2013-04-07, 11:07
|
رقم المشاركة : 7 |
إحصائية
العضو | | | رد: جمالية المكان في رواية عبد الرحمن منيف . | تابع...
إن هذا المكان الرهيب يشخص الصورة البشعة للاستبداد السياسي، وبذلك يختزل ما ترغب الرواية في قوله. فأن يعتقل أهل الرأي، وأن يعذّبوا، وأن ينفوا من الوطن... فكل هذا هيّن، ويمكن قبوله إلى هذا الحد أو ذاك. ولكن أن يتم رفض عودة الميت إلى وطنه، وأن يتم الإصرار على بقائه ميتا في ثلاجة مستشفى أجنبي، فهذا معناه أن الاستبداد ليس نظاما قمعيا فحسب، إنه نظام عنصري أيضا يقبل من يخدمه ويخضع له، وينزع الهوية ممن ينتقده أو يرفضه.
ب ـ الغيبوبة: لقد كان طالع العريفي كلما أجبر على تجاوز عتبة غرفة التعذيب، وجد نفسه داخل فضاء محكم الإغلاق. وأمام استمرار التعذيب كانت تفتح أمامه عتبة، كان حين يجتازها يجد نفسه داخل فضاء خاص هو فضاء الغيبوبة حيث يتحرك صوت واحد هو صوت الأم. " لا تنس ما أقوله لك يا بني يا طالع..." (36)، أو حيث لا يتحرك شيء " وسرى الألم مثل دورة كهربائية من مكان الضربة ليعم الجسد كله، حتى غبت عن الوعي نهائيا، ولم أعد أتذكر شيئا مما حصل بعد ذلك" (37) . ففي هذا الفضاء الخاص كان جسد طالع العريفي يراوح بين الصحو والسهو: في الصحو يعاني العذاب المطلق، وفي السهو يستشعر الراحة المطلقة. وبين الصحو والسهو يجتاز عتبة اليقظة ليلج عالم الغيبوبة. وفي هذا العالم يحاور أمه، أو لا يحاور أحدا. وفي العالمين معا يراوح طالع بين اللاموت واللاحياة: يريد الموت فلا يجده " لماذا لا أكون ميتا " (38)، ويريد الحياة ولا يجدها، ولذلك يستمر معلقا في فضاء خاص لا استقرار فيه هو فضاء العتبة المفتوحة على كل شيء ممكن.
وفي هذا الفضاء الخاص كان طالع يشعر بالصفاء المطلق الذي لا يشعر به إلا من جرب الغيبوبة. ولكنه كان في ذات الوقت، حين يستفيق من هذه الغيبوبة، يشعر بسخرية القدر التي قادته إلى هذه الحالة العصية على الإدراك.
لقد أحصينا عددا هائلا من العتبات التي انتقلت عبرها الشخصية الروائية/ طالع العريفي إما من سجن إلى آخر، وإما داخل السجن الواحد من مكان سيئ إلى آخر أسوأ منه ( السرداب، العنبر، غرفة التعذيب، زنزانة الموت....) وهذا يعني أن مجمل العتبات في الرواية كانت تنقل الشخصية الروائية من دركة إلى دركة وصولا إلى العتبة الأخيرة/ ثلاجة المستشفى التي كان من الممكن يتجاوزها طالع إلى قبره الخاص ولكنه لم يستطيع إلى ذلك سبيلا. ونفس هذا الكلام ينطبق على عادل الذي غادر عتبة السجن ليجد نفسه مقطع الأوصال وداخل متاهة لا تفضي إلا إلى الدمار.
4 ـ المكان الفارغ أو اللامكان:
إن ما لا يقوله المكان الروائي يقوله اللامكان بصورة مضاعفة. وكلما مارس اللامكان حضوره القوي في الرواية كلما تاخم محكيها حدود الموضوع المأساوي الكبير. وإذا كان ما لا يقوله النص " يشكل البنية المبدعة للإمكانيات التي ترتكز عليها الحركة التأويلية للذات المتلقية" (39)، فإن ما لا يقوله المكان هو ما يقوله اللامكان. وما يقوله هذا اللامكان يشكل الدلالة الضمنية الكبرى التي يخفيها النص الروائي والتي يستطيع القارئ السيميائي إماطة اللثام عنها.
ثمة لا أمكنة متعددة في الرواية سنحاول الوقوف على بعضها:
أ ـ القبر: يعتبر القبر في القاموس الديني عتبة وسطى بين عتبة أولى هي الموت وعتبة ثانية هي البرزخ الذي يعتبر هو الآخر عتبة وسطى بين عالم الحياة الدنيا وعالم الحياة الأخرى. أما في القاموس الافتراضي للرواية فالقبر مأوى لكل ميت جدير بالاعتبار. ومن لا ماوى له لا اعتبار له سواء كان حيا أو ميتا.
وإذا كان هايدغر قد اعتبر موته هو الحادثة الوحيدة الخاصة به بشكل فريد ومطلق، فإن ما واجهه طالع العريفي حين اجتاز عتبة الموت إلى ثلاجة المستشفى جعل موته غير خاص به كما هو حال موت هايدغر؛ إذ ما انفك الآخرون/ أمراء دولة" موران" يتحكمون فيه وفي مصيره حتى وهو ميت. لقد قبلت حكومة " موران " بعد وساطة جهات مختلفة استقبال جثمانه، ولكنها في ذات الوقت رفضت تحمل تكاليف النقل. ولذلك "كان طالع العريفي في صندوقه أسفل الطائرة ... يسمع المناقشات التي تدور فوقه... وكان يبتسم (40) ". لقد اتجه طالع العريفي وهو في صندوقه إلى الوطن " ولكن دون عنوان، ودون أن يعرف أحد (41) ". فهل كان من الممكن أن نتصور طالع العريفي ـ وهو الذي واجه أقصى أشكال التعذيب ـ سيقبل بهذا المصير لو كان بإمكانه ان يفعل شيئا ؟ فأي دليل يمكن أن يقودنا إلى قبر العريفي الذي لا عنوان له؟ وما الذي قصده أمراء "موران" حين اتجهوا به إلى مكان لا عنوان له؟
لقد انزلق طالع العريفي من عتبة الموت إلى عتبة الثلاجة ثم إلى عتبة مجهولة لا عنوان لها. وهكذا يستمر مقيما في رحاب الأعتاب، في الفراغ وخارج كل مكان.
ب ـ وادي الموت: يتكئ هذا المكان الصحراوي الفسيح والمقعر خارج سجن القليعة. وإذا كان السجن فضاء لمختلف أصناف التعذيب التي يتلقاها السجين، فإن وادي الموت يحتضن النهاية المأساوية لكل من قدر له أن يقذف به إليه. يتبع... | التوقيع | " اللّهمّ ردّنا إليك ردّا جميلا " | |
| |