تدريس النصوص بواسطة الكفايات
الأستاذ محسن الزكري
يعتبر تدريس النصوص بواسطة الكفايات من التحديات التي تواجه المدرسين فيمختلف الأسلاك التعليمية، وهذه الصعوبة راجعة إلى طبيعة الكفاية ذاتهاالعصية على الفهم الدقيق من جهة، ولعدم دقة المنهجيات المقترحة فيالتوجيهات الرسمية من جهة أخرى.
لهذا، ارتأيت – في هذه الدراسة – المزاوجة بين الإرشادات المسطرة فيالتوجيهات الرسمية والمناهج والطرائق المقترحة في مجموعة من الدراساتالمتخصصة في هذا المجال من جهة، وبين التراكم المنهجي الذي تحقق لدي أثناءفترة التكوين بالمدرسة العليا ،و الدروس العملية التي حضرتها سواء بنفسالمدرسة أو بالمدارس التطبيقية الأخرى من جهة ثانية.
وستكون هذه الدراسة موزعة إلى قسمين : قسم نظري وآخر تطبيقي. كما سأتناول فيها بالدرس والتفصيل نموذجين من النصوص الأدبية:
- نموذج النص الشعري ( قصيدة “ذريني ونفسي” لعروة بن الورد نموذجا)
- نموذج النص النقدي (“اللفظ والمعنى ومعنى المعنى” لعبد القاهر الجرجاني نموذجا)
كما ستكون هذه الدراسة مدعمة ببطاقة تقنية لدرس النصوص ( جذاذات ) بمواصفات بيداغوجيا الكفايات . وستنشر هذه الدراسة على حلقات متسلسلة بحولالله بموقع الجمعية ، راجيا أن تنال لديكم القبول والرضا، أو أن تكون مثارنقاش بيننا كأساتذة اللغة العربية نسعى إلى تطوير درسها.
وينبغي الإشارة – بداية – إلى كون الدراسة التي سأتقدم بها هنا ستنصب على معالجة تدريس النصوص بواسطة الكفايات بالنسبةللسنة “الأولى من سلك البكالوريا”، اعتمادا على “كتاب النجاح”المقرر لهذا المستوى.
1 – القراءة المنهجية للنصوص في ضوء بيداغوجيا الكفايات:
1- 2- تعريف القراءة المنهجية:
اعتبرت مديرية المناهج بقطاع التربية الوطنية القراءة المنهجية جبراديداكتيكيا لابد لكل مقاربة للنص الأدبي أن تراعي مقتضياته البيداغوجية. وبهذا أصبحت القراءة المنهجية رسميا الوسيلة التي من خلالها ينبغي تدريسالنصوص.
وقد عرفت المديرية هذه القراءة في الكتاب الصادر عن قسم البرامجوالمناهج والوسائل التعلمية (1996) بكونها “خطوات وعمليات يوظفها الأستاذلإثارة أنشطة التلاميذ التعليمية من أجل فهم النص وتحليله. وتنطلق هذهالخطوات من الإدراك العام والكلي للنص ووضع فرضيات لقراءته، إلى العملياتالتي يقوم بها التلاميذ لفحص فرضيات القراءة من خلال بحث عناصر النصالداخلية معجما ودلالة وتركيبا وأسلوبا، أو من خلال ربطه بمعطيات مستمدة منمحيطه الاجتماعي والثقافي والتاريخي” (1).
ومن المعلوم أن هذا التعريف صيغ في ضوء المقاربات الديداكتيكية المستمدةمن أدبيات بيداغوجيا الأهداف. وهكذا من المفروض أن تطال تصورنا للقراءةالمنهجية في ضوء بيداغوجيا الكفايات بعض التعديلات بما يلائم الشروطالديداكتيكية الجديدة.
وبعد تسع سنوات من التطور في مجال الأبحاث البيداغوجية تأتي نفسالمديرية لتقدم التعريف الآتي للقراءة المنهجية: “إن القراءة المنهجيةعمليات وخطوات ومراحل وأنشطة تتبع من أجل فهم النصوص وتحليلها تحليلايستثمر مختلف معطياتها الداخلية والخارجية عبر توظيف متوازن بين شروطالقراءة المنهجية وشروط التدريس بالمجزوءات بما تتطلبه العملية التعليميةالتعلمية، وبما يغني عملية القراءة بالتنوع والتكامل في المقاربات والأدواتمع الملاءمة للمؤهلات والقدرات ووثيرة التعليم والتعلم لدى المتعلمين. ولاتكون المقاربة فاعلة إلا بتوسل مبدأ التدرج الذي يؤسس أدواته وأنشطته علىالمؤهلات والمكتسبات الحقيقية للمعلمين اعتمادا على تشخيص كاف وضبط رصينلحاجياتهم التعليمية المختلفة” (2). والملاحظ أن التعريف الأخير أقل دقة منالتعريف الأول، رغم أن من المفروض أن يكون العكس هو الصحيح، إذ إنه ظليسبح في عموميات تعتبر الآن من مسلمات العمل البيداغوجي، وظل يحيط بالقراءةالمنهجية دون أن يدخلها. وهكذا إن اقتصرنا على هذا التعريف في تحليلالقراءة المنهجية فإننا أيضا سنحوم حولها فقط دون أن نلجها . لذا كان منالواجب البحث عن القراءة المنهجية كما حددت في مجموعة من الدراسات الحديثةفي هذا المجال.
ومن هذه الدراسات نجد تعريف الجريدة الرسمية الفرنسية الذي يذهب إلى أن “القراءة المنهجية قراءة مدروسة ومعدة بإحكام، تمكن التلاميذ من إثبات أوتصحيح ردود أفعالهم الأولى كقراء، ويستدعي اختلاف أنواع النصوص منهجياتقرائية متعددة تتبلور من خلال سير العمل، وتسمح متطلبات القراءة المنهجيةبمنح قدر أكبر من الصرامة لما كان يسمى عادة شرح النص” (3). والملاحظ أنهذا التعريف يروم مقاربة القراءة المنهجية من خلال مقابلة ما ترفضه بماتتطلبه. فما هو مرفوض بالنسبة لها هو الإطناب والسلبية والبحث عن الأحكامالجاهزة والفصل بين الشكل والمحتوى. وما تأخذه بعين الاعتبار هو الملاحظةالمدققة للنصوص وأنساقها وتحليلها وإدراك ديناميتها. كما تتطلب الكشف الحذروالصارم عما تقوله النصوص، وذلك من خلال بناء تدريجي لدلالة النص انطلاقامن فرضيات تتولى القراءة فهمها بإحكام.
أما جيرار لانكلاند فإنه يعرف القراءة المنهجية بأنها “نشاط لا يقوم بهمتلق في وضعية تواصلية مؤجلة وعلى نحو غير مباشر خلاف أشكال الإرسالياتاليومية الوظيفية، حيث يتعاضد اللغوي بالخارج لغوي (الإشارات، النبر،الإيحاء…)، وحيث بإمكان المتلقي أن يتحول إلى باث فيطلب إيضاحات ويفحص مدىإدراكه للرسالة المثبوتة باعتباره باثا مصاحبا حين يجد المتلقي – القارئنفسه وحيدا إزاء أثر خلفه منتج الرسالة، وهذا المنتج ينحصر في المحتوىاللغوي وفي بعض المؤشرات اللغوية الموازيةـ (التصفيح، الحروف، الطباعة…) وبالنصوص الموازية حين يتعلق الأمر بالنص الأدبي، إذ على القارئ أن يحملعلى عاتقه مهمة بناء معنى ما، وتقاس قيمة بناء المعنى بمدى قدرته على تحويلأكبر عدد ممكن من عناصر النص وبطريقة متماسكة ودينامية إلى عناصر دالة،وهذا المعنى هو نتيجة لقاء بين نصين: نص المؤلف ونص القارئ” (4). وهكذاوانطلاقا من هذا التعريف يصبح التلميذ / القارئ هو محور الفعل القرائي، فهوالذي يساهم في إعادة إنتاج النص من خلال مشاركته في إنتاج المعنى انطلاقامن زاوية نظره وخصوصيات كفاياته الشخصية .ولهذا يصبح لزاما على الاستنادأثناء إعداد الدرس سلك خطة لإدماج التلاميذ في سيرورة إبداع المعنى والأخذبأيديهم في عملية التقاط المؤشرات الدلالية عند مستويات التحليل المختلفة،لا أن يفرض تصورا جاهزا، وجامدا وغير قابل للتعديل والتكيف مع مستجداتالتلقي والتواصل داخل القسم.
1- 2- المبادئ الأساسية للقراءة المنهجية:
تقوم القراءة المنهجية على ثلاثة مبادئ مستمدة من أصول نظرية مختلفة وبخاصة من مجالي اللسانيات ونظريات القراءة. وهذه المبادئ عبارة عن روافدتتقاطع فيها مختلف هذه النظريات، مما يجعل الإحاطة بها بمثابة بحث فيالمرتكزات النظرية للقراءة المنهجية. (5)
- المبدأ الأول: تصور خاص لفعل القراءة:
يستند هذا التصور إلى اللسانيات التداولية الحديثة الذي يفترض وجود عدةعمليات ذهنية تتظافر في بناء معنى النص، وذلك من خلال وضع فرضيات حولالدلالات الممكنة عن طريق استغلال مجموعة من الكفايات لدى التلميذ كالكفايةالموسوعية التي تستدعي مجموعة من النصوص الموازية للنص ، وتساهم في عمليةإنماء الفرضيات والتحقق منها، والكفاية المنطقية التي لها أهمية كبيرة فيصياغة الفرضيات (6)، حيث تربط بين داخل النص،عناصره ومكوناته، وخارجه أيالخبرات القرائية السابقة والمعارف الموسوعية، كما أنها تربط بين مختلفالدوال داخل النص ذاته، وتشتغل على مستوى سيرورة الاستباق حيث تربط المعانيالمؤقتة وفرضيات المعنى ومختلف التفاصيل المبثوثة في خفاء النص ، علىالنحو الذي يدفع باستمرار على إعادة النظر في الفرضيات في أفق بناء دلالةمتماسكة يبرهن عليها ، وكالكفاية التداولية التي تسمح بوضع النص في إطارالسياق التلفظي الخاص الذي يتحدد من خلال الآثار التلفظية المنتشرة داخلالفضاء النصي.وبالتالي يغدو فعل القراءة سيرورة بناء للمعنى تتم انطلاقا منعمليات الهدم والبناء المستمرتين من بداية النص إلى نهايته ودون توقف، وهيعملية غير نهائية مادام أن خيط المعنى تتم مطاردته تماما كما يطارد خيطالدخان.
- المبدأ الثاني: المشروع القرائي:
إن الممارسة الصفية تتميز بمجموعة من الإكراهات التي تجعل القراءة غيرمكتملة، ومن هنا تدخل هذه الأخيرة ضمن مشروع يبدأ من الفصل، ويتعدى حدودهإلى خارج المدرسة داخل سياق بيداغوجي محدد الأهداف والمصالح، فالقراءة فيالأخير لا تنتقى لذاتها، بل بالنظر إلى فائدتها الديداكتيكية، أي إلى ماتتيح بناءه.
ويمر تطبيق المشروع القرائي عبر عدة مستويات تبدأ من اختيار المادةالرئيسية، ذلك أن هذا الاختيار يطرح عدة إشكالات بالنسبة للقراءة المنهجيةالتي تؤسس انطلاقا من مشروع قرائي عام. فمسؤولية المدرس كبيرة في انتقاءنصوص بناء على مجموعة من المقاييس التي تخولها له معايشته للوضعياتالتعلمية وخبراته البيداغوجية والمعرفية والحياتية، في حين أن الكتابالمدرسي ينتقي نصوصه غالبا بناء على اعتبارات لا تراعى فيها شروط العملالبيداغوجي ومستوى التلاميذ واختلافاتهم النوعية ووجهات نظرهم ووجهات نظرالمدرسين ومستوى كفاياتهم الفكرية والعلمية. يلي هذا المستوى مستوى ثان هووضع خطة للقراءة، ثم تطبيقها عبر تسلسل الحصص في إطار تدبير عقلاني للوضعيةالبيداغوجية التي سمتها التفاعل بين مختلف المتغيرات من جهة، وبين هذهالمتغيرات والمتغيرات الخارج – مدرسية من جهة ثانية. وهذه الوضعية متطورةعلى نحو يجعل التلاميذ غير قادرين على حل المشاكل المطروحة فقط بواسطةتكرار وتطبيق المعارف والكفايات القبلية، بل يجعل هذه المشكلات تتطلب صياغةفرضيات جديدة، فكل درس ينبغي أن يكون جوابا عن سؤال يطرحه التلميذ، سواءتعلق الأمر بدرس القراءة أو بدرس آخر. (7)
- المبدأ الثالث: اختيار معارف محددة بوضوح ومعالجتها:
يطرح في هذا الإطار سؤال مركزي هو: ما هي المعارف التي بواسطتها ينجزفعل القراءة؟ إن القراءة المنهجية تستدعي كفايات معرفية ومنهجية ليس فقطلدى التلميذ، بل لدى المدرس أيضا. (8) وتوجد الكفاية المعرفية على رأسالكفايات الواجب توفرها لدى أستاذ القراءة المنهجية للنصوص. لكن المعرفةتتميز باتساع مجالاتها وتعدد مصادرها، فهي أشبه ما تكون بالمكان الذي لاأول له ولا آخر، وهو متجدد لا يتركك تكشف مجاهله و تخبر أسراره حتى يتبدلويعيد النظر في خباياه وثناياه. فحقل المعرفة إذن سماته تعدد الاختصاصاتوتداخلها الدينامي. (9)
1- 3- مراحل القراءة المنهجية:
تمر القراءة المنهجية بثلاث مراحل، هي مرحلة القراءة الاستكشافية و مرحلة القراءة المنهجية ومرحلة إعادة القراءة.
المرحلــة الأولى: مرحلة القراءة الاستكشافية:
يتم في هذه المرحلة اكتشاف النص والتعرف إليه من خلال الملاحظة الفاحصةللتنظيم المادي للنص المتمثل في شكله الخارجي وتوزيعه المكاني وطباعتهوالعتبات الأخرى الموازية له. ومن ثم تتم صياغة الفرضيات الأولى لنوعيةالنص وصنفه، انطلاقا من المكونات السميائية واللغوية القابلة للملاحظة. بعدذلك يتم الانتقال من الملاحظة الخارجية والعامة للنص إلى القراءة الأولىالتي تصحح ردود الفعل الأولية والفرضيات المصوغة في المحطة الأولى، وتعملعلى صياغة فرضيات جديدة، وذلك من خلال تدبر المتن السطحي للنص وصياغته فيفرضيات قابلة للتعديل. ويمكن كذلك أثناء وضع الفرضيات العودة إلى مختلفالاستفهامات والصعوبات ومظاهر عدم الفهم التي يبديها التلميذ في هذهالقراءة الاستكشافية. (10)
المرحلــة الثانية: مرحلة القراءة المنهجية:
تعتبر القراءة الأولى قراءة خطية تذهب في اتجاه واحد، أما القراءةالثانية فهي قراءة استعادية وشاملة تنزع نحو التعمق، وبالتالي استدعاءأدوات التحليل المختلفة الملائمة للفضاء النصي الذي سيبحر فيه التلميذ.
وتتغيى القراءة في هذه المرحلة الإجابة عن الأسئلة الآتية: ماذا يقول النص؟ماذا يقترح علينا؟ كيف يقول النص ما يقوله؟ وما آثار المعنى الممكنةلكيفيات القول؟ وللإجابة عن هذه الأسئلة تتطور القراءة المنهجية عبرالمستويات الآتية:
- التنظيم الصوري: من خلال فحص اشتغال الروابط البلاغية.
- الالتحام التركيبي الدلالي: من خلال دراسة الروابط المكانية والزمانية والروابط المنطقية.
- الاتساق التيماني ومؤشراته: التكرارات النحوية (الضمائر، أسماء الإشارة، الأسماء الموصولة..) وكذا التدرج التيماتي.
- الاتساق الدلالي: من خلال المؤشرات التالية: التكرار المعجمي، الحقل الدلالي وسائل التمثيل (الكتابة، المجاز، الاستعارة).
- الإخراج التلفظي: الكشف عن النظام التلفظي والاستراتيجيات الخطابية وما يمكن أن ينجم عنهما من آثار للمعنى. (11)
المرحلــة الثالثة: مرحلة إعادة القراءة:
في هذه المرحلة يتم توسيع مجال القراءة بفتح النص على سياقه الخارجي بمايسمح بإعادة القراءة. و هذا ما يرسخ فكرة لا نهائية القراءة وانفتاح النصالدائم على فرضيات جديدة. ويمكن تحقيق ذلك من خلال مقارنة النص بنصوص أخرىأو بتفصيل تصور يبلوره النص أو بصياغة مشاريع قرائية للنص ذاته أو لنصوصأخرى يتم تحليلها انطلاقا من نفس التصور المنهجي التحليلي