عرض مشاركة واحدة
قديم 2020-05-02, 19:31 رقم المشاركة : 3
خادم المنتدى
مدير التواصــل
 
الصورة الرمزية خادم المنتدى

 

إحصائية العضو








خادم المنتدى غير متواجد حالياً


وسام المشاركة السيرة 1438ه

وسام المشاركة في مسابقة السيرة النبوية العطرة

العضو المميز لشهر فبراير

افتراضي رد: الصعاليك في المجتمع الجاهلي


وتنتشر أحاديث هذا الكرم في شعره انتشارًا واسعًا[49]، حتى لتكاد كل صفحة من ديوانه تنطق بهذه الأحاديث التي كان يراها:

أحاديث تبقى، والفتى غيرُ خالدٍ *** إذا هو أمْسَى هامةً فوق صَيَّرِ[50]
وهي أحاديث كان كلُّ صعلوك يحرص على أن تبقى له بعد موته. وفي قافية تأبَّط شرًّا المفضليّة المشهورة دفاعٌ قويٌّ عن كرمه وإسرافه اللذين جرَّا عليه كثيرًا من اللوم والعذل والتأنيب:
بلْ منْ لعذَّالة خذَّالة أَشِبٍ
حرَّقَ باللوْم جلدي أيَّ تَحراقِ
يقولُ أهلكتَ مالًا لو قنِعتَ به
من ثوب صدْق ومِن بَزٍّ وأَعْلاق
عاذلتي إنَّ بعض اللوْم مَعْنَفَةٌ
وهل متاعٌ، وإن إبقيته، باق[51]
أما مادة هذا الكرم فهي -بطبيعة الحال- ما يغنمونه من غزواتهم في أرجاء الجزيرة العربية، وغاراتهم على القبائل أو على القوافل التجارية أو على طبقة الأغنياء البخلاء. فقد كانت هذه الغنائم تتيح لهم فرصة - مهما تكن قصيرة - لكي يتشبهوا بالسادة الأغنياء في البذل والعطاء واكتساب المحامد.
وهكذا "كان الصعلوك، فزع البرية، ينقلب في أعقاب غزواته الناجحة سيّدًا كريمًا نبيلا، يَصُف على المواقد الإبل التي نهبها ليطعم منها التيامى والأرامل"[52]. فالغزوة والغارة والسلب والنهب ليست عندهم وسائل للغنى وجمع المال فحسب، ولكنها أيضا وسائل للبذل والعطاء، واكتساب المحامد، والتشبه بالسادة الأغنياء في الكرم والجود. وإذا كانت هاتان الغايتان تتنازعان نفوس الصعاليك، وتتجاذبانها كل إليها، على نحو ما نرى عند تأبط شرا الذي يصرح في قافيته المفضلية بأن المال وسيلة للكرم، ووسيلة "لتسديد الخلال" أيضا[53]، فإن الغاية الأخيرة وحدها كانت هي الغاية الأساسية عند عروة الذي خلصت نفسه تماما من هذا التنازع وهذه المجاذبة:
دَعيني أَطوِّفْ في البلاد لعلني
أفيد غنى فيه لذي الحق محمِلُ
أليس عظيمًا أن تلمَّ ملمَّة
وليس علينا في الحقوق معوَّل
فإن نحن لم نملك دفاعًا بحادث
تلمُّ به الأيام فالموت أَجملُ[54]
فطلب الغنى عند عروة ليس هدفًا في ذاته، ولكنه وسيلة للكرم وقضاء الحقوق والتشبه بالسادة.
وإلى جانب هذه القوة النفسية التي كان هؤلاء الصعاليك يمتازون بها كانوا يتمتعون أيضا بالشجاعة والجرأة وقوة الجسد.
وتفيض أخبارهم وأشعارهم بأحاديث هذه القوة، كما تتردد هذه الأحاديث في أخبار معاصريهم وفي شعرهم أيضا. يقول تأبَّط شرًّا مفتخرًا بقوَّته:
وما وَلدَتْ أمي من القوم عاجزًا *** ولا كان ريشي من ذُنابي ولا لَغْبِ[55]
ويصرح الشَّنْفرَى - في اعتدادٍ بنفسه - بأنَّه يقدم في شجاعة وجرأة حيث يقف الجبان هلعًا جزوعًا:
إذا خشعت نفس الجبان وخَيَّمتْ *** فلي حيث يخشى أَن يجاوز مخشَفُ[56]
ويرسم عمرو بن معديكرب الفارس المشهور صورة للسُّليك بنِ السُّلَكة يصفه فيها بأنَّه "كالليث يلحظ قائمًا"، وبأنَّه:
له هامة ما تأكل البيض أُمَّها *** وأشباح عاديٍّ طويل الرواجب[57]
ويرسم أبو كبير الهذلي في أبياته اللامية التي رواها أبو تمام في حماسته[58] صورة قوية لتأبط شرا، يصور فيها قوته وصلابته وخفته، وسرعة عَدْوه، وجرأة قلبه، وشدة مراسه، ومضاء عزيمته، وكيف أعدته الطبيعة منذ طفولته المبكِّرة، بل من قبل طفولته، ليكون قويًّا يستطيع أن ينهض بالعبء الذي ستلقيه الحياة على عاتقه فيما بعد، ذلك العبء الثقيل الذي لا يستطيع أن ينهض به إلا من أعدته الطبيعة له إعدادًا خاصًّا، وهي صورة متكاملة الجوانب، دقيقة الخطوط، واضحة الألوان، يرسمها الشاعر لتأبَّط شرًّا، ولكنها تصلح أيضا لكل صعلوك من أولئك الصعاليك الأقوياء الذين روَّعوا الجزيرة العربية في عصرها الجاهلي، وأثاروا في أرجائها الرعب والفزع.
وحقًّا لقد كان هؤلاء الصعاليك فزعًا رهيبًا في هذا المجتمع الجاهلي، حتى لنسمع أن فارسًا من فرسانه المعدودين، وهو عمرو بن معديكرب، يصرح بأنه لا يخشى أحدًا من فرسان العرب إلا أربعة، أحدهم السُّليك بن السُّلكة[59]، وأنه يستطيع وحده أن يحمي الظعينة ويخترق بها أعماق الصحراء ما لم يلقه واحدٌ من هؤلاءِ الأربعة[60]. وحسْب السُّليك أن يُقْرَن بعامر وعتيبة وعنترة، وأن يخشى بأسه عمرو بن معديكرب.
والواقع أن هذه الشجاعة الفائقة لم تكن مقصورة على صعلوك دون صعلوك، وإنما كانت صفة يمتاز بها كلُّ صعاليك هذه الطائفة، حتى أصبح الصعلوك مثلًا يُضرب في الشجاعة[61]. أما أولئك الصعاليك الذين عرفوا بالفرار فإنهم كانوا يعدونه لونًا من ألوان قوَّتهم الجسدية؛ لأنَّه المجال الذي يظهرون فيه شدة عدوهم، كما كانوا يرون فيه وسيلة للنجاة حتى يستأنفوا القتال في ظروف أشد ملاءمة لهم. يقول أبو خراش الهذلي الصعلوك:
فإن تَزْعُمي أني جبنتُ فإنني
أفرُّ وأَرمي مرّةً كل ذلك
أقاتلُ حتى لا أَرى لي مُقَاتَلًا
وأنجو إذا ما خفتُ بعض المهالكِ[62]
فهو يدافع عن فراره، ويرى أنه ليس دليلا على جبنه، وإنما هو "خطة موضوعة" يضطر إليها حين يصبح القتال "مغامرة انتحارية" لا أمل فيها، حتى ينجو من هلاك محقَّق، فيستأنف القتال حين يصبح القتال أمرًا مضمون العاقبة.
ومن أشد ما يلفت النظر من مظاهر هذه القوة الجسدية سرعة العدو الخارقة للعادة التي اشتهرت بها هذه الطائفة من الصعاليك، حتى ليطلق عليهم أحيانًا اسم "العدائين"[63]، أو"الرجليين" أو "الرجيلاء"[64]، كأنما أصبحت سرعة العدو ظاهرة مميزة لهم، وصفة ملازمة يعرفون بها. والمثل يضرب بجماعة منهم في سرعة العدو، فيقال "أعدى من الشَّنفرَى"[65]، و"أعدى من السُّليك"[66]، و"أمضى من سليك المقانب"[67]. وتصفهم مصادر الأدب العربي بأنَّهم "أشدُّ الناس عدْوًا"[68]، أو أنهم "لا يحارون عدوا"[69]، أو "يُلحقون"[70]، أو يعدون عدوا يسبقون به الخيل[71]، أو لا تعلق بهم الخيل[72]، أو لم تلحقهم الخيل[73].
وتفيض هذه المصادر بأحاديث عدوهم وأخبار سرعتهم، وتبالغ فيها مبالغة تبدو أحيانًا غير مقبولة، فتأبَّط شرًّا "كان أعدى ذي رجلين وذي ساقين وذي عينين، وكان إذا جاع لم تقم له قائمة، فكان ينظر إلى الظباء، فينتقي على نظره أسمنها، ثم يجري خلفه، فلا يفوته حتى يأخذه فيذبحه بسيفه، ثم يشويه فيأكله"[74]. وفي أخبار حاجز الأزدي أن أباه قال له: "أخبرني يا بنيَّ بأشد عَدْوك، قال: نعم، أفزعتني خثعم، فنزوت نزوات، واستفزتني الخيل، واصطف لي ظبيان، فجعلت أنهنههما بيدي عن الطريق لضيقه، ومنعاني أن أتجاوزهما في العدو لضيق الطريق، حتى اتسع واتسعت بنا فسبقتهما"[75]. وفي أخبار السليك أن بني كنانة قالوا له حين كبر: "إن رأيت أن ترينا بعض ما بقي من إحضارك، فقال: اجمعوا لي أربعين شابًا، وابغوني درعًا ثقيلة. فأخذها فلبسها، وخرج الشباب، حتى إذا كان على رأس ميل أقبل يُحضر، فلاث العدو لوثا، واهتبصوا في جنبتيه فلم يصحبوه إلا قليلا، فجاء يحضر منتبذا حيث لا يرونه، وجاءت الدرع تخفق في عنقه كأنها خرقة"[76]. وفي أخبار أبي خراش أنه دخل مكة "وللوليد بن المغيرة المخزومي فرسان يريد أن يرسلهما في الحلبة، فقال للوليد: ما تجعل لي إن سبقتهما؟ قال: إن فعلت فهما لك، فأرسلا وعدا بينهما فسبقهما، فأخذهما"[77].
ويذكر الرواة أن خطو الشنفرى ذُرع ليلة قُتل، "فوجد أول نزوة نزاها إحدى وعشرين خطوة، والثانية سبع عشرة خطوة، والثالثة خمس عشرة خطوة"[78]. ومن الطريف أن يصف تأبط شرا رفيقه في الصعلكة الشنفرى حين يعدو بأنه "قد طار"[79]، أو يصف عدو عمرو بن براقة بأنه "مثل الريح"[80]، أو نسمعه يقسم بقوله "والذي أعدو بطيره"[81]، وهو قسم يستمد طرافته من ذكر الطير فيه. وعقد صلة بينها وبين عدوه، كأنهما أصبح الصعلوك يعدو بأجنحتها.
وفي كل مناسبة يردد هؤلاء الصعاليك في شعرهم أحاديث عدوهم وسرعتهم. وهم يتحدثون عنها دائما في اعتداد وفخر كبيرين؛ إذ يرون فيهما ميزة تفردوا بها من بين سائر البشر، ووسيلة تعينهم على الحياة، وتيسر لهم سبل النجاة. يقول تأبط شرا مفتخرًا بسرعته التي أنجته من أعدائه وما أرسلوه خلفه من خيل سريعة:
ليلة صاحوا وأغرَوا بي سرَاعهم
بالعَيْكتين لدى معدَى ابن براق
كأنما حثحثوا حُصًّا قوادمه
أو أم خِشف بذي شَثٍّ وطُبَّاق
لا شيءَ مني، ليس ذا عُذَر
وذا جناح بجنب الرَّيد خفاق
حتى نجوتُ ولما ينزعوا سَلَبي
بوالهٍ من قَبِيض الشد غَيْداق[82]
إنه سريع كالظليم أو الظبية، بل إنه أسرع من كل شيء حتى الخيل الجياد والطير الجارحة فوق قمم الجبال. ويصرح أبو خراش بأن سرعة عدوه هي التي أنجته من موت محقق، فلولاها لآمت امرأته ويتم ابنه:
تقول ابنتي لما رأَتني عشيَّةً
سَلمْتَ وما إِن كدتَ بالأمس تَسْلمُ
ولولا دِراكُ الشد قاظت حليلتي
تخيَّر من خطابها وهي أَيِّمُ
فتقعد أو ترضى مكاني خليفةً
وكاد خراشٌ يومَ ذلك يَيْتَم[83]
وفي لامية العرب صورة قوية لهذه السرعة نرى فيها الصعلوك يسبق القطا الظامئة وهي تسرع إلى الماء:
وتشربُ أسآرى القطا الكُدْر بعدما
سرَتْ قربًا أحشاؤها تتصَلصَلُ
هممتُ وهمتْ، وابتدرنا، وأَسدلتْ
وشمَّر مني فارطٌ متمهِّلُ
فوليتُ عنها وهي تكبو لعُقره
يباشره منها ذُقونٌ وحَوْصَلُ[84]
إنها مباراة طريفة يقدمها لنا الشاعر بينه وبين القطا في الوصول إلى الماء، تنتهي بفوزه عليها، وإدراكه الماء قبلها، بل لقد شرب وارتوى قبل أن تصل هي، فلما وصلت لم تجد إلا سؤرًا تشربه من بعده.
ولعل أقوى صورة رسمها صعلوك لهذه السرعة هي تلك الصورة التي رسمها تأبَّط شرًّا، والتي نرى فيها الصعلوك يسبق الريح بسرعته الفائقة:
ويَسْبقُ وَفْدَ الريح مِن حيثُ يَنْتَحى *** بمنْخَرِقٍ من شَدِّهِ المتدَارِكِ[85]
بل إنَّ الأمر ليصل بحاجز الأزدي إلى أن يفدِّي رجليه بأمه وخالته، وماذا أفاد من أمه وخالته سوى تلك الحياة القاسية المحتقرة التي جرَّتاها عليه بلونهما الأسود؟ أما رجلاه فهما كل شيء في حياته، ولولاهما لفقد الحياة نفسَها، وإذا كانت أمه وخالته سبب ما يلاقيه في حياته فإن رجليه سبب إنقاذه مما يلاقيه فيها:
فدًى لكما رِجليَّ أمي وخالتي *** بسعيكما بين الصَّفا والأثائبِ[86]
وعلى ما في أحاديث هذا العدو في أخبار الصعاليك وشعرهم من مبالغات يقف المرء عندها متسائلا: أيمكن أن يكون هذا صحيحًا؟ فإنها -على كل حال- تصوِّر ظاهرة لا شك في حقيقتها المجردة، وهي أن هؤلاء الصعاليك كانوا يمتازون بسرعة في العدو خارقة للعادة، وهي سرعة لفتت أنظار الرواة فسجلوها بما فيها من مبالغات، واستقرت في أذهان الناس فضربوا بها الأمثال، ووجد فيها بعض الشعراء المتأخرين مادة يستغلونها في فنهم، ويستخدمونها في تشبياتهم وصورهم الفنية[87].


المصدر: الشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي، يوسف خليف، دار المعارف












    رد مع اقتباس