عرض مشاركة واحدة
قديم 2017-07-27, 20:18 رقم المشاركة : 1
خادم المنتدى
مدير التواصــل
 
الصورة الرمزية خادم المنتدى

 

إحصائية العضو








خادم المنتدى غير متواجد حالياً


وسام المشاركة السيرة 1438ه

وسام المشاركة في مسابقة السيرة النبوية العطرة

العضو المميز لشهر فبراير

افتراضي القوانين التاريخية للحضارات


القوانين التاريخية للحضارات



د. طارق السويدان


الحضارات المؤمنة الموحِّدة قد تضعف وقد تمرض لكنها لا تموت
يقول ابن خلدون رحمه الله " كثيراً ما وقع المؤرخون في المغالطات، لأنهم اعتمدوا على مجرد النقل، بينما قواعد التمحيص واضحة، العرض على الأصول، والقياس بالأمور الشبيهة، والعرض على معيار الحكمة، والحكم بناءً على طبيعة البشر، والتدقيق في الأخبار ".
إن كثيراً من الخلافات التي تقع بين المسلمين، مردها إلى سوء النقل للتاريخ، أو التدليس والكذب واصطناع الحكايات والقصص، وكذلك سوء استقبال الأخبار، من حيث قبولها كما هي دون تمحيص أو تدقيق، لذا فكم نحتاج إلى إعادة كتابة التاريخ وفق القواعد العلمية، وكم نحن بحاجة إلى تأصيل الفكر التاريخي، وكم نحتاج أكثر إلى تحليل التاريخ.
ويخبرنا القرآن الكريم أن التاريخ مليء بالقوانين، ويدعونا إلى اكتشافها، فقيام الحضارات واستمرارها، أو اندثارها يقوم وفق قوانين تاريخية وليس عشوائيا كما يظن البعض.
ومن أهم قوانين التاريخ،،
القانون الأول: الحضارات تحكمها القوانين
هذا هو القانون الأول من القوانين التاريخية، وخلاصته أنه لا يوجد هناك قوانين خاصة لكل أمة، ولا مكان للصدفة في بناء الحضارات أو انهياراها، بل الأمر محكوم بقوانين، فالحضارات تقوم وتسقط، وتنشأ وتنهار وفق قوانين تاريخية،
وهذا القانون يبث الأمل في نفسي وفي نفس كل مسلم متحرّق على أمته، لأنه يقول لنا ببساطة واختصار: إن النهضة التي تسعون إليها محكومة بقوانين تاريخية، فمتى عرفت الأمة قوانين التاريخ، وأحسنت الاستفادة منها، نهضت من جديد، وعادت كما كانت أمة السيادة والريادة.
القانون الثاني: تنهار الحضارات بسبب الانحطاط الأخلاقي، والقوى الخارجية
تأملت في الحضارات التي سقطت، فوجدت أن أسباب سقوطها تنحصر في سببين رئيسيين:
السبب الأول: الانحطاط الأخلاقي
فالكثير من الدول سقطت وانهارت بسبب الانحطاط الأخلاقي، وتفشي الظلم والاستبداد، ومن تلك الدول والحضارات الحضارة الفارسية، الحضارة الرومانية، الحضارة الإسبانية، حتى في تاريخنا الإسلامي، كان الانحطاط الأخلاقي، وتفشي الظلم والاستبداد، سبباً رئيسياً في انهيار الدول، وخير شاهد على ذلك ما كان من أمر الخلافة العباسية في أواخر أيامها.
السبب الثاني: المواجهة مع قوة خارجية
أحياناً لا يكفي الانحطاط الأخلاقي كسبب لانهيار حضارة ما، بل ربما استمرت وطال بقاؤها، حتى يتوفر السبب الثاني، وهو أن تحدث مواجهة مع قوة خارجية، فإذا كانت القوة الخارجية أقوى وأسمى أخلاقياً من الحضارة المنحطّة أخلاقياً، فإنها ستُضعف الحضارة القائمة ( المترنحّة) وتُسقطها لتحل مكانها، حتى وإن كانت أقل عدداً، وهذا ما حدث مع المسلمين عندما فتحوا بلاد الأرض بالإسلام، كانت أعدادهم قليلة.
القانون الثالث: المدنية لا تساوي الحضارة، والعلم وحده لا يسعد البشرية
نعني بالمدنية: الإنتاج المادي والمعنوي لأمة من الأمم، وهذه المدنية لا تسمّى حضارة، ولا تساويها إلا إذا كانت نابعة من منهج فكري، فالفكر والإنتاج معاً يساويان الحضارة لشعب من الشعوب.
فكم من دولة عربية وإسلامية تملك شبكة رائعة وضخمة من الطرقات ( هذه مدنية ) لكنها لا تملك شعباً يحترم قواعد المرور على هذه الطرقات.
وكما تتفاخر بعض الدول بمكتباتها الكبيرة، والزاخرة بالمراجع والكتب والمخطوطات النادرة، ولكنها ابتليت بجيل لا يقرأ، وأمّية بلغت نسباً عالية ومتقدمة.
وكم من دولة تنفق مئات الملايين على السلع الاستهلاكية، ولا تنفق عشر هذه الملايين على الأبحاث العلمية.
السعادة في العلم والأخلاق معاً
أما الجزء الآخر من القانون فيخبرنا أن العلم بلا أخلاق أو قيم نقمة على البشرية، ولن يجلب العلم المجرد من الأخلاق السعادة لأمة أو حتى لإنسان، لأن سعادة البشرية لن تتم حتى تجمع بين العلم والأخلاق.
أسلحة الدمار الشامل
وللتوضيح نقول: هل من الممكن أن يقوم - من يحمل أخلاقاً - بصنع أسلحة دمار شامل تنشر الموت بين الناس، قطعاً لا .
وحسبك أن تعلم أن الرؤوس النووية التي تملكها روسيا (12,000) وأمريكا (9,000) كفيلة بتدمير العالم لمرات وليس لمرة واحدة، فالعالم كله، والبشرية كلها في خطر محدق، بسبب أسلحة الدمار الشامل، التي تملكها دول لا تجمع بين العلم والأخلاق، ولا تلتفت كثيراً إلى القيم والمبادئ، فالعلم موجود، لكنه لم يُسخّر لإسعاد البشرية، بل لم يجلب إلا الشقاء والتعاسة، بسبب غياب الجانب الأخلاقي، ويكفي أن نفكر بمصير العالم حينما تقع هذه الأسلحة بيد فئة مجنونة أو مجرمة أو حتى حينما تستخدم من قبل حكومات متحاربة كما حصل في اليابان حين دمرت هيروشيما.
التجربة الشيوعية
الاتحاد السوفييتي خير مثال على انهيار الدول بسبب الاعتماد على المدنية دون الفكر، بمقاييس المدنية كانت تجربة الإتحاد السوفييتي ضخمة وعظيمة، فهو أول من أرسل إنساناً إلى الفضاء، وكانت له مساهمات فاعلة في تطوير الطاقة النووية على مستوى العالم، وما لبثت أن انهار الاتحاد السوفييتي، وانهارت معه التجربة الشيوعية، التي لم تصمد إلا (70) سنة في صراعها مع الرأسمالية، لأنها حضارة قامت على الإلحاد والطغيان، وأُسست على منهج منحرف، ولم تجمع بين العلم والأخلاق.
القانون الرابع: الحضارة قد تمرض وقد تموت
هناك وجه شبه بين الحضارات والإنسان، فكما أن الإنسان يولد ويكبر، ويقوى ويضعف، ويمرض ويموت، كذلك هي الحضارات، وتولد وتكبر، تقوى وتضعف، وتمرض وقد تموت.
ولابد أن نفرق بين المرض والعَرَض، فالحرارة التي تصيب الإنسان تسمى " العَرَض " أما سبب هذه الحرارة فيسمى " المَرَض "، فنحن نريد أن نعالج الأمراض وليس الأعراض.
نهاية الحضارات
قد تصل الحضارة إلى إحدى نهايتين إما أن تموت، وهذا مصير غالبية الحضارات، وإما أن تمرض مرضاً شديداً يؤدي إلى ركود وشلل، يشبه الغيبوبة التي تصيب الإنسان فتشل حركته.
وتنقسم الأمراض التي تصيب الحضارات إلى قسمين:
_ أمراض مزمنة : وتشمل الأمراض التي تصيب المنهج الفكري للحضارة، أو في الأسس الأخلاقية التي قامت عليها تلك الحضارة، وهذه الأمراض إن لم تُستدرك كانت سبباً في الوهن الشديد، وربما سبباً مباشراً لانهيار تلك الحضارة وموتها.
_ أمراض عَرَضية : وتشمل الأمراض البعيد عن المنهج الفكري والأسس الأخلاقية التي قامت عليها الحضارة، وغالباً ما تصيب الأشكال المادية والمعنوية فيها، كحدوث خلل في عجلة الاقتصاد، أو تخريب للبنى التحتية، وهذا من شأنه أن يُضعف تلك الحضارة، لكنها غالباً لا تموت، ولكنها قد تتحول إلى أمراض مزمنة إذا تمّ تجاهلها، أو التباطؤ في علاجها.
فالخلاصة أن الحضارات لا تموت إذا كانت أمراضها ومشكلاتها مادية، ولكنها قد تموت إذا أصابت الأمراض فكرها، لأنها تكون قد أصيبت في مقتل.
مرض الوهن
الحضارات المؤمنة القائمة على التوحيد، لا تموت طالما بقيت على توحيدها، لأن الإيمان والتوحيد يشكلان مناعة قوية في مواجهة عوامل الاندثار، التي تؤدي إلى الموت والانهيار، فالحضارة الموحِّدة قد تضعف وقد تمرض لكنها لا تموت.
وللتوضيح نقول: إن التوحيد لا يزال قائماً في أمة الإسلام اليوم، ومع ذلك فقد أصيبت الأمة بمرض الوهن، الذي أخبر عنه النبي ( (( .. لَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمْ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ فَقَالَ قَائِلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهْنُ قَالَ حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ )) أبو داود
فأمتنا اليوم مريضة بمرض الوهن، وهو مرض قد يُضعفها ويبطئ من حركتها لكنه لا يقتلها، لكن قد يقتلها الظلم إذا تفشى وانتشر، وغاب من يتصدى له، ويقيم العدل بين الناس.
ولعل الثورات اليوم تتغلب على وهننا وضعفنا وتنتقل بنا إلى حالة القوة من جديد، فأنا كنت ولم أزل متفائلا بها جدا.





    رد مع اقتباس