منتديات الأستاذ التعليمية التربوية المغربية : فريق واحد لتعليم رائد

منتديات الأستاذ التعليمية التربوية المغربية : فريق واحد لتعليم رائد (https://www.profvb.com/vb/)
-   الفكر و التاريخ و الحضارة (https://www.profvb.com/vb/f194.html)
-   -   الفكر التاريخي بين حضارات الشرق القديم والحضارة اليونانية (https://www.profvb.com/vb/t167661.html)

خادم المنتدى 2016-06-27 23:44

الفكر التاريخي بين حضارات الشرق القديم والحضارة اليونانية
 
الفكر التاريخي بين حضارات الشرق القديم والحضارة اليونانية


إذا ما بدأنا بعرض الإشكالية التي نحن بصددها ، فما نقدمه من أسئلة حول تثار حول الموضوع الذي نحن نريد الخروج منه لمعرفة هل هناك فكر تاريخي عن حضارات الشرق القديم ، وحضارة اليونان ؟ و إذا ما كان هناك فكر تاريخي ، ما معالم هذا الفكر التاريخي لديهم ؟ ما دور الفلسفة في دراسة هذا التاريخ ؟ .

أما قبل الدخول إلى طرح هذه النقاط ، فنحن ينبغي بعرض تساؤلات حول معنى التاريخ وعلم التاريخ ؟ وما هي فلسفة التاريخ ؟ من هو المؤرخ ومن هو فيلسوف التاريخ ؟ ما هي صفات المؤرخ ؟ وما هو منهج البحث في التاريخ ؟ .

أما إذا بدأنا بالتاريخ فينبغي أن نعرف ما هو التاريخ ؟ "كما كان سقراط مقتنعاً تماماً بأن العلم بحقيقة أي شيء يبدأ من تعريفه تعريفاً دقيقاً ".( ) فعلم التاريخ هو أقدم علم إنساني ، وتحتوي كلمة "تاريخ" على معنيين أثنين فهي من ناحية تعنى مجموع الأحداث التي وقعت للإنسان في الماضي ، لكنها من ناحية أخرى تعني كل ما "دونه" الإنسان عند ذلك الماضي ، فالتاريخ على هذا النحو هو معرفة لمادة معينة ، لكنه أيضاً مادة لتلك المعرفة .( ) وبذلك يكون التاريخ هو العلم الذي يدرس الوقائع التي تحدث في زمان ومكان محددين ، ويدرس هذه الوقائع والحوادث في تغيرها عبر الأزمنة المختلفة منذ قديم الزمان حتى العصور الحاضرة .( )

أما عن المعنى الاصطلاحي للتاريخ ، فقد اشتق لأول مرة من لفظة يونانية " ISTORIA " حتى اتخذ مدلولا ثابتا في العصر الحديث " HISTORY " و أتخذ هذا بقصد البحث عن الأشياء الجديرة بالمعرفة " وقصر تعبير التاريخ " علي الأحدث التاريخية التي صنعها الإنسان و الأزمان الماضية و محاولة تمحيص و تحقيق هذه و الذي استخدموه أوائل المؤرخين اليونان أمثال " هيرودوت وثيوكديديس " لكن طرأت تحريفات في الشكل فأصبحت من istoria حيث صارت كلمة تاريخ history . " ( )


أما لفظ التأريخ في اللغة العربية فيعني " الإعلام بالوقت و قد يدل تاريخ الشيء علي غايته ووقته الذي ينتمي إليه زمنه " ( )

أما عن ما هي فلسفة التاريخ ؟ فيذكر هيجل " أن أعم تعريف لفلسفة التاريخ يمكن تقديمه هو القول بأن فلسفة التاريخ لا يعني شيء سوي دراسة التاريخ من خلال الفكر " ( )

و كان فولتير أول من أخترع هذه العبارة في القرن 18 ، دون أن يقصد بها أكثر من عرض تحليلي نقدي أو علمي للتاريخ ، أما كولنجوود فيستعمل عبارة فلسفة تاريخ بشكل مختلف عن هذان المفهومان فهو يريد إيضاح ما يفهمه من عبارة فلسفة تاريخ " ( )

أما بالحديث عن علمية علم التاريخ فقد استهل كتابه علم التاريخ بسؤال هل التاريخ علم ؟ أن الفلاسفة الطبيعيين اعتبروا أن التاريخ دون العلم بكثير ، أما رجال الأدب فقد اعتبروا أن التاريخ فوق العلم بكثير أما الأستاذ بيوري أشهر مؤرخي القرن العشرين أن التاريخ علم لا أكثر و لا أقل " ( )

و عند هرنشو فقد قصر التاريخ علي ثلاثة معاني ، الأول : فقد يطلق التاريخ علي " مجري الحوادث الفعلي " إلي الحديث عن صانعي الأحداث الأحداث التاريخية أو الرجال الذين غيروا مجري الأحداث مثل قيصر و الأسكندر و نابليون فتحدث عن" سلطان التاريخ " .

و الثاني : وهو لفظ التاريخ هو " التدوين القصصي لمجري شئون العالم كله أو بعضه فلدينا تواريخ البلاد والفن والعلم و الأدب علي مر الزمن ومختلف العصور .

أما الثالث : فلفظ " التاريخ " له أصله و اشتقاقه الدقيق بقدر " البحث " أو " التعلم بواسطة البحث " أو " المعرفة التي يتوصل أليها عن طريق البحث " و المعني هنا مستتر هو الاستقصاء و بهذا المعني يكون التاريخ علما " ( )

و في رأيي فالبحث و الاستقصاء هو بداية ما يقوم به العالم أو الباحث للخروج بنتائج حول الموضوع الذي قصد دراسته .

أهمية علم التاريخ

وترجع أهمية علم التاريخ أن معرفة الفرد بالماضي تكسبه خبرة السنين الطويلة و التأمل في الماضي ، فيبعد الإنسان عن شخصيته ويري ما لا يراه في نفسه بسهولة من مزايا ، وأخطاء الغير ويجعله أقدر علي فهم نفسه و الآخرين و أقدر علي حسن التصرف في الحاضر والمستقبل " ( ) أي أن الإنسان يدرس الماضي ليعيش الحاضر و يتنبأ بالمستقبل و يعد له
و لكن من يدرس هذا الأحداث و الوقائع ؟ بالطبع هو المؤرخ و من هو المؤرخ ؟ و ما يجب عليه أن يتصف من صفات ؟ ومن هو فيلسوف التاريخ ؟ وما هدف كل منهم في دراسة التاريخ ؟ و ما هي العلاقة بين المؤرخ وفيلسوف التاريخ ؟

المؤرخ هو الذي يقوم بعملية التأريخ ، أي البحث عن أحوال الإنسان و رصد إنجازاته ، ووصف كل ما تقع عليه عينه سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة ، أي بالإطلاع علي الوثائق و صورها المختلفة " ( )

أما عن صفات المؤرخ التي لابد أن يصف بها فهي :

1 ـ أن يكون محبا للعمل ، صبور لا تمنعه وعورة البحث و لا المصاعب و لا العقبات مهما كان نوعها عن مواصلة العمل .

2 ـ لا توقفه ندرة المصادر ، لا يصرفه عن عمله غموض الحقائق التاريخية و اختلاطها فيقضي الشهور والسنوات وهو يعمل باحثا عن الحقيقة ، الأمانة والشجاعة و عدم الانتحال و التزييف و عدم التحيز لعصر أو تيار فكري ، فهو كالقاضي لا يكون حكمه صحيحا إلا بقدر التخلص من التحيز و الهوى .

3 ـ أن يملك ملكة النقد و يدرس و يستقرء ما سمعه وما يؤول أليه من وثائق . 4 ـ لابد أن يكون له عقل منظم ليميز بين الأحداث و أن ينسق أنواع الحقائق ، و يجب أن يكون له عاطفة و أحساس و خيال بالقدر الذي يتيح له أن يدرك أراء الغير و دوافع الآخرين " ( )

أما عن فيلسوف التاريخ فهو الذي يبدأ من العقل و تأملاته في الأحداث التاريخية سواء المحلية أو العالمية "
أما عن هدف كل منهما فالمؤرخ هدفه هو " تسجيل الحدث و تحقيق أكبر قدر من النزاهة و الموضوعية ، أما فيلسوف التاريخ فهدفه هو " تفسير كل أحداث التاريخ و استخراج القواعد العامة التي يسير التاريخ بمقتضاها " ( )

أما عن العلاقة بين المؤرخ و فيلسوف التاريخ هي علاقة تداخل " حيث إن المؤرخ يحتاج لنظرة فلسفية من خلال تأمل بتحليل و تحقيق الأحداث بالنقد أو الاستحقاق و إظهار رؤيته فيها ، وكذلك الفيلسوف فهو يحتاج لمادة تاريخية كافية ليبني عليها تأملاته حتى لا يخون التاريخ أو يكون زيفا لوعي تاريخ أمته " ( )

منهج البحث التاريخي و طرق الكتابة التاريخية:

و هي المراحل التي يسير من خلالها الباحث لكي يصل إلي الحقيقة التاريخية و يقدمها إلي القراء و المتخصصين ، وتتلخص هذه المراحل في اختيار موضوع البحث و جمع الأصول والمصادر و دراستها ونقدها و استخلاص الحقائق منها و ترتيبها وتنظيمها و عرضها عرضا تاريخيا معقولا " ( )

و ميز هيجل بين ثلاثة أنواع من طرق الكتابة التاريخية أولها : التاريخ الأصلي : و هو الذي يهتم بوصف الأعمال والأحداث و أحوال المجتمع و قد ضرب هيجل المثال علي ذلك النوع من المؤرخين بهيرودوت و ثوكوديديس تحديدا ، و ثانيها التاريخ النظري و يعرض فيه المؤرخ التاريخ بطريق لا تحصر نفسها في حدود العصر الذي ترويه بل تتجاوز روح العصر الحاضر و هذا ما يسميه هيجل بالتاريخ الكلي ، و ضرب مثالا علي ذلك بالمؤرخ اليوناني تيتوس ليفيوس الذي عاش فيما بين 59 قبل الميلاد و 19 ميلاديا ."( ) و ثالثها هو التاريخ الفلسفي وهو يري أنه دراسة التاريخ من خلال الفكر و هو نفس تعريفه لفلسفة التاريخ ، فهو ري أن هناك ثلاثة أمور

1 ـ أن التاريخ هو تاريخ البشر و ليس تاريخ لأية موجودات أخري .

2 ـ أن ما يميز بين البشر وغيرهم هو الفكر أو الوعي أو العقل أو الروح .

3 ـ أن التاريخ الحقيقي للإنسان إلا مع ظهور الوعي و بالتالي فإن المجتمعات التي تعتمد علي الأساطير لا تكون جزءا من تاريخ الإنسان " ( )

و هنا فإن هيجل يقصر كتابة التاريخ علي تاريخ الإنسان فقط ، و هذا يختلف مع أرسطو الذي كتب كتاب تاريخ الحيوان كما يقصره علي بدأ ظهور الوعي و بذلك نحذف أمم كثيرة قامت علي الأساطير في كتابة التاريخ .

أن كنا قد أطلت في هذه المقدمة لكني قد أردت أن يكون القاريء حينما يقرء التاريخ في الشرق القديم أو عند اليونان ، أن يعي تلك المفاهيم جيدا حتى لا يصاب بنوع من الحيرة ، وبعد ذلك لننتقل إلي جزء أخر وهو التاريخ في الشرق القديم و ما به من أمثلة من حضارات كمصر والصين والعراق و ما تحتوي علي فكر تاريخي .

أولا : الفكر التاريخي في الشرق القديم :



بعدما عرضنا مفاهيم يستخدمها القاريء صعوبة في فهم حديثنا عن الجزء الذي يتعلق بالفكر التاريخي في الشرق القديم ، ولنبرز أن هناك حضارات شرقية نجد فيها فكرا تاريخيا أمثال حضارة مصر القيمة تلك الحضارة التي أبهرت العالم و كذلك حضارة الصين و أراء كونفشيوس هذا الحكيم الصيني الكبير و حضارة بابل و نري منها مؤرخا وكاهنا كبيرا هو بيروسوس و نجد ملحمة جلجامش الشهيرة فالأمم و الحضارات الشرقية حفلت بتسجيل الأحداث التاريخية فأوجدت ما نسميه تاريخا ، ومن بين أبنائها ما ندعوهم مؤرخون .
1 ــ الفكر التاريخي في الحضارة المصرية القديمة :

أما إذا اتجهنا إلي الحديث عن الفكر التاريخي في مصر القديمة " فإن الإنسان المصري قد عني بتسجيل أحداثه في البرديات وعلي جدران المعابد و المقابر وكتابة أحداث الملوك و تاريخهم"( ) و هذا شاهد علي العناية التي أولاها الملوك بتسجيل منجزاتهم و معاركهم الحربية التي ساهمت في تطوير ممالكهم و توسيع رقعتها " ( )
و نجد من مثل هذا التسجيل مما يدل علي وعي المصريين بتاريخهم ما " أصطلح المؤرخون علي تقسيم مراحل التاريخ المصري إلي أحدي وثلاثين أسرة مثبتين في ذلك التقسيم الذي قسمه المؤرخ المصري " مانيتو " و ذلك قرابة 280 ق . م " ( )

و كتابة التاريخ في مصر قديمة قدم التاريخ المصري نفسه ، بل أن ملوك مصر ما قبل الأسر كانوا يحتفظون بسجلات تاريخية تفاخرا و إعجابهم بأنفسهم و كان المؤرخون الرسميون يصحبون الملوك في حملاتهم ،لكن كانت الكتابة حتى ذلك العصر البعيد للزينة و للتجميل و ذلك للملوك " ( )

و هذا يعني أن التاريخ في هذه الفترة كان يفتقد لعنصر هام هو من كتابة التاريخ ، وهو موضوعية و أمانة المؤرخ في كتابة التاريخ دون التحيز لملك ما أو لمصلحة شخصية أو للأهواء أو أغراض أو خشية الملوك و هذه صفات أوردناها للمؤرخ ، ورغم ذلك إن عملية التأريخ كان في هذا الوقت اكتشاف إنسان بعد اختراع الكتابة .

مصادر التاريخ المصري :

لكن هناك مصادر بالتأكيد حفظت لنا كما ظلت باقية لتدل علي أن هناك وعي بتأريخ تاريخ مصر القديم ومن بين هذه المصادر التي خلفها المصريين مصادر ذات قيمة مباشرة 1 ـ حجر بالرمو : وهو قطعة من الديورايت محفوظة في متحف بالرمو بجزيرة صقلية وتبلغ 1/8 حجم القطعة الأصلية و قد جمعت فيها الحوليات الملكية ابتداء من أتباع حور حتى ملوك الأسرة الخامسة ، وتوجد قطع الحجر بأجزاء متفرقة ، لكن سمك القطعة و مظاهر الكتابة فيها ا يوحي بأنها كان جزءا لنص كامل كان يكمل بعضه بعضا ، وتروي هذه الأحجار أسماء الملوك و الأحداث التي حدثت في حكمهم ، فلو كان صخر بالرمو كاملا لأصبح لدينا ثبت كامل بأسماء الملوك وسنوات الحكم ، والأحداث التاريخية التي نمت في عصر كل منهم " ( )

و علي الرغم مم يحتويه هذا الحجر العتيق من بساطة وسذاجة و شطحات ينبغي أن تغتفر ، فأن مؤرخها حرص علي أن يلتزم بأمانة النقل و الرواية بقدر ما أستطاع دون أن يختلق أعمالا في عهود لم تتهيأ لها كتابة و لا تدوين " ( )

2 ـ قائمة الكرنك : و ترجع إلي عهد تحتمس الثالث ، بها أعمال الملوك الأسرات العاشرة والحادية عشرة و الثانية عشر و قد سجل بها 62 اسما من " مني " إلي " تحتمس الثالث " ولكنها سجلت علي أساس التراث المتواتر أكثر منها وثائق رسمية "

3 ـ قائمة أبيدوس : و هي أسماء للوحة الأجداد ، أمر بنقشها ستخي الأول ، من الأسرة التاسعة عشرة علي أحد جدران معبد أبيدوس .

4 ـ قائمة سقارة : عثر عليها في مقبرة الكاتب الملكي " توفري " و هي بالمتحف المصري الآن و ترجع إلي عهد رعمسس الثاني ، و تختلف الأسماء فيها مع ما جاء في جدول أبيدوس و لمن تتحقق كثيرا مع ما جاء ببردية تورين ، وعدد الاسماء بها 47 تنتهي ب " رعمسس الثاني " و أغفلت أسماء الملوك التي يعتبرهم المصريين غير شرعيين مثل ملوك الهكسوس حتى لا ينعم من لم تذكر أسمائهم بالقرابين التي تقدم الأجداد .

5 ـ بردية تورين : ترجع إلي عهد رعمسس الثاني و كتب بالهيراطيقية و هي المرجع الأول لأسماء الملوك والحوادث ، وقد عثر عليها الإيطالي " دورفتي " 1820 م ، تمتاز بأنها أثبتت مدة الحكم بالسنين و الشهور و الأيام ، وذكرت أن لمصر آلهة مثل بتاح و رع و ماعت وغيرهم و أنصاف ألهه اتباع حور ثم ملوك منف و أون ، لم تخل البردية من الأخطاء لكن كان الاعتماد عليها بالرجوع إلي تواريخ المستندات القديمة ، و الجديد هو تقسيم الملوك إلي أسر و هذا ما اعتمد عليه مانيتو في تقسيمه للأسر " و لا ينبغي أن ننسي أن هناك مصادر خارجية هي ما كتبه المؤرخين غير المصريين عن مصر من اليونان أمثال هيرودوت الذي زار مصر 430 ق . م " ( )

* المؤرخين في مصر :

فنجد مثلا ايبوور و مانيتو أو مانيتون ، وإذ "كان التسجيل هو أحدي مظاهر الوعي التاريخي سواء كان هذا التسجيل يختص أو يصف إنجازات البشر في أي مجال من المجالات " ( )

فتلك الوثيقة التي كتبها أيبوور أطلق عليها برستد " تحذيرات ايبوور " التي يعود تاريخها إلي 2000 ق. م و يصف فيها الحالة التاريخية الراهنة التي عاصرها " ( ) فأخذ يندب ما في البلاد من خلل و اضطراب و عنف وقحط يكشف اخريات الدولة القديمة ، كما يعلق علي ازدياد حالات الانتحار و يقول كما قال شوبنهور من بعده " ألا ليت الناس يقضي عليهم حتى لا يكون في الأرض حمل و لا ولادة ، ألا ليت الأرض ينقطع منها الضجيج و يبطل منها النزاع " و يتضح عن ذلك أن ايبوور شاخ ومل من الحياة و هو يحلم بمللك فيلسوف ينجي الناس من الفوضى و الظلم " ويقول برستد وقوله حق أن هذه التحذيرات هي أقدم ما ظهر في العالم من المثل العليا الاجتماعية " ( )

أما مانيتو manatho ظهر فيما بين 323 و 245 ق . م حينما تأثر الثقافة المصرية القديمة بالثقافة الهيلينية ، فظهر كاتب مصري هيليني الثقافة فوضع حوليات عن تاريخ مصر و كتب سردا تاريخيا كان له شأن في عصره ، و قد عرف بإجادة البحث و تحري الموضوعية في جمع المادة التاريخية و تفسيرها لكنه لم يتبقى من كتبه وأشهرها " تاريخ مصر " بعض الصفحات التي جمعها المؤرخون اليهود أمثال " يوسيفيوس " " ( )

الفكر التاريخي في الصين :

و بالحديث عن الصين القديمة ومدي ارتباطها بالتاريخ والفكر التاريخي " حيث شهدت الصين منذ أقدم العصور قدرا ضخما من التاريخ المكتوب ، و يتجلى في الحوليات التي تدور حول أفراد من الطبقة الحاكمة و أحداث حياتهم و صراعاتهم المدنية ، و قيام الأسرات المالكة المتعاقبة و مصائرها ، وكان بها القليل من التأمل ول طبيعة التاريخ ومعناه " ( )

كما تضمنت الفلسفات الصينية مواقف واتجاهات معينة من التاريخ ربما تؤدي إلي الدفاع عن فلسفة محددة للتاريخ " ( )

و في القرن الثالث ق .م ، وضع " تساو ين Tsou yen " نظرية للتاريخ تقوم علي الدور و تميل للتكرار الذي يحدث في عمليات الطبيعة و أحيا هذه الفكرة " كانج يو واي kang yu wei " 1858 ـ 1927 م . ( )

لكننا حين نبحث في الموقفين الأبرز في الفلسفة الصينية .

1 ـ الفلسفة الكونفوشية : التي تبني رؤيتها للتاريخ علي فلسفة إيجابية تبشر بضرورة العمل المستند إلي العلم و الأخلاق القويمة "
وترك كونفشيوس وراءه خمسة مجلدات يلوح أنه كتبها و أعدها بنفسه للنشر ، و كان خامس أعمله الأدبية و أعظمها نفعا أنه أراد أن يوحي إلي تلاميذه أشرف العواطف و أنبل الصفات و جمع في " الشوـ كنج " أي كتاب التاريخ أهم ما وجده في حكم الملوك الأولين من الحوادث و الأقاصيص التي تسمو بها الأخلاق وتشرف الطباع ، وذلك حين كانت الصين إمبراطورية موحدة إلي حد ما و حين كان زعمائها كما يظن كونفشيوس ، أيضا لا يعملون في غير أنانية لتمدين الشعب ورفع مستواه "

2 ــ أما موقف الفلسفة الطاوية " Tao " و هو يعني حرفيا " لا شيء " فأتباع الطاوية ينظرون إلي التاريخ الإنساني نظرة سكونية تعتمد علي الاستسلام و السلبية وعدم الفعل "

أي أن ليس للطاوية فلسفة تاريخ لها ارتباط بحالة الاستمرار أو النكوص أو التقدم التي تمر بالأمم أو ما يمكن تسميته حضارة علي الإطلاق ، وبما أن " الطاو Tao " ينبغي أن يوصف بأنه اتجاه كوني ، فالأشخاص و الأحداث ذات اهتمام ضئيل ، فما التاريخ كله إلا مجرد مظهر الكل النهائي ، كما أن أحداثه الخاصة نسبية بأجمعها "

3 ــ الفكر التاريخي في العراق ( بابل ـ سومر )

أما إذا تطرقنا إلي الفكر التاريخي في العراق في بابل و سومر فبابل لها حضارة عريقة و لذلك سنعرض مثال يبين أهمية التاريخ و مدي وعيهم به .
فالأول هو بيروسوس أو برعوثا " تاريخ بابل " Berossos .

أما الثاني هو ملحمة جلجامش أو كلكامش .

فعن بيروسوس و هو الذي عاش في زمن انطيوخوس الثاني حوالي 350 ق . م ، كتب تاريخا لبابل استمده من مصادر بابلية قديمة ، وضاع مؤلفه و لم يتبقى منه إلا نتفا يسيرة مضمنه في كتاب يوسيفيوس و أزبيوس "

بيروسوس كاهن و فلكي و مؤرخ كلداني " بابلي " ولد خلال فترة حكم الاسكندر الأكبر لبابل و التي كانت بين فترتي " 330 ـ 323 ق. م " لا يعرف تاريخ ميلاده ووفاته علي نحو دقيق ، لكنه عاش في النصف الثاني من القرن الرابع و النصف الأول من القرن الثالث . برعوثا كاهن بابلي ورد اسمه في المصادر اللاتينية بلفظ Berossos، وجاء الاسم في معجم الحضارات السامية Berosa، وأصل الاسم في البابلية هو بِل أُصُر usur-Bél ويعني «يابعل (مردوخ) احمِ!».



قدم بيروسوس مصنف يعرف بتاريخ بلاد بابل " البابليات " صنفه باليونانية أهداه إلي انطيوخوس و تأثر به أنطيوخوس فقد هذا الكتاب ونشر مقتطفات منه كما أشرنا يوسيفيوس و أزبيوس أو أوسيبيوس " ويقع المصنف في ثلاثة كتب .

الأول: يبحث في بدايات الحياة البشرية والخليقة، ويتضمن وصفاً للبيئة الجغرافية والنباتات في بلاد بابل.

الثاني: يعرض أسماء الملوك العشرة الأوائل قبل الطوفان متسلسلةً، ثم يروي خبر الطوفان. يورد بعدها أسماء ستة وثمانين من الملوك الذين حكموا بعد الطوفان فالسلالات التاريخية التالية حتى عهد نَبوخذ نَصَّر.

الثالث: عرض فيه للملوك الذين حكموا بعد نبوخذ نصر حتى غزو الاسكندر المقدوني للبلاد، وفيه يذكر سنوات حكم كل منهم وأهم الأحداث التاريخية فيها. كما ترد فيه معلومات فلكية عن القمر خاصة.

لا تخلو معلومات المصنَّف من بعض الاضطراب والأخطاء، ولكنها منظومة ببراعة، وتتصف بتوافق كثيرٍ منها مع ما جاء في المصادر المسمارية والكلاسيكية؛ ولاسيما قوائم أسماء الملوك. كما تعكس سعة علمه في مجال علم الفلك، وقد استفاد اليونانيون منه في ذلك العلم.

انتقل برعوثا في أواخر حياته ـ لأسباب مجهولة ـ من بابل إلى جزيرة كوس اليونانية (شمال شرقي جزيرة كريت)، ويرجح أنه مات فيها."" ( )

أما قبل الحديث عن ملحمة جلجامش ، هو أن اختراع الكتابة السومرية أو المسمارية و ذلك في الحضارة السومرية ، أدت لفائدة وهي تدوين القصص و الأساطير التي كان الناس يعرفونها و يتداولونها من جيل إلي جيل ، فثبتت تلك القصص و الأساطير في سجلات ثابتة و دقيقة ، و من تلك الأساطير التي تساعدنا علي فهم أراء أولئك القوم الأقدمين من سكان ما بين النهرين الأوائل و نظرتهم إلي الحياة ، و هي أسطورة جلجامش أو كلكامش " الذي كان مع رفيقه ذي الجسد نصف الحيواني أبكدوا ، و ذهب في رحلة مخاطرة لكي يحصل علي قطعة من الخشب في غابة كان يحرسها حيوان مفترس رهيب ، وأخذ جلجامش يبحث الخلود ، و بعد مخاطرات جمة التقي بشخص نال الخلود كثواب له لما أداه من خدمات جلي للنوع البشري وهو " اتونييثتيم " و هو الشخصية المرادفة لنوح في التوراة ، بني فلكا للتخلص من الطوفان و هذه الدلالة تدل علي مدي ما كان العبريون مدينين للتراث السومري ، وما كان يتعرض له سكان هذه البلاد من فيضانات كاسحة " وهكذا أعزمت الآلهة في قرارة نفوسها أن تفني العالم بطوفان ، ولكن سيدي ( أيا ) أنذرني بذلك في المنام ، أنه همس بكلماته خلال بيتي المصنوع من القصب قائلا " أيها البيت القصبي أيها الجدار أوليني أذنا صاغية أيها الرجل من أشور.. قوض بيتك و أبن لك فلكا أترك ممتلكاتك و أنج بحياتك .. دع عنك متاعك الدنيوي و أنقذ روحك ، ودعها تعيش ، أهدم بيتك و أبن لك فلكا .. ثم خذ معك في الفلك جميع المخلوقات الحية " ( ) و هذا يثبت أن ما تم تسجيله يفيد الوعي التاريخي، ما قدمته الحضارة السومرية للعبريين و أن ما لبلاد الرافدين من نهرين كانا سببا في تدمير المناطق من خلال ما تتعرض له من فيضانات ، ووعي أهل هذه المناطق بالتاريخ جعلهم يتفادوا هذا الخطر ببناء حواجز للتخلص من هذا الخطر .

و بذلك قد أوردنا ما كان لدي الشرق القديم بالوعي بفكرة التاريخ والتسجيل و أهميته ، ول ذلك سنري هل للحضارة اليونانية العظيمة فكر تاريخي أم لا ؟
ثانيا : الفكر التاريخي عند الإغريق :

إذ ما كنا قد عرضنا لفكرة التاريخ والوعي التاريخي في حضارات الشرق القديم ، فمن الأبرز أن نعرض لحضارة واسعة وسعت فيها الفكرة ، ومل احتوته هذه الحضارة هذه الحضارة من المؤرخين بدأ من هيكاتيوس الملطي وهيرودوت و ثيوكديديس و غيرهم ، لكن هل لليونان وعي بفكرة التاريخ حقا ؟ هل أدركوا ما غاب عن أبناء الحضارات الشرقية ؟ هل نجحوا في رؤية متكاملة للتاريخ ، كما نجحوا في وضع أسس الفلسفة الطبيعية وتطوير مباديء العلوم المختلفة ؟

إن مع عرض الفكر التاريخي لهذه الحضارة ستظهر لنا إجابات هذه الأسئلة ، و نجيب عن أول هذه الأسئلة ، هل إذا ما كان هناك فكر تاريخي عند الإغريق حقا ؟ فنجيب بأنه نعم ، فإذا كان هناك من يشكك في وجود تاريخ عند اليونان وذلك لاهتمامهم بالبحث في الطبيعة وعن أصل العالم الطبيعي و الفلسفة لكن علي حد تعبير كولنجوود " أن الشغف الذي حذا بالإغريق إلي البحث عن مثل أعلي "المعرفة " لا يخضع في صورة من صور التغير ويتسم بالأبدية ، فقد جعلنا تخطيء تقدير اهتمامهم بالتاريخ ، وربما جاز أن نعتقد تحت تأثير هذا الشغف و أثر قراءة عابرة ، أنهم لم يهتموا بالتاريخ " ( )

لكن في رأي توينبي " أنه بدء الفكر التاريخي عند الإغريق ، وقت أن تشكلت الأصول الأولي لشعر هومر " هوميروس " ( )

وفي اعتقاد د/ مصطفي النشار " أن هوميروس أول من وعي بأهمية التاريخ في الفكر اليوناني ، فقد رصد في ملحمته الشهيرة " الإلياذة " الأحداث الأخيرة للحرب الطروادية ، تلك الحرب التي نشبت قرابة 1200 أو 1100 قبل الميلاد والمعروف أن هذه الحرب استمرت عشرة سنوات و علي الرغم من أن هوميروس قد روي هذه الأحداث التاريخية اعتمادا علي هذه الروايات التي سمعها ، كما أن هيرودوت و ثوكوديديس أكدوا أنه عاش حوالي منتصف القرن التاسع قبل الميلاد و ليس في زمن الحرب التي روي جانب منها ، لكن لا نستطيع أن ننظر إلي الإلياذة والأوديسة نظرة إلي كتب التاريخ التي تروي الأحداث رواية علمية مدققة ، ولا إلي هوميروس نظرتنا إلي المؤرخ المحترف ، إلا أنه بهاتين الملحمتين قد وضع الإنسان اليوناني أمام جزء من تاريخه القديم يتأمله ويأخذ منه العبرة والمثل ، وهذا يعني أن هوميروس قد أدرك أهمية التاريخ ومنفعته في هذا الوقت ". ( )

ولقد روي هوميروس الأحداث التاريخية ليس من نظور أسطوري بحت كما كان يحلو للكثيرين من قبله روايتها ، وإنما رواها من منظور إنساني لدرجة أنه خلع علي الآلهة نفسها صفات البشر و لم يحلق في دنيا الخيال ، وإن محاولة هوميروس أنسنة التاريخ الأسطوري لليونان في ملحمتيه تتجلي في المعاني الخلقية السامية ضمن أشعاره ، ونجح في ذلك وجعل الأحداث التاريخية حية في أذهان معاصريه بعبقريته الشعرية " ( )

ولكن لكولنجوود رأي أخر في ذلك فلديه " ليس معني أن الأساطيرـ سواء كانت في صورة تاريخ ديني أو في قصص خرافي ـ كانت غريبة عن تفكير الإغريق ، فأن أنتاج هوميروس لا يعد من قبيل البحث العلمي ، ولكنه من قبيل الأساطير بل يعتبر إلي حد كبير من قبيل أساطير حكومة الآلهة أو حكومة السماء و لنجد أن الآلهة في أساطير هوميروس تتدخل في أعمال الإنسان بصورة لا تختلف عن الصور التي تجدها في أساطير بلاد المشرق " . ( )

و يري كولنجوود أن التاريخ في بلاد المشرق هو التاريخ الديني لأننا فيه نجد أي إجابة عنه لا تخرج بنا عن الحكومة ، مردها في الأصل إلي الله ، والتاريخ من هذا النوع لا يقصد به كلمة التاريخ ليس معناه التاريخ بمفهومه العلمي " ( )

و هنا بين كولنجوود أن التاريخ الديني ليس تاريخا علميا ، ولا يعد نوعا من التاريخ الذي نريده الذي نسعى فيه للبحث والاستقصاء و أثبات الروايات و الأحداث ، وبذلك فهو لا يجد ما يسمي تاريخ عند هوميروس بل هي ملحمة شعرية و في اعتقادي أن شعر هوميروس يجوز له التفسيرين ، فمن ناحية أن التسجيل هو وعي بمقولات التاريخ فشعر هوميروس هو كذلك ، أما من الناحية العلمية التي يقصدها كالتي توجد في تاريخ مؤرخين أمثال هيرودوت و ثيوكديديس فهو ليس تاريخا علي حد تعبير كولنجوود ، ولكن هذا لا يعني إنكاره لوجود فكر تاريخي عند اليونان ، لكن الفكر التاريخي يأتي بعد هوميروس ، و ربما يراه أنه موجود لدي المؤرخين اليونان الأبرز وهم هيرودوت وثيوكديديس ، لكن بالطبع كانت هناك محاولات لإدراك التاريخ بمعناه العلمي ما بين هيرودوت في القرن التاسع قبل الميلاد والقرن الخامس قبل الميلاد .

ونجد أن ما ورثه الإغريق من حساسية للتاريخ ، وما داموا قد تبينوا أنه لا مفر من التغيير و هم كما كانوا من قبل يؤمنون بأن المعرفة لا تخضع في صورة من صور التغير و يتسم بالأبدية ولذلك فقد تعودوا أن يسألوا فيما بينهم ، ما هي سلسلة التغيرات التي لابد أن تكون قد حدثت فأسفرت بالفعل عن وجود هذه الأوضاع القائمة ؟ معني ذلك أن وعيهم التاريخي لم يكن يستند إلي تقليد عريق في القدم يصل بين أوضاع جيل وأخر " ( )

و لا جدال في أن هذه التغيرات المسرفة التي تعرض لها أوضاع الحياة الإنسانية ، و التي كانت في نظرهم موضوع علم التاريخ بالتحديد ، فكانت عسيرة علي الإدراك ، كان من العسير تفسيرها ، بل لم يمكن من قبيل المعرفة العلمية التي تستند علي براهين المنطق و الرياضة البحتة " ( )

في هذه الفكرة إجابة للسؤال الثاني حيث أنهم بالفعل أدركوا ما غاب عن أبناء الأمم الشرقية حيث لم يعد التفكير في التاريخ ذلك التفكير الأسطوري البحت ، و لذاك فأن أفضل ما نجد لديهم فكرة التاريخ العلمي الذي رآه كولنجوود مؤرخين أمثال هيرودوت و ثيوكديديس و لذلك سوف نعرض أمثلة مؤرخي اليونان و عددهم كثير لكن ابرزهم من بداية المؤرخين و منهج البحث التاريخي لدي هؤلاء المؤرخين ، لكنه يجب أن نعلم أنه " لم يكن المؤرخون الهيلنيون خاصة أعظم هؤلاء المؤرخون من أصل هيليني خالص ، فقد جاء هيرودوت من مجتمع هاليكارناسي ، وثيوكديديس رغم أنه أثيني المولد ، فقد جرت في عروقه دماء تراقية " ( )

لكن أول هؤلاء المؤرخين هو هيكاتيوس الملطي ولد في مدينة ميلتيوس " ملطية " 546 ق.م ، أعتبره النقاد أنه ليس أول المؤرخين فحسب بل أنه أول الجغرافيين أيضا ، فهو أول من وضع الخرائط التي سار عليها هيرودوت من بعده .

ألف هيكاتيوس مؤلفين يعتبران الأولان من نوعهما ، أحدهما بعنوان " الجينولوجيا " وهو بحث في السلالات والأعراق دون الالتزام بالتسلسل الزمني ، و فى هذه الدراسة نبذ للموروثات القديمة غير العقلانية وأحل محلها تفسيرات عقلانية من عنده .

أما المؤلف الثاني فهو رحلة حول العالم زار فيها أجزاء من أوروبا و أفريقيا بما في ذلك مصر بالطبع ، ولذا أتهم هيرودوت بأنه نقل عنه كل ما كتبه و أغلبه عن مصر ، و يجمع النقاد أن هيكاتيوس كان كثير الخطأ في أحكامه لكن روحه كانت سليمة وعقله ومنهجه كان علميا فقد كان يقول " لست أثبت إلا الرواية التي أعتقد بصحتها لآن أساطير الإغريق كثيرة ، وهي عندي حديث خرافة " ( )

2 ـ هيرودوت و ثيوكديديس :

أما إذا انتقلنا إلي هيرودوت ثاني مؤرخي اليونان ، فإن الحديث عنه كثير " " فأبي التاريخ " وهو اللقب الذي شاع عن هيرودوت ، فهيرودوت ولد هاليكارناسوس في الجنوب الغربي من أسيا الصغرى 484 ق.م تقريبا ، قبل اندلاع الحرب بين اليونان والفرس و عاش حتى الحرب البيلونيزية ( 431 ـ 404 ق.م )* ( ) في مرحلتها الأولي فمن المرجح أنه توفي عام 426 أو 425 ق.م و كان لهيرودوت دورا في بلورة التاريخ و الفكر التاريخي لدي الإغريق ، فحيث مولده في رعاية ملك الفرس و تعلم القراءة والكتابة ثم تعلم الشعر وشعر هوميروس و الموسيقي " ( )

و لقد ترك لنا هيرودوت كتابه المسمي " التواريخ " قسمه النقاد فيما بعد إلي تسعة كتب أعطوا لكل كتاب اسما من أسماء ربات الفنون التسع ، كان أشهرهم كتابه الثاني الذي عرفه النقاد باسم " يوتربي " أحدي ربات الفنون والذي ورد فيه قوله الذي لا نزال نردده " مصر هبة النيل " و يعتقد النقاد أنه وضع مؤلفا أخر موازي لما كتبه عن مصر و هو عن بابل إلا أنه قد فقد "

أما عن شخصيته فهو منقب ومراقب و مستمتع يمزج الدراسة الشاملة و حب الاستطلاع أكثر من اعتماده علي النظريات الفكرية العسكرية ، و آراءه ممزوجة بالتعاطف الإنساني و حسن النية ، ويقدس كل ما هو عتيق ، ويعتمد علي كل ما هو معقول و يتصف بالأمانة و يري أن 3 أشياء متحكمة في سير الأحداث الإنسانية و هي غرور البشر ، و إرادة القدر ، وغيرة الآلهة من البشر " ( )

و يمكننا من ذلك أن ندرك رأي كولنجوود أن فكر هيرودوت شابه التفكير الأسطوري و ذلك في مراحله الأولي من حياته فيقول " أنك تجد ألوانا من التفكير الخرافي في أعمال هيرودوت و بصورة مسرفة و لكن المهم أنك تجد إلي جانب هذه العناصر غير التاريخية عناصر تاريخية في نفس الوقت " ( )

و لدلك فإن إنتاج مؤرخي اليونان الذي ورثناه عن مؤرخي القرن الخامس ـ هيرودوت و ثيوكديديس ـ يأخذنا إلي عالم أخر فطن أليه الإغريق عن إدراك وتقدير دقيق أن التاريخ علما أو من الممكن أن يكون علما و من ثم فلا بد أن يعرض لأعمال الإنسان ، وأصبح التاريخ الإغريقي ليس من قبيل الأساطير إنما هو من قبيل البحث العلمي " ( )

لكن إذا بحثنا عن طريق البحث في أي عمل تاريخي أو علمي فإننا نجدها في ثلاثة نقاط 1ـ الموضوع : و نجده هنا متوفر حيث بحث في شئون الإنسان و الأحداث التاريخية 2 ـ المنهج و الأسلوب : "و لقد تجلت قدرة هيرودوت التاريخية وميزته عن سابقيه من الشرقيين أو اليونانيين ، فانتقل من الوصف إلي التعليل و البحث عن سبب الحدث التاريخي فأنه لم يجعل التاريخ مقصورا علي رواية الأحداث السياسية الكبرى التي يقودها الحكام أو المعارك الكبرى التي يخوضها العسكريون بل تجاوز هذه الوقائع السياسية والحربية يبرز لنا الجانب الحضاري من التاريخ "( )

كما كان أسلوبه بسيطا واضحا إذا أنه من الصعب تحليل الجمال المؤثر للنثر الذي كتب به و ليس له طريقة محددة بل طرق متعددة حسب المواقف ، و قد أمتدح أغلب النقاد حلاوة وجمال أسلوبه و يري بعضهم أن جاذبيته و حضارة و بديهيته و بساطته الطبيعية " ( )

3 ـ الهدف : " كان هدف هيرودوت كما أثبتت في مستهل تاريخه هو كتابة تاريخ الحرب اليونانية الفارسية أو الحروب الميدية ، و رأي أنه لابد للوصول لأسباب الصراع العنيف في جذورها البعيدة من وصف نشوء الإمبراطورية الفارسية " ( )

و يري د / مصطفي النشار أن له هدفين آخرين بجانب الذي ذلك الهدف الذي ذكرناه ، أولهما : حفظ ذاكرة الماضي بتسجيل الإنجازات المدهشة سواء التي قام بها اليونان و التي قامت بها الأمم الآسيوية ، و ثانيها : أن نري علي وجه الخصوص كيف يتم هذا الصدام بين هاتين السلالتين " ( )

و بذلك نجد أن هيرودوت قد أنتهج بحثه في التاريخ بحثا علميا حيث أنه حدد موضوعا لدراسته و هي دراسة الوقائع البشرية و الأحداث التاريخية و تاريخ الملوك ، أنه سعي للبحث عن عللها كما كان من ذلك هدف و كأنه يمكن أن يكون بمثابة فرضية وضعها ليبني عليها بحثه التاريخي و لذلك نجد كولنجوود يعبر بأن " كتابات هيرودوت وثيوكديديس في الأصل علي أقوال من شهود العيان كانت علي اتصال شخص بالمؤرخ ، ومهاراته كباحث علمي تمتد إلي قدرته علي مناقشة الوقائع التي يروها شاهد هذا العيان ، إلي الحد الذي يمكنه فيه بهذه المناقشة أن تعطي رواية الأشياء صورة تاريخية تبلورت في هذه الوقائع " ( )

و ليس من شك أن تاريخ هيرودوت يدعوا أحيانا إلى النقض الشديد ، فأكثر ما اعتمده سمعه من قوم ليس لهم علم راسخ بما يفتون( ) .

أما إذا تحدثنا عن ثيوكديديس هذا المؤرخ الأثينى ذو الدماء التراقية ، كانت حياته فيما بين ( 471 ـ 401 ق . م ) هذا المؤرخ الذي قال عنه توينبي " أنه سيبقي ثيوكديديس كأعظم المؤرخين الهيلينيين دون منازع " ( )

فكان ثيوكديديس قائدا عسكريا في حرب البيلونيزية التي دارت بين أثينا و اسبرطة ، فارتكب أخطاء عسكرية فطرد من الجيش ، فعكف علي دراسة هذه الحرب مستخدما خبرته الميدانية ، و زار مواقع المعارك ، سعي إلي البحث عن الأسباب غير المباشرة و لم يكتفي بالمباشرة "( )

وعند مقارنته بهيرودوت " نجد أنه أكثر عناية بتحقيق ما يروي " ( ) كما كان أكثر تركيزا فيما روايتها و قصر التاريخ علي الأحداث السياسية و العسكرية و قد شهد الجميع بحياديته فرغم أنه أثيني لم ينحاز لأثينا أو بركليس كما أنه كان دائما مستعد لسماع وجهات نظر كل الأطراف بأمانة ليعبر عنها لينقلها و يشرحها ناظرا إلي الموضوع من زواياه المختلفة تبعا لوجهات النظر المتباينة حوله دون أن ينتصر لوجهة نظر معينة " ( )

أما عن أسلوب ثيوكوديديس " فطابعه الجفاف و التكليف و الغلظة علي عكس أسلوب هيرودوت الذي يتميز بالسهولة و التلقائية والإقناع " ( )

أما عن المصادر التي عاد أليها في تاريخه فهي 1ـ معايشته الخاصة للأحداث التي عاصرها 2 ـ المعلومات التي استمدها من الرواة 3 ـ بعض الوثائق التي عثر عليها 4 ـ الشواهد الأثرية " ( )

كما أن ثيوكديديس لم يكتفي بعناية فحص المراجع و الوثائق و الأصول إنما كان بارعا في تنسيق المواد التي يجمعها وتفسيرها " ( )

أما ما يؤخذ عليه هو أنه لم يقدر أهمية العوامل الجغرافية في المواقف التاريخية و أنه أغفل تأثير القوي الثقافية و الاقتصادية و الاجتماعية في سير التاريخ " ( )

3 ـ بوليبيوس :

يأتي بعد هيرودوت و ثيوكديديس في فترة بين ( 204 ـ 122 ق.م ) ز هز مؤرخ إغريقي عاش في روما و أرخ للرومان ، كان أهدأ تفكيرا و أعدل حكما و أمثل ميلا إلي الأسلوب الخطابي و أشد عناية بتفسير الحاضر ، فكان يشرح في ضوء التاريخ كيف استطاعت المدينة الرومانية المستقلة إلي أن تصل إلي حالة من الثبات والقوة " ( )

" كما أنه كان اقوي في نزعته العلمية من ثيوكديديس " ( ) وما تميز به بوليبيوس من عقلية تحليلية نقدية فلسفية استطاع أن يتفادى تشويه الحقائق التاريخية ، ذلك عن طريق الكتابة من النقطة التي اعتقد أن مصادره التي نقل عنها صدقت فيها " ( )

و لذلك نجد أن محاولته لتناول امتداد الإمبراطورية الرومانية و تطور نظامها السياسي حتى سنة 146 ق . م في أربعين جزءا و هذا المؤلف نموذجا لحكم المؤرخ المنزه من الهوى فقد ساعدته الظروف في كتابة التاريخ فخبرته السياسية والعسكرية و إطلاعه علي الوثائق الرسمية التاريخية في كل من بلاد اليونان وروما ، و اقترابه اللصيق بالشخصيات و الأحداث جعلته الرجل المناسب للقيام بهذا العمل كما أنه استفاد من كتابات المؤرخين الإغريق و الرومان السابقين عليه في تكوين فلسفته التاريخية العملية ، و في قدرته علي نقد بعض الشخصيات التاريخية ، وأنجز عمله التاريخي بقدرة واقتدار القي فيه الضوء علي صعود الإمبراطورية الرومانية " ( )

و بذلك بعرض هؤلاء المؤرخين نكون قد اجبنا علي السؤال الثالث حيث إن المؤرخين قد نجحوا في وضع رؤية متكاملة للتاريخ فأصبح التاريخ علما ، و بذلك نكون قد عرضنا لتطور الوعي التاريخي أو الفكر التاريخي عند الإغريق بداية من هوميروس الذي اختلطت لديه الواقع بالأسطورة ثم تطور علي مدار الفكر عند هكتايوس بربطه التاريخ بالجغرافيا و اتخاذه الشكل العلمي عند هيرودوت وثيوكديديس و زاد و نضج عند بوليبيوس .

الخاتمة

أما بعد أن انتهينا من صياغة هذه الفكرة فكرة الوعي التاريخي و الفكر التاريخي بين حضارات الشرق القديم ووجدنا ما لديها من وعي بفكرة التاريخ و الحضارة اليونانية الذي يمكن القول أن الفكر التاريخي قد ازدهر فيه وأصبح التاريخ علما و أصبح للتاريخ فلسفة من خلال مؤرخي اليونان و أري في هذا الموضوع أن الفكر التاريخي أخذ والتطور فمن حضارات الشرق و اختلاط التاريخ بالأسطورة و هذا ما عبر عنه كولنجوود باسم التاريخ الديني و كذلك أشعار هوميروس في اليونان حتى أصبح التاريخ يأخذ شكل العلمية مع هيرودوت وثوكوديديس و نضج علي يد بوليبيوس . و رأينا ما ينبغي عل المؤرخ فعله في كتابة التاريخ وتحقيق الأحداث التاريخية .

إذ أن إشكالية البحث جعلتنا ندور حول القصد من ما يسمي الفكر التاريخي لدي الشرق القديم واليونان و جعلتنا نري أن بداية التسجيل هي النقطة الأولي أو اللبنة الأولي في بناء الوعي التاريخي لدي كل من تلك الحضارات فبدون مادة تاريخية لا يقدر الفيلسوف علي بناء فكره الفلسفي التاريخي لأمته ، فما ترك لنا يجعلنا نبحث فيع من أجل معرفة ما قام به أسلافنا و ما عسي أن يمكننا القيام به و الاستفادة منه .

كما أننا نجد أن مؤرخي الحضارة اليونانية استطاعوا أن يتلاشوا أخطاء بعض مؤرخي الشرق ، فمثلا نجد ثيوكديديس قد سرد أحداث الحرب البيلونيزية بأمانة وموضوعية و هذا يختلف عند بعض مؤرخي الشرق إذ نجد أن مؤرخي الملوك يصطنعوا و يخلقوا ما لا يحدث و إظهار الملوك في صورة المنتصرين حتى لو كانت النتيجة هي الهزيمة تزيينا للملوك و تفاخرا بهم ، لكننا أيضا نجد من دون بأمانة وموضوعية بردية تورين وتدوين بيروسوس لتاريخ بابل .

كما أننا نجد أيضا أن اختراع الكتابة كان عاملا فعالا في ازدهار الفكر التاريخي فنجد مثلا الكتابة القبطية التي كانت مزيجا بين الهيروغليفية و الكتابة اليونانية و اعتقد أنها كانت أحدي عوامل اتصال الحضارتين والفكر التاريخي بينهما في العصر الهلينستي ، ثم نجد الكتابة المسمارية في بابل كانت سببا في تدوين القصص و الأساطير مما ثبتت تلك القصص في سجلات يتداولها الأجيال المتعاقبة من السومريون .

كما أننا نجد أن كولنجوود يعتبر أن بداية الفكر التاريخي العلمي قد بدأ مع هيرودوت وثيوكديديس وهو صحيح إلا أننا لا يمكنا إغفال ما كان من إنتاج الحضارات الشرقية من السابقة عليها
مع تحياتي علي لحمد قرا


الساعة الآن 08:19

جميع المواد المنشورة بالموقع تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع ولا يتحمل أي مسؤولية عنها

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd