عرض مشاركة واحدة
قديم 2013-04-21, 12:16 رقم المشاركة : 1
صانعة النهضة
مراقبة عامة
 
الصورة الرمزية صانعة النهضة

 

إحصائية العضو








صانعة النهضة غير متواجد حالياً


وسام التنظيم المميز السيرة 1438ه

مسابقة السيرة 5

وسام المنظمة

وسام منظم مسابقة السيرة النبوية العطرة

وسام الشخصية الفضية

وسام المشاركة في الدورة التكوينية مهارات الاتصال ا

وسام المطبخ المرتبة 1

وسام لجنة التحكيم

وسام العضو المميز

c1 عندما ينحسر التاريخ في دمنات..


عندما ينحسر التاريخ في دمنات.. ويتحول إلى مراحيض عموميّة



تضعك سيارة التاكسي أمام بابها الرئيسي..كأن سائقها يريد أن يترك لقدميك فرصة الاحتفاء بلحظة دخولها، هي دمنات، المدينة الصغيرة النائمة على سفوح الأطلس الكبير، والتي لم تنم إلا بعد الاستقلال بعدما كانت نقطة تتوهج نشاطا تجاريا جعلها من الممرات الآمنة لكل التجار القادمين من فاس نحو مدن الجنوب، وبعدما كانت مساحة من التعايش بين الإسلام واليهودية بشكل قل نديره في كل البقاع العربية..

"أرّاو نتمازيغت"، أي أبناء البلد، هي الجملة التي يخبرك بها كل دمناتي عن اليهود الذين عاشوا هنا في وقت من الأوقات، لدرجة أن أعدادهم حينئذ كانت قريبة جدا من أعداد المسلمين، هسبريس، اقتفت أثر تعايش ديني في غاية التسامح، قدمته مدينة بسيطة ربما لا يعرف بها الكثير من المغاربة، في زواياها وأضرحتها، مقابرها ومساكنها، كل شيء يوحي هنا، بمدينة متعبدة حتى النخاع.



مدينة الأراضي الخصبة..

الماء يجري من تحت مساكنها وأزقتها، ربما لهذا سميت ب"دمنات"، أي جمع دمنة التي تعني الأراضي الخصبة، غير أنه يبقى تعريفا عربيا لمدينة أمازيغية معتزة بهويتها دون إفراط في جرعة الاعتزاز، نسجت هي الأخرى سور عظيما، واستطاعت أن تقي نفسها هجمات المتآمرين خاصة وأنها كانت ملجأ للمعارضين بعد تأسيسها على أيدي العلويين، فمولاي رشيد الذين كان ملكا على المغرب في القرن ال17، يدين لها لأنها هي من حمته وجعلته يُكَوِّن جيشه ضد أخيه مولاي أحمد، بعد أن تغلب عليه هذا الأخير وطرده خارج قلاع الحكم..

غير أن السور العظيم، لم يلبث أن تشوه في السنوات الأخيرة، فتحول إلى مجرد ديكور يقف متباكيا على عدة أجزاء منه تحطمت إما بفعل عوامل طبيعية، أو عوامل "الفأس" الذي حملته السلطات ذات يوم من أجل توسعة مداخلها..تَشوه السور ألقى بظلاله على إرث ديني فَقدَ الكثير من معالمه الجميلة.



يهود دمنات..

لا يعرف وقت محدد لسكن اليهود بدمنات، لكن الرأي السائد هنا هو أنهم سكنوا المدينة قبل تأسيسها، وأول ما استقروا في المنطقة، تواجدوا في قرية اسمها "بوحلو" بسبب المكان الاستراتيجي لهذه النقطة الكيلوميترية التي شكلت ملتقى تجاريا بين فاس ومكناس من جهة، ومراكش والجنوب من جهة أخرى، فبراعة اليهود في التجارة جعلتهم يستغلون المنطقة لصالحهم، إلى حين تأسيس المدينة رسميا في القرن السادس عشر، بعدما استطاعوا أن يبنوا حيهم المعروف بـ"الملاح" الذي يعد أقدم بأربعة قرون من ملاح مراكش.

لكن لسوء حظهم، فتواجد حيهم قرب قنوات الري التي تسقي المدينة، جعل المسلمين يشكونهم إلى السلطان الحسن الأول، مطالبين بإبعاد اليهود عن ذلك الحي لأنهم "يدنسون" الماء حسب المعتقدات المحلية، فاستجاب السلطان للطلب، ورحّل اليهود إلى حي جديد قريب من الباب الرئيسي للمدينة المسمى بباب "إعرابن"، وقد استجاب اليهود دون أية مقاومة كما يقول لنا أحمد قابو أستاذ تاريخ بالمدينة، وتمت تسمية الملاح القديم بحي الفلاح بتبديل الميم فاء.

رغم نشاطهم التجاري، فغالبية يهود المدينة كانوا ناسا بسطاء، ومارسوا مهنا وحرفا جنبا إلى جنب مع المسلمين، بل تشارك أبناءهم المدارس مع أبناء المسلمين، ويتذكر أحمد الحوزي أحد أبناء المدينة كيف كان يدرس مع يهودية كانت تقرأ العربية بلهجة غريبة، وهو الأمر الذي لم يكن يشكل لها أي حرج.

وحتى بعد حصول المغرب على استقلاله، استمر يهود دمنات في يومهم بالمدينة، فأول رئيس للمجلس البلدي بالمدينة كان يهوديا، بل أن حضورهم تعزز بمجموعة من الراهبات المسيحيات اللواتي فضلن البقاء بالمغرب وعدم الرحيل نحو أوروبا رغم استقلال المغرب، وقمن بمجموعة من الأعمال الخيرية كتوليد النساء في وقت لم تكن دمنات تتوفر فيه على مستشفى، ولم يثبت أبدا أن كن ينشرن التبشير، بل أن عشقهن للمدينة جعلهن يستمررن في نسج علاقات الحب مع ساكنتها إلى حين سنة 1984 التي عرفت أحداثا دامية بالمنطقة في تطورات انتفاضة ذلك العام، الأمر الذي جعلهن يقررن الرحيل.



ياقوتة.. اليهودية المصرة على حفظ الإرث

حملة التهجير التي عرفها المغرب، والتي همت غالبية اليهود المغاربة ممن أظهروا رغبة في الرحيل نحو دولة إسرائيل، أتت على غالبية يهود المدينة، بينما رحلت قلة قليلة نحو مدن مغربية أخرى لتوسعة نشاطها التجاري، العائلة الوحيدة التي بقيت هي عائلة عمران، وتحديدا الأب والأم وابنتهما ياقوتة بعدما فضل بعض أفراد الأسرة الرحيل، رحل الأبوان نحو دار البقاء وبقيت ياقوتة لوحدها تحرس أملاك العائلة رغم أنها وصلت إلى سنها السبعين.

انتظرناها قرب بيتها الذي يحتل مساحة واسعة وسط المدينة، الساحة الصغيرة أمامه تحولت إلى موقف لسيارات الأجرة، وأبوابه العديدة استحالت مركنا للأزبال مادامت العجوز الوحيدة لا تدلف إلا من واحد منها، بضعة أمتار أمام بيتها استغلها مصلح دراجات لجني قوت يومه، أخبرنا أن اليهودية وافقت على السماح له باستخدام المكان، سوء حظنا جعلنا نقضي اليوم برمته في انتظارها دون أن تأتي، فهي دائمة الحركة وتتنقل من مكان لآخر بخفة أبناء العشرين، تحدث لنا أحد جيرانها عن أنها ربما في زيارة لأختها بالبيضاء.

يروي لنا عبد اللطيف عمراوي، واحد من أصدقائها، عن أن والدها كان من أغنياء المنطقة، تعايش مع المسلمين إلى آخر لحظة من حياته، وكان يقدم قروضا لكل من يريد بدء تجارة جديدة دون اشتراط أي فوائد، ووالدتها هي من جلبت ماكينات الخياطة "سانجير" إلى المدينة قصد تعليم المسلمات الخياطة والاعتماد على أنفسهن في سبيل تحصيل لقمة العيش، وعندما توفيا، رفضت ياقوتة كل العروض المقدمة لها، وبقيت وفية لوظيفتها بباشوية المدينة كمكلفة بالاتصال، وحتى بعد تقاعدها، ترفض حتى الغياب طويلا عن منزل العائلة الذي انتقلوا إليه من الملاح عندما هجره اليهود وطالب به المسلمون.

تقول ياقوتة لجيرانها إن سفينة نوح بُنيت هنا في دمنات، وتقتنع أنهم هم أصحاب الأرض والمسلمون في ضيافتهم، وسيأتي يوم يعود فيه أصحاب الأرض للاستقرار هنا نهائيا، لم تتزوج، ولم تتبنى طفلا، بقيت لوحدها تتمشى في منزلها الواسع، وأحيانا عندما يهدها المرض، تتصل بأصدقائها المسلمين لمساعدتها، تكره الحديث عن السياسة، وتقضي جل وقتها في التنقل بين أحياء دمنات سائلة عن الحال والأحوال،" ولفناها بزاف..الله يعمرها دار، غير شي وحدين فينا صراحة كيقللو عليها الاحترام" يقول لنا عبد اللطيف عمراوي.



الزوايا والأضرحة.. عنوان التعايش

أينما تولي وجهك في دمنات، هناك زاوية ما، في كل حي من الأحياء، يتوسط بناء ديني الزقاق، فرغم أن المدينة صغيرة نسبيا ويمكن أن تتجول في كل أرجائها في مدة لا تتجاوز الساعة الواحدة، إلا أنها تحتضن تسع زوايا، من أشهرها الزاوية التيجانية الموجودة بحي الفلاح، العيساوية بحي القصبة، الحمدوشية بحي آيت كنون، وزاوية الدليل بحي أرحبي.

زوايا دمنات، وإن لم تتجاوز مساحتها بضعة أمتار، فتكاثرها يجعلنا نتفهم كيف أن مسلمي المدينة قرروا في وقت من الأوقات المضاعفة من جهودهم قصد نشر معالم الدين الإسلامي بمدينة تواجد فيها اليهود بكثافة، لذلك أنشئوا هذه البنايات التعبدية، وجعلوا كذلك من مدينتهم محجا للأضرحة المتعددة، ففي كل دواويرها، هناك ضريح لولي من أولياء الله، كسيدي ناصر أوعلي وسيدي واكريان وسيدي حداني، يقصدها الساكنة والزوار، تيمنا ببركة يرون أنها انقرضت في هذا الزمان، ولا طريقة لعودتها إلا بالتضرع برجل توفي منذ زمن طويل.

وإن كان المسلمون أنانيين في بعض أضرحتهم، فقد قَبل يهود المدينة مشاركة إخوانهم في أضرحتهم الخاصة، ففي دوار "بوحلو"، هناك ضريح مشهور باسم تابلوحت، يعود لولية صالحة عاشت في قرن من القرون، يتبرك به اليهود والمسلمون، ويزوره في كل وقت وحين من يريد التضرع إلى الله بتحقيق أمنيته، شأنه في ذلك شأن سيدي ناصر أومهاصر الموجود بمنطقة إمنفري، الذي تزوره الفتيات طمعا في الزواج، فيغتسلن بالقرب منه، ويترك ملابسهن الداخلية هناك، لعل الولي الصالح ينفث فيها القليل من بركته، فيأتي العرسان على عجل إلى بيت العذراء.



معالم قتلها الإهمال

عندما رحل اليهود عن ملاحهم تاركين خلفهم ذكريات متعددة وكنيس كان يضمن صلواتهم، لم يكلف المجلس البلدي للمدينة نفسه عناء الإبقاء عليه، بل تم تحويله إلى مسجد يصلي فيه التجار والحرفيون الذين أقاموا قيسارية في الملاح القديم الذي لم يبق منه سوى بعض الأعمدة وجزء من السور المحيط به، شأنه في ذلك شأن الكثير من منازلهم التي بقيت موصدة منذ مغادرتهم، في انتظار أن تسقط يوما..

أكبر معالم الإهمال، تتجسد في المقبرة اليهودية، روث بهائم منتشر بين جنباتها، أزبال منتاثرة هنا وهناك، و قبور متصدعة، بعضها فتحوه للسحر بالأعضاء اليهودية، وبعضها الآخر خلفت فيه الأمطار ندوبة صغيرة كافية للنظر إلى محتويات القبر وعرضها أمام الجميع.

حارس المقبرة يتحدث عن أن أسرتهم تكلفت بحراسة المقبرة منذ رحيل اليهود عن المدينة، إلا أن قلة التعويضات جعلتهم يهملون الحراسة ويعتبرونها شأنا ثانويا، من وقت لوقت، تأتي عائلات الموتى من إسرائيل وباقي المدن المغربية لقراءة مقاطع من التوراة، فتكون هذه هي المناسبة الوحيدة للحارس كي ينعم ببعض العطاء الذي يسعفه في الاهتمام قليلا بالجثث المدفونة.

في أعلى المقبرة، هناك ضريح يهودي يدعونه أصحابه بسيدي هارون بنكوهين، بينما يدعوه المسلمون ب"بولبركات"، لم يتبق منه سوى حطام بناية صارت مرحاضا مفتوحا للعموم، على جنباته، يتواجد ثلاث نعوش لأسرة هذا الرجل اليهودي، لا يَتبينها الزائر إلا بصعوبة بسبب الفضلات البشرية التي تعم المكان، دون مراعاة لحرمة الميت.

غير أن الإهمال لم يطل فقط المعالم اليهودية، فقد فرطت الساكنة حتى في بعض المعالم الإسلامية، كدار مولاي هشام، أحد الأمراء العلويين، التي تحولت هي الأخرى إلى مرحاض عمومي مفتوح في وجه كل من لا يجد سبيلا لقضاء حاجته في بيته، وصارت جدرانها مناسبة للقاء غرامي لا يأبه برائحة المكان، وسقفها مساحة ألعاب لأطفال المدرسة في أوقات فراغهم.



لكي لا تتغرب دمنات عن تاريخها

قبل أن تدلف إلى الباب الرئيسي للمدينة، تتراءى لك مقبرة واسعة، تسمى بمقبرة "الغرباء"، وذلك لأن من يُدفن فيها هم الغرباء عن المدينة، أي أولئك الذين توفاهم الموت وهم يعبرون المدينة ذات يوم..

هل من بنى هذه المقبرة كان يُلمح إلى أن المدينة ستتخلى عن قلبها الكبير ولن تحافظ بنفس القوة على تاريخها الثقافي الذي بدأ ينسكب من بين أسوارها؟ من فوق مقهى أغلال المجاور للملاح، غرق عبد اللطيف في تأمل علامات اليهود بالمدينة الآخذة في الانحسار بمسؤولية الطرفين معا: الطرف المسلم الذي ورث المدينة، والطرف اليهودي الذي فرط فيها مفضلا عليها دولة في طور التشكل، ليجيبنا عن سؤالنا: "ستبقى دمنات هي صاحبة القلب الكبير، ولن تفرط أبدا في إرثها التاريخي.."

غير بعيد من عبد اللطيف، كان هناك شاب يلعب بهاتفه النقال، انتظر حتى انتهينا من حديثنا ليرينا مجموعة من الصور التي توثق وجود اليهود بالمدينة، سألناه هل هو الوحيد الذي يمتلك هذه الصور، فأجابنا أن نصف هواتف دمنات تحمل هذه الصور، وأن مجموعة كبيرة من شباب المدينة تصر على استرجاع صفحات من تاريخ يريد له البعض أن ينتهي من الأذهان.

ومثلما حافظت المدينة على آثار دينصورات تعود إلى عشرات القرون، تستطيع الحفاظ على معالم يهودية تعود إلى عشرات السنوات، هكذا يتحدث عبد الهادي الحيداوي، من شباب المدينة، عن الأمل في حفظ جزء كبير من الذاكرة المشتركة..

أذان المغرب يستعمر الأركان، بضعة مصلين يهرولون نحو المسجد المنتصب فوق الكنيس القديم، للوفاء بموعد اللقاء مع الرب، قربهم، كان اليهود يصلون ذات يوم، لخالق واحد،يتضرعون جميعا، أن يحفظ المدينة، وأن يجعلها قرة في أعين سكانها، وأن يعيدها إلى واجهتها الحقيقية: واجهة التعايش مهما اختلفت الديانات..





التوقيع

أيها المساء ...كم أنت هادئ

    رد مع اقتباس