2020-05-02, 14:02
|
رقم المشاركة : 2 |
إحصائية
العضو | | | رد: 7- سلسلة حكايات كليلة ودمنة .. خصائص البناء النصي في كليلة ودمنة .. | لننظر –الآن – في العناوين الداخلية التي تتصدر الأبواب الأمثال، حيث نجد ابن المقفع قسم الكتاب إلى خمسة عشر باباً، كل باب خصه بعنوان معين يميزه عن باقي الأبواب، وذلك انطلاقاً من أن العنوان –كما رأينا سالفاً –يشكل إحدى مقومات النص وعلامة دالة عليه. ومن الأمور الملفتة للانتباه في تصميم شكل البناء النصي في كليلة ودمنة، خصوصية تدوين العناوين التي تترأس نص كل باب وتتمثل في تأطير العناوين الكبرى التي تشفع –داخل الإطار –بعبارة تحدد المضمون العام الذي سيجري في سياقه الباب المثل. فلماذا التأطير؟ وما الغرض منه؟ عرفنا من قبل أن العنوان هو جزء من النص، فهو يتصدر النص ليدل عليه ويميزه، ليضمن استمراريته عبر الزمن. ولمّا نجد عناوين الأبواب مؤطرة، فإنها علامة دالة على خصوصية الأبواب الأمثال لتؤكد استقلالها عن بعضها بعضاً، كما يعمل الإطار على تمييز الأبواب عن الأمثال الصغرى الضمنية التي تتميز هي الأخرى بعناوين خاصة بها. هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن التأطير يساعد المتلقي على الانتباه والتذكر، مما يجعله يدرك إيحاءات النص ودلالاته الخاصة؛ خصوصاً إذا كانت هذه الإطارات تمزج بها الألوان الدالة والرسومات الموحية، ولعل ميشيل بيتور M. Buttor خير من بين أهمية الرسوم في النصوص الأدبية بالنسبة للمتلقي. (5) هذا عن الشكل، أما عن صياغة عناوين الأبواب، فإننا نلاحظ أنها تأتي مركبة من أسماء لشخصيات سردية في النص، من ذلك: "باب القرد والغيلم"، و"باب الناسك وابن عرس"، و"باب إيلاذ وشادرم وإبراخت"، وغيرها.. لقد عمد المؤلف وضع عناوين الأبواب على هذا الشكل التركيبي لأنها أكثر إيحاء إلى القارئ بوجود قصص معينة تمثل تلك الأسماء البارزة في العناوين أبطالها المحورية، فهذا بلا شك سيدفع المتلقي إلى قراءة تلك النصوص السردية لمعرفة ما حكاية تلك الشخوص. نستنتج من ذلك أن الشكل الخارجي للنص يشكل حافزاً إيجابياً على فعل القراءة. ومن الخصائص الهامة التي يتميز بها كتاب كلية ودمنة، تركيبة عناوين الأمثال الضمنية في الأبواب. حيث نلفيها تعلن عن وجود نسيج سردي جديد له خصائصه ومقوماته السردية. وهي بهذا الشكل نجدها تختلف من حيث البنية التركيبية مع العنوان الرئيس للكتاب وعناوين الأبواب، فالمؤلف سلك نسقاً آخر في تشكيل عناوين الأمثال الضمنية حيث استعوض أسماء الشخوص بذكر بعض ملامح الأحداث التي تقوم عليها البنية الدلالية للمثل الضمني. من مثل ذلك، هذا العنوان: "مثل المرأة البائعة السمسم المقشور بغير المقشور"، فهو عنوان غريب ومشوق، يجعل المتلقي يتساءل ما الذي دفع بهذه المرأة أن تبيع السمسم المقشور بغير المقشور؟، إن هذا السؤال يشكل حافزاً كبيراً على قراءة المثل الضمني وربما تعمد المؤلف ذلك لأن كثرة السرود الصغرى قد تؤدي إلى ملل المتلقي فيتوقف عن متابعة القراءة، وحتى لا يحدث ذلك فإن المؤلف عمد إلى ذكر بعض ملامح أحداث المثل حتى يحفز المتلقي على القراءة عن طريق فعل التشويق. وهذه بعض العناوين التي جاءت على هذا الشكل: "مثل أصل العداوة بين الغربان والبوم"، و"مثل الناسك والفأرة المحولة جارية". وغيرها. ويمكن في الأخير أن نبين العلاقة التي تربط العنوان الرئيس بالعناوين الداخلية (الأبواب)، والعلاقة التي تربط هذه الأخيرة بعناوين الأمثال الضمنية. حيث نجد أن العنوان الرئيس للكتاب يقوم على احتواء الأبواب الأمثال بعناوينها ونصوصها، وهذه الأخيرة تحتوي أيضاً الأمثال الصغرى بعناوينها مما يجعلنا نستنتج أن العلاقة التي تربط العناوين بعضها ببعض هي علاقة احتواء. إننا لما نمعن النظر في هندسة النص، أي القواعد التي تحكم متن الكتاب وتشكل هيكل بنيته الخارجية، فإنه يحق لنا إعطاء تصور أو تأويل واضح بخصوص هذا الشكل. وهو أن الكتاب مقسم إلى عدة أبواب أمثال رئيسة لا رابط بينها سردياً، حيث إنها تشكل بالنسبة إلى النص انفتاحات سردية جديدة ومستقلة، فكل باب منها يطل على فضاء سردي تختلف بنيته السردية عن الباب السابق واللاحق له، ما عدا البابين الأولين فإنهما مرتبطان سردياً وهما (باب الأسد والثور، وباب الفحص عن أمر دمنة). إننا نجد معمارية القصر في كتاب كليلة ودمنة تبدو واضحة من خلال هندسة النص؛ فكما نعلم أن السرد في هذا النص جاء على لسان الفيلسوف بيدبا موجهاً إياه إلى المتلقي الملك دبشليم الذي جاء السرد بطلب منه. وهذا يعني أن عملية السرد حدثت في قصر الملك، فلماذا لا يكون السارد قد استوحى الشكل الهندسي لبناء الحكي من هندسة القصر؟. ولكي نوضح ذلك نقول، إن العنوان الرئيس للكتاب هو رمز للبوابة الرئيسة للقصر التي يلج منها الناس إلى داخل القصر، ولعل الغموض الذي يعتري القارئ لما يصادف العنوان، إنما هو إيحاء إلى صعوبة الدخول إلى قصر الملك فلكي يدخل أحد إلى القصر يجب أن يكون محصناً بمكانة تليق بمنزلة الملك وحاشيته، ولعل هذا التأويل يدعمه ما جاء في مقدمة ابن المقفع للكتاب حيث أكد من خلالها على أن الذي يقرأ هذا الكتاب يجب أن يكون على درجة من الوعي والفطنة حتى يدرك معانيه العميقة ودلالاته الكائنة وإلا فإنه لن يكون جديراً بقراءة كتاب كليلة ودمنة. أما الأبواب الأمثال، فإنها تكتسي صبغة رمزية قوية لأنها تفصل بين المتون السردية للأبواب وتعمل على حفظها من الذوبان في متون سردية أخرى وتجعل كل باب يختص بعنوان يفصله عن باقي الأبواب. والأبواب الأمثال بذلك، ترمز إلى تلك الأبواب التي تشكل مداخل لدهاليز القصر المتعددة والتي يحيط بها الغموض من كل جانب، إن كل مدخل يؤدي إلى فضاء واسع مليء بالأسرار والحكايات المتنوعة، حكايات المكائد والوشايات التي لا تخلو القصور منها في كل زمان ومكان، وما الأمثال إلا تصوير واضح لحياة الإنسان المليئة بالتناقضات القائمة أساساً على الصراع بين الخير والشر. وكخلاصة لما سبق ذكره؛ إن المؤلف اعتمد في بناء هيكل النص على تصور جمالي أراده أن يكون دالاً على مقصديته المضمرة. 2- القصة الإطار: لقد وظف ابن المقفع اللعبة السردية في كتابه كليلة ودمنة بشكل مميز في إنتاج قالب سردي جديد لم يعهده الأدب العربي من قبل، إن هذه القصة تؤطر خمسة عشر باباً، كل باب منها يحتوي عدداً من القصص والأمثال. وهي بذلك تقوم مقام الإطار الذي يحيط بالصورة من الأنحاء الأربعة، وداخلها يتراءى لنا عالماً خاصاً، لا يكشف كنهه إلا قارئ بارع يملك وسائل القراءة العميقة. إن بطلي هذه القصة –كما نعلم –هما الملك دبشليم، وبيدبا الفيلسوف، يقوم بين الاثنين حوار عقلاني، يسرد الفيلسوف في ضوئه أمثالاً سردية، تدور في عمومها حول الوضع النفسي والاجتماعي للإنسان بشكل عام. والقراءة في الهيكل الخارجي للنص، كما أسلفنا –هي محاولة لمعاينة البناء العام للنص السردي، اعتباراً من أن الشكل الفني يعلن عن أشياء قد لا يعلن عنها الخطاب السردي بصيغة مباشرة. تعد القصة الإطار بالنسبة للنص ككل، البوابة الرئيسة التي يلج القارئ من خلالها إلى الأبواب الأمثال المؤطرة داخلها، وللأهمية البنائية التي تحتلها القصة الإطار في الهيكل العام للكتاب، فإننا نجدها ترمز إلى المملكة بحصنها ورعاياها. وإذا تأملنا أكثر في خصوصية هذه القصة وأهميتها في بنية الكتاب، فإننا نتصور أن ابن المقفع يحاول أن يرسم لنا عبر هذه البنية العامة بناء آخر، هو بناء واقعي يخص المجتمع، فالقصة الإطار باحتوائها للأمثال الداخلية ترمز إلى المملكة باحتوائها للحاشية والرعية، بطبقاتها وانقساماتها. وإذا كانت الرعية تمثل دعامة الملك، فإن القصص الداخلية تمثل دعامة القصة الإطار. 3- القصة داخل القصة: إن الإطار العام للشكل النصي في كليلة ودمنة، تنتظم في نطاقه بنيات عديدة صغرى، لعل أهمها يبرز في فضاء النص الداخلي، والذي يتمثل في القصة داخل القصة، هذه الخاصية التي تعتبر الأساس الثاني الذي يرتكز عليه البناء العام للكتاب. إنه بقراءة القصص الضمنية، بتداخلاتها وتراكيبها السردية، نجدها تحمل مضامين كثيرة متنوعة ومعاني عميقة تخص الإنسان، أو بعبارة أدق تخص النفس البشرية بتعقيداتها وتناقضاتها، خيرها وشرها، ضعفها وقوتها.. فلو نتأمل دلالية هذا البناء السردي، فإننا نجده يوحي لنا بتركيبة النفس البشرية ظاهرها وباطنها وتحولاتها؛ هذه النفس التي كثيراً ما حاول الإنسان المفكر قديماً أن يفك أسرارها ويعرف حقيقتها، بل إنه راح ينظر لها بنظريات فلسفية خاصة. فنحن نتصور أن تلك القصص المتداخلة باحتوائها لمضامين عديدة ورؤى مختلفة، تجسد النفس البشرية بتنوعها أيضاً، ومثلما يجد القارئ نفسه لما يقرأ تلك القصص المتوالدة عن بعضها بعضاً، في متاهة سردية، فكذلك الأمر بالنسبة للإنسان، الذي ما أن حاول فهم حقيقة هذه النفس، وجد نفسه في متاهة فكرية وفلسفية. وإذا كنا خلصنا –من قبل –إلى أن القصة الإطار، هي رمز للمملكة ككل بحصنها وحاشيتها، فإننا لو نتأمل هذا التراكب الحكائي من هذه الزاوية بالذات (التداخل) نستوحي رمزيتها إلى بنية المجتمع داخل إطار السلطة الملكية. فهذا التراكب الحكائي هو رمز للتراكب الاجتماعي. وإذا كانت كل حكاية تبدو قائمة بذاتها مستقلة عن الحكايات الأخرى من حيث مضمونها وشخوصها، لكن هذا لا ينفي أن هناك ما يربطها بغيرها من الأمثال والحكايات، وتتمثل في الرابط البنيوي الذي يستند إلى التوالد السردي الذي يؤكد عدم انفصالها عن بقية الأمثال والحكايات. إننا ننظر إلى القصة داخل القصة من هذه الزاوية لنقرب صورة رمزها إلى بنية المجتمع بطبقاته الاجتماعية المختلفة (الغنية، والميسورة، والفقيرة) والمتكاملة. لأن كل طبقة منها تكمل معيشياً الطبقة الأخرى. وابن المقفع أوجد ذلك الشكل الحكائي ليحدث التكامل السردي. ويمكننا القول أيضاً، إن الترابط الموضوعي في بعض الأبواب بالأمثال الضمنية فإنه يوحي إلى رؤية السارد نحو الترابط الاجتماعي. إننا ننتهي بعد هذه القراءة في خصائص البناء النصي في كليلة ودمنة، إلى أن النص السردي (كليلة ودمنة) عبارة عن بنية متعددة الدلالات، حاول ابن المقفع، من خلالها، أن يمارس رؤيته الخاصة نحو النفس البشرية في المجتمع الذي عاش فيه. * المراجع المعتمدة 1-عبد الملك مرتاض، تحليل الخطاب السردي، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 1995، ص 277. 2-محمد بلواهم، "علم العلامات والنص الأدبي" السيميائية والنص الأدبي، أعمال ملتقى معهد اللغة العربية وآدابها، جامعة باجي مختار عنابة 15 –17 ماي 1995، منشورات جامعة باجي مختار عنابة، الجزائر، ص ب 12. ص 42. 3-الطاهر رواينية، "شعرية الدال في بنية الاستهلال في السرد العربي القديم"، السيميائية والنص الأدبي (مرجع سابق) ص 141. 4-عبد الله ابن المقفع، كليلة ودمنة، دار المشرق، بيروت، ط12، سنة 1973، ص 52. 5-راجع ميشال بوتور، بحوث في الرواية الجديدة، فريد أنطونيوس، منشورات عويدات بيروت، باريس، ط2، 1982. مجلة الموقف الأدبي - العدد 396 نيسان 2004
| |
| |