توقيف العمل بالمذكرة 08/109، ورد الاعتبار للمدرسة العمومية
صالح أيت خزانة
الأربعاء 19 شتنبر 2012 - 11:22
تَوْقِيفُ الْعَمَلِ بِمُقْتَضَيَاتِ الْمُذَكِّرَةِ 08/109، هَلْ هُوَ بِدَايَةٌ لِرَدِّ الاِعْتِبَارِ لِلْمَدْرَسَةِ الْوَطَنِيَّةِ الْعُمُومِيَّةِ؟
شكل المقرر الوزاري ، المفاجئ والجريء، القاضي بالتوقيف المؤقت للعمل بمقتضيات المذكرة رقم 109الصادرة في 3شتنبر 2008 المتعلقة بالترخيص لهيئة التدريس بالقيام بساعات إضافية بمؤسسات التعليم المدرسي الخصوصي، وقع الصاعقة على رؤوس بعض مالكي مؤسسات التعليم الخصوصي من المستعينين بخدمات هيئة تدريس القطاع العمومي. مما أذهلهم، وأربك حساباتهم لهذا الموسم الدراسي الذي خططوا له، كما سالفيه، بالمزيد من الربح، والاستثمار السهل، على حساب قطاع عمومي مُحْتَضَر، تكالبت عليه كل الحكومات السابقة، بالتشكيك في قدرته على البناء والنهوض، وتكوين الطاقات القادرة على قيادة سفينة هذا الوطن، والتخويف من المصير المظلم الذي ينتظر خريجيه، والترويج –في المقابل- للخدمات الاستثنائية التي يقدمها القطاع الخاص، والمستقبل الزاهر الذي يضمنه لرواده، وتشجيع العوائل الحائرة إلى الاتجاه شطر هذا المنقذ من ضلال الجهل والأمية، وضياع الزمن المدرسي وزمن التعلم،والإضرابات ووو... وغيرها من "موبقات" التعليم العمومي!!
كما فاجأ – في المقابل- كل المهتمين بقضايا التربية والتكوين، وكل الغيورين والغيورات على المدرسة الوطنية العمومية؛ إذ لم يكن أحد من هؤلاء ينتظر أن تصدر هذه الالتفاتة "الحنونة" من قطاع حكومي تكالب لعقود طويلة على المدرسة الوطنية العمومية التي خرَّجت خيرة أبناء هذا الوطن من الساسة، والمهندسين، والدكاترة،والأساتذة، والمبدعين، والعلماء، والمناضلين الشرفاء، ... ولا زالت تخرِّج وتتصدر المحافل التربوية الوطنية، وحتى الدولية، بهامات وطاقات يقام لها ولا يقعد.
أجل .. لقد تفاجأ هؤلاء الغيورون والغيورات من هذا التململ المفاجئ الذي عرفته " قناعات" الوزارة الوصية حول القطاع الخصوصي الذي ما فتئت تقدم له الخدمات الجليلة، والامتيازات الاستثنائية، حتى غدا الملاذ الوحيد والأخير لمن أراد أن ينجو بفلذات كبده من براثين الجهل والأمية والشارع.
لقد عملت الحكومات السابقة على تضييق الخناق على القطاع العمومي، والفت من عضده، والتنفير منه من خلال تصريف سياسات تربوية لا شعبية تخرِّج طلبة وتلاميذ على المقاس؛ فأتت عليه من اليمين ومن الشمال ، ومن الأمام ومن الخلف، ومن تحت الأقدام، تقلم أظافره الطويلة بالتشكيك في مردوديته، ونشر آلاف الإحصاءات المبالغ فيها، حول الهدرالزمني والمدرسي، ونسب التمدرس، والتسرب، والفشل، والأمن الأخلاقي والمادي، والإضراب،...، وهلم أثافيَ ومُنَفِّراتٍ !!
فقد عملت الحكومات السابقة على وضع أسقف محددة للأهداف العامة، والمرتكزات الأساسة للمنظومة التربوية المغربية، بهدف الحفاظ على " توجه سياسي" محدد في التدبير، يحافظ على توجهات عامة مؤسِّسة لقناعات لا تقبل بأنصاف الحلول. من أجل ذلك حوربت الفلسفة في فترة من تاريخ المغرب المتأخر، لأنها مادة تعلم ثقافة الحجاج، وتمرن على الجدال الإيديولوجي والفكري والسياسي، وتكسب صاحبها القدرة على طرح الرأي الآخر والمخالف، كما تعلم "لغة الرفض" التي ندرت في القاموس التعليمي والسياسي للمغاربة ردحا من الزمن. فلم يتدارك "صناع القرار" في المغرب خطأ هذه السياسة العرجاء التي رانت على عقول المغاربة، ونفوسهم ، حتى حلت "السكتة القلبية" على عموم الشأن العام ، وأصبح من اللازم إنقاذ السفينة قبل غرقها. كما أصبح تحريك الراكد من السياسات الهجينة الجاثمة على المغاربة، واجب الوقت، وضرورة ملحة.
لقد استفاد قطاع التربية والتكوين من رياح التغيير والانفتاح التي عرفها المغرب مع حكومة التناوب التوافقي، حينما فتح " صناع القرار" للتأمل في قضاياه بابا انتهى بوضع "ميثاق" حضي، لأول مرة في تاريخ المغرب المستقل، بالإجماع، واعتبر أول "مشروع" تربوي يقطع مع سياسات التدجين، والبورناج"، والسطحية، و"التصفيق"،... ويفتح المجال للتربية على حقوق الإنسان، والاختيار، والديموقراطية، والتعايش،...
لكن تعثر تنزيل مقتضيات هذا الميثاق خلال العشرية المبرمَجة له، وتلكُّؤ خطوات الحكومة في الوفاء بالتواريخ المحددة لعمليات التنزيل، تحت إكراه الاعتمادات الضخمة المرصودة لها، وظهور جيوب المقاومة لانتشال المغاربة من حضيض الجهل والتجهيل، وغياب رؤية واضحة لدى من يهمهم الأمر من الساهرين على تنزيل مقتضيات هذا "الميثاق"، حول أجرأة بعض بنوده المِفصلية، خصوصا تلك المتعلقة بالتأهيل البيداغوجي للموارد البشرية القمينِ بتحويل المدرسىة الوطنية العمومية إلى مدرسة مفعمة بالحياة، منفتحة على المحيط، فاعلة فيه ومنفعلة به، عن طريق إكساب المتعلمين والمتعلمات كفايات مؤهلة للانخراط في المجتمع، والنجاح في تدبير وضعياته المختلفة... جعل الحكومة تستنجد بالمجلس الأعلى للتعليم الذي أصدر تقريره الصادم(2008)، والذي دق فيه ناقوس الفشل من جديد( !).
لقد اقتنعت السلطات التربوية المغربية ومعها "صناع القرار"، ألا سبيل للتخفيف من العبء المالي الضخم الذي يستنزف الكثير من مالية الدولة، ومردودها من الناتج الداخلي المحلي الخام، دون أن تكون له مردودية تذكر-زعموا- !!، إلا بتفويت هذا القطاع – على فترات – إلى القطاع الخاص، وتشجيع هذا الأخير لتبوُّؤ صدارة تقديم خدمات رائدة وغير مسبوقة تفتح شهية الأسر المغربية للإقبال عليه، ومن تم النفور تدريجيا من خدمات صنوه العمومي .
لذلك لن نستغرب أبدا حينما تطالعنا فقرات محددة ومِفصلية من التقرير التفصيلي للبرنامج الاستعجالي تدعو صراحة إلى تبويء هذا القطاع الخاص مكانة استثنائية على حساب القطاع العمومي؛ منها:
" النهوض بالعرض التربوي الخصوصي بغية التخفيف من العبء المالي للدولة في تمويل المنظومة "(ص:80)
"إقرار تدابير تحفيزية تمكن من تسهيل استثمار الخواص في قطاع التعليم (العمومي)". (ص:83).
- " تفويض تدبير مؤسسات عمومية قائمة : تفويت البنيات والتجهيزات وإلحاق الأطر التربوية (من التعليم العمومي) بالتعليم الخاص، وتقديم إعانات محتملة لتسيير مؤسساته حسب التعريفة المتبناة في كل مؤسسة .. ".(ص:83).
" تطوير نموذج جديد ومتكامل للعرض التربوي الخاص، ينتظم حول متدخلين خواص، من حجم كبير، باستطاعتهم تغطية مجموع التراب الوطني، ويشتغلون في مجموعات مدرسية معترف بقيمتها (...) ويتم القيام بدراسة معمقة لأجل التطبيق العملي لهذا النموذج"... (ص:83).
...
فالمطلع على محتويات هذا التقرير، سيخرج بخلاصة مفادها أن الهاجس الوحيد الثاوي خلف هذا المخطط هو هاجس مادي صرف. وأن الهدف العام والاستراتيجي لهذا المشروع هو بناء نسق تربوي جديد يقوم على خيار الخوصصة كحل استراتيجي للتخلص من الضغط المالي الذي يجثم به القطاع على مالية الدولة.
فقد كان الغرض الخفي من خلف البرنامج الاستعجالي / الاستراتيجي، التخفيف من وطأة القطاع العمومي المُكَلِّفة. لذلك فتحت الحكومة السابقة دراعها الرحب للقطاع الخاص، بالمساندة، والعون المادي واللوجيستي . وما المذكرة 08/109 إلا إحدى نماذج " المساعدات" فوق العادة التي قدمتها الحكومة السابقة للنهوض بهذا القطاع، وإنجاح مساعيه في "خدمة"الأسر المغربية التواقة إلى الجودة، المتلهفة إلى رؤية أبنائها ضمن طلائع الناجحين.
فهل هي " توبة عمرية"، ومصالحة مع الذات الشعبية؛ هذه الالتفاتة من وزارة الوفا؟
وهل هي بداية لرد الاعتبار والاهتمام للمدرسة العمومية بذات الأهمية التي يوليها من يهمهم الأمر للمدرسة الخصوصية؟
وهل ستشكل هذه الاستفاقة المتأخرة بداية عهد جديد تنعم فيه المدرستان، العمومية والخصوصية، جنبا إلى جنب، بنفس الحظوظ والامتيازات وتكافؤ الفرص، في جو من التكامل والتوازن والاستقلالية؟ وهل لهذا المقرر الوزاري ما بعده؟
أسئلة سنترك الجواب عليها لما سيستقبل من القرارات، وما سيتخذ من إجراءات وتدابير ...