في صباح يوما شديد البرودة ، كان الثلج يغطي على كل شئ في الارض ، ليشكل ثلجا
متراكم ، وبياضا موحشا ممتد ،وصقيعا تقشعر له الابدان الباحثة عن الدفئ ، ولكن لابد
لها ايضا ان تسعى خلف قوتها لا ان تندثر من صقيع الثلج فقط !!
وهاانا امضي في طريقي ليلوح لي في الافق البعيد طيف انسان اجزم بعد ان امعنت النظر
اليه انه طيف احمد صديقي ..نعم انه احمد !! ..ويالها من مفاجئة افاجئ بها هذا الصباح !!
ناديته :احمد....احمد
إلتفت الى مصدر الصوت ببطئ كانه لا ينتظر ان ينادي عليه احد ،حدق بي كثيرا فانبعثت من شفتاه
ابتسامة عريضة سيطرت على محياه الحزين ،أقبل في خطوات سريعة نحوي ،ولما التقينا تعانقنا
عناقا طويلا حتى انني احسست بآهات المعانات تخرج مع زفرات الانفاس التي تنبعث من صدره
علمت انه في حاجة الى مواسات فابتدرته با لسؤال
ـ اين انت يارجل
ـ انا هنا يا صاحبي ،قالها وعيناه على الارض كأنه يتهرب من سؤالي ، امسكته من كتفه وانا احاول ان ازيل عنه بعضا من ارتباكه فقلت له
ـ اهي زيارة..
ـ بل العودة يا صديقي
قالها بألم شديد وحسرة ،حدقت فيه مليا وانا احس بقلبه يعتصر الما ، عادت بي الذاكرة الى اصعب مراحل حياتي كلها يا الله هذا الالم ،لقد ضقته من قبل ، ما اصعب العودة وصاحبها يجر وراءه رداء
الخيبة وانكسار الامل قلت له وانا اعرف الجواب مسبقا
ـ الن ترجع الى هناك
رد وهو يبتسم ابتسامة ساخرة كانه يضحك من قدره
ـ كلا لن ارجع الى هناك مرة اخرى ، لقد سأمت ..وتعبت كثيرا ،ثم انتهرني من كتفي وقال
ـ هي بنا الى المقهى
قلت: دعك من المقهى ولنتمشى قليلا
رد ضاحك :اما زلت تتحاشى المقاهي والتدخن و..
ـ كما تركتني لم يتغير شيئ
بعدها اخذت الخطوات تتثاقل تحت وقع الصقيع راجعة بنا الى مراحل متناقضة من الذاكرة المنسية
المتوارية خلف تلك الابتسامات الضعيفة المتقنعة بقناع الامل ، التفت الي وسألني
ـ كيف هي احوالك ،ماذا تعمل ،كيف استقررت في ..
ـ مهلا مهلا يا صاحبي ما كل هاته الاسئلة هل تريد ان تعرف مسيرة خمسة عشر سنة في دقيقة
انا بخير ، اسست عائلة واشتريت منزل اما العمل فقد انتفعت كثيرا بخبرتي في مجال الترميم
التي اكتسبتها هناك ، الامور تسير بشكل طبيعي والحمد لله .
ـ كيف استطعت ان تبدا حياتك من جديد هنا ؟
ارجعني سؤاله الى ايام المعاناة فاسترجعت الاحداث بذاكرة مثقلة بالهموم والاسى العميق
على ما فات النفس من اماني لم تتحقق واحلام تبخرت تحت لهيب الواقع المرير فقلت له
ـآه يا اخي لقد تكبدت النكبات والعثرات بعضها يتبع بعض كانها سحاب مركوم ،لقد قاسيت
كثيرا جراء البطالة والتجاهل وعدم التاقلم مع الوضع المفروض ..قاطعني قائلا .
ـ المهم انك بدات حياتك من جديد وحققت بعض الامور الجيدة
ـ الحمد لله ، عندما نلتفت الى الوراء نتعب ..دعك مني حدثني عنك ..كيف عدت ؟
استرسل بالحديث كانه مركب يمخر عباب البحر لا هم له الا الوصول الى شاطئ الامان هربا
من امواج متلا طمة وسماء ملبدة بالغيوم القاتمة
بعد عودتك يا صاحبي الى الوطن كرهت البقاء في ايطاليا فتنقلت في معظم دول اوروبا
بحثا عن الاستقرار وتحسين الاوضاع لكن دون جدوى لا استقر ببلد الا وياتي من ينغص علي
المقام فانتقل الى بلد آخر لكن الاوضاع متشابهة في كل مكان .بطالة ..شرطة ...ازدراء ..حقد
كل ذلك العالم يكرهنا لا ادري لماذا ؟؟
عدت من جديد الى ايطاليا ، لكن الشرطة هذه المرة كانت بالمرصاد ، اعتقلتني واعادتني
الى الوطن ...سكت برهة وجيزة واسترسل في الحديث وكانه مرتاح لما آلت اليه اوضاعه
صدقني يا صاحبي لقد جاءت في وقتها ..لقد سامت ذلك الوضع ..الغربة ..الوحدة ..الخوف
من المجهول ..كل يوم انتضر كارثة ..اشتقت كثيرا الى امي ..
لما رايت الهموم المت به من كل وجه اردت ان اهرب به الى حديث مخالف قلت له
ـ دعنا نذهب للمقهى فالجو بارد
رد ضاحكا : منذ متى يا ولد
اردت ان امازحه لانسيه بعض همومه فقلت
ـ اليوم فقط انا لا اطيق هذا البرد ، انتم المغتربون تتحملون اكثر منا
قادتنا الخطوات الى مقهى صغير مقابل لصور روماني فلما جلسنا نضر من خلال الزجاج الى الصور
فرايت عبوسا على وجهه لكنه لم يمهلني التفكير في السبب فقال :
ـ دعنا نقوم من هذا المكان فهاته الحجارة تذكرني بتلك البلاد
نضرت من حولي فقلت له ها هو مكان هناك في الزاوية دعنا نقوم اليه
جلسنا الى طاولة في مؤخرة المقهى وطلبنا فنجانا شاي ثم اقبلت عليه سائلا عن بعض الاصدقاء
والاحباب فاخبرني انهم تفرقوا منذ مدة فمنهم من رجع الى الوطن ومنهم من انتقل الى بلاد اخرى
ومنهم من ما زال بإيطاليا ،فبقيت اتفكر في حال الدنيا واسترجع صور الماضي يوم كنا يدا واحدة
رغم المعانات والغربة الا انني لم اكن احس بالوحدة مع هاالاء الاصدقاء كما احس بها اليوم مع
اهلي وفي وطني ، وبينما امواج الماضي تسبح في ذاكرتي تذكرت اشياء عزيزة علي تركتها هناك
فسالته
ـ اين الكتب التي تركتها
ـ لقد اخذها البيرتيني صاحب البيت
ـ ماذا سيفعل بها حتى انه لا يتقن من العربية سوى كلمات التحية والترحيب
ـ لقد قال سازين بها مكتبتي واتذكر بها صديقي وحيد
ـ بصحته يستحق اكثر من ذالك ،انه صاحب خير كثير، لولاه لتعبت كثيرا
بعدما تناولنا فنجانا الشاي خرجنا من المقهى باتجاه وسط المدينة عندها ربت على كتفه وقلت له :
ـ لا تحزن ولا تهتم اخوك هنا لمساعدتك في اي شيئ
ـ نعم انا متاكد من ذلك
ـ يجب ان نلتقي مجددا
ـ اجل بالتاكيد
ودعته وانا انضر الى محياه الشاحب واثر الحزن غائر في عينيه مشيت قليلا ثم التفت اليه فرايته
يخط بقدميه خطوات ثقيلة تائهة كخطوات الطفل الصغير عند بدايته المشي
أشفقت عليه من الاحساس الذي يعتري نفسه الكئيبة ،كيف لا يحزن وهو ابن الخامسة والاربعين
وليس له هدف واضح او طريق يسلكه لتحقيق بعض من امنياته القديمة الوئيدة
هناك عوائق ستتراكم امامه كالاشواك المنتشرة في يوم عاصف فهل سيصمد ام انه سيستسلم لواقعه
البائس ..


.يا الله كن في عونه



مما راق لي من القصص

فنقلته لكم