في ملتقى الطريق بين سوق السباط والسوق التحتي بالمدينة العتيقة بالرباط، يتوقف سائح ألماني أمام دكان قد علقت فيه آيات قرآنية وأشعار محبين وأسماء لأشخاص عربية وعجمية وكلمات حب وتقدير للوالدين، ثم يدخل الألماني مع صاحب المحل في حديث مطول ويبدو مشوقا بلغة غوته، وحين انصرافه يقول عبد الله بن جلون ذي 37 سنة: " لقد ساعدتني دراستي للاقتصاد بألمانيا أن أتواصل مع هذا الرسام الألماني بلغته وقد أبدى إعجابه بما نعرضه خاصة أنه متذوق للخط العربي والنجارة الفنية".

العرعار يوحد متذوقي الفن
لا يكاد يمر يوم دون أن يدخل عبد الله في نقاش فني حول جمالية الخطوط وجودة خشب العرعار والأشكال النباتية المزينة له والتي تبدو كقطعة ثوب مطروز، ويسرد كيف قادته الصدفة ليصبح مزارا لبعض الفنانين المغاربة والأجانب:" بعد قدومي من ألمانيا ، فكرت في إقامة مشروع خاص، وصادف أن التقيت رجلا يقوم بكتابة أحرف بالخشب على الخشب، وأعجبت بالفكرة، و منذ ذلك الحين وأنا أتعامل مع عبد الكريم، وقد بدأنا أولا بحاملي المفاتيح حيث نتوفر الآن على 14 نموذجا بعد أن كنا نتوفر على أربعة فقط ".

يغوص عبد الله في تفكير عميق يستحضر فيه ذكريات خلدتها لوحاته العرعارية ويقول:" لقد زارني مرة خالد السكاح مع زوجته النرويجية وسألته هل أنت هو العداء المغربي، فأجابني: مادام اسمي خالد السكاح فإنه أنا" ويضحك و هو يشير في نفس الوقت لإحدى اللوحات الكبيرة المعلقة: " سبق وبعت لوحة آية الكرسي بأحرف من خشب بألف درهم وكانت أغلى لوحة على الإطلاق، فقد تطلب إنجازها شهرا كاملا نظرا لكبرها ولكنها لا تقاس بحجم جداريات الخطاط المغربي ابراهيم حنين الذي سبق وزارنا"،
ويمضي في ذكر بعض الشخصيات التي استهواها المنظر الجميل للعرعار وقد اقتلع من البراري عاريا وألبس كساء خشبيا من الكلمات.
ولكن عبد الله يتوقف بعد أن قاطعه زائر من نوع خاص ، و هذه المرة خطاط أفغاني بلباس أوروبي برفقة زوجته العارية الرأس وسروال" الجينز" وطفليه المرحين ، يجوب بناظريه في اللوحات العرعارية فتستوقفه الآيات القرآنية المكتوبة بأنواع مختلفة من الخطوط العربية، ويقول بلغة فرنسية سليمة:" جميل ما يصنع هذا الفتى ولكن عليه ضبط بعض القواعد " وهو يشير إلى سفيان ذي 17 ربيعا، الغارق في كتابة اسم فتاة بالخط الديواني على قطعة عرعار موشاة بصبغة ذهبية، وقبل أن يغادر الفنان الأفغاني، يخرج ريشة بلون أسود من جيبه ويخط أبياتا شعرية بخط النسخ فوق ورقة بيضاء، ونظرات الحاضرين من مغاربة وسياح فرنسيين ترقب دقته ومهارته في الخط وهو واقف. يعلق عبد الله:" حقا ، أشعر بالمتعة في هذا العمل لأنه فن، وحتى إن لم يشتر أحد ما أقدمه، فإن كلمات الإعجاب والثناء تكفيني، المهم هو الإتقان في العمل، زيادة على أنني اكتشفت ميولي إلى تعلم الخط العربي، الكثير من الناس يسألونني عن مدارس لتعلمه ولكن للأسف فهي غير موجودة" .
نقش الحب على الخشب
لا يكف لسان حال عبد الله عن العرفان بالجميل لشريكه قائلا :" أنا فقط صلة وصل بين الزبون والمبدع لأنني أدرى بميول الزبناء ورغباتهم، لذلك أوجهه للإكثار من بعض العبارات التي يكثر استعمالها في بعض المناسبات كعيد الحب والأم وحفلات الزواج والعقيقة وأدعية الشفاء من المرض، فتلك أنسب هدية".
تبقى عبارات الحب سواء بين الرجل والمرأة أو الموجهة للوالدين الأكثر جلبا للزبناء ولكن عبد الله يشير إلى أن النساء هن الأكثر ميلا لتقديم هذه القطع العرعارية المزينة إلى أزواجهن أو أحبائهن، ويقول:" إن المرأة تكون سباقة للصلح أو التعبير عن مشاعرها، وهناك عبارات يقبل عليها الناس بكثرة مثل:" إذا جمعنا القدر فلن يفرقنا البشر"و" صبرا فإن الفرج قريب" و"جعلنا في قلوبكم مودة ورحمة"، كما أننا نعاني من أزمة تتمثل في كثرة الطلب على أشكال القلوب"، يضحك وهو يشير إلى لحيته:" في الكثير من الأحيان تحرج بعض الفتيات من الإفصاح لي عن أسماء أصدقائهن أو قول عبارات الحب ويفضلن كتابة ذلك في ورقة لظنهن أنني متشدد دينيا، ولكنني أجيبهن بأني لست مخولا لمسائلتهن عن علاقاتهن أو حياتهن الشخصية"، يقاطعه مبدع فكرة الكتابة على الخشب قائلا:" لم أتخيل يوما أن فكرتي التي بدأت صغيرة وعملية ستصل إلى العالم بأسره وسيكون لها الفضل في إصلاح ذات البين بين أفراد الأسرة أو الزوجين أو الأصدقاء".
ويعود عبد الكريم بذاكرته ثلاثين سنة للوراء:" عندما كنت مدرسا بالنيجر كنت أحرص على كتابة أسماء قاعات الدرس وأرقام الفصول على الخشب وأعلقها بالأقسام أو الإدارة ثم بدأت أقدم لوحات من الخشب العادي كهدايا للأقارب ومرة استوقفني منظر خشبة من العرعار، فقررت تقطيعها والكتابة فوقها بأحرف خشبية".
يشتغل تحت إمرة عبد الكريم لحرش حوالي عشرين عاملا لكل وظيفته، تبدأ بحك الخشب ثم صباغته وطباعة الآيات القرآنية ثم الكتابة فوقها بالخشب وتزيينها بمواد كيماوية وحده العارف بمكوناتها، وهو ما جعله يعترف بالقول:" لن يستطيع أحد تقليد هذه القطع الفنية لأن المواد المستعملة لتزيين حواشيها غير معروفة التركيبة حتى من طرف ابني الذي يعمل إلى جانبي كخطاط".
موقع صافي نحن الخبر

معلومات ثمينة تستحقين عليها أستاذة أم إدريس كل التقدير والإمتنان ، أثمن مجهودك وأدعوك للمواصلة