عرض مشاركة واحدة
قديم 2015-02-12, 19:26 رقم المشاركة : 1
صانعة النهضة
مراقبة عامة
 
الصورة الرمزية صانعة النهضة

 

إحصائية العضو








صانعة النهضة غير متواجد حالياً


وسام التنظيم المميز السيرة 1438ه

مسابقة السيرة 5

وسام المنظمة

وسام منظم مسابقة السيرة النبوية العطرة

وسام الشخصية الفضية

وسام المشاركة في الدورة التكوينية مهارات الاتصال ا

وسام المطبخ المرتبة 1

وسام لجنة التحكيم

وسام العضو المميز

b7 كيف كان يحكم الملك الحكيم حمورابي؟


كيف كان يحكم الملك الحكيم حمورابي؟

عضيد جواد الخميسي


ما من أحد ينظر الآن إلى موقع مدينة بابل القديمة ثم يخطر بباله أن هذه البطاح الموحشة ذات الحر اللافح الممتدة على نهر الفرات كانت من قبل موطن حضارة غنية قوية كادت أن تكون هي الخالقة لعلم الفلك ، وكان لها فضل كبير في تقدم الطب ، وأنشأت علم اللغة وأعدت أول كتب القانون الكبرى ، وعلمت الاغريق مبادئ الحساب ، وعلم الطبيعة والفلسفة ، وأمدّت اليهود بالأساطير القديمة التي أورثها العالم ، ونقلت إلى العرب بعض المعارف العلمية والمعمارية التي أيقظوا بها روح أوروبا من سباتها في العصر الوسيط . وإذا ما وقف الإنسان أمام دجلة والفرات الساكنين فإنه يتعذر عليه أن يعتقد أنهما النهران اللذان أرويا سومر وأكد وسقيا جنائن بابل المعلقة .



والحق أنهما إلى حد ما ليسا هما النهران القديمان ؛ وذلك لأن النهران القديمان قد اختطّا لهما من زمن بعيد مجريين جديدين " وقطعا بمناجلهما البيض شطآناً أخرى " .
وكان نهرا دجلة والفرات كما كان نهر النيل في مصر طريقاً تجارياً عظيماً يمتد آلاف الكيلومترات ، وكانا في مجرييهما الأدنيين يفيضان كما يفيض نهر النيل في فصل الربيع ويساعدان الزراع على إخصاب الأرض . ذلك أن المطر لا يسقط في بلاد بابل إلا في أشهر الشتاء ؛ أما فيما بين مايس وتشرين الاول/اكتوبر فإنه لا يسقط أبداً ؛ ولولا فيضان النهرين لكانت أرضهما جرداء كما كان الجزء الشمالي من أرض الرافدين في الأيام القديمة وكما هو في مثل هذه الأيام . ولكن بلاد بابل قد أضحت بفضل ماء النهرين الغزير ، وكدّ المواطنين أجيالاً طوالاً ، جنة الساميين وحديقة بلاد آسيا القديمة .

وكانت بابل من حيث تاريخها وجنس أهلها نتيجة امتزاج الأكديين والسومريين . فقد نشأ الجنس البابلي من تزاوج هاتين السلالتين ؛ وكانت الغلبة في السلالة الجديدة للأصل السامي الأكدي ، فقد انتهت الحروب التي شبت بينهما بانتصار أكد وتأسيس مدينة بابل لتكون شاملة أرض الرافدين السفلى بأجمعها . وتطل علينا من بداية هذا التاريخ شخصية قوية هي شخصية حمورابي 2123 ـــــ 2081 ق .م الفاتح المشرع الذي دام حكمه ثلاثاً و أربعين سنة . وتصوره الأختام والنقوش البدائية بعض التصوير ، فنستطيع في ضوئها أن نتخيله شاباً يفيض حماسة وعبقرية ، ذو عاصفة هوجاء في الحرب ، يقلم أظافر الفتن ويقطع أوصال الأعداء ، ويسير في شعاب الجبال الوعرة ، ولا يخسر في حياته واقعة ؛ وحّد الدويلات المتحاربة المنتشرة في الوادي الأدنى ، ونشر لواء السلام على ربوعها وأقام فيها منار الأمن والنظام بفضل كتاب قوانينه التاريخي العظيم

وقد كُشف قانون حمورابي في أنقاض مدينة سوسة في ايران عام 1902م . ووجد هنا القانون منقوشاً نقشاً جميلاً على اسطوانة من حجر الديوريت نقلت من بابل إلى عيلام حوالي عام 1100 ق .م فيما نقل من مغانم الحرب ، وقيل عن هذه الشرائع أنها منزلة من السماء . فترى الملك على أحد أوجه الأسطوانة يتلقى القوانين من شمش إله الشمس نفسه . وتقول مقدمة القوانين :



(( ولما آن عهد أنو الأعلى ملك الأنونا كي وبِلْ رب السماء والأرض الذي يقرر مصير العالم ، لما آن عهد حكم بني الإنسان كلهم إلى مردوك ؛ . . . ولما آن نطقا باسم بابل الأعلى ، وأذاعا شهرتها في جميع أنحاء العالم ، وأقاما في وسطه مملكة خالدة أبد الدهر قواعدها ثابتة ثبات السماء والأرض ـــ وفي ذلك الوقت ناداني أنو وبِل ــــ ، أنا حمورابي الأمير الأعلى ، عابد الآلهة ، لكي أنشر العدالة في العالم ، وأقضي على الأشرار والآثمين ؛ وأمنع الأقوياء أن يظلموا الضعفاء . . . وأنشر النور في الأرض وأرعى مصالح الخلق . أنا حمورابي ، أنا الذي اختاره ِبِلْ حاكماً ، والذي جاء بالخير والوفرة ، والذي أتم كل شيء لنيبور ودُريلو ، . . . والذي وهب الحياة لمدينة أوروك ؛ والذي أمد سكانها بالماء الكثير ، . . . والذي جمل مدينة بارسيا ،. . . والذي خزن البذور لأوراش العظيم ، . . . والذي أعان شعبه في وقت المحنة ، وأمن الناس على أملاكهم في بابل ؛ حاكم الشعب ، الخادم الذي تسر أعماله أنونيت )) .

إن الألفاظ التي أكدناها نحن في هذه العبارة لذات نغمة حديثة ؛ وإن المرء ليتردد قبل أن يصدق أن قائلها حاكم شرقي " مستبد " عاش في عام 2100 ق .م ، أو أن يتوهم أن القوانين التي تمهد لها استمدت أصولها من قوانين سومرية مضى عليها ستة آلاف عام . وهذا الأصل القديم مضافاً إلى الظروف التي كانت تسود بابل وقتئذ هي التي جعلت قانون حمورابي شريعة مركبة غير متجانسة .



فهي تفتتح بتحية الآلهة ، ولكنها لا تحفل بها بعدئذ في ذلك التشريع الدستوري البعيد كل البعد عن الصبغة الدينية . وهي تمزج أرقى القوانين وأعظمها استنارة بأقسى العقوبات وأشدها وحشية ، وتضع قانون النفس بالنفس والتحكيم الإلهي إلى جانب الإجراءات القضائية المحكمة والعمل الحصيف على الحد من استبداد الأزواج بزوجاتهم . على أن هذه القوانين البالغة عدتها 285 قانوناً ، والتي رتبت ترتيباً يكاد يكون هو الترتيب العلمي الحديث ، فقسمت إلى قوانين خاصة بالأملاك المنقولة ، وبالأملاك العقارية ، وبالتجارة ، والصناعة ، وبالأسرة ، وبالأضرار الجسمية ، وبالعمل ؛ نقول إن هذه القوانين تكون في مجموعها شريعة أكثر رقياً وأكثر تمديناً من شريعة أشور التي وضعت بعد أكثر من ألف عام من ذلك الوقت ، وهي من وجوه عدة " لا تقل رقياً عن شريعة أية دولة أوربية حديثة " ؛ وقلّ أن يجد الإنسان في تاريخ الشرائع كلها ألفاظاً أرق وأجمل من الألفاظ التي يختتم بها البابلي العظيم شريعته :
(( إن الشرائع العادلة التي رفع منارها الملك الحكيم حمورابي والتي أقام بها في الأرض دعائم ثابتة وحكومة طاهرة صالحة . . . أنا الحاكم الحفيظ الأمين عليها ، في قلبي حملت أهل أرض سومر وأكد . . . وبحكمتي قيدتهم ، حتى لا يظلم الأقوياء الضعفاء ، وحتى ينال العدالة اليتيم والأرملة . . . فليأت أي إنسان مظلوم له قضية أمام صورتي أنا ملك العدالة ، ليقرأ النقش الذي على أثري ، وليلق باله إلى كلماتي الخطيرة ! ولعل أثرى هذا يكون هادياً له في قضيته ، ولعله يفهم منه حالته!))



ولعله يريح قلبه فينادي : (( حقا إن حمورابي حاكم كالوالد الحق لشعبه . . . لقد جاء بالرخاء إلى شعبه مدى الدهر كله ، وأقام في الأرض حكومة طاهرة صالحة . . . ولعل الملك الذي يكون في الأرض فيما بعد وفي المستقبل يرعى ألفاظ العدالة التي نقشتها على أثرى! )) .

ولم يكن هذا التشريع الشامل إلا عملاً واحداً من أعمال حمورابي الكثيرة . فلقد أمر بحفر قناة كبيرة بين كيش والخليج أروَت مساحات واسعة من الأراضي ، واصلح المدن الجنوبية ما كان ينتابها بسبب فيضانات نهر دجلة المخربة . ولقد وصل إلينا من عهده نقش آخر يفخر فيه بأنه أجرى في البلاد (الماء ) تلك المادة القيمة التي لا نقدرها اليوم والتي كانت في الأيام الماضية إحدى مواد التقديس والترف ، ونشر الأمن والحكم الصالح بين كثير من القبائل . كما نقرأ مقطع من النقش الأثري:



(( لما وهب لي أنو وانليل إلها أوروك ونيبور بلاد سومر وأكد لأحكمها، ووضعا في يدي هذا الصولجان ، حفرت قناة حمورابي[ نخوش ميشى - حمورابي المفيض]... ـــ هنا النص غير واضح ـــ على... الشعب التي تحمل الماء الغزير لأرض سومر وأكد . وحولت شاطئيها الممتدين على كلا الجانبين إلى أراضي زراعية ؛ وجمعت أكداسا من البذور ، وسيرت الماء الذي لا ينضب إلى الأرضين، وجمعت المواطنون المشتتين ، وهيأت لهم المرعى والماء وأمددتهم بالمراعي الموفورة وأسكنتهم مساكن آمنة] .



وبلغ من حذق حمورابي أن خلع على سلطانه خلعة من رضاء الآلهة بالرغم من أن قوانينها كانت تمتاز بصبغتها الدنيوية غير الدينية . من ذلك أنه شيّد المعابد كما شيّد القلاع ، واسترضى الكهنة بأن أقام لمردوك وزوجته إلهي البلد القوميين في مدينة بابل هيكلاً ضخماً ومخزناً واسعاً ليخزن فيه القمح للإلهين وللكهنة . وكانت هاتان الهديتان وأمثالهما في واقع الأمر بمثابة مال يستثمر أبرع استثمار ، جنى منه ربحاً وفيراً هو الطاعة الممتزجة بالرهبة التي يقدمها إليه الشعب . واستخدم ما حصل عليه من الضرائب في تدعيم سلطان القانون والنظام ، واستخدم ما تبقى بعد ذلك في تجميل عاصمة ملكه ، فأنشأت القصور والهياكل في جميع نواحيها ، وأقيم جسر على نهر الفرات حتى تمتد المدينة على كلتا ضفتيه ، وأخذت السفن التي لا يقل بحارتها عن تسعين رجلاً تمخر عباب النهر صاعدة فيه ونازلة ، وأضحت بابل قبل الميلاد بألفي عام من أغنى البلاد التي شهدها تاريخ العالم قديمه وحديثة .


يتبع






التوقيع

أيها المساء ...كم أنت هادئ

    رد مع اقتباس