عرض مشاركة واحدة
قديم 2020-05-02, 18:24 رقم المشاركة : 2
خادم المنتدى
مدير التواصــل
 
الصورة الرمزية خادم المنتدى

 

إحصائية العضو








خادم المنتدى غير متواجد حالياً


وسام المشاركة السيرة 1438ه

وسام المشاركة في مسابقة السيرة النبوية العطرة

العضو المميز لشهر فبراير

افتراضي رد: الصعاليك في المجتمع الجاهلي



وفي شعر عروة موازنة طريفة بين هاتين الطائفتين، يعقدها أبو الصعاليك في دقة وبراعة، ويصور فيها اختلاف ما بينهما في الشخصية، وأسلوب الحياة والغاية التي تنتهي إليها كل منهما[26].

وتتجلى قوة نفوس هذه الطائفة الثانية من الصعاليك في استهانتهم بالحياة في سبيل الوصول إلى الغاية التي يسعون إليها. إنهم يريدون أن يحققوا لهم مكانة في هذا المجتمع الذي يحتقرهم ويستهين بهم عن طريق فرض أنفسهم بالقوة عليه، وهم في سبيل هذا لا يبالون بشيء، حتى بالحياة نفسها، فهم جميعًا مؤمنون بفكرة الفناء في سبيل المبدأ، وما قيمة الحياة إذا عاش الإنسان فقيرًا محتقرًا، منبوذًا من مجتمعه، مجفوًا من أقاربه؟ إنَّ الموت في هذه الحالة خير من الحياة:
إذا المرءُ لم يَبْعث سَوَامًا ولم يَرُحْ
عليه، ولم تعطف عليه أَقاربُهْ
فللموتُ خيرٌ للفتى مِنْ حياته
فقيرًا، ومِنْ موْلى تدبُّ عقاربه[27]
فقلت له: ألا احْيَ، وأنت حر
ستشبعُ في حياتك أَو تموتُ[28]
فسر في بلاد الله والتمس الغنى
تعش ذا يسار أَو تموتَ فتُعْذَرا[29]
وفيم الخشية من الموت؟ إن كل حي ملاقيه، سواء مَنْ خاطر بنفسه ومن أحجم، بل إن الموت قد يصيب المتخلف في أهله وينجو منه المغامر المخاطر:
أرى أمَّ حسّان الغداةَ تلومني
تخوفني الأَعداءَ والنفس أَخْوَفُ
لعلَّ الذي خوَّفتنا مِنْ أَمامنا
يصادفه في أَهله المتخلف[30]
ومهما يمدُّ الله في عمر الإنسان فالموت في انتظاره مُشْرعةً أسنَّته:
وإِني، وإن عُمِّرت، أَعلم أَنني *** سألقى سنان الموت يبرق أَصْلعا[31]
فالموت نهاية كل حي، لن ينجو منه أحد مهما يُحِط نفسَه بأبواب قويّة وحراس أشدّاء:
لو كنتُ في رَيمانَ تحرُسُ بابه
أَراجيلُ أُحبوشٌ وأغضَفُ آلِفُ
إِذن لأَتتني حيثُ كنتُ منيَّتي
يخبُّ بها هاد بأَمريَ قائفُ[32]
وهي ميتة واحدة يلقاها الإنسان ثم لا تتكرر:
دعيني، وقولي بعدُ ما شئتِ، إِنني *** سيُغْدَى بنعشي مرَّةً فأغيَّبُ[33]
ثم ما الذي يغري الصعلوك على التمسك بالحياة والحرص عليها؟ إنَّ أحدًا لا يرغب في حياته، وإن أحدًا لن يبكي عليه بعد موته. إنه يعيش وحيدًا، ويموت وحيدًا:
إذَا ما أتتني ميتتي لم أبالها *** ولم تذْرِ خالاتي الدموعَ وعمَّتي[34]
وصعاليك هذه الطائفة جميعا ذوو عزيمة قوية صادقة، لا يثنيهم شيء عن هدفهم الذي يسعون إليه إلَّا الموت، يقول تأبَّط شرًّا مصورًا صدق عزيمته وقوَّة نفسِه:
وكنتُ إذا ما هممتُ اعتزمتُ *** وَأَحْر إذا قلتُ أنْ أفعلا[35]
وإذا كانت الحياة قد قست عليهم فإنهم لن يستكينوا لها، وإذا كانت تعمل على إخضاعهم وإذلالهم فإنَّهم سيقفون في وجهها، ويتحدَّونها، ويشنون عليه حربًا لا هوادة فيها، وإذا كانت قد ألقت بهم في الرغام فإنهم سينهضون برغم كل شيء. ولعل هذا البيت الذي قاله أبو خِراشٍ الهذلي الصعلوك في رثاء أخٍ له يعبّر تعبيرًا دقيقًا عن تلك القوة النفسية التي كان يتمتع بها كل صعلوك من صعاليك هذه الطائفة:
ولكنَّه قد نازَعته مجاوعٌ *** على أنَّه ذو مِرَّة صادقُ النهض[36]
هكذا كانت نفسية هؤلاء الصعاليك، كلٌ منهم "قد نازعته مجاوع"، ولكن كلًّا منهم "ذو مِرَّة صادق النهض".
ومن عناصر قوتهم النفسية أنفتهم من القيام بتلك الأعمال التي يصح أن يطلق عليها "الأعمال الفرعية في المجتمع القبلي"، وهي تلك التي كان يقوم بها العبيد وأشباههم، ويأنف السادة من القيام بها، كخدمة الإبل والقيام بأمرها[37]. ويصرح تأبَّط شرًّا بترفعه على هذه الأعمال الفرعية وبأنَّه يأنف من القيام بها:
ولستُ بتِرعِيٍّ طويل عَشاؤُهُ *** يؤنفها مستأْنَفَ النبت مُبْهِلِ[38]
ويصرح مرَّة أخرى بأنه يخجل من الوقوف وسط قطعان الغنم، وقد حمل في يده عصا طويلة حتى أشبه ذلك الطائر المائي الطويل المنقار وقد وقف في مستنقع من مستنقعات المياة الضحلة:
ولستُ براعي ثَلَّة قام وَسطها *** طويل العصا غُرْنيق ضحل مُرَسَّل[39]
فهم لا يرتضون لأنفسهم إلا تلك الأعمال الأساسية التي يقوم عليها المجتمع البدوي كالغزو والإغارة. يقول تأبَّط شرًّا:
متى تبغني ما دمتُ حيًّا مسلَّمًا *** تجدني مع المسْتَرْعل المتَعبْهِل[40]
ولكنَّه في الطليعة المتقدمة بين القادة والأبطال.
ثمَّ هم -برغم فقرهم وما يلاقونه من مجتمعهم - كرماء، حتى ليُضرب بهم المثل في الكرم[41]، ويُقرَن عروةُ بحاتم الطائي الذي يُعدُّ في نظر العرب المثل الأعلى للجود والسخاء، وقد قال عبد الملك بن مروان: من زعم أن حاتمًا أسمح الناس فقد ظلم عُروةَ بنَ الورْدِ[42] وأبدى تعجبَّه من أن الناس ينسبون الجود والسخاء إلى حاتم ويظلمون عروة[43]، ووصفه الأصمعيُّ بأنَّه "شاعر كريم"[44]. والواقع أننا لسنا في حاجة إلى هذه الشهادات وأمثالها؛ لأنَّ أخبار عروة نفسها تفيض بأحاديث كرمه، بل إنَّ الرغبة في الكرم التي كانت تملأ عليه نفسه كانت بعضَ الدوافع التي دفعته إلى تلك الثورة الاقتصادية التي أعلنها في المجتمع الجاهلي:
يُريح على الليل أضيافَ ماجد
كريم، ومالي سارحًا مالُ مُقتِرِ[45]
أيهلك معتمٌّ وزيدٌ ولم أقم
على ندَب يومًا ولي نفس مخْطِر[46]
وهي تلك الثورة التي كانت تدفعه إلى مهاجمة الأغنياء البخلاء ليوزِّع ما يغنمه منهم على الفقراء الذين كانوا يلتفُّون حوله، ويلوذون به في سني الجدب والقحط والجفاف[47]. وهو -قبل هذا كله- صاحب هذه الأبيات الجميلة التي يصور فيها كرمه تصويرًا رائعًا على حظٍّ كبير من الإنسانية، فيراه مشاركة الفقراء له في إنائه، واكتفاءه هو بالماء الخالص في أيام الشتاء الباردة ليوفر طعامهم، بل يراه تقسيمًا لجسمه في أجسامهم حتى أصبح هزيلًا شاحبًا:
إنِّي امرؤٌ عافى إِنائي شرْكةٌ
وأنت امرؤٌ عافي إِنائك واحدُ
أتهزأ منِّي أنْ سمنتَ وقد ترى
بجمسي مسَّ الحق، والحقُّ جاهدُ
أُقسِّم جسمي في جسومٍ كثيرةٍ
وأحسو قرَاحَ الماءِ والماءُ باردُ[48]






آخر تعديل خادم المنتدى يوم 2020-05-02 في 18:37.
    رد مع اقتباس