في وقت لاحق خروجها الكلي عن هذه الأخلاق ونفيها لها وإقبارها، لتنحدر بالإنسانية إلى دركات "موت القاعدة الأخلاقية".


وهو ما يجد صداه حسب المفكر المغربي في ظواهر أضحت مشاعة في المجتمعات المتقدمة المعاصرة، ومشروعة بقوة القانون داخلها كـ"المثلية الجنسية"، أو "قتل المرضى والمحتضرين الميؤوس منهم" (الموت الرحيم)، وهذا التوجه يٌطلق عليه عبد الرحمن "مابعد الدهرانية".


سهام النقد الصريح وجهها الفيلسوف المغربي بشكل مباشر لمفكرين ومثقفين ''من أبناء الثقافة العربية والإسلامية'' الذين نزعوا إلى تبني هذا الاتجاه الــ"مابعد الدهراني" الداعي إلى الخروج عن الأخلاق كلية، لا فصلها عن الدين فحسب، أو ربطها بقيمة مجردة كونية كما يدعو إلى ذلك كانط، ليُحلق بهم وصف " المُقلدين" الذين سقطوا في "التخلف الجذري"، والذين يسوغون الانعكاسات الخطيرة لهذا "الشرود الأخلاقي" في الحياة العامة للناس.


ويرى الفيلسوف المغربي أن التيار الغربي الداعي إلى الخروج عن الأخلاق المُروق عنها، اختار وضع "الإنسان" ضمن ثلاث صيغ رئيسية، عبر عنها 3 مفكرين غربيين في مقدمتهم الألماني "فريدريك نيتشه"، الذي سوق لنموذج "الإنسان الفائق" منزعه الاستجابة للغرائز وتمجيدها، واعتبار الروح لا تعدو كونها "مُسخَّرة للجسم"، أما المفكر الفرنسي "جورج باتاي" الذي يقدم نموذجا "للإنسان السيد" فيميل تصوره إلى عبادة "الجسد الخالص" ونزع كل قيمة أخلاقية أوعقلية على الفعل الإنساني، وآخر هذه الصيغ نموذج "الإنسان المارد" الذي طرحه المفكر الفرنسي " ماركيز دي ساد" ، فهو نموذج الإنسان المُحب للإفساد، داعيا إلى هتك كل قيمة أخلاقية أيا كانت مرجعيتها، بل لا يرى تحقق ذاته إلا في حين يتجاوز تلك القيم و يعمد إلى ارتكاب الأفعال الشنيعة المنافية للفطرة الإنسانية.


هذه "الصور الإنسانية" التي أعاد طه عبد الرحمن تحديد ملامحها، مستعينا بأدوات التحليل النقدي الفلسفي، تدفعه إلى التحذير من "سيادة" هذه الثقافة، التي تقبر الأخلاق وتنفيها، مفصحا عن توجسه من تسللها لتحتل مكان ثقافات ورؤى أخرى، فتلبس بذلك لباس "الثقافة السائدة"، في الوقت الذي تخالف فيه كل فطرة إنسانية سليمة، وتدعو لـ"التعدي" على المقدس وإنكاره، وتُلغي القاعدة الأخلاقية، وتجعل ذات لا محدود القدرات .
ومن هذا المنطلق يدعو المفكر المغربي إلى إعادة تجديد الفكر الإسلامي، واعتماد وسائله وعُدته المعرفية بما فيها الأدوات التراثية لدراسة الواقع الإسلامي ونقد ما يفد إليه من أفكار وأطروحات، والعمل على إبداع الحداثة من داخله، لا استرادها من الخارج، فمتى استكانت عقول الثقافات الأخرى عن البحث والتفكير، سادت هذه "الثقافة" (الداعية للخروج عن الأخلاق)، وعملت على "قتل" أرواح الثقافات والحضارات أخرى، لتعيش "هي" على رفاتها.


أما فصل الدين عن مناحي الحياة المختلفة، كما تقره النظرية الغربية، وإخراجه من السياسة والأخلاق وغيرها من المجالات، فالرد عليها عند طه عبد الرحمن ينبني على الفكرة الإسلامية القرآنية القائمة على "ائتمانية" الإنسان، والتي تحمله مسؤولية الأمانة على الأرض، وتزكيته فتدفعه لمجاهدة نفسه من أجل تحقيق القيم الأخلاقية، وتذكره "بشاهديته" على وحدانية الخالق بما ينسجم وفطرته، وهذه الفكرة الإسلامية كما استنبطها "طه عبد الرحمن" تجعل من الدين عنصرا قويما وأساسيا لا يؤثث مختلف تفاصيل الحياة فقط، بل ويربطها بغايات سامية، تتواءم والفطرة الإنسانية.


ويعد المفكر المغربي طه عبد الرحمن (مواليد 1944) أحد أبرز المفكرين في العالم الإسلامي الذي أولوا عناية بالغة بفلسفة الأخلاق، دون النزوع إلى اعتناق مذهب سياسي أو إيديولوجي معين، ولعل المشروع الإصلاحي الإسلامي التي يدعو فيه طه عبد الرحمن إلى ربط الصلة مع الأخلاق لا الانفصال عنها، يجد جذوره في التكوين والتربية الصوفية التي تلقاها هذا المفكر، لتجعل منه أحد أهم دعاة النظر إلى الدين الإسلامي في بعده الروحي والأخلاقي.


وعلى غرار فلاسفة مغاربة كمحمد عابد الجابري وعبد الله

العروي، انشغل طه عبد الرحمن بالبحث عن سبل تجديد الفكر العربي الإسلامي، ونهضة الشعوب المنتمية إلى الرقعة الجغرافية العربية، وحينها استقر رأي الجابري على أن "إعادة قراءة التراث" وتمحيصه هي الحل للخروج من المأزق الحضاري للثقافة العربية الإسلامية.


واعتبر عبد الله العروي أن الضروري إعلان "القطيعة الكبرى" مع كل موروثات هذه الثقافة، والدخول في غمار الحداثة وفقا لشروطها، فيما بنى طه عبد الرحمن مشروعه الفكري على البعد الأخلاقي في التجربة الإسلامية، عائدا إلى أصولها ونصوصها المؤسسة لمساءلتها واستنباط الأدوات المعرفية الكفيلة بنقد الحداثة الغربية وتجديد الفكر الإسلامي من الداخل.


ويجنحُ طه عبد الرحمن إلى إبداع نحت المطلحات الفلسفية التي يستند إليها في عرض أطروحاته وتأسيسها، ويجعل منها أداة مفاهيمية أساسية في تشكيل المعنى، فيرفض القول بـ"العلمانية" ويسميها "الدٌنيانية" (الدنيا)، ويسمي فصل الدين عن الأخلاق "دهرانية" (دهر)، بينما يطلق على الخروج عن الأخلاق (مابعد الدهرانية) وجميعها مفردات مستحدثة أبدعها هذا المفكر مستندا إلى الموروث اللغوي العربي والتفسيرات القرآنية لهذه المصطلحات.


وبدأ طه عبد الرحمن، تدريس الفسلفة والمنطق، بجامعة محمد الخامس بالعاصمة الرباط، منذ سنة 1970، وحصل على دكتوراه الدولة من جامعة السربون في باريس في شعبة الفلسفة، وقام بتأليف عدة مؤلفات من أهمها "روح الحداثة"و "العمل الديني وتجديد العقل" و"روح الدين"، آخرها كتابه "بؤس الدهرانية".


*وكالة أنباء الأناضول
ماي 2014




شكرا جزيلا لكم سيدتي صانعة النهضة على هذه المساهمة الفعالة و تحيين المعلومات حول هذا المفكر العبقري الفذ

a.khouya 2014-05-14 18:10

رد: طه عبد الرحمن فيلسوف الأخلاق
 
ما أحوجنا لمثل هذه الشخصية العبقرية للرد على الذين شردوا.
جزيل الشكر على المعلومات القيّمة عن هذا المفكر المغربي.

بالتوفيق 2014-05-17 12:24

رد: طه عبد الرحمن فيلسوف الأخلاق
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة a.khouya (المشاركة 741857)
ما أحوجنا لمثل هذه الشخصية العبقرية للرد على الذين شردوا.
جزيل الشكر على المعلومات القيّمة عن هذا المفكر المغربي.


صحيح سيدي الكريم

يعتبر هذا المفكر من كنوز المغرب

شكرا جزيلا لكم على المواكبة الفعالة

صانعة النهضة 2014-05-17 19:50

رد: طه عبد الرحمن فيلسوف الأخلاق
 

صانعة النهضة 2014-05-17 19:52

رد: طه عبد الرحمن فيلسوف الأخلاق
 

بالتوفيق 2014-05-18 17:51

رد: طه عبد الرحمن فيلسوف الأخلاق
 
شكرا جزيلا لكم سيدتي الفاضلة

صانعة النهضة 2016-05-06 12:02

رد: طه عبد الرحمن فيلسوف الأخلاق
 
طه عبد الرحمن يستعرض أركان النظرية الائتمانية للحوار

http://t1.hespress.com/files/tahaune_404477925.jpg
منتصر حمادة
الجمعة 06 ماي 2016 -



حدث علمي واحتفالي احتضته مدينة الجديدة يومي الثلاثاء والأربعاء، 3 و4 ماي 2016، ويتعلق الأمر بمؤتمر دولي نُظم في موضوع: "إشكال العلاقة بين الحوار والأخلاق في الفكر المعاصر: مشروع الفيلسوف طه عبد الرحمن نموذجاً"، ونظمه مختبر الترجمة والتواصل والآداب بكلية الآداب والعلوم الإنسانية (جامعة شعيب الدكالي بالجديدة) بالتعاون مع مختبر الترجمة وتكامل المعارف بكلية الآداب والعلوم الإنسانية (جامعة القاضي عياض بمراكش) وفريق البحث في التعليم والترجمة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية (جامعة ابن زهر بأكادير).


تميز اللقاء بمحاضرة افتتاحية ألقاها الفيلسوف طه عبد الرحمن صباح الثلاثاء، وجاءت تحت عنوان: "الممارسة الحوارية بين المسؤولية والأمانة"، وعلى غرار ما جرى مع مضامين المحاضرة الافتتاحية لأشغال المؤتمر الثاني الذي نظم السنة الماضية بمراكش، حيث توقف طه عبد الرحمن بالعرض والنقد مع بعض اجتهادات فلاسفة علم النفس (جاك لاكان على الخصوص)، توقف في محاضرة المؤتمر الثالث بالعرض والنقد مع اجتهادات أحد رموز فلسفة الأخلاق في المجال التداولي الغربي، من خلال عرض ونقد اجتهاداته في موضوع الحوار، والحديث هنا عن الفيلسوف الفرنسي (من أصل ليتواني) إيمانويل ليفيناس.
"مواجهة" ليفيناس و"مواثقة" طه


افتتح طه عبد الرحمن محاضرته بالتأكيد على أن الممارسة الحوارية ليست مجرد صورة من صور الكلام، وإنما هي الأصل في وجوده، وقد خصّ الدخول في هذه الممارسة باسم مشتق من نفس المادة اللغوية، وهو المساءلة، باعتبارها الحوار الذي تتحدد فيه مسؤولية المحاور، مستعبداً التوقف عند الدلالة السياسية للمفهوم، والذي يواجه فيه المسؤول أسئلة الممثلين للشعب، ومفضلاً في المقابل، التوقف عند الحوار الديني الذي تلقى فيه الإنسان سؤال الإله قبل أن يتلقى سؤال الإنسان، تأسيساً على مصدرين اثنين: أحدهما المصدر التوراتي (من سفر التكوين، 4)، والآخر المصدر القرآني (الأعراف، 172 و173)، ومن هنا أسباب التوقف عند أعمال ليفيناس، لأنه كان متشبعاً بعقيدة دينية ومتضلعاً في التراث التلمودي، بل وضع مؤلفات مرجعية، وخَصَّ طه بالذكر كتابه الشهير "الوجود الكلي والآخر اللامتناهي"، وأيضاً كتابه الآخر "مغايرة الوجود".


هذا عن المصدر التلمودي في سؤال الحوار وهو الذي انتهى بليفيناس للحديث عن حوار "المواجهة"، مقابل حوار "المواثقة" عند طه عبد الرحمن في الشق الخاص بالمصدر القرآني، بتعبير آخر، الإحالة على المصدر التوراتي تُخوّل لطه أن يُسمي المسائلة بـ"المواجهة"، وحَدُّها أنها عبارة عن المساءلة التي يتساءل فيها الإنسان عن أداء واجبه، أما الإحالة على المصدر القرآني، فتصب في الحديث عن "المواثقة"، وهي عبارة عن المُسائلة التي يُسأل فيها الإنسان عن الميثاق الذي أُخِذ منه.


والحال أن التعامل مع الأصل الديني للمساءلة يختلف باختلاف هاتين الصورتين، أي "المواجهة" و"المواثقة"، حيث إن التعامل في سياق المواجهة يتأسّس على التنكر لمقتضيات هذا الأصل الديني، وهذا اصطلح عليه طه عبد الرحمن بالتغييب، بينما يقوم التعامل مع هذا الأصل الديني في سياق المواثقة على تذكر الأصل الديني، وهو ما اصطلح عليه بالتشهيد. (ومعلوم أن المحاضر اشتغل على مفهوم "التغييب" و"التشهيد" في كتابه "روح الدين" [2012])، وبالنتيجة، خلُصَ طه إلى أن "المواجهة" حوار يُغيب المسؤولية، بينما "المواثقة" حوار يُشهد المسؤولية.


بعد هذه التوطئة، سوف تتفرع المحاضرة على محوريين اثنين، جاء الأول بعنوان "حوار المواجهة وأخلاق المسؤولية"، وكان عبارة عن تعريف وتفصيل في أعمال إيمانويل ليفيناس، مع الرهان على تمرير ترجمة توصيلية لمفاهيمه، وفي مقدمتها تعريفه للحوار (من باب التذكير، يُفرق طه في كتابه "فقه الفلسفة: الفلسفة والترجمة" [1995]، بين الترجمة التحصيلية والترجمة التوصيلية والترجمة التأصيلية).


وهكذا، انطلق طه عبد الرحمن من تعريف ليفيناس للحوار قصد مناقشته، وجاء التعريف كالتالي: "إنه الخطاب الذي يدور بين الناس، وهو وجهاً لوجه"، متسائلين فيما بينهم ومتبادلين الأقوال والاعتراضات والأسئلة والأجوبة، ويُعرف ليفيناس المواجهة بكونها تربط بين طرفين متقابلين تقابلاً، لا اتحاد معه ولا اختزال ولا تنسيق، وهذا الطرفان هما الأنا والآخر.


وأضاف طه أنه بناءً على هذا التصور للمواجهة الذي يجعل منها حواراً حافظاً بين الأنا والآخر، وضع ليفيناس نظريته في الأخلاق، متأثراً بواقعة المحرقة النازية، حيث سيخلص ليفيناس إلى أن الأصل في الأخلاق هو الآخر [أو "الغيرية" بتعبير طه]، وليس طلب الكمال أو طلب الانسجام، أو مجاهدة الأهواء كما هو الشأن في نظريات الأخلاق السابقة، والنتيجة، أن علم الأخلاق عند ليفيناس ينزل منزلة الفلسفة الأولى، بما تطلب من المحاضر المزيد من شرح ونقد أطروحة ليفيناس، ولهذا السبب طلب طه من الحضور التركيز في المتابعة، من كثرة المفاهيم والتعاليق، خاصة أن المسألة تطلبت الاشتغال على ترجمة مفاهيم من مجال تداولي لآخر، واتضحت مرة أخرى أهمية تمكنه من اللغات الأجنبية في معرض الترحال مع المفاهيم، حتى إنه عرج [مرة أخرى] على اللاتينية في سياق تدقيق مفهوم "الجوابية" مثلاً.


يصعب تلخيص مضامين محاضرة ألقاها رائد الدرس المنطقي في مجالنا التداولي، وأحد رموز الكتابة العلمية الاستدلالية، وبالتالي، نتوقف هنا عند بعض الإشارات التي تضمنتها.


في تفاصيل أخلاق المسؤولية عند ليفيناس، أشار طه عبد الرحمن إلى أن مسؤولية المواجهة لدى ليفيناس تدل على المسؤولية التي يُطالب فيها السائل المسؤولية بإجابتين: إحداهما، أن يجيب عن سؤاله؛ والثانية، أن يجيب عن السائل؛ ليُطلق على هذه المسؤولية باسم "مسؤولية الجواب"، أو مفهوم "الجوابية"،


وهنا يتوقف طه عند مجموعة من المفاهيم المرتبطة باجتهادات ليفيناس، وما يهمنا أكثر في هذا العرض، بسط بعض معالم أشكال التغييب عند ليفيناس، كما سَطرها المحاضر، على أساس أن التغييب ــ حسب التعريف الطاهائي ــ معناه مُمارسة تنكّرية تقوم في إضفاء الكمالات الإلهية التي لا تُبصرها العيون، ولا تحيط بها العقول على ذات الإنسان، رفعاً لرتبته إلى رتبة الآلهة (وهو مراتب تختلف باختلاف هذه الكمالات الإلهية؛ وعلى صعيد آخر، أياً كانت درجته، لا يعني أن رفعه لذات لإنسان إلى رتبة الألوهية يُلغي مجمل صفاته البشرية، بل قد يحفظ بعض هذه الصفات، مستفيداً منها في مزيد المحو للحدود بين خاصية الألوهية وخاصية الإنسانية).


كما اعتبر طه عبد الرحمن أن نظرية المواجهة عند ليفيناس اتخذت لوناً متميزاً من ألوان الممارسة التغييبية في نطاق الحوار، وفي مقدمتها تغييب العلاقة التواجهية، مشيراً في هذا السياق، إلى أن النعوت التي نسبها ليفيناس إلى العلاقة التواجهية بين الأنا والآخر مأخوذة من النعوت التي توصف بها العلاقة الخطابية بين الإنسان والإله؛ حيث جعل ليفيناس من الآخر كائناً مُبايناً للأنا ومتعالياً عليه، وجعل هذه المباينة مطلقةً، وهذا التعالي لامتناهياً، والحال أن "المباينة المطلقة" و"التعالي غير المتناهي"، كمالان من الكمالات التي يختص بها الإله سبحانه، ومن هنا أسباب مؤاخذة طه على ليفيناس بممارسة التغييب، معتبراً أن هذا الأخير، أتى من التغييب ما ينزل الرتبة الثانية، وهي نقل أسماء الصفات الإلهية إلى الآخر، وهي المباينة والتعالي واللاتناهي والإطلاق.


بل أضفى ليفيناس على الأنا النعوت التي يُنعَت بها الإنسان في علاقته بربه، ناقلاً إلى التعامل بين الإنسان وأخيه الإنسان ما يجب في حق تعامل الإنسان مع خالقه، ومن هذه النعوت، ورد طه التكليف والامتثال والمقهورية والمملوكية، وحينئذ، يُضيف طه، لا نستغرب أن يصف ليفيناس الإله بـ"الآخر"، ويُزاوج بين حديثه عن الآخر وحديثه عن الإله، تارة مسوّياً بينهما في الصفات، حتى كأنهما ذات واحدة، وتارة مقارناً بينهما إلى حد أن يدّعي فضل الآخر على الإله، بل إن ليفيناس لجأ إلى الجانب الثاني من التغييب، وهو إضافة بعض الأوصاف الخاصة بالإنسان إلى الإله؛ من قبيل أنه نسَبَ إلى الإله "الافتقار" و"الضعف" و"الغربة"، حتى يَرُدَّ العلاقة بالإله إلى العلاقة بالإنسان الآخر.
توقف طه أيضاً عند معالم التغييب الذي مارسه ليفيناس على مستوى اللغة، وشمل ثلاث مراتب: الذات والصفات والأفعال، إذ جعل وجهَ الآخر المتكلم في رتبة ذات الإله المتكلمة؛ وجعل تكليمَه للأنا في رتبة تكليم الإله للإنسان؛ وجعل اتصالَه، وهو ذات متعالية ولامتناهية، بالأنا في رتبة اتصال الإله المتعالي واللامتناهي بالإنسان؛ وأخيراً، جعل أمرَه للأنا، إلزاماً وامتثالاً، في رتبة أوامر الإله للإنسان، إلزاماً وامتثالاً.
أركان النظرية الائتمانية للحوار
بعد هذا العرض والنقد لمفهوم "المواجهة" عند ليفيناس، آن الأوان للتوقف عند عناصر النظرية الائتمانية للحوار، كما سَطرها الفيلسوف المجدد طه عبد الرحمن، والمؤسّسة على أربعة أركان: الميثاق، الأمانة، الشهادة والمُخالقة، وتستند هذه الأركان جميعاً إلى مُسَلمة أولى، وهي أن المُواثقة تختص ببُعدين متلازمين ومتداخلين، وهما الامتداد والارتفاع: الامتداد لأن حوار المتواثقين يتعلق بشؤون هذا العالم، مادية كانت أو معنوية، بحيث يُصبح الامتداد في العالم هو مجال إسراء المتواثقين؛ وأما الارتفاع، فلأن سيْر هذا الحوار يتطلب التوجيه التقويم تطُلُّبَ الإسراء للدلالة والهداية، ولما كانت المواثقة حوار امتداد وارتفاع في نفس الآن، أي يُزاوج بين النظر الملكوتي وبين النظري المُلكي، لزم أن يتأسس، في كل واحد من أركانها، البعدُ الامتدادي على البعد الارتفاعي (أو البعد المُلكي على البعد الملكوتي).




نبدأ بركن الميثاق،
حيث اعتبر طه عبد الرحمن أن العلاقة الحوارية بين المتواثقين مؤسَّسَة بداية على الميثاق الأول الذي أُخِذَ منه في حوار مشهود، يوم أشهد الخالق سبحانه بني آدم، مخاطباً لهم كما في الآية "ألست بربكم، قالوا بلى..". [الأعراف، 172 ـ 173]، وسَطّر أهم خصائصها في نقاط ثلاث، وهي أن هذه العلاقة الحوارية تتسع لكل الرتب؛ كما أنها تتسع لكل الكائنات؛ وأخيراً، تشهد هذه العلاقة تبادل الثقة بين المتواثقين؛ (في الخاصية الميثاقية الثانية مثلاً، وبما أن المغرب مقبل هذه السنة على احتضان حدث كوني حول قمة الأرض، شاءت الأقدار أن يتوقف طه عند بعض الأمثلة التي تشرح مقتضى هذه الخاصية الميثاقية الثانية، مفادها أنه يمكن أن يُواثق أحد الطرفين الآخر على "حفظ البيئة" أو "حفظ الأرض" أو "حفظ المناخ" أو "حفظ الطبيعية"، باعتباره مُمثلاً للذرية أو البيئة أو الأرض أو المناخ أو الطبيعة التي هي المُواثق الأصلي).




فيما يتعلق بركن الأمانة،
فقد كان أساسه الملكوتي الثاني مُسطراً في آية المسؤولية ["إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض"، الأحزاب، 72]، وتتحدّد العلاقة الحوارية بين المتواثقين بالخصائص الائتمانية الثلاث الآتية: أنها علاقة اختيارية من الجانبين، مهما اختلافا في الرتبة؛ أنها علاقة إبداعية غير امتلاكية؛ أنها علاقة روحية بقدر ما هي عقلية. [ثمة لطيفة دقيقة في مضامين الخاصية الائتمانية الثانية، مفادها أنه لمّا كانت ذمة المُواثق مشغولة بواجب حفظ الأمانة الذي وُكل إليه، فقد أضحى يعتبر أن الأصل في الأشياء، أيا كانت، هو الإيداع، وليس الامتلاك].




أما ركن الشهادة،
فيستند على أساس ملكوتي هو الشاهدية الإلهية، وبناءً عليها، تتحدد العلاقة الحوارية بين المتواثقين بالخصائص الشهادية الأربع التالية: أنها علاقة بصرية بقدر ما هي علاقة قولية؛ أنها علاقة بصيرة بقدر ما هي علاقة بصَر؛ أنها علاقة شهادة بقدر ما هي علاقة مشاهدة؛ وأخيراً، أنها علاقة يدخل فيها نظر الشاهد الأعلى. [في الخاصية الشهادية الأولى مثلاً، يخلُص طه إلى أن تجاوُب البصر بوصف "المشاهدة" يكون سابقاً على تجاوب اللسان بوصف "المشافهة"].




نأتي أخيراً للركن الرابع، وهو ركن المخالقة سالف الذكر،
وأساسه الملكوتي هو الأسماء الحسنى، وتتحدّد العلاقة الحوارية بين المتواثقين بالخصائص التخالقية الأربع التالية: أنها تعاون على التخلق؛ أنها تعاون على المسؤولية؛ أنها تعاون على التجمل؛ وأخيراً، أنها تعاون على الرحمة. (خلُص طه هنا إلى أن الفضاء الحواري الذي يتأسس على الشاهدية الإلهية هو فضاء رحموتي بامتياز).




هذا غيض من فيض، ونبذة مختصرة، أو قل مختزلة، حول محاضرة تطرقت للفوارق الجوهرية بين النظرية الحوارية لأخلاق المسؤولية والنظرية الحوارية لأخلاق الأمانة، وإن كانت كلاهما تصل بين العالمين: المُلكي والملكوتي، بشكل أو بآخر، إلا أن الأولى تسلك طريق التغييب، مسندة الكمالات الإلهية إلى الإنسان كأنه من عالم الغيب؛ بينما تسلك الثانية طريق التشهيد، مخرجة المعاني الروحية المبثوثة في الفطرة إلى عالم الشهادة.


صانعة النهضة 2016-06-10 10:20

رد: طه عبد الرحمن فيلسوف الأخلاق
 
حوار طه عبد الرحمن ومطاع صفدي على أرضية فلسفة جيل دولوز





http://alarab.co.uk/empictures/slide/_12967_bjgghf.jpg



http://www.aljazeera.net/File/GetIma...f185e6/747/441






توفي المفكر السوري مطاع صفدي يوم فاتح رمضان1437/6يونيو2016،رحمه الله.


وهو من أكثر المفكرين العرب حماسة لفكر مابعد الحداثة،بعدما طلق نزعته الأيديولوجية البعثية.انغمس في الفلسفة الفرنسية،ودافع بحماسة وشراسة ويقينية عن فكرميشيل فوكو وجيل دولوز وجاك دريدا.وتكاد تكون مجلة#الفكر العربي المعاصر# ناطقا رسميا بهذا الاتجاه الفكري،وكان،رحمه الله، رئيس تحريرها.


اطلعت على كتابه:استراتيجية التسمية في نظام الأنظمة المعرفيه،ووجدت صعوبة في استيعاب الكثير من مضامينه.كما لم أستطع إتمام كتابه:فلسفة القلق،ولا كتابه:نقد العقل الغربي:الحداثة مابعد الحداثة.


ولكن ظللت حريصا على اقتناء مجلة:الفكر العربي المعاصر كلما وجدتها في الأكشاك.وكنت أطلع على دراساته الافتتاحية للمجلة.وعندما أصدر الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن كتابه:فقه الفلسفة2 القول الفلسفي،كتاب المفهوم والتأثيل،سنة1999،من منشورات المركز الثقافي العربي.وجدته في الباب الثالث يتعرض لنماذج من التأثيل المفهومي،وهي: الفلسفة والتأثيل عند هيدغر،وفلسفة الفلسفة والتأثيل عند جيل دولوز.وبعد أن أثبت طه أن فلسفة هيدغر هي ممارسة تأثيلية واسعة للمفاهيم الفلسفية،وأن هيدغر فيلسوف معاني لافيلسوف تصورات،تعرض لفسفة جيل دولوز والذي يعتبر الفلسفة ذات مهمة أصيلة وأساسية وهي:وضع المفاهيم،من خلال استثمار المعاني اللغوية والإمكانات التقابلية.فجيل دولوز يرى أن حاجة المفاهيم الفلسفية للسان الطبيعي أساسية؛إذ لا يمكن وضع الأسماء للمفاهيم دون التوظيف الأمثل للإمكانات الدلالية والتعبيرية لهذا اللسان.


فهذه العملية هي نوع من #التعميد#؛أي أن إطلاق الاسم على المفهوم الفلسفي هو تعميد له،بكل مايعنيه هذا التعميد،بنظر طه عبد الرحمن،من التزكية والتجديد والتحويل.


وهو مايبرز الجانب الإشاري في المصطلح الفلسفي.وقد اشتغل طه عبد الرحمن على كتاب جيل دولوزQU'EST-CE QUE LA PHILOSOPHIE، الذي ألفه مع صديقه فيليكس غاتاري،وهو كتاب مخصص للنظر الاستشكالي في المفاهيم الفلسفية.واستشهد طه عبد الرحمن بنص طويل لجيل دولوز يؤكد فيه أن المفاهيم الفلسفية تقترن أسماؤها بأسماء واضعيها؛فنقول:جوهر أرسطو،وكوجيطو ديكارت،والجزأ الذي لايتجزأ ل ليبنتس،وشرط الإمكان لكانط،وقوة شيلينغ،وديمومة بيرغسون.كما يحتاج بعض هذه المفاهيم الفلسفية إلى ألفاظ غريبة أو مستوحشة أو مستكرهة،وقد يحتاج البعض الآخر إلى ألفاظ مألوفة ومتداولة،تحوي نسقا من الدلالات لا تكاد تدركها أذن غير الفيلسوف.


وبعضها يحتاج المهجور من الألفاظ،والبعض يستدعي اللفظ المولد الذي يجري استثمار معانيه الأصلية بشكل يجاوز الحد المعقول.وهذا العمل الدقيق؛أي التسمية،هو نوع من التأثيل اللغوي كأنه رياضة تختص بها الفلسفة وحدها.فتسمية المفهوم الفلسفي،وفق جيل دولوز،عملية دقيقة وفنية تتطلب ذوقا فلسفيا حقيقيا يأخذ بعنف التصريح أو بلطف التلميح،عملية تنشئ داخل اللغة لغة للفلسفة،ليست مجرد معجم من الألفاظ بل نظاما من التراكيب التي ترقى إلى رتبة الجزالة الفخمة أو الطلاوة الأخاذة.وفي سياق هذا النقاش الفلسفي حول تسمية المفاهيم تعرض طه عبد الرحمن للمفكر السوري المرحوم مطاع صفدي الذي ترجم كتاب جيل دولوز المذكور.الترجمة التي صدرت عن مركز الإنماء القومي بتعاون مع المركز الثقافي العربي سنة1997.


وقد صنف طه ترجمة مطاع صفدي ضمن النوع التحصيلي،ضمن التقسيم الثلاثي الذي يضعه لأنواع الترجمات،كما بسطه في كتابه الضخم:فقه الفلسفة1،الفلسفة والترجمة،منشورات المركز الثقافي العربي،سنة1995.فقد حدد طه أنواع الترجمة في ثلاثة وهي:الترجمة التحصيلية والترجمة التوصيلية والترجمة التأصيلية.فالنوع التحصيلي،وهو الذي يصف به طه ترجمة مطاع صفدي،يجب ترك العمل به ماأمكن؛إذ يبقي على تمام التعارض بين الفلسفة والترجمة،وينقل كل ماتضمنه النص الأصلي،لفظا أو معنى،متمسكا بالصور التعبيرية للأصل على أساس أنها دليل على تمام المضمون الفكري،مما يوقع النص المترجم في تطويل العبارة بما يعقد الفهم ويبعد طريقه على المتلقي،كما أن بعض منقولات النص الأصلي قد تصادم مانشأ عليه المتلقي من اعتقادات في مجاله التداولي.أما النوع التوصيلي للترجمة فلا يتغلب على التعارض بين الفلسفة والترجمة،ولايستقل عن محاكاة النص الأصلي،وإن تجنب محاكاة صورته،كما لا يهتدي هذا النوع للعناصر الخادمة لخصوص التفلسف من العناصر الحاملة لعموم المعرفة،فيقع هذا النوع في التهويل المعرفي مما يوعر طريق الإنتاج الفلسفي على المتلقي.وأما النوع التأصيلي من الترجمة فإنه ينبني على لزوم الفلسفة لما يوافق الترجمة من الصفات،كما لاينقل من النص الأصلي إلا ما يناسب الأصول التداولية التي يأخذ بها المتلقي بعبارة مختصرة،مما يمكن المتلقي من وسائل التفلسف وشق طريق العطاء والإبداع.


فترجمة مطاع صفدي صنفها طه ضمن النوع التحصيلي،ورصد الآفات التي دخلت عليها من حيث الصياغة والإفادة،بما امتلأت به من وجوه القلق في التعبير والغموض في المضمون،فمما جاء في ترجمة مطاع صفدي للنص الذي اشتغل عليه طه وطبق على ترجمته مقتضيات النوع التأصيلي،قول صفدي:كلمة خارقة،ونقول في العربية:كلمة غريبة،أو كلمة غير مألوفة،أو كلمة حوشية،أوحتى كلمة وحشية،وجاء أيضا في نص صفدي:لاتترصدها الأذن،وفي العربية نقول:لاتدركها الأذن،وجاء أيضا:ينحت منطوقات،وفي العربية:يولد ألفاظا،كما ورد:تدشين المفهوم،والصواب تسمية المفهوم،أو وضع الاسم للمفهوم،أو إطلاق الاسم على المفهوم.كما تتبع طه جوانب من مظاهر الغموض المضموني في ترجمة مطاع صفدي؛من مثل ايراده كلمة:بعض،في موقعها الأول غير منسوبة إلى متعلقها،أو استعمال لفظ:الخالص في غير موضعه كما في قوله:الرياضة الفلسفية الخالصة،والمراد في الأصل هو:الرياضة التي تخص الفلسفة أو تختص بها الفلسفة،وفي قول صفدي أيضا:ذوقا فلسفيا خالصا،والمقصود في الأصل هو:ذوقا فلسفيا حقيقيا.واستعماله كذلك لفظ:السياق،حيث المراد في الأصل هو:التعبير المركب في مقابل:اللفظ المفرد.كما سجل طه خلط صفدي بين:علم الاصطلاح،وعلم الاشتقاق،وعلم التأثيل،وغيرها من الأمثلة.


فربما حماس مطاع صفدي لفسفة جيل دولوز وغيره من الفلاسفة الفرنسيين جعله يستهين بالمدخل اللغوي والتأثيلي الذي اقتفاه جيل دولوز بخصوصيته المتغلغلة في لسانه.فقد أثبت طه عبد الرحمن مالم ينتبه له مطاع صفدي في ترجمته لنص دولوز؛إذ وقف طه على إقرار جيل دولوز بالبنية الإشارية للمصطلحات الفلسفية،حتى جعل من التغلغل اللغوي للألفاظ مقصدا تتفرد به الفلسفة،ولو أنه لم يذكر الطريقة العامة التي اتبعها في استثمار إمكانات اللغة لبلورة مفاهيمه الفلسفية،عكس هيدغر الذي يطلع القارئ على طريقته في صناعة المفاهيم وفي تسميتها.ففلسفة جيل دولوز مملوءة بالمفاهيم الغريبة والحوشية والمتوعرة والخشنة،مستثمرا المخزون الدلالي للغته الفرنسية.


وعليه،ليست ترجمة مطاع صفدي لكتاب جيل دولوز،بنظر طه عبد الرحمن:إلا عقبة أخرى في طريق الوصول إلى الإبداع الفلسفي؛فقد أخطأت مقصدها التبليغي،وخاضت في أقوال لاعبارة فيها ولاإشارة تحتها.وهذا مايزيد يؤكد أن إحكام المدخل اللغوي في الترجمة،بكل مقتضايته التأثيلية أو التقابلية،هو المدخل الأساس للإبداع.








محمد همام


الساعة الآن 21:50

جميع المواد المنشورة بالموقع تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع ولا يتحمل أي مسؤولية عنها

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd