عرض مشاركة واحدة
قديم 2011-02-20, 19:03 رقم المشاركة : 1
رشدية جابرية
بروفســــــــور
 
الصورة الرمزية رشدية جابرية

 

إحصائية العضو







رشدية جابرية غير متواجد حالياً


وسام المشاركة في دورة HTML

وسام مشارك في دورة حفظ سورة البقرة

افتراضي علاقة الفلسفة الحَديثة بمفهُوم العقْل عند ابن سينا - د.غانم هنا


علاقة الفلسفة الحَديثة بمفهُوم العقْل عند ابن سينا - د.غانم هنا


الدكتور غانم هنا: من هيئة التدريس بجامعة دمشق‏


لن أذكر في البدء تحديداً للعقل، ولو كان في موضع الرسم، وحجتي في ذلك أمران: أولهما أن التحديد هنا قد لا يتعدى ضبط المصطلحات الدالة على ماهية الشيء ـ ولا ماهية العقل كما هو معروف ـ ثم إن كون استعراض الأماكن التي تكلم فيها ابن سينا على العقل بغية مفهوم خاص به يضيق به المقام هنا ولا يخدم البحث بغير حفظه إياه من الخطأ. فيكون الإعراض عن التحديد إذن، حتى لو جاء مخالفاً لقواعد المنهج، تعبيراً عن إرادة تتعمد الخروج على الأمان الناجم عنه. ذاك أن الإعراض في هذا المجال، ولربما بدا هنا سبب ثالث للإعراض عن التحديد ـ من شأنه أن يوجه العناية نحو ا لعلاقات القائمة بين الألفاظ، وليس نحو الألفاظ قبل كل شيء ـ علنا نستشف إطلاعاً مغايراً لما هو متأت عن ضبط الألفاظ وإثباتها في سياق موجه.‏


أما نقطة الاقتراب من بحث ما نحن في صدده فلا تتطلب بالقسر حصر المنطلق أو الموقف الفلسفي العام الذي هو جزء منه أو ملتزم به، لأن لعلاقة الفلسفة الحديثة بمفهوم العقل عند ابن سينا بعداً ينجم عن عدم اللجوء إلى التحديد أولاً وعن الإعراض عن الالتزام بمجموعة بنى فكرية، تكون منهجاً أحياناً أو أيديولوجية أحياناً أخرى ثانياً. وهنا نلتزم بقناعة من أن جوهر المهمة التي للبحث العلمي هي رؤية للمغايرات والتناقضات والتكاملات وربط كل منها ما مضى ـ وقد مضى بمعطياته التاريخية والاجتماعية والمادية المحددة ـ بما هو قائم، أي بالتاريخية الحاضرة، ثم ربط كليهما بما سيكون أي بالكلية المتكاملة في التاريخ. فلسنا نلجأ إلى ما مضى لنبحث فيه عن حلول لما هو قائم، أو لنثبت إبداعاً كان أجدادنا سباقين إليه، بل نتوخى الرؤية العلمية الواضحة في كيفية كون ما سبق جزءاً لا ينزع عن الكلية التاريخية التي هي حضارتنا. وبمقدار ما يشكل الماضي والحاضر والمستقبل وحدة تتفاعل فيها جميع معطيات حضارة أو أمة تكوّن عملية الربط بين أجزاء هذه الوحدة الالتزام الأساسي للبحث العلمي.‏


من هنا يبدأ كلامنا في القسم الأول ولو بشيء من التبسيط: محاولات ربط بين الفلسفة الحديثة ومفهوم العقل عند ابن سينا قام بها أعلام أكفاء. أ ما في القسم الثاني فنحاول إيضاح نوعية علاقة جديدة مع ما طوره ابن سينا في مفهوم العقل حين جعل الوعي أساساً للعقل.‏


القسم الأول:‏


ذكر بحاثة عديدون نصوصاً في مؤلفات ابن سينا رأوا فيها إشارات واضحة إلى مشاكل فلسفية حديثة لا بل وجد فيها بعضهم حلولاً لم تذكرها كتب تاريخ الفلسفة.‏


وكان أول من ربط مفهوم العقل في الفلسفة الحديثة وفلسفة ابن سينا العالم الإيطالي G.Furlani وذلك في مقال نشره عام 1927م في مجلة Islamica بعنوان:‏


"ابن سينا ومقولة ديكارت (أنا أفكر فأنا موجود)(1)، وقد اعتمد فورلاني في تأكيده على نص لابن سينا اشتهر باسم "الرجل الطائر" الوارد في كتاب الشفاء، قسم الطبيعيات، الفن السادس(2) فحسم بأن بين ابن سينا وديكارت قرباً حميماً جداً وذلك في فهم الكوجيتو. وهذا هو النص المعتمد عليه: "..... يجب أن يتوهم الواحد منا كأنه خلق دفعة وخلق كاملاً لكنه حجب بصره عن مشاهدة الخارجات وخلق يهوي في هواء أو خلاء هويا لا يصدمه فيه قوام الهواء صدماً ما يحوج إلى أن يحس، وفرق بين أعضائه فلم تتلاق ولم تتماس، ثم يتأمل أنه هل يثبت وجود ذاته، ولا يشك في إثبات لذاته موجوداً ولا يثبت مع ذلك طرفاً من أعضائه ولا باطناً من أحشائه ولا قلباً ولا دفاعاً ولا شيئاً من الأشياء من خارج بل كان يثبت ذاته ولا يثبت لها طولاً ولا عرضاً ولا عمقاً، ولو أنه أمكنه في تلك الحالة أن يتخيَّل يداً أو عضواً آخر لم يتخيله جزءاً من ذاته ولا شرطاً في ذاته. وأنت تعلم أن المثبت غير الذي لم يثبت والمقرب غير الذي لم يقرب. فإذن للذات التي أثبت وجودها خاصية لها على أنها هي بعينه غير جسمه وأعضائه التي لم تثبت. فإذن المثبت له سبيل إلى أن يثبته على وجود النفس شيئاً غير الجسم بل غير جسم، وأنه عارف به مستشعر له وإن كان ذاهلاً عنه يحتاج إلى أن يقرع عصاه"(3)، من هنا قال فورلاني: "إن العلاقة الفكرية بين تعاليم الاثنين وثيقة جداً"(4).‏


وليس فورلاني متفرداً بالقول بهذه القربى. فهذا محقق نص كتاب النفس من الشفاء، يان باكوش، يعقب في ملاحظة على ترجمته الفرنسية للنص المذكور بقوله: "إن هذا هو قول ديكارت المشهور، أنا أفكر فأنا موجود"، ويتابع: "فإن الصورة التي يقدمها ابن سينا تبرهن على أن نفس إنسان كاملة ولكن محجوبة هي التي تظهر له دون وساطة الجسد إنه موجود وإنه يفكر"(5) ومع أن الباحثين لا يذهبان حتى التأكيد بأن ديكارت قد اطلع على نصوص ابن سينا مباشرة أو بطريقة غير مباشرة، إلا أنَّ فورلاني يميل إلى مثل هذا التخمين حين يشير إلى سعة اطلاع ديكارت على النصوص اللاتينية التي كتبت في العصور الوسطى وقد كان كتاب ابن سينا قد ترجم إلى اللاتينية.‏


هناك محاولة ثانية، وهي تحمل اسماً لامعاً في عالم الفكر المعاصر، تقوم بربط مفهوم العقل السينوي ومن خلاله فلسفته كلها بتيارات حديثة. فقد جعل ارنست بلوخ Ernst Bloch الفيلسوف العربي من أتصار ما دعاه "الأرسطو طالية اليسارية"(6) تيمَّناً بالهيغلية اليسارية. فابن سينا عند حد قول بلوخ يشكل حلقة في التطور التاريخي الذي وصل بالفلسفة الأرسطو طالية إلى جوردانو برونو وليس إلى البرتوس أوتوما الأكويني(7). فابن سينا عند حد هذا القول، هو حجر زاوية هنا، لأنه: "ينطلق بهذا الاتجاه من مفهوم المادة والصورة الأرسطي معرضاً عن القدرة الإلهية ذاتها لصالح المقدرة الفعالة التي للمادة. وهذا هو طريق اليسار الأرسطو طالي بعينه الذي يشكل ابن سينا قطباً فيه ونقطة تحول في حقبة مابعد الفلسفة اليونانية"(8) وتكمن (يسارية) ابن سينا، إذا ما جاز لنا اختصار قول بلوخ في أن الفيلسوف العربي قد جعل القوة الفاعلة الجامعة مابين المادة والصورة، أي القوة واهبة الصور لا تتجه باتجاه الألوهة، بل باتجاه الطبيعة والإنسان. فكل ماكان ينسب في الفهم (اليميني) لله حول هذه القدرة أصبح لدى ابن سينا للمادة. ذاك أن العقل واهب الصور، العقل الفعال هو من خصوصيات الإنسانية وليس روحاً يرفرف فوقها.‏


أما الاقتراب من المفهوم السينوي للعقل الأكثر شيوعاً فهو ذلك الذي يقدمه الاستشراق وأتباعه. وصلب ما يعتمد عليه هو ما يقول به منهجاً ويسميه الموضوعية العلمية غير المنحازة كونها تأخذ النصوص المثبتة على ماهي عليه وتقيم الروابط التاريخية السابقة أو المعايشة لها. وبما أن مجرى التاريخ هو الذي به يحدد السابق واللاحق، نرى أن الاستشراق يحدد فلسفة ابن سينا. والفلسفة العربية ككل، من خلال هذه الروابط، وكثر من قال بأن الفلسفة العربية هي ملحق، وإن جدنا بالقول، مكمل للفلسفة اليونانية. هذا إذا ما أعرضنا عن موقف القائلين فيها أنها فلسفة يونانية بلباس عربي، أو إنها صوفية مبطنة بكلام فلسفي الخ...‏


وبالرغم مما بين المستشرقين من اختلاف في التفاصيل والاتجاهات يمكننا القول إنهم يتخذون جميعاً من العلم موقفاً وكأن العلم قائم بحد ذاته ومن أجل ذاته يحق لكل من ملك القدرة الآلية أن يقول فيها مقراً أو نافياً مجيزاً أو مبطلاً. إن أوروبا والاستشراق وليدها ـ ما فتئت تحاول جعل العلم في خدمة مؤسسة اجتماعية ما، كنيسة كانت أم نظاماً اجتماعياً أم سلطة في حكم. وقد اتبع الاستشراق، غالب الأحيان هذا الطريق ففهم الفلسفة العربية مثلاً إن لم تكن كخادمة للفكر الديني أو الصوفي أو السياسي السائد، فهمها كنتيجة لتيارات سابقة. وليس بخفي من ناحية أخرى، أن الموقف الذي اتخذه الاستشراق وأتباعه من بني المشرق من العلم قد بني في أساسه علىعلاقة تثبت العلم بمثابة وظيفة للعلوم اليونانية أو الحضارات الأوروبية. وهنا يخفى عن الذهن أن علاقة معظم الحضارات الأوروبية بالحضارة اليونانية هي علاقة بنوة كما هو معروف. لكنه ليس من الصحيح بشيء ربط الحضارة العربية بهذه العلاقة وتبني ما ينتج عنها لإلباسه العلوم العربية والفلسفة قبل غيرها منها.‏


وإنني أرفع الصوت عالياً وهذا مع كثيرين من المناهضين لسيادة فهم الاستشراق على فهمنا لحضارتنا. وأرفع الصوت بالشك في موضوعية ما يدعيه الاستشراق من تبعية للفلسفة العربية للمفاهيم اليونانية أفلوطينية محدثة كانت أم أرسطو طالية أم أفلاطونية. وإنني أدَّعي أن فهم العقل لدى الفيلسوف ابن سينا ليس بحاجة إلى أن يمرّ في غربال الأمانة أو عدم الأمانة للفلسفة اليونانية أو التأثير بها كي يفقه حقاً.‏


لدينا في النهاية تيارات معاصرة تتبنَّى في اقترابها من الفلسفة العربية المنهج الماركسي والمادية التاريخية فيه على الأخص. وأبرز ممثلي هذا الاتجاه هم الدكتور حسين مروة في كتابه: "النزعات المادية في الفلسفة العريبة الإسلامية"(9)، والزميل الدكتورطيب تيزيني في مؤلفه "من التراث إلى الثورة"(10).‏


لا شك في أن المنهجية والإيديولوجية المتبعة هنا قد ألقت الأضواء على معطيات أساسية كانت التبعية الفكرية قد أخفتها عن أعين كثير من الشراح والبحاثة. لكن هذا التيار قد اعتمد في كلامه عن الفلسفة، ومع الأسف كما أرى، اعتمد على تبديل التسميات من حيث لم يرد ذاك حين راح يبرر فهمه الجديد لمعطيات عدة بالعودة إلى ما جاء ضمن الكلية المنهجية الخاضعة لإلتزام عقائدي مسبق. ثم قد نصَّب هذا التيار سلطات في المقولة العلمية تلجأ إلى شرعية فهمها لتبرر ما تدعيه. فالقول مثلاً إنَّ فلسفة ابن سينا هي فلسفة مثالية أو واقعية أو مادية ليس، كما يبدو لي، قولاً يقرب فهم ابن سينا إلى القارئ أو يعدل في معالجة هذه الفلسفة، بل إنه ينزع التصورات عن فكر المدَّعي الفهم ليطبعها على المواضيع المدروسة،وكأن القائل لا يرغب في أن يفهم أحد سوى نفسه، وسوف نرى في القسم الثاني من هذا البحث نموذجاً عن التفكير الآلي الذي يريد إظهار الموضوع الذي يدرسه باللباس الذي يروق له.‏


القسم الثاني:‏


تقرأ في رسالة الشيخ الرئيس "في معرفة النفس الناطقة وأحوالها" (11) مايلي المراد بالنفس ما يشير إليه كل أحد بقوله "أنا" فالمقولة الأساسية حول النفس هي "الأنا". ومهما جهد الفكر في التفسير لإرجاع هذا المفهوم السينوي إلى معطيات أرسطو طالية أو أفلاطونية محدثة يبقى أن "الأنا" عند ابن سينا ليست إشارة إلى جزء مكون للإنسان بل إنما هي هويته (أ ِّنيته)، أي ما يجعله إنساناً. والأنا مغايرة: "لجملة أجزاء البدن"(13) لا لسبب إلا لكونها ناطقة أي مدركة بالعقل (14) والإدراك بالعقل هنا يعني أنها تعقل ذاتها ثم إنها تعقل إنها تعقل (15).‏


نقف قليلاً أمام هذه المعاني: حينما وضع ابن سينا رسماً للنفس وجد كما رأينا أن "المراد بالنفس ما يشير إليه كل أحد بقوله (أنا)"(16). وفي هذا القول خروج صريح على التعليم الأرسطو طالي المعروف في النفس. ولكن أيجوز لنا فهم هذا التأكيد كإثبات للأنا المكونة للإنسان؟ من المتفق عليه أنه لم يكن ليخطر ببال أرسطو الشك في وجود الفكر لدى من يفكر. وقد بدأ الشك في هذا الموضوع حين طرحت ثنائية الفكر والوجود، أي في الفلسفة الحديثة فطلب من العقل رفع هذه الثنائية من أجل الوصول إلى حدة وجودية. وحاول حل معضلتها من لم يعد يهمه أمر وحدة العقل أو العقل الكلي أو العقل الفعال. أي منذ أن رأى في الفكر ذاتية شخصية، أساس هويتها حرية الجمع بين الفكر والوجود عينها، فنتج عن هذا التحدي في الفلسفة الحديثة ما سمي نظراً للحلول المقدمة مثالياً أو واقعياً أو مادياً.‏


ودار السؤال الحقيقي لدى أقطاب الفكر الحديث، كديكارت وكانت وفخته وهيغل ليس حول ثبت أولويات بين الفكر والوجود، كما توهم بعضهم، بل كان ومنذ اللحظة الأولى مع ديكارت: كيف أعلم أنَّ... أي من أين يتأتى لي حق التأكيد في القول بأن ما أقول حق. من هنا بدأ ديكارت طريقه نحو ربط الفكر والوجود وتبعه في ذلك معظم فلاسفة الحقبة الحديثة. ليس بقول أن الفكر ينتج الوجود أو العكس، بل ـ وهذا فقط ـ إن في التأكيد اعتداداً يجب أن تبرَّر حقيقته ليصبح علماً. ومع ديكارت وجدت الفلسفة الحديثة أن العلم هو قبل كل شيء علم العالم بوجوده عالماً، الأمر الذي لا يمكن نفيه لأن النفي هو بدوره علم أيضاً. ومن هنا أيضاً ترى الفلسفة الحديثة بين العلم والوجود تلك الوحدة البديهية التي هي كيان الأنا، فلست أعلم عن نفسي بطريق الحواس أو التخيل بتأكيد وإنما ما أعلمه بالتأكيد هو أني أعلم أنني أعلم... وبالتالي أن كل ما أعلمه آت عن هذا الوعي الذي هو علم.‏


أما علم العلم، أو التعقل وبذا نعود إلى ابن سينا، فليس أصل الوجود بمعنى أنه أبدعه أو أوجده ولكنه حقيقة أي موجود في وعي أنه علم أي في وعي وجوده علماً.‏


هل يجوز لنا القول منطلقين مما بين أيدينا من نصوص للشيخ الرئيس: إنه قال بمنطلق العلم الفلسفي الحديث السابق ذكره ـ أي أنَّ كل علم لا يكون علماً إلاَّ حين يعلم أنه علم، أو بكلام آخر، إن الوعي، ووعي الوعي في العملية العقلية هو المنطلق البديهي الأول الذي أرادت الفلسفة الديكارتية إيضاحه، حين أوضحت العلاقة بين الفكر والوجود.‏


أم كيف نفهم نصوصه إذا لم نقل فيها كما قال غيرنا بأنها مجرد برهان عن وجود النفس أو روحانيتها أو خلودها مع العلم بأنه ليس هناك ما يرغمنا على الوقوف عند هذا التأويل.‏


فلماذا يكون على سبيل المثال، إصرار ابن سينا على التأكيد بأن كل عقل ليس عقلاً مالم يعقل نفسه ويعقل أنه يعقل تأكيداً على عدم حاجة النفس إلى آلة في تعقلها ذاتها فحسب؟ ثم أين نذهب إذا ماوقفنا عند هذا الحد في فهم تصور ابن سينا من أن التعقل يوجد النفس؟‏


لنر قبل كلِّ ماهي طبيعة التعقل هذا وهي في استعمالها السينوي مرادفة للقول "عَقْل العقل لذاته إنه يعقل"، وهو سبب وجوده عاقلاً. حينما يحاول ابن سينا شرح كيفية وجود العقول المفارقة وطريقة انبثاق أحدها عن الآخر يلجأ إلى تداخل الفكر والوجود في عملية التعقل منتهياً إلى أن التعقل هو سبب وجود العقل. ومع أن النصوص تتكلم على العقول المفارقة، إلا أنني لست أرى ما يمنعنا من التوقف قليلاً أمام آلية هذا الانبثاق أي وعي الوعي.‏


يقول ابن سينا في الرسالة حول النفس الناطقة المذكورة سابقاً متكلماً على العقل المحض وتعقلاته الثلاثة: "أحدها أنه يعقل خالقه تعالى، والثاني: أنه يعقل ذاته واجبة بالأول تعالى، والثالث أنه يعقل كونه ممكناً لذاته، فحصل من تعقله خالقه عقل هو أيضاً جوهر عقل آخر، كحصول السراج من سراج آخر. وحصلت في تعقله ذاته واجبة بالأول نفس، هي أيضاً جوهر روحاني كالعقل، إلا أنه في الترتيب دونه. وحصل من تعقله ذاته ممكنة لذاته جوهر جسماني هو الفلك الأقصى"(16).‏


أما ما يهمنا هنا فهو كما قلت تلاحم التعقل والوجود الذي يجد فيه ابن سينا المخرج والحل لانبثاق عقل عن عقل آخر. لكنه لا يقف عند العقل المحض بل يتابع وعلى نفس الوتيرة إلى أن يصل إلى القول في العقل الفعال وعلى غراره أيضاً العقل بالملكة أو العقل المستفاد.‏


إنني أجرؤ على القول: إنَّ اللجوء إلى شرح ابن سينا بربطه بالأفلاطونية المحدثة في فهم العقل، أي كون العقل تعقلاً للذات هو اكتفاء غير ملزم، وهذا أقل ما يقال فيه. كما أنه من يوعز إلى وجود "ثغرة" في فهم العقل عند ابن سينا أو وجود تناقض ناجم عن أنه لم يكتشف "أن الدماغ مادة هي أعلى أشكال المادة المتقنة الرفيعة الإتقان، وأن التفكير صفة عالية أيضاً لهذه المادة، وأن المادة ـ لذلك ـ هي أساس التفكير"(17) لا يقوم إلا بإفراغ المقاولات السينوية التي تبدو غير مطابقة لتصوره وإحلال مقولات غيرها مبرر صحتها الوحيد إنها تتلاءم ومعطيات الإيديولوجيا التي ينتمي إليها الشارح. هذا بالإضافة إلى ما نراه من ارتياح للذات لدى الشراح، يشبه أكثر ما يشبه جمبازاً يتقنه عدد قليل من رياضيي العقد السابع من قرننا. فعلاقة الفكر بالدماغ كما يقدمها هنا حسين مروة لشرح الثغرة التي في المفهوم السينوي للعقل، هي افتراض مثله مثل القول بانبثاق النفس الكلية المحركة للفلك الأقصى عن تعقل العقل ذاته واجبة بالأول.‏


ثم هل نذهب إذاً في فهم العلاقة القائمة بين الفكر والوجود عند ابن سينا حتى القول بقرب النظرية الديكارتية منها أو تطابقهما؟...‏


إن ما أراد ديكارت تبيانه فلسفياً ليس البرهان على وجود الأنا، كما أنه بعيد عما اتُّهم به أحياناً من قبل شراحه بأنه أراد استنتاج الوجود من الفكر. إن الكوجيتو الديكارتية ليست مقولة وجودية، بحيث تتيح البرهان على الوجود، ثم إن ديكارت لم يرد إثبات أنه يفكر كما ادعى آخرون، بل جل ما هناك أنه أراد الإشارة إلى أن كل تفكير يحتوي في كونه تفكيراً على الاعتداد اليقيني بأن ما يقيمه من علاقة بين الوجود والفكر هو علاقة حقيقية وما يبحث عنه هو البرهان على حقيقة هذا الرباط برهاناً أكيداً واضحاً وصادقاً لا يتخلله غش ولا يمكن أن يخدع. فوصل ديكارت إلى أن الربط بين الفكر والوجود قائم فعلاً من قبل الاعتداد بالحقيقة إذ أن الاعتداد بالحقيقة يعتدُّ بالإضافة إلى موضوع اعتداده أنه يمكن بحق أن يعتد، فهل لهذا البعد امتداد ربطٍ يصل به بالتفكير السينوي؟..‏


أرى أننا ندخل هنا باب المجازفة، ولا بأس بذلك إذا ما بقينا على حذر أي أننا لا نمد جسوراً تاريخية ولا نحمّل النصوص إلا ما نفهمه ناتجاً عنها.‏


ليس هناك مايحتم فهم التعقّل في نصوص ابن سينا وكأنَّ التعقل عملية إيجاد أو إبداع لما يُتَعقَّل. بل بإمكاننا ـ بعد أن نعي تمام الوعي بأن مثل هذا التفكير لم يكن ممكناً إلا بعد ديكارت ـ بإمكاننا القول أن للربط بين الفكر والوجود في فهم ابن سينا للعقل كما في العلم الأكيد حقيقةُ علمٍ قوامها أن العقل يعقل أنه يعقل، أي أن قوام وجود العلاقة ومسوغها بين الفكر والوجود هو الوعي والوعي وحده، اللهمَّ إذا كنا نعمل في إطار فلسفي تكوّن فيه المقولة حول الوعي ووعي الذات نقطة بداية الفلسفة في حقبها الحديثة.‏





التوقيع

"لا شيء يعتم الرؤية ويوقع في التيه الوجداني والضلال الفكري كالأسئلة المزيفة. الأسئلة المزيفة هي، كأسئلة الأطفال، أسئلة تطرح مشاكل مزيفة يعيشها الوعي على أنها مشاكل حقيقية"
محمد عابد الجابري
    رد مع اقتباس