عرض مشاركة واحدة
قديم 2020-05-02, 18:06 رقم المشاركة : 1
خادم المنتدى
مدير التواصــل
 
الصورة الرمزية خادم المنتدى

 

إحصائية العضو








خادم المنتدى غير متواجد حالياً


وسام المشاركة السيرة 1438ه

وسام المشاركة في مسابقة السيرة النبوية العطرة

العضو المميز لشهر فبراير

افتراضي الصعاليك في المجتمع الجاهلي



الصعاليك في المجتمع الجاهلي (1)


حين نرجع إلى أخبار هؤلاء الصعاليك نجدها حافلة بالحديث عن فقرهم، فكلُّ الصعاليك فقراء، لا نستثني منهم أحدًا، حتى عروة بن الورد سيد الصعاليك الذي كانوا يلجئون إليه كلما قست عليهم الحياة، ليجدوا عنده مأوى لهم حتى يستغنوا، فالرواة يذكرون أنَّه «كان صعلوكًا فقيرًا مثلهم»[1]، وأخوه وابن عمه يقولان له -حين عرض عليه أهل امرأته التي أصابها في بعض غزواته أن يفتدوها -: «والله لئن قبلت ما أعطوك لا تفتقر أبدًا»[2]، بل أكثر من هذا يذكر الرواة أنه جاء بامرأته إلى بني النضير «ولا شيء معه إلا هي، فرهنها، ولم يزل يشرب حتى غَلِقَتْ»[3]. وتكثر في شعره أحاديث فقره، وما يعانيه من حرمان، وما يتكبده في سبيل الغنى من جهد ومشقة، وما يشعر به من ثقل التبعة التي يتحمَّلها إزاء أهله، وإزاء أصحابه الصعاليك أيضًا:
ذَريني للغنى أَسعى، فإِنِّي
رأَيت الناس شرُّهم الفقير[4]
فَسِرْ في بلادِ الله والتمس الغنَى
تعشْ ذا يسارٍ أو تموتَ فتُعْذَرا[5]
ومَن يك مثلي ذا عيال ومُقْتِرًا
من المال يطرحْ نفسه كلَّ مَطْرحِ[6]


وهذا الفقر الذي استبد بحياة الصعاليك حمل لهم في ركابه الجوع، نتيجة طبيعية له، ولعل الجوع أقسى ما يحمله الفقر إلى جسد الفقير، وقد سُئل أعرابي: ما أشد الأشياء؟ فقال: كبد جائعة تؤدي إلى أمعاء ضيقة[7].

وليس من شكٍّ في أنَّ هذه العبارة الساذجة التي صور فيها هذا الأعرابي إحساسه إنما تشير إلى قصة الحياة الأساسية، قصة الصراع بين الحياة والموت. وذلك لأن المسألة تتصل بحاجات الجسم الحيوية الأولى، فالجوع -كما يقرر علماء الاجتماع - أول الدوافع المسيطرة على حياة الإنسان[8]. وقد كان من العرب من يغير من أجل الحصول على الطعام[9]، بل إنَّ كثيرًا من الصراع الداخلي بين القبائل الجاهلية إنما يرجع - من بعض جوانبه - إلى الفقر والجوع[10]، وما أكل ضباب الصحراء ويرابيعه وأورالها سوى مظهر من مظاهر هذا الجوع القاتل الذي كان يعانيه عرب البادية حين يجدبون وتتتابع عليهم السنين، وما كان قتل بعض العرب أولادهم خشية إملاق سوى مظهر آخر من مظاهر هذا الجوع القاتل[11].

ويكثر الحديث عن الجوع في أخبار الصعاليك وشعرهم، ففي أخبار عروة أن ناسًا من بني عبس أجدبوا «في سنة أصابتهم، فأهلكت أموالهم، وأصابهم جوع شديد وبؤس»، فأتوا عروة يستنجدون به، فخرج «ليغزو بهم ويصيب معاشًا»[12]. وتنتشر في شعره وأخباره مناقشات بينه وبين صعاليكه حول الجوع الذي كان يجهدهم في غزواتهم[13]. ويذكر الرواة أن أبا خراش الهذلي أقفر من الزاد أيَّامًا[14]. ويحدثنا السُّليك بنُ السُّلَكة في بعض شعره كيف كان يغمى عليه من الجوع في شهور الصيف حتى ليشرف على الموتِ والهلاك:
وما نلتُها حتَّى تصعلكتُ حِقبةً
وكدتُ لأسباب المنيَّة أَعرفُ
وحتى رأيت الجوع بالصيف ضَرَّني
إذا قمت تَغْشاني ظلال فأُسْدِف[15]


ويتحدَّث الأعلم الهذلي عن أولاده الشُّعث الصغار الذين ينظرون إلى من يأتيهم من أقاربهم بشيءٍ يأكلونه:
وذكرتُ أهليَ بالعرا
ءِ وحاجة الشُّعْثِ التَّوالبْ
المصْرِمينَ من التِّلا
د اللامحين إلى الأَقاربْ[16]


بل إن الجوع ليشتد بعروة فيهتف بأصحابه الصعاليك هتفه من لا يطيق عليه صبرًا أن هلموا إلى الغزو، فللموت خير من حياة الجوع والهزال:
أقيموا بني لبنى صُدُورَ ركابكمْ *** فإنَّ منايا القومِ خيرٌ من الهزْل[17]

وفي لامية العرب التي تُعد صورة دقيقة كاملة لحياة الصعاليك في العصر الجاهلي حتى على فرض انتحالها وعدم صِحَّةِ نسبتها إلى الشَّنْفرَى، يرسم الشاعر صورة رائعةً لذلك الجوع النبيل الذي يشعر به الصعلوك، ولكن نفسه الأبية تأبى عليه أن يهينها من أجله، فلا يجد أمامه سوى الصبر والقناعة:
أَديمُ مِطالَ الجوع حتى أميته
وأضربُ عنه الذِّكرَ صفحًا فأُذْهلُ
وأَستفُّ تُرْبَ الأَرضِ كي لا يرى له
عليَّ منَ الطَّوْل امرُؤٌ متطولُ
ولولا اجتنابُ الذام لم يبقَ مشرَبٌ
يعاشُ به إِلا لَديَّ ومَأْكلُ
ولكنَّ نفسًا حرَّةً لا تُقيمُ بي
على الضيم إلا ريثما أَتحوَّلُ
وأطوي على الخُمْصِ الحوايا كما انطوت
خيوطه مارى تُغارُ وتفتلُ
وأغدو على القوت الزهيد كما غدا
أَزَلُّ تهاداهُ التنائفُ أَطحلُ[18]


وإذا كان الجوع أقسى ما يصبه الفقر من سياط على جسد الفقير فإنَّ هناك سياطًا أخرى لا تقل قسوة عن سياط الجوع، ولكنَّها سياط نفسية يصيبها الفقر على نفس الفقير.

والحديث عن هذه السياط النفسية يطول؛ لأنها تختلف باختلاف النفسيات ووقع الفقر عليها. وقد حاول صاحب "الفلاكة والمفلوكين"[19] أن يحصرها، فعقد في كتابه فصلًا طويلًا «في الآفات التي تنشأ من الفلاكة، وتستلزمها الفلاكة وتقتضيها»[20]، وعدَّ منها الآلام العقلية، وهو تعبير يرادف ما نعبر عنه بالآثار النفسية، وحصرها في ثلاثة أنواع، وحاول أن يدلل على هذا التقسيم الثلاثي تدليلًا عقليًّا منطقيًّا تكثر فيه الحدود والأقسام والمقدمات والنتائج. ولكن هذه المحاولة -من وجهة النظر العلمية الحديثة - غير دقيقة، فإنَّ هذه الآثار النفسية ليس من اليسير حصرها، فليست المسألة مسألة منطقية تقبل القسمة العقلية، ولكنها مسألة نفسية تتصل بالنفس البشرية، تلك النفس الغامضة الممعنة في الغموض ذات السراديب العميقة، والأسرار الدفينة المكبوتة.

ويحاول علماء النفس المحدثون دراسة هذه المسألة وأشباهها على أساس ما يسمونه "بالعقد النفسية"، ومن بين هذه العقد عقدة يسمونها "عقدة الفقر"، وهي تلك التي تتكون نتيجة للإحساس بالفقر، وتدفع صاحبها في محاولة التعويض عن الشعور بالنقص إلى العمل على أن يصير غنيًّا[21]. فهذه العقدة هي المحور الذي تدور حوله تلك الآثار النفسية التي يخلفها الفقر في نفس الفقير.

والمتأمل في أخبار الصعاليك وأشعارهم يلفت نظره شعور حاد بالفقر، وإحساس مرير بوقعه على نفوسهم، وشكوى صارخة من هوان منزلتهم الاجتماعية وعدم تقدير المجتمع لهم، وعجزهم عن الأخذ بنصيبهم من الحياة كما يأخذ سائر أفراد مجتمعهم، أو الوقوف معهم على قدم المساواة في معترك الحياة، لا لأنهم هم أنفسهم عاجزون، وإنما لأن مجتمعهم ظلمهم، وحرمهم من تلك العدالة الاجتماعية التي يطمح إليها كل فرد في مجتمعه، وجرّدهم من كل الوسائل المشروعة التي يواجهون بها الحياة كما يواجهها غيرهم ممن توافرت لهم هذه الوسائل.

فقيس بن الحدَاديَّة[22] يرى أنه لا يساوي عند قومه «عنزًا جرْباء جذْماء»[23]. وفي أخبار الشنفرى أن قومه قتلوا رجلًا في خفرة بعض الفهميين، «فرهنوهم الشنفرى وأمه وأخاه، وأسلموهم، ولم يفدوهم»[24]، وخبر تلك اللطمة التي لطمتها الفتاة السَّلاميَّة للشَّنْفرى، والتي كانت السبب المباشر في تصعلكه؛ لأنها أنكرتْ عليه أن يتسامى إلى مقامها الاجتماعي، ويرفع الحواجز الاحتماعية التي تفصل بين طبقتيهما، ويناديها بأخته، خبر كبير الدلالة على ما كان يعانية هؤلاء الصعاليك من مجتمعهم[25].

وينظر هؤلاء الفقراء الجياع، المحتقرون من مجتمعهم، المنبوذون من إخوانهم في الإنسانية، إلى الحياة ليشقوا لهم طريقًا في زحمتها، وقد جُرِّدوا من كل وسائلها المشروعة، فلا يجدون أمامهم إلا أمرين: إما أن يقبلوا هذه الحياة الذليلة المهينة التي يحيونها على هامش المجتمع، في أطرافه البعيدة، خلف أدبار البيوت، يخدمون الأغنياء، أو ينتظرون فضل ثرائهم، أو يستجدونهم في ذلة واستكانة، وإما أن يشقوا طريقهم بالقوة نحو حياة كريمة أبية، يفرضون فيها أنفسهم على مجتمعهم، وينتزعون لقمة العيش من أيدي مَنْ حرموهم منها، دون أن يبالوا في سبيل غايتهم أكانت وسائلهم مشروعة أم غير مشروعة، فالحق للقوة، والغاية تبرر الوسيلة.

وقد سلك الصعاليك السبيلين، أو -بعبارة أدق- انقسموا مع هذين السبيلين إلى طائفتين: طائفة قبلت ذلك الوضع الاجتماعي الذليل، رضيه لهم ضعف في النفس أو ضعف في الجسد أو ضعف في النفس والجسد جميعًا، وطائفة رفضت ذلك الوضع، وأبت أن تعيش تلك الحياة الساقطة التافهة المهينة، ووجدت في القوة، قوة النفس وقوة الجسد، وسيلة تشق بها طريقها في الحياة.





آخر تعديل خادم المنتدى يوم 2020-05-02 في 18:24.
 
    رد مع اقتباس