ولدت بلدة وادي شحرور من رحم التاريخ، فجذورها ما زالت عالقة في التراب العتيق العابق برائحة الورد والبخور. سكنها الامراء الشهابيون منذ اكثر من اربعمائة سنة وبنوا القصور التي ما زالت موجودة الى اليوم، كما بنوا دير القديسة تقلا الاثري والذي يعد ذخرا أثريا يؤمه المؤمنون من كل لبنان. وتمتلك كنيسة مار يوحنا للروم الارثوذكس اقدم اربع ايقونات دينية قيمة جدا تاريخيا. ويذكر ان الوادي عاشت عصرها الذهبي في عهد الامير فخر الدين الذي شجع ابناءها على التجارة والصناعة والزراعة، ما اهلهم على شراء واستصلاح الاراضي الخصبة وافتتاح مواسم العز.
تمتاز طبيعتها بسحر خلاب يسكر النظر، أشجار السنديان والصنوبر تستقبل زائريها بشموخ واباء، ينابيعها عذبة صافية تروي بساتين الجنارك والخوخ والحمضيات، زقزقات الشحارير الشادية التي تصدح في جنبات واديها تدغدغ الآذان، وبحات دفوف زجاليها تشدو وتملأ الاصداء من دون تعب او ملل. انها بلدة الموال والعتابا، انها البلدة التي انجبت شحرور الوادي، الاسطورة صباح واختها الفنانة لمياء فغالي، الظاهرة الفنية باسم فغالي، الى فنانين وشعراء واهل قضاء ومربين وكهنة وحرفيين وابطال رياضة.
اسمها وحدودها
في الكتب، تعود تسميتها الى جذر سامي مشترك وهو "شحر" ويعني السواد والظلمة والعتمة. وثمة من يقول إنه يعود الى "مشحرر" المشتقة من حرر ومعناها أعتق.
أما على لسان أهالي البلدة، فيقال ان الاسم يعود الى كثرة عصافير الشحرور في الوادي. ويقال ايضا انها وادي "الشحر" أي الوادي الاسود حيث كان يتم تصنيع الفحم فيها بكثرة.
تقع وادي شحرور في قضاء بعبدا في المتن الجنوبي التابع لمحافظة جبل لبنان، ويحدها من الشرق بلدات بدادون، حومال وبليبل، ومن الغرب كفرشيما والمرداشة، ومن الشمال بسوس، وحارة الست، أما من الجنوب فتحدها بليبل وبسابا. ترتفع عن سطح البحر بين 140 و240 م وتبلغ مساحتها حوالى 3 ملايين متر مربع.
جغرافيتها
ذكر الاب هنري لامنس في كتابه "تسريح الابصار في ما يحتوي لبنان من الآثار":إنه في القديم تكونت المثلثات الساحلية عند مصب الانهار في جوار البحر، وساحل بيروت هو ثمرة الانهار والسيول التي تجتاز اوديته كوادي الشويفات، ووادي شحرور، ووادي نهر الموت، ويقول علماء الجيولوجيا إن بيروت كانت في العصور الغابرة جزيرة تحيط بها المياه، بحيث كانت هذه المياه تصل خليج الخضر (الكرنتينا) بوادي شحرور، وتدل هذه الوثائق على ان وادي شحرور كانت تقع على شاطئ البحر، قبل ان يتكدس الطمي فتتشكل أراض جديدة أبعدت المنطقة عن الساحل.
تاريخها وآثارها
كانت الوادي ملكا للامراء الشهابيين كغيرها من البلدات المحيطة، وقد قسم هؤلاء الامراء البلدة الى احياء بحسب موقع قصورهم التي يبلغ عمرها حوالى 400 سنة وما زالت موجودة الى اليوم، وآخر الامراء الشهابيين الذين سكنوا البلدة هو الامير شفيق محمود شهاب، وقد آل منزله الى ابنته جلنار التي تعيش فيه حاليا، فيما تعرف احياء ومنازل كثيرة في البلدة بأسماء الامراء الشهابيين الذين سكنوا فيها وابرزها: دار المير قيس، دار المير سليم، دار المير علي، دار المير كميل، وأخرى تعرف بدار حليما. كما يوجد قبر اثري للامير شفيق شهاب واخته الست زاهده.
ومن حارات الوادي واحيائها: حارة التين، حارة الفغالية، حارة الروم، حي النبع، حي الشختور، حي الحمي، وحي مار تقلا. والجدير ذكره ان دير مار تقلا بناه الامراء منذ حوالى 400 سنة وهو تابع اليوم للرهبانية اللبنانية المارونية، وما زال محجة للمؤمنين من كل لبنان.
الأمراء الشهابيون
ذكر في كتاب "تاريخ الامير حيدر الشهابي" الامير حسن الذي كان يقطن في قصر في وادي شحرور والذي تولى الامارة في لبنان بدلا من الامير بشير الشهابي في 2 آذار من العام 1820.
ويشير المؤرخ فيليب حتي في كتابه "تاريخ لبنان": "في ايام ثورة انطلياس التي عرفت بالعامية في العام 1820، لم يعد في إمكان الشعب دفع الضرائب لتغطية مطالب الحاكم العثماني أحمد باشا الذي عرف ب"الجزار"، فتخلوا عن الامير بشير وراحوا ينادون بحسن الشهابي اميرا للبنان".
وورد في "تاريخ لبنان الحديث" لكمال الصليبي "انه عندما عجز الامير بشير الثاني عن جمع الضرائب لصالح احمد باشا، والقضاء على العصيان الذي عم البلاد، تنازل عن الامارة وغادر البلاد الى حوران، فصدر امر الوالي عبد الله باشا بتعيين حسن شهاب (القاطن في وادي شحرور) خلفا له.
وعرفت وادي شحرور نموا سكانيا ملحوظا في عهد الامير فخر الدين حين حصلت موجة من الالتحام بين اهل جبل لبنان، وحصل اختلاط شعبي بين مختلف المناطق، وراح اهل الوادي الذين كانوا يعملون لدى الامراء، يكدون في الزراعة والصناعة والتجارة، واشتروا الاراضي واستملكوها بعرقهم وتصميمهم.
كنائسها
تنتشر في انحاء وادي شحرور كنائس عدة، منها القديم ككنيسة دير القديسة تقلا الذي تسلمته الرهبانية اللبنانية المارونية من الامير علي شهاب في العام 1788، ومنها الاحدث ككنيسة مار يوحنا المعمدان للموارنة، وكنيسة القديس يوحنا للروم الارثوذكس، وقد بنيت كلتاهما على انقاض كنيستين قديمتين جدا. ويذكر ان ابو عسكر الجبيلي (يونس نقولا) وهو متسلم ديوان بيروت من احمد باشا الجزار في العام 1784 كان مسؤولا عن هذه المنطقة، قد بنى الكنيستين المذكورتين اللتين تصدعتا بفعل الزلزال وعوامل اخرى فبنيت على انقاضهما الكنيستان الكائنتان حاليا. وقد حافظت كل من الرعيتين على الايقونات واللوحات القديمة الموجودة منذ القدم، بحيث تملك كنيسة مار يوحنا للروم اليوم اربع ايقونات تعتبر الاقدم في المنطقة بحسب احد الخبراء الاجانب.
كما ترتفع في البلدة كنيسة على اسم الملاك ميخائيل، واخرى على اسم مار انطونيوس الكبير، و"كابيلا" خاصة صغيرة على اسم النبي ايليا.
مشاهيرها
تتميز وادي شحرور بالطاقات الفكرية والحقوقية والعلمية والفنية والدينية وايضا الحرفية. وفي هذا الاطار نذكر ان وادي شحرور كانت مشهورة ب "المعمرجيي" الماهرين في بناء البيوت من الحجر المقصوب المتين.
كما ان ابناء الوادي برعوا في الزجل اللبناني والشعر وذاع صيتهم في العالم. ويبرز من وادي شحرور في عالم الصحافة والادب سليمة ابي راشد وهي اول اديبة من الشرق في المهجر، وقد أسست جريدة "النصر"، المطران عبدو خليفة النائب البطريركي العام وهو اديب وله عدة مؤلفات، وفي عالم المحاماة والقضاء القاضي انطوان خير (رئيس مجلس القضاء الاعلى)، سليم الاسطا (نقيب المحامين سابقا)، وفي السياسة الدكتور الياس الخوري (نائب ووزير سابق).
أما في الشعر والفن، فنذكر: شحرور الوادي الشاعر أسعد الخوري الفغالي، كروان الوادي كميل خليفة، الاسطورة الفنانة جانيت الفغالي المعروفة ب"صباح"، الممثلة لمياء الفغالي، المبدعان انطوان ولطيفة ملتقى، المخرج ايلي الفغالي، المطرب مجد الغاوي والممثلان منير وميرنا الغاوي.
وفي نبذة عن حياة الفنانة الكبيرة صباح التي عرض مسلسل تلفزيوني قصة حياتها المليئة بالاحداث والمواقف المؤثرة بعض اعمالها الفنية الراسخة في البال:
صباح
ولدت جانيت فغالي المعروفة باسم صباح في العاشر من أكتوبر 1927 في بلدة وادي شحرور. تلقت دروسها في مدرسة اليسوعية في بيروت فكانت تمثل وتغني في الحفلات المدرسية وهي لم تبلغ الثانية عشرة من عمرها. اكتشفتها الممثلة والمنتجة آسيا داغر فجاءت بها إلى مصر وقدمتها إلى كبار الملحنين والمخرجين. كان ظهور صباح في أول فيلم لها مع أنور وجدي من إخراج بركات "القلب له واحد"، وغنت فيه أغاني من ألحان رياض السنباطي وزكريا أحمد. قدمت دويتو مع فريد الأطرش وعاشت بين وطنها لبنان ومصر. توالت بطولاتها السينمائية لتبلغ حوالي 85 فيلما مع كبار الممثلين ومنهم رشدي أباظة، أحمد مظهر، محمد فوزي وفريد الأطرش. من بين تلك الأفلام:"الأيدي الناعمة"، "شارع الحب"، "بلبل أفندي"، "نار الشوق" وآخرها كان "ليلة بكى فيها القمر" مع النجم حسين فهمي.
يوجد في رصيد الفنانة صباح حوالي 3500 أغنية، من بينها أغاني المهرجانات والأفلام والمسرحيات. وقد غنت لعمالقة العالم العربي ومنهم محمد عبد الوهاب "عالضيعة"، وبليغ حمدي "يانا يانا" التي أعادت غناءها على طريقة الدويتو مع المطربة اللبنانية رولا سعد، وفريد الأطرش "يا دلع دلع" وغيرهم. في الستينات غنت نشيد "الوطن الأكبر" للموسيقار محمد عبد الوهاب إلى جانب كل من عبد الحليم حافظ، شادية، نجاة الصغيرة، فايزة كامل ووردة الجزائرية.
وتعتبر صباح أول فنانة عربية غنت على مسرح الأولمبياد في باريس مع فرقة روميو لحود الاستعراضية منتصف السبعينيات، كما وقفت على عدة مسارح معروفة، منها "كارناغري هول" في نيويورك، ودار الأوبرا في سيدني وقصر الفنون في بلجيكا، وألبرت هول في لندن وكذلك على مسارح لاس فيغاس وغيرها.
وهكذا تبقى ابنة الوادي الصبوحة شحرورة في الاداء والصورة والتمثيل والحضور الآثر.
أنطوان ملتقى
ولد أنطوان ملتقى في وادي شحرور. هو مسرحي كبير ورجل فكر باحث ومثقف. صعد إلى خشبة المسرح لأول مرة سنة 1937 في دور مزارع صغير. وأول مسرحية متكاملة أخرجها ومثل فيها هي مسرحية: "الزير" لفولتيرفي العام 1950 في وادي شحرور وكان قد حصل على شهادة البكالوريا.
تعرف إلى السينما وشاهد "ماكبث" بحسب إخراج أورسون ويلز وتمثيله، وأثرت فيه هذه المشاهد. في المدرسة لم يتعلم إلا المسرح الفرنسي، ولما تعرف في السنة الجامعية الأولى على مسرح شكسبير أدهشه وتعمق فيه.
وقدم في الجامعة مسرحية "ماكبث"، فأخرجها ومثل الدور، وكان إخراجه يومذاك متأثرا بالسينما. امتدت مرحلة الهواية عند أنطوان ملتقى حتى عام 1954، أي حتى سن العشرين. وفي هذه الفترة أكمل دراسته ونال إجازة في الفلسفة، وتعرف على لطيفة شمعون التي كانت تدرس الحقوق، وكان قد انتقل هو إلى تدريس الفلسفة ثم تزوجا عام 1959، وعاشا حياة فنية متكاملة.