نظرية السلطة الرمزية عند بيير بورديو
بقلم : محمد بقوح
1 - عناصر أولية تمهيدية
ثمة علاقة جدلية بين الفكر الغربي الحديث ، كفعل تنظيري بجميع ألوانه و تياراته العديدة و المختلفة ، وكيفية ممارسة هذا الفكر في تنظيراته لمفهوم السلطة ، كمفهوم ثقافي وعملي ، هذه الممارسة التي تجاوز بها الفكرالغربي في بعده الحداثي الطرح التقليدي و البسيط ، الذي كان سائدا ومهيمنا ، في الفترة السابقة عليه ، و المرتبط أساسا بكل ما هو اقتصادي و إداري و سياسي ، في وقت ارتقى فيه هذا الطرح ، إلى مستوى أكثر فعالية و عقلانية و حداثية ، و ذلك بتحيين المنحى المنهجي و المعرفي العميق لمفهوم السلطة ، و محاولة ربطه ربطا محكما، بكل تجليات و تمظهرات جسد المجتمع ، كبنية متماسكة تعتبر وجوهها الرمزية و المخفية ، أهم وأخطر بكثير من واجهاتها المادية و الظاهرة البراقة .
وتجدرالإشارة ، إلىأن هذا التحول النوعي ، الذي شهده التعامل و البحث المختلفين في مفهوم السلطة ، جاء نتيجة طبيعية لتضافر الكثيرمن العوامل السوسيو اقتصادية و السياسية والثقافية و الحضارية ، التي كان لها الدور الأساسي و الأكبر في تطور الواقع الغربي المادي المعيشي والحضاري ، في جميع ميادين المجتمع الغربي ، سواء تعلق الأمر بالواقع الأمريكي أو الأوروبي ، ذلك التقدم التاريخي و الحضاري الهائل ، الذي كان له التأثير الإيجابي الأكبر و العميق على المستوى الفكري و الفلسفي و العلمي ، الأمر الذي أدى إلى ظهور، في أواخر القرن العشرين ، مجموعة من الأبحاث المهمة و الكتابات الجادة ، ذات البعد المتمرد على الطرح التقليدي الضيق لمفهوم السلطة ، و بذلك أسست لنفسها أفقا أكثر عمقا و أجدى عقلانية .
و يمكن اعتبار المفكر و الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو ، من أهم مؤسسي هذا الفهم الجديد لمفهوم السلطة ، و قد عرف باجتهاداته الهامة في مجال البحث الفلسفي الجذري ، خاصة في الطب العيادي وتاريخ الجنون ..، إلى جانب كل من ماكس فيبر و بييربورديو في مجال الدراسات الاجتماعية و علم الاجتماع الانعكاسي ، و قد حاولت هذه الأبحاث العلمية ، من خلال روادها الأساسيين ، طرح سؤال المنهاج الشامل و الناجع ، و أدوات تحليل الظواهرالاجتماعية و السياسية و الثقافية ، لهذا ستأخذ هذه الأعمال على عاتقها ، الانشغال أكثر و الاهتمام بعمق بطبيعة العوامل الخفية غير المباشرة ، و المتحكمة في المنظومة الرمزية المؤثرة بفعالية في أي مجتمع ، مهما كانت طبيعته و نوعية وضعه العام ، بجميع تجلياته و تشكيلاته . و من خلال مفاهيمها الإجرائية و أدواتها المعرفية و المنهجية ،المتميزة بطابعها الشمولي ، و ببعدها النقدي ،ستحاول هذه الأبحاث الفكرية الغربية الحديثة ،إعادة قراءة العديد من المواضيع الهامة في المجتمع، و التي يعتبر موضوع التعليم و التربية ، من أهم الأسئلة التي شغلت الكتاب و المنظرين في هذاالمجال .
وقد تم تعاملنا مع سؤال المؤسسة التعليمية ، كمنظومة عامة و شاملة و رمزية ، في علاقتها القوية بما يسمى سوسيولوجيا بالعنف الرمزي ، خاصة عند أهم رواده الأساسيين ، و نعني به بيير بورديو ،متسائلين عن مدى نجاعة هذه النظرية المعرفية ، وقيمتها المنهجية و التربوية ، من أجل الأخذ ببعض عناصرها المنهجية ، و محاولة الإستعانة بأهم جوانبها المشرقة ، و المناسبة لمنظومة التربية والتكوين المغربية ، التي ما فتئت تعيش منعطفا أساسيا في تاريخ النظام التعليمي بالمغرب الحديث .
-2صياغة نظرية عامة لمفهوم السلطة الرمزية
لتحديد مفهوم السلطة .. و السلطة الرمزية ، بالضبط، تنطلق نظرية بورديو من تقسيم العالم الاجتماعي ،إلى مجموعة حقول مستقلة نسبيا ، و فهم هذا العالم الاجتماعي ، يتوقف على البحث بعمق و بجدية كبيرة ، في كيفية اشتغال آليات حقول ذلك العالم الاجتماعي، من أجل الكشف عن واقعها و طبيعة منطقها الداخلي، في علاقته الجدلية بمفهوم السلطة . يقول ب . بورديوبهذا الصدد ، في حوار أجرته معه مجلة الفكر العربي المعاصر ، ع 37 ، دجنبر 1985 : ( إن السلطة ليست شيئا متموضعا في مكان ما ، و إنما هي عبارة عن نظام من العلاقات المتشابكة ، و نجد أن كل بنية العالم الاجتماعي ، ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار ،من أجل فهم آليات الهيمنة و السيطرة ) .
إن السلطة إذن ، حسب بورديو ، بمثابة نظام معقد ، يخترق العلاقات و الترابطات ، التي تشتغل داخليا ،بواسطة آليات دقيقة و جد فعالة ، تتحكم في البنية العامة لذلك النظام .
بالإضافة إلى أن هذا المنظور المنهجي في التحليل السوسيولوجي عند بورديو ، حريص كل الحرص ، على ربط مفهوم السلطة ، كركن إجرائي جوهري في الفعل التحليلي ، بمفاهيم أخرى ، لا تقل أهمية و قيمة ،من مفهوم السلطة ذاته ، و نذكر من بينها ، مفهوم النسق ، و الحقل ، و اللعب ...الخ ، و هي على كل حال ، مفاهيم تستمد أهميتها ، من تصور بورديو للبحث المنهجي و الأداة التحليلية ، المرتبطة باستراتيجية كونية و شاملة ، و المؤسسة على نظام مشروع فكري عقلاني جد حداثي ، لبناء و دراسة آليات و قوانين اشتغال بنية العالم الاجتماعي ، كما أسلفنا ، تحقيقا لهدف رئيسي ، هو صياغة نظرية عامة لمفهوم السلطة الرمزية pouvoir symbolique ، إلى جانب الاهتمام الكبير بتحليل أنساق أخرى عديدة ، و حقول اجتماعية مختلفة كالدين ، و الفن ، و اللغة ، و السكن ، و اللباس ، و الرياضة ، و الأذواق ، ...إلخ .
و انطلاقا من العدد الهائل من الدراسات ، والأبحاث التطبيقية الميدانية و أيضا النظرية ،التي أنجزها بيير بورديو ، مع الكثير من الدارسين و الباحثين الاجتماعيين الغربيين ، الذين اقتنعوا بالبعد الثوري الواضح ، و فعالية أدوات هذاالمنظور المنهجي و التحليلي الصارم ، يلاحظ أن السلطة الرمزية ، تستند عنده دوما ، إلى أسلوب التورية والاختفاء ، و هي لا يمكن أن تحقق تأثيرها المفترض، و تنفيذها بشكل فعال و إيجابي ، إلا من خلال التعاون الرئيسي الذي يجب أن تلقاه ، من طرف أغلبية الناس المعنيين بها ، و الذين تبدو لهم هذه الحقيقة وهمية ، و لا يعترفون بها .
يقول بورديو بهذا الصدد في ص 52، من كتابه الرمز و السلطة ( إن السلطة الرمزية هي سلطة لامرئية ، و لا يمكن أن تمارَس ، إلا بتواطؤ أولائك الذين يأبون الاعتراف بأنهم يخضعون لها ، بل و يمارسونها ) .
لهذا ، فتأثير السلطة الرمزية يكون أعمق و أخطر،لسبب بسيط ، يتمثل في كونه يستهدف أساسا البنية النفسية و الذهنية للمتلقين لها ، و بالتالي فهي – أي السلطة الرمزية – تمارس فعلها العميق ، و تخطط من أجل فرض و تحقيق الأهداف المرسومة و المتوخاة ، و إنتاج الأدوات و الآليات و المعايير المناسبة والناجعة ، لتثبيت و خلق واقع و وضع إنساني مرغوب فيه ، و مخطط له ، و تمارس سلطة الرمز كل هذه الأعمال و الأدوار بطريقة منظمة و بنائية ، و تحت غطاء الخفاء و الاختفاء ، وراء حجاب أقنعة المألوف العادي ، وأنظمة التقليد و القانون و الخطابات الشائعة بين عامة الناس .
3- حول تأسيس مغايرلعلاقة السلطة بمفاهيم أخرى
1- 3 الحقل واللعب و علاقتهما بالسلطة
إن اعتماد مفهوم الحقل ، في التحليل السوسيولوجي عند بورديو ، هو بمثابة تقنية إجرائية دقيقة و أساسية ، للتفكير بصيغة العلاقات ، أي التفكير على نحو علاقي و جدلى ، بدل التفكيربالطريقة البنيوية الجاهزة ، و الضيقة الأفق ، كما كانت سائدة و مهيمنة ، في بداية انشغال بورديو بموضوع السلطة الرمزية ( عصر انفجار الفكر البنيوي في أوروبا ) ، لهذا كانت أبحاثه المعرفية والعلمية عامة ، محاولة منه لتصحيح مسار فكري وفلسفي اقتنع به ، و مارسه بنقد و هدم الفكر السائد، و تأسيس الفكر الفعال و البديل .
يتشكل الحقل ، حسب بورديو ، من جملة علاقات موضوعية ، القائمة بين مجموعة من الأوضاع ، التي تحدد في وجودها بمحتليها ، و هؤلاء المحتلون لتلك الأوضاع ، إما أن يكونوا فاعلين أو مؤسسات ، حسب موقعهم الحالي أو المحتمل ، في بنية توزيع مختلف أنواع السلطة ( الرأسمال ) ، التي يتطلب امتلاكها بلوغ الأرباح الخاصة ، و هي شرط أساسي و مهم لتحقيق لعب متواز بين القوى الفاعلة في الحقل ، وفي الآن ذاته ، بواسطة علاقتهم الموضوعية بالأوضاع الأخرى ( سيطرة ، تبعية ، تطابق ..إلخ ) .
كما يرتبط مفهوم الحقل ، بمفهوم الرأسمال ارتباطا وثيقا ، من خلال التأكيد على أبعاده الثقافية والاقتصادية ، كقوة لها سلطة فعالة رمزية للقدرة على السيطرة على فضاء اللعب ، في الحقل المعني ، والذي من الطبيعي أن يشهد بدوره ، حركية داخلية مهمة و اشتغالا ديناميا محكما ، سيؤدي فيما بعد ،إلى نشوء نزاعات و التي ستتراكم و تختمر، لتنفجرفي المرحلة الموالية ، على شكل صراعات بين هذه القوى الفاعلة داخل حقل اللعب ( سواء كان لعبا طبيعيا أو سياسيا ، أو اجتماعيا أو فكريا أو دينيا أو ثقافيا أو حضاريا ...إلخ ) ، و ذلك بهدف الدفاع عن المكتسبات السابقة للقوى المتصارعة و الاحتفاظ عليها قدر الإمكان ، أو تحويل تشكل تلك القوى لصياغة خريطة جديدة ، تتناسب و وضع اللعب الجديد .
و لكي تتضح ملامح دلالة مفهوم الحقل ، كما يتصوره بورديو ، و يعمل به في تحاليله الاجتماعية ،يمكننا تقديم مثال عن حقل السلطة ، و هو المثال الذي كثيرا ما يستشهد به في العديد من كتاباته النظرية دعما و توضيحا لهذا المفهوم . فما المقصود إذن بحقل السلطة عند كاتبنا .؟ و ما هي مميزاته .؟
* إنه حقل قوى محددة ، في بنيته ، بحالة علاقة القوة بين أشكال من السلطة ، أو أنواع مختلفة من الرأسمال .
* هو حقل صراعات من أجل السلطة و السيطرة والهيمنة ، بين مالكي سلطات متباينة .
* إنه فضاء للعب ، يتواجه فيه فاعلون و مؤسسات ، يشتركون في امتلاك كم معين من الرأسمال الخاص ( ثقافي ، اقتصادي ..) ، و الغاية من تلك المواجهة ، هي تحقيق الرغبة في احتلال أوضاع مسيطرة في حقولهم الخاصة ، و العمل على تحريرها ( الحقل الاقتصادي ، وحقل الإدارة العليا للدولة ، الحقل الأكاديمي ،الحقل الفكري ) ، كما تهدف تلك المواجهة ، إلى الاحتفاظ بعلاقة القوة تلك ، أو محاولة تحويلها في صالحهم .
* الهدف من صراع القوى السابق ، هو فرض مبدأ السيطرة( سيطرة المسيطر ) ، الذي يمكن أن يصل في أية لحظة إلى حالة من التوازن ، ليتمكن بالتالي من اقتسام السلط فيما بينه و بين المتنازع الآخر ، أي تقسيم عمل السيطرة .
* هو أيضا صراع و نزاع من أجل فرض مبدأ الشرعنة(المشروعية ) ، أي إضفاء المشروعية و المصداقية ،على وضعية السيطرة المنفذة ، إلى جانب الحفاظ على نمط إعادة الإنتاج المشروع ، لأسس السيطرة المحققة .
و نشير الآن إلى أهم أنواع المجابهات و الصراعات و، الأشكال التي يمكن أن تتخذها تلك المواجهة :
أ - مواجهات واقعية ( حروب القصر و السياسة ) .
ب- مواجهات مسلحة ( بين السلطات الزمنية و السلطات الروحية ) .
ج – مواجهات رمزية ( صراعات فكرية ) .
2-3 حول علاقة نظريةالأنساق بنظرية الحقول
إن مفهوم الحقل عند بورديو ، يعمل على استبعاد كليا الطابع الآلي ، الذي يتميز به مفهوم الجهاز ، و تبعا لذلك يكون قد استبعد النظرية الوظيفية ، التي سبق أن انتقدها في العديد من كتاباته ، و بشكل يكاد يكون أحيانا قاسيا و عنيفا، و ازداد أكثر قربا و التحاما بالتاريخ و الفهم الجدلي للمجتمع . بالإضافة إلى أن الحقول ، كما هو واضح من خلال الفقرة السابقة ، لا تقوم على أجزاء أو مكونات ، بل هي تبدو فرعية ، لها منطقها الداخلي الخاص ، و انتظاماتها الخاصة بها . لهذا يرى بورديو ، و هو رأي كثيرا ما أورده و أكد عليه في العديد من كتبه ، أن الحقل هو لعب أعقد بكثيرمن كل الألعاب ، التي يمكن أن يتخيلها المرء .
4 - تحليل و دراسة حقل معين من حيث الخصائص والمراحل :
يميز بورديو بين ثلاثة لحظات أساسية لدراسة وتحليل حقل من الحقول ، وهي :
أ - لحظة تحليل وضع الحقلإزاء حقل السلطة
إن الحقل متضمن دائما ، بجميع علاقاته الموضوعية و الصراعية ، داخل حقل أوسع منه ، هو حقل السلطة . فالحقل الأدبي مثلا في المغرب متضمن في حقل السلطة ، بمعنى أن كل الكتاب و المثقفين بشكل عام ، هم فئة من شرائح المجتمع المغربي ،التي تنتمي إلى الشق المهيمن ( بفتح الميم ) عليه من طرف الطبقة المسيطرة .
ب - لحظة تحديد البنية الموضوعية ، للعلاقات بينالأوضاع المحتلة، من لدن الفاعلين أو المؤسسات ، الذين يتنافسون ويتصارعون داخل ذلك الحقل ، من أجل فرض السلطة ، والحفاظ على السيطرة .
ج - لحظة تحليل سموت(استعدادات ) الفاعلين ، التي اكتسبوها في إطار تواجدهم ، ضمن شروط الحقل المعني الاجتماعي والاقتصادي و الثقافي و السياسي .
إن المؤلف الذي لا يراعي ، أثناء تحليله لحقل معين، المراحل و اللحظات التحليلية السابقة ، و بنفس الأولوية الترتيبية ، لن يكون أي معنى للتحليل الذي أنجزه ، عند بورديو ، و لا يسمح له أن يزعم أنه مارس تحليلا سوسيولوجيا يذكر ، أو درس موضوعه الدرس المنتظر منه ، و بالتالي لا يستحق أن يكون مؤلفا ، حسب بورديو دائما ، لأن هذا الأخير ( المؤلف) ينبغي عنده أن يكون ذاتا محللة فاعلة ، على النحو العلمي الاجتماعي العميق ، كما حدده أعلاه ، و أن المهم في التحليل الاجتماعي الخلاق ، ليس عرض الإشكالات و وصف البنيات و تقديم المعلومات ، رغم الأهمية النسبية لهذا الجانب من المعرفة و فهم الظواهر ، و إنما المهم والأساس عند بورديو هو البحث و التنقيب في أسئلة الحقل ، و دراسة التفاعلات فيه ، و إثارة أكبر ما يمكن من إشكالاته ، و بالتالي يكون بذلك ، قد وصل إلى شط الأستاذية الحقة .