عرض مشاركة واحدة
قديم 2010-11-04, 14:21 رقم المشاركة : 1
محمد محضار
أستـــــاذ(ة) مــــاسي
 
الصورة الرمزية محمد محضار

 

إحصائية العضو







محمد محضار غير متواجد حالياً


افتراضي مبروكة ...........نص لمحمد محضار


مبروكة جزء من ذاكرة المدينة... هي الآن مجرد بقايا اِمرأة، بعد أن أنهكتها السنون ونال منها المرض والوجع.. لكنها ما تزال متشبثة بالحياة.. والحياة ما تزال متشبثة بها.. اِختار لها بعض ماسحي الأحذية مكانا عند ناصية زنقة الحمام.. بالقرب من دكان السي قاسم بائع السجائر أو "مول الصاكة" كما يحلو لها أن تسميه.. ونصبوا لها ما يشبه الخيمة الصغيرة، تقيها من قساوة البرد، وغزارة المطر.. كانت مبروكة قد أصيبت بكسر- منذ عشرين سنة- جعل حركتها صعبة، فهي لا تخطو دون الإستعانة بعكازين خشبيين .كنت كلما مررت بها سمعتها تردد :"ذهب الرجال.. وبقي الأنذال.." فأقترب منها، وأنفحها ببعض الدريهمات، فتغمرني بدعواتها ثم تكرر لازمتها المعتادة "ذهب الرجال وبقي الأنذال" وتتابع بامتعاض "اُنظر إلى هذه المدينة اللئيمة إنها تفقد كل تلك القيم الجميلة التي كانت تميزها.. لم يعد هناك من يسأل عن المسكين المعدم مثلي.. ولا من يأخذ بيده..".
حدثني سي قاسم في شأنها فقال :"مبروكة كانت واحدة من جميلات هذه المدينة في أربعنيات القرن الماضي .. وكنا نحن شباب تلك الفترة متيمين بها.. ومعجبين بأناقتها وسحرها.. أتعلم أنها أول فتاة بالمدينة لبست التنورة القصيرة، والكعب العالي ،لم تكن تعيرنا إهتماما وكانت غارقة حتى الثمالة، في علاقات متنوعة ومتعددة مع جنود اللفيف الأجنبي ،الذين كانوا يعملون بثكنة حيان التابعة لسلطات الاحتلال الفرنسي.. وعندما نزلت جيوش المارينز بميناء الدار البيضاء.. سافرت إلى هناك لتنال نصيبها من الدولارات، وعلب الشوينكوم وزجاجات الجعة والويسكي التي جلبوها معهم .. وبعد الإستقلال أصبحت شيخة مشهورة.. تُهرق كؤوس الخمر عند أقدامها، وتعلق لها مئات الدراهم..
لا تحلو الأعراس إلا بوجودها، ولا تستقيم الجلسات الخاصة إلا بحضورها، يتسابق عَلِيّة ُعلى القوم طلب ودها، ونيل رضاها.. لكن لاشيء يدوم إلا وجه الله.. ها قد راح كل شيء.. والزمن فعل بها ما فعل.. والناس نسوا مجدها الآبق.. وهي الآن مجرد حطام كما ترى.. "
كنت أتتبع تقاسيم وجه سي قاسم فألمح تقلصات متواترة تعبر عن إنفعالات داخلية تعكس تأثره وهو يسرد بعضا من حياة مبروكة.. التي تذكره بزمن عاشه وعايشه.. زمن يعتبر قمة في الروعة والجمال على حد تعبيره.
وإذا كان سي قاسم عايش مبروكة في فترة شبابها.. فأنا وأترابي عرفناها كهلة خلال سبعينيات القرن الماضي تطوف شوارع المدينة صحبة رجل في أواسط العمر، وقد وضعت دربوكة على كتفها وهي تغني وترقص بخفة قل نظيرها، أما الرجل فكان ينقر دفا، بيديه، وهو يشاركها الغناء والرقص..كنا كأطفال نسعد بالتفرج عليهما، وهما يقيمان الحلقة بساحة "بويا عمر" ونصفق بكل إعجاب لقفاشتهما ونكتهما التي يطلقانها بكل عفوية .. وقد نَمنَحَانِهما سنتيمات معدودات حسب الإستطاعة..
وحين تركتنا ميعة الصبا، واستقبلنا عنفوان الشباب، كانت مبروكة قد أصبحت عجوزا.. تتسول ما تسد به رمقها.. ولم نكن نبخل عليها بما يقيم عودها.. ويضمن لها الاستمرار على قيد الحياة..
لكنهاكانت على موعد مع القضاء والقدر.. وهي تقف أمام واجهة دكان سي قاسم تستدر عطف المارة.، ففي لحظة خارج السياق وجدت نفسها ملقاة على الأرض وقد أصيبت بكسر مزدوج بعد أن دفعها أحد المختلين عقليا على حين غرة، ودون سبب ومنذ ذلك الحين وإلى يوم الناس هذا أصبحت مبروكة عاجزة عن الحركة.. تعيش مشردة في الشارع، تقتات بما يجود عليها به المحسنون وهي تردد لازمتها المعتادة "ذهب الرجال وبقي الأنذال".





التوقيع




رب ابتسامة طفل خير من كنوز الدنيا أجمع

آخر تعديل محمد محضار يوم 2010-11-10 في 17:58.
    رد مع اقتباس