اللعب والتقليد ينهمك الطفل في اللعب - خلال السنة الأولى من عمره - انهماكاً يأخذ عليه وقته كله ، ويشغف باللعب من دون دمى حقيقة بين يديه ، والحق أن اللعب لدى الطفل يتمثل في استعمال الأشياء وتخيلها ، وترتبط الألعاب الأولى للطفل بِمُتَع عملية معيَّنة ، كالإمساك بالأشياء وتحريكها ، وما إلى ذلك . ويلاحظ أيضاً أن الطفل يجد متعة خالصة في إكمال حركة لم يكن قادراً على إكمالها من قبل ، وهذا ما يثير في نفسه استجابة ممتعة تحفزه على إنجاز حركات متقدِّمة ، وإن مما يثير الطفل ويمتعه - كما سبق أن ذكرنا - أن يكون هو مسبِّباً لشيء معين ، كأن يشد حبلاً مثلاً فيؤدِّي ذلك إلى تحريك دمية أو إخراج صوت منها . والطفل يميل إلى هذه الألعاب ميلاً نفسياً ، فيشعر إذ ذاك باستقلاله وابتعاده عن أعماله السابقة ، ولهذا فإن الدمى التي تثير الطفل - كالأشياء التي يسهل ضغطها ، أو يلذ لمسها أو تذوقها أو الاستماع إليها أو مجرَّد النظر إليها - تسهم في التطوُّر الفكري والاجتماعي للطفل ، فعن طريق اللعب يتصل الطفل بالعالم . وفي حقيقة الأمر أنَّ الألعاب هي رياضة الحياة التي لا تُضاهى ، وهي تمثل اللقاء الأول للطفل مع جسمه وبيئته ، وعن طريق اللعب يشرع الطفل في إدراك العلاقات بين الأشياء ، أو بين الفضاء وبين تنسيقه العضلي ، وهكذا يبدأ يدرك بصورة خاصة أنه يستطيع أن يعدِّل بيئته بأفعاله ، ثم إن مجرَّد استعمال الأطفال الصغار جداً للأشياء القريبة منهم يشكل منبِّها حسِّياً بالغ الأهمية ، وهذا ما يوفر للطفل طريقاً ملموساً ممتعاً نحو تجارب جديدة تُعدُّ جوهرية فيما يتعلَّق بنموه . أما التغيرات التي تطرأ على الطفل في الشهر السابع أو الثامن تقريباً فهي تتيح للأم أن ترى طفلها قد بدأ يلهو بالأصوات ، فإنه شرع فعلاً باللغو لنفسه ، وبتقليد الأصوات البسيطة الموجَّهة إليه ، وأما التطور اللفظي فإنه يرتبط باهتمام بالغ لدى الطفل في الدمى التي تخرج أصواتاً أو موسيقى ، ولذلك ينبغي أن ترضي الدمى في هذه المرحلة تلك القدرات الجديدة المتطوِّرة لدى الطفل . ولا بأس في استباق هذه الحاجات بوضع دمى معيَّنة أمام الطفل ، كساعة ذات عصفور ، أو حيوانات ، أو صناديق تحتوي في داخلها على دمى متحركة ، أو أجراس أو دمى تصدر أصواتاً ، وبين الشهرين الثامن والتاسع يستطيع الطفل الجلوس وحده منتصباً في فراشه ، ويرى البيئة المحيطة به من زاوية مميَّزة شديدة الاختلاف ، ويتَّسع مدى رؤيته إلى حدٍّ كبير ، ويتمكن إذ ذاك من تحريك نفسه بمزيد من السهولة ، ومن استعمال الأشياء المحيطة به . ولا تقتصر حركاته على الإمساك بالأشياء بل على رميها وتكديسها ، ويمثل ذلك كله تطوراً في ذكائه يوماً تلو يوم ، فالدُّمى التي تتحرَّك تلقائيّاً مثلاً ، والألعاب ذات العجلات ، والقطارات والسيارات الصغيرة ، وغير ذلك تعدُّ ذات نفع كبير للطفل ، بعد أن تعلَّم الزحف على أطرافه الأربعة . والحق أن الطفل يحب أن يَجرَّ ألعابه المفضلة حيثما يزحف ، وذلك في محاولاته الأولى للتحرك مستقلاً عن الآخرين ، ولكن ينبغي للأم أن تحذِّر من وضع دُمى كبيرة حوله ، فالطفل لا يزال يحتاج إلى أن يسند نفسه بإحدى يديه على الأقل ، وعندما يصبح الطفل قادراً على المشي تتَّخذ الدمى طابعاً مختلفاً بالنسبة إليه ، ففي هذه المرحلة يصبح الطفل قادراً على أن يصل إلى الأشياء الجديدة ويرفعها عن الأرض ، وفي هذه المرحلة أيضاً يكون قد برع في استعمال يديه على وجه معيَّن . وتنشأ لديه رغبة قويَّة للاستكشاف باستعمال جسمه ، وتتمثل في تسلُّق كل شيء ، ومحاولة الوصول إلى كل ركن من أركان البيت ، وبذل كل ما في وسعه للهرب من حظيرته النقالة ، وهذه المرحلة بالغة الأهميَّة في حياة الطفل ، فهي تزوِّده بالوسائل اللازمة من أجل تطوُّره العقلي ، وتمكنه كذلك من تنمية ثقته بذاته ، تلك الثقة المؤسسة على شعوره باستقلاله . فالطفل يحتاج إلى اللعب ، وإلى تدريب عضلاته ، وبناء الثقة في ذاته ، ولكنه يحتاج في الوقت نفسه إلى بيئة سليمة ، فيها شخص كبير يكون دائماً إلى جانب الطفل ، ضماناً لحمايته ، من دون هيمنة عليه ، ولذلك على الأم ألاَّ تدع القلق يستبد بها إذا رأت طفلها يكثر سقوطه خلال شروعه في السير ، ولعلَّ من الأجدى أن تسعى الأم إلى الإقلال من عدد سقطاته بدلاً من أن تهرع إلى مواساته ، والدمى المتوافرة ، وهذا من سوء الحظ لا تقدِّم المتعة البالغة للأطفال الذين شرعوا بالمشي لِتَوِّهِم . وفي الحقيقة أن الطفل يُحبُّ التجوال والاستكشاف ، لذلك ينبغي للأبوين إيجاد الألعاب لطفلهما ، كما ينبغي لهما إرضاء هذه الحاجات لدى طفلهما ، فهي ضرورية للطفل الذي تجاوز السنة الأولى من العمر ، ولا بأس في أن تشرع الأم في إنشاء مَمَرَّات ومنحدرات محميَّة بالوسادات أو المواد الليِّنة ، كالبطانيات أو الأثاث الصلب المكسو بالمواد اللَّيِّنة لتخفيف وطأة الصدمات أو السقوط . ولا بأس كذلك في أن توفِّر الأم لطفلها علباً من الورق المقوَّى ، حتى تتيح له الفرصة لإنشاء فراغات جديدة ، أمَّا الدمى التي تجذب انتباه الأطفال الأكثر نضجاً وذكاء فهي التي يمكن تركيبها أو تجميعها ، فالطفل يفرغ من عملية الاستكشاف ليرضي غريزة أخرى لديه ، وهي عملية الابتكار . ولعلَّ من الأفضل أن تختار الأم لطفلها لعباً على شكل عمارات تركب الواحدة فوق الأخرى ، أو يدمج بعضها في بعض ، أو دمى مؤلَّفة من أجزاء بسيطة قابلة للفكِّ والتركيب ، وينبغي للأبوين اختيار هذه اللُّعَب ملائمة لسنِّ طفلهما ، لئلاَّ يهجرها ويتركها من دون استعمال إذا كانت فوق مستواه العقلي . كما ينبغي للأبوين اختيار لعب طفلهما بِحُريَّة دون ما إصغاء إلى نصائح الآخرين ، أو التأثر بالدعاية المرافقة للُّعَب ، ومع الزمن يمكن اختيار لعب أكثر تعقيداً تثير القدرات الحركية النفسيَّة لدى الطفل ، وتوقظ فضوله . ولعل من المستحسن أيضاً إرضاء جانب آخر من جوانب الإبداع لدى الطفل ، بتقديم ورق وألوان وأقلام وعجين ، ومن الطبيعي أن تختار الأم لطفلها أصباغاً مأمونة لا أثر للسّم فيها ، كما ينبغي لها أن تراقبه وتعلِّمه استخدامها . وبعد ذلك يشرع الطفل بالاستجابة المناسبة لما يقدَّم إليه من منبِّهات ، ويبدأ ذكاؤه بالتطوُّر والنمو عن طريق الألعاب المختلفة ، ومن الممكن أن ترصد الأم تقدُّم طفلها رصداً مباشراً عن طريق اللعب ، ومن جهة أخرى فإن تقليد الكبار يُعدُّ أمراً أساسياً في تطوُّر الطفل . وأول دليل على التقليد يتمثَّل في ألعابه الأولى ، ففي أثناء اللعب يستخدم الطفل حواسَّه ، وينسق بين عضلاته وحركاته ، ويشحذ قدراته العقلية كلها ، ويزيد خياله وقدرته على التكيُّف الاجتماعي ، ويبدأ الطفل في الشهر الثامن عشر بممارسة الألعاب الرمزيَّة التي تعتمد على موقف معيَّن يكون أساساً لها ، وتعتمد الألعاب الرمزية الأولى على تقليد إشارات الكبار وسلوكهم ، ولكن يستعاض فيها عن الأشياء الحقيقية بأشياء وهميَّة . -*******************************-