الحداثة والقرآن
"
يضع المؤلف شرطين أساسيين للإبداع في قراءة النص القرآني حتى تكون قراءة حداثية مبدعة بحق، أحدهما هو "رعاية التفاعل الديني مع النص القرآني، أو بعبارة أدق ترشيد التفاعل الديني" والآخر "إعادة إبداع الفعل الحداثي المنقول أو قل تجديد الفعل الحداثي"
"من الصعب تقديم عرض مختصر ومركز لكتاب يفيض بروح المعاني والمفاهيم الفلسفية والإبداع في الاشتقاقات اللغوية والاصطلاحات الجديدة، لكن من الصعوبة في شيء التركيز على بعض الفصول الفياضة بالاجتهاد الفكري والفلسفي والديني جميعا.
ومنها على سبيل المثال لا الحصر، الفصل الرابع الذي ينظر فيه طه عبد الرحمن إلى "القراءات الحداثية للقرآن والإبداع الموصول".
فهذا فصل فريد في بابه لم يسبق إليه المؤلف سواء في المنهج أو في المحتوى، خاصة وأن نقد مفكر في وزن طه عبد الرحمن ينزل على القراء الحداثيين الجدد للقرآن الكريم كصاعقة لا تبقي ولا تذر، ويتهيبون منها تهيبا كبيرا حسب تصريحات كثير منهم في مجالس خاصة وأخرى عامة.
و "القراءات الحداثية، كما يقول د. طه عبد الرحمن، لا تريد أن تحصل اعتقادا من الآيات القرآنية، وإنما تريد أن تمارس نقدها على هذه الآيات" فهي قراءات انتقادية وليست قراءات اعتقادية.
ويضرب المؤلف لذلك بعض الأمثال كقراءة محمد أركون ومدرسته من التونسيين كعبد المجيد الشرفي ويوسف صديق، وقراءة نصر حامد أبي زيد وقراءة طيب تزيني.
ويبسط الكاتب بيانا وافيا بالخطط النقدية التي سلكتها القراءات الحداثية في تفسيرها للآيات القرآنية، ثم ينتقل إلى تقويم هذه القراءات انطلاقا من مرجعيتها نفسها، وهي "الحداثة".
ويرصد عيوب هذه القراءات تباعا، وهي أولا فقد القدرة على النقد، وثانيا ضعف استعمال الآليات المنقولة، وثالثا الإصرار على العمل بالآليات المتجاوزة، ورابعا تهويل النتائج المتوصل إليها، وخامسا قلب ترتيب الحقائق الخاصة بالقرآن، وسادسا تعميم الشك على كل مستويات النص القرآني.
ويخلص المؤلف إلى أن "قراءة الآيات القرآنية كما مارسها هؤلاء هي تقليد صريح لما أنتجه واقع الحداثة في المجتمع الغربي، متعرضة بذلك لآفات منهجية مختلفة. وهكذا فقد رضي هؤلاء بأن يضعوا أنفسهم، اختيارا، تحت الوصاية الثقافية لصانعي الحداثة الغربية، فكانت قراءتهم، بموجب روح الحداثة نفسها، عبارة عن قراءات القاصرين، لا قراءات الراشدين".
ويضع المؤلف شرطين أساسيين للإبداع في قراءة النص القرآني حتى تكون قراءة حداثية مبدعة بحق، أحدهما هو "رعاية التفاعل الديني مع النص القرآني، أو بعبارة أدق ترشيد التفاعل الديني" والآخر "إعادة إبداع الفعل الحداثي المنقول أو قل تجديد الفعل الحداثي".
فلا إبداع حقيقيا ما لم يكن إبداعا موصولا، ولا وصل في الإبداع ما لم يكن آخذا بأسباب تراثنا التفسيري والثقافي. سؤال المشروعية
"
الاشتغال بالتطبيق الإسلامي لروح الحداثة اشتغال لا يقل مشروعية عن الاشتغال بالتطبيق الغربي لهذه الروح، سواء في طوره الحداثي أو طوره ما بعد الحداثي
"خاتمة "روح الحداثة" ليست جماعا لأمهات الأفكار المبثوثة في الأبواب والفصول، لكنها سؤال مشروع يراود القارئ والباحث معا على طول صفحات الكتاب وعرضها، ألا وهو سؤال: لم الاشتغال بالتطبيق الإسلامي لروح الحداثة، وقد انتقلت الإنسانية من طور "الحداثة" إلى طور "ما بعد الحداثة؟
يقدم المؤلف على هذا الاعتراض جوابا على مراتب أربع، يبين في أولاها كيف أن الأمة المسلمة تحتاج إلى أن تتعامل مع المفاهيم المخترعة التي شاع تداولها عند الأمم الأخرى، وأن تخرجها على قواعد مجالها التداولي، بدءا من "الحداثة" و الـ "ما بعد حداثة".
ثم بين في المرتبة الثانية كيف أن مفهوم الـ "ما بعد حداثة" ليس له معنى واحد، وإنما معان عدة. أما في المرتبة الثالثة فأوضح كيف أن وجود "الطور الحداثي" وطور الـ "ما بعد حداثي" يقضي بافتراض أصل مشترك ينبنيان عليه، وهذا الأصل هو بالذات "روح الحداثة".
وأخيرا كشف في المرتبة الرابعة كيف أن التطبيق الإسلامي لروح الحداثة لا يكتفي بأن يكون واحدا من تطبيقاتها الممكنة، بل أيضا يهدف إلى الارتقاء بالفعل الحداثي.
حتى إذا فرغ عبد الرحمن من بيان هذه الرتب الأربع جاز له أن يستنتج أن الاشتغال بالتطبيق الإسلامي لروح الحداثة اشتغال لا يقل مشروعية عن الاشتغال بالتطبيق الغربي لهذه الروح، سواء في طوره الحداثي أو طوره الـ "ما بعد حداثي".
فالمجتمع المسلم، وهو المنخرط ضرورة في الفضاء المفهومي العالمي له تطبيقه الخاص لروح الحداثة. كما أن الواقع الـ "ما بعد حداثي" ليس تطبيقا لروح تالية لروح الحداثة، وإنما هو تطبيق لروح الحداثة ذاتها.
وبذلك يدفع الاعتراض المسمى "سؤال المشروعية" فيصح القول بأن الاشتغال بالتطبيق الإسلامي لروح الحداثة ليس اشتغالا بطور حصل تجاوزه من قبل الـ "ما بعد حداثة" مادام كلاهما تطبيقا لروح الحداثة، محصلا بذلك نفس المشروعية التي يملكها التطبيق الحداثي الغربي، "هذا إن لم تكن مشروعيته أكبر باعتبار اضطلاعه بمهمة الارتقاء بالفعل الحداثي بما لا يرتقي به التطبيق الغربي". دعوة وتأسيس
"
هذا الكتاب دعوة متينة إلى حداثة إسلامية عالمية تصحح واقع الحداثة الحالي وتعيد للحداثة روحها، وتربط بين الموروث الثقافي الإسلامي القويم والكسب الإنساني الحديث
"يمكن اعتبار كتاب "روح الحداثة" للدكتور طه عبد الرحمن بمنزلة "تهافت الفلاسفة" لحجة الإسلام الشيخ أبي حامد الغزالي. فكلا الكتابين هجوم منطقي قوي على ما ساد في عصريهما من مذاهب وأفكار، وبيان للتقليد المريض الذي يبتلى به كثير من المثقفين وأشباه المثقفين، فضلا عن العوام، وهو يستقبلون ألفاظا ومفاهيم لا يعرفون روحها ولا جوهرها، ولا يدركون المكر المصاحب لها، وجنون العظمة لدى دعاتها ومدعيها.
لكن المقارنة بين الكتابين والمؤلفين ينبغي أخذها على حذر، لأنه إذا كان أبو حامد الغزالي قد تاه في بداياته في دروب التهافت الفلسفي طيلة ردح من الزمان، فإن الفيلسوف العربي المسلم طه عبد الرحمن لم يضيع أي لحظة من عمره في التهافت وتقليد القدماء أو الجدد، بل أدرك منذ البداية أن الحداثة لا تنقل من الخارج، وإنما تبتكر من الداخل، وأن الخلاص والارتقاء يكمن في الجمع بين الأصالة والإبداع والحرية، وهذه وصفة نادرا ما تجتمع في قلب مفكر واحد.
فهذا الكتاب دعوة متينة إلى حداثة إسلامية عالمية تصحح واقع الحداثة الحالي وتعيد للحداثة روحها، وتربط بين الموروث الثقافي الإسلامي القويم والكسب الإنساني الحديث. والكتاب في النهاية تأسيس للحداثة المرجوة الموشكة على الظهور.
هذا، وكأنما لا يزال في جعبة د. عبد الرحمن الشيء الكثير مما ينبغي إخراجه للناس خالصا سائغا للأمة العربية الإسلامية وللأمة الإنسانية الكونية أيضا، ما دام هذا العصر قد تكسرت حدوده الجغرافية، وشرعت حدوده المعرفية، وصارت الأمم كلها كالكتب المفتوحة أمام بعضها البعض، فالعالم كله للجميع والجميع كلهم مسؤولون عن هذا العالم.
وأظن أن قضية الدين والسياسة من أهم القضايا التي يفكر فيها د. طه، وأظن أن الوقت لم يعد عائقا أمامه وقد أنهى عمله الجامعي الرسمي كأستاذ للفلسفة والمنطق بالجامعة المغربية، لكن عمله بالجامعة الإسلامية والإنسانية الكونية لا نهاية له إلا أن يشاء الله.
وإذا كان المهووسون بالسياسة ورجالها وأحداثها يبحثون عن شهود يشهدون على عصرهم وأحداثه، فأحرى أن نلتفت إلى شهداء من نوع أعلى وأرقى وهم شهداء الإبداع الفكري والثقافي، أولئك هم الشهود الحقيقيون. ولا شك أن طه عبد الرحمن أبرز واحد منهم.