عرض مشاركة واحدة
قديم 2013-04-07, 12:03 رقم المشاركة : 5
الشريف السلاوي
مدير الإشراف
 
الصورة الرمزية الشريف السلاوي

 

إحصائية العضو









الشريف السلاوي غير متواجد حالياً


وسام المشاركة السيرة 1438ه

وسام المشاركة في مسابقة القران الكريم

مشارك في مسابقة صور وألغاز

وسام المشاركةفي المسابقة الرمضانية الكبرى 2015

وسام مشارك

مسابقة المبشرون بالجنة مشارك

مشارك(ة)

مشارك(ة)

وسام المشاركة في مسابقة السيرة النبوية العطرة

وسام الشخصية البرونزية

cour رد: جمالية المكان في رواية عبد الرحمن منيف .


تابع...



إن هذه الأمكنة المغلقة المتناسلة في الرواية تكاد لا تحصى. وسنحاول الوقوف على بعضها بغية التعرف على شكلها وشكل انغلاقها، وشكل تحرك الشخصية داخلها:
أ ـ قاعة التعذيب: "غرفة واسعة في جانب طاولة كبيرة حولها، من جهة واحدة عدة كراس، وفي الجانب الآخر من الغرفة سرير عسكري. ولم يكن في الغرفة نوافذ، والضوء الكهربائي دائم الاشتعال" (21) . إن هذه الغرفة سوداء، فهي مغلقة من جميع الجهات، لا نوافذ لها ولا باب، والباب الموجود لا يفتح إلا بمناسبة قدوم سجين كي يخضع للتحقيق والتعذيب. ولأنها بهذه الصورة القاتمة، فهي بيضاء على الدوام بسبب دوام اشتعال ضوئها الكهربائي. إنها سوداء سوادا مطلقا وبيضاء بياضا مطلقا. وإذا كان السواد المطلق دلالة على الانغلاق المطلق من حيث هو المعادل الرمزي للموت، فإن البياض المطلق هنا دلالة على الانفتاح المطلق داخل الانغلاق المطلق من حيث هما المعادل الرمزي للاموت واللاحياة. وهذه هي الوضعية التي تؤول إليها الغرفة حين تتحول من غرفة تحقيق إلى غرفة تعذيب لا يطاق. ولذلك فلما لم يعترف طالع بشيء في جلسات متكررة من التحقيق سيق إلى التعذيب " وفجأة، وكما تقع الزلازل ... وبطريقة شديدة البراعة والإتقان وجدت ان أبواب الجحيم فتحت علي: الضرب، اللكمات بالأيدي، بالأرجل، بالرأس والأكتاف، كلها انصبت علي. كانت القبضة لأنها قوية ومحكمة توقعني أرضا، وكانت القفزة فوقي تجعلني أمتزج بهذه الأرض.. "22).)
بإمكان القارئ أن يستمر في قراءة هذا المقطع العصي على القراءة حتى النهاية؛ ليكتشف الحالة التي انتقل إليها طالع العريفي في غرفته البيضاء/ السوداء. لقد انتقل، تحت ضربات جلاديه، من الحياة إلى اللا حياة واللا موت. ففي كل لحظة كان ينتقل من الحياة إلى الموت، ثم يعود من الموت إلى الحياة. غير أنه لم يكن يمتلك القدرة على الإقامة لا داخل الحياة ولا داخل الموت. ولذلك استمر يراوح بين اللا حياة واللا موت. "هذه الليلة لا يمكن أن توصف. قدرت أن تكون ليلتي الأخيرة. ولذلك قررت أن أحرمهم من الفرح. " (23) " في وقت ما، وحين بدأ جسدي يغادرني ... كنت أعود من المكان الذي وصلت إليه نتيجة الماء البارد ... إلى أن غبت عن الوعي، ولا أعرف متى اكتشفت نفسي في المكان الآخر (24) ".
وحدها الغيبوبة أنقذت طالع العريفي حين نقلته من حالة اللا حياة واللا موت إلى حالة يصعب وصفها. لقد فرضت هذه الغيبوبة على الجلادين السبعة وقف التعذيب. وداخل هذه الغيبوبة عاش طالع حياة خاصة ـ من المستحيل وصفها ـ داخل الموت الذي ليس موتا. إنه الموت الذي لم تغادر روحه جسده فيه، بقدر ما غادر جسده روحه. لقد تحول إلى روح حرة انتقلت به إلى مكان بعيد هو في اعتقادنا اللا مكان من حيث هو الموت الذي ليس موتا. يمكن للا وعي طالع العريفي أن يحكي عن إقامته في هذا المكان الفسيح كي يطلعنا على تفاصيل حياته فيه، غير أن هذا اللاوعي أخرس لا يتكلم. لقد حضر لإنقاذ الوعي والجسد اللذين فقدا القدرة على المقاومة، ولم يحضر ـ بسبب اضطرابات نفسية ـ كي يتكلم بمختلف الطرق المواربة التي يمتلكها.
ب ـ زنزانة الموت: "في وقت ما أفقت. بصعوبة حاولت أن أكتشف المكان الذي أنا فيه، أن أتبين معالمه. بعد جهد، وبعد فترة قصيرة بدأت صورته تتكامل في عيني." (25). .. بإمكان القارئ الرجوع إلى الرواية للتعرف على هذا المكان وعلى مجمل العناصر التي تؤثثه.
يبدو هذا المكان/ الزنزانة أقرب إلى صورة القبر" طوله ثلاث خطوات، وعرضه خطوتان (26) " غير أنه يختلف عنه في أشياء كثيرة، إذ تملؤه رائحة قاسية، يسوده الصمت "المسكون بالانفجار" (27) الذي لا يخلخله سوى تسرب الماء من " حنفية دورة المياه.. بوقع ثابت كأنه دقات الساعة" (28) ، وينتشر فيه الدم والبراز والجرذان والحشرات... وإذا كان المكان السابق يسع سبعة جلادين ثامنهم سجينهم، فإن هذا المكان لا يسع أكثر من شخص واحد هو طالع العريفي. وإذا كان المكان الأول مضاء، فإن هذا المكان مظلم ولا يتوفر إلا على " بلاطات زجاجية يتسرب منها نور باهت هو الذي يعلن قدوم النهار أو انتهاءه. (29) " وإذا كان المكان الأول يغلق بهدف تعذيب طالع العريفي جسديا بصورة وحشية، فإن هذا الأخير يغلق بهدف تعذيبه نفسيا بمختلف الأشياء الموجودة فيه، أولها الصمت الذي يدفع العريفي تدريجيا نحو الانفجار، وثانيها الضيق الذي يطبق على جسده في كل لحظة بهدف تكسير عظامه وعصر أمعائه، وثالثها قطرات الماء التي تتقطر بانتظام نمطي وبدون توقف كي تدفعه عنوة نحو الجنون، ورابعها الدم والبراز اللذين حولا المكان إلى بالوعة مخنوقة داخل رائحتها القاسية يقيم العريفي ليل نهار، وخامسها الجرذان والحشرات التي تقيم مع العريفي، وتتحرك في مكان لا يملك فيه القدرة على الحركة، إلا إذا كانت هذه الحركة صعقة يعقبها انفجار.
غير أن مجمل هذه العناصر المؤثثة للمكان والمحيطة بطالع العريفي تدحوه إلى شفا الموت، لكنها لا تلقي به في مهاويه كي تريحه من العذاب، بقدر ما تبقيه، على مقربة من هذه الشفا، يدور في فلك الجنون خارج الحياة وخارج الموت وداخل اللاموت واللاحياة.
ج ـ الانفرادي: " قلت لنفسي بنوع من التعزية: ليست المرة الأولى في الانفرادي، ومهما تكن ستنقضي. (30) " إن هذا الذي يسميه السارد بالانفرادي ليس زنزانة، إنه "علبة من الزنك القوي مسقوفة... أحد جوانبها بمثابة باب ... تكفي للوقوف. (31) " وفي كل علبة من هذه العلب المتراصة ألقي بواحد من السجناء السياسيين: عادل، هشام زينو، رضوان فرح، وحامد زيدان، وذلك عقابا لهم على عدم اعترافهم بالكيفية التي هرب بها أحد السجناء.


يتبع...






التوقيع


" اللّهمّ ردّنا إليك ردّا جميلا "
    رد مع اقتباس