والثابت تاريخيا أن هذه الخطبة التي ألقاها نابليون لم تكن موجهة إلى يهوديي فلسطين فقط , ولكنها كانت نداء إلى يهود العالم . فلم يوزع هذا النداء في فلسطين وحدها . وإنما جرى توزيعه في الوقت نفسه في فرنسا , وإيطاليا , والإمارات الألمانية وحتى في أسبانيا .
الأمر الذي يشير إلى أن القضية كانت أكبر وأوسع من مواجهة نابليون حينما استعصت عليه أسوار القدس ، ومما يؤكد هذا الكلام أنه وأثناء حصار عكا ، نشرت الجريدة الرسمية الفرنسية بيانا من نابليون يدعو فيه اليهود إلى مؤازرة فرنسا ، وانتهاز فرصة وجوده في فلسطين لتحقيق آمالهم في التمركز ما بين عكا والإسكندرية .
كانت خطبة نابليون هذه حافلة بالكلمات التي تستجيش عواطف اليهود- وتشحذ همهم , وتحفزهم وتحمسهم بل وتدعوهم للالتحاق بجيشه من أجل دخول القدس ضمن الحملة الفرنسية نحو الشرق. وإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين , ويذكر المؤرخون أن نابليون بونابرت لم يكتب هذه الخطبة بنفسه , ولكن مستشاريه من زعماء الصهيونية العالمية هم الذين أعدوها له ليقوم بتوقيعها قبل أن تذاع 0
ولترتسم الصورة كاملة في أذهاننا يجب أن نتعرف على موقف يهود مصر من حملة نابليون. فالثابت تاريخيا أن يهود مصر ساندوا الحملة الفرنسية بكل قوة, وقاموا بوظيفة العين والأذن لها , وقدموا ما في وسعهم لإضعاف الجبهة الداخلية في مصر آنذاك . ولم يكتفوا بذلك بل ساروا مع الحملة الفرنسية إلى فلسطين ليروا وليشاهدوا نابليون بونابرت وهو ينفذ تعاليم آلهة إسرائيل القاضية بإبادة المسلمين , وإنشاء وطن اليهود القومي في فلسطين . ولكن قد تجري الرياح بما لا يشتهي السفِنُ .
دفع اليهود الفاتورة .فاتورة الحملة الفرنسية على مصر . تلك الحملة التي بلغ قوامها 38 ألف جندي . وفشل نابليون بالوفاء بالوعود التي قطعها على نفسه لزعماء اليهود في فرنسا باحتلال فلسطين وإقامة وطنٍ قوميٍ لليهود فيها . وهنا ظهرت أخلاق اللصوص حينما يختلفون . فقد غضب اليهود على نابليون فحاولوا اغتياله, إلا أن محاولتهم الأولى باءت بالفشل , فأتبعوها بمحاولة ثانية قام بها رجل يهودي اسمه " سناب " . كان قد قرر اغتياله في مدينة " شونيرون " , وفشلت المحاولة فعززوها بمحاولات .
يقول " شيريب سبيريد وفيتش " إن الجرائم الإرهابية العلنية والسرية انتقاما من نابليون بونابرت بعد أن انقلبوا عليه كانت لا حصر لها . " وأضاف كان انتقام زعماء اليهود من نابليون رهيبا لأنه فشل في تنفيذ الوعد الذي قطعه على نفسه لهم باحتلال فلسطين وتسليمها إليهم ليتخذوا منها وطنا قوميا لليهود . "
إن كل هذه الحقائق تلفت نظر الأجيال إلى أحد ابرز خصال الشخصية اليهودية عبر التاريخ وهي فن استغلال الأحداث . ولطالما حقق اليهود من جراء هذه الخصلة العديد من المكاسب الأهداف التي كثيرا ما قوت موقفهم واضعف امتنا . ولكن التاريخ يعلمنا أن اليهود لا ينجحون أبدا في تسجيل أهدافهم إلا عندما يكون المرمى خاليا من أهل التقوى وأهل الصلاح من جند الله المخلصين . فبالرغم الإنفاق الطائل , والتخطيط الدقيق والكيد الخفي, والاستنفار العام و استغلال بريق اسم نابليون احد ألمع القادة العسكريين في التاريخ الحديث إلا أن المقاومة الشعبية المؤمنة بربها , الملتفة حول قيادتها , القوية بعقيدتها , الأبية بعزتها وكرامتها المحبة لأوطانها هي التي أفسدت كل هذه الخطط وكل هذا الجبروت . لتبقى المقاومة الشعبية الواعية هي الرهان المؤمل عليه قديما وحديثا,. وتظل هي أهم بعد استراتيجي يجب أن تهتم بها الشعوب, وكل الغيورين على مستقبل هذه الأمة .
و معلوم أن الرغبة الفرنسية في احتلال مصر العربية كان هدفا قديما , يلمع في الذاكرة للفرنسية من حين لآخر, ويتجدد من آن لآخر , حتى سنحت الظروف بذلك الاحتلال . اليهود و صناعة الثورة الفرنسية: يتبع |