عرض مشاركة واحدة
قديم 2016-06-27, 22:59 رقم المشاركة : 1
خادم المنتدى
مدير التواصــل
 
الصورة الرمزية خادم المنتدى

 

إحصائية العضو








خادم المنتدى غير متواجد حالياً


وسام المشاركة السيرة 1438ه

وسام المشاركة في مسابقة السيرة النبوية العطرة

العضو المميز لشهر فبراير

افتراضي جدلية التاريخ والحضارة(*)



جدليةالتاريخوالحضارة(*)
عبدالسلامالسعيدي
مقدمة:
يبدو أن المراجعات النقدية والتقويمية التي تتم اليوم لبعض المفاهيم وحمولاتها المعرفية داخل "مطبخ" العلوم الإنسانية، لا زالت لم تتخلص بعد من شحنتها الإيديولوجية، ولم يتحقق لها بعد شرط الحياد والانفصال عن تلك الشحنة لإعادة تقويمها تقويما موضوعيا ومعقولا، وينطبق هذا القول على مفهوم التاريخ، وبشكل أكثر حدة على مفهوم الحضارة. فالبحث عن تحديد دقيق لدلالة هذين المفهومين يبقى صعبا وشائكا، وغير مانع في نفس الآن وذلك لعدة أسباب منها: أولها أن الحديث في موضوع تحديد مفهوم التاريخ ومفهوم الحضارة يجرنا، وبالضرورة إلى الحديث عن فلسفتهما، ثانيها وجود مقاربات منهجية وحقول معرفية متعددة تستعمل وتهتم بمفهومي الحضارة والتاريخ وموضوعهما، وثالثها تعدد التعاريف وتناقضاتها أحيانا التي أعطيت لهذين المفهومين يحول دون إعطائهما تعريفا دقيقا، شاملا ومانعا. لكن رغم هذه الصعوبات المذكورة وغيرها، فهذا لا يمنعنا من تجديد طرح الأسئلة التالية:
ما هو التاريخ وما هي الحضارة؟ وما هو إطارهما المنهجي والمعرفي؟ وأية علاقة يمكن أن توجد بينهما حاليا؟ هل من نماذج لكتابات قاربت مفهوم وموضوعة "تيمة" الحضارة من خلال الدراسات التاريخية؟
1 – إشكالية تعريف المفاهيم المركزية الثلاثة: تاريخ، حضارة، جدلية:
1-1-مفهوم التاريخ: أي تعريف؟
يقول عبد الله العروي إن ".. التساؤل حول مفهوم التاريخ أمر جوهري وتافه في آن. هذا ما قاله ابن خلدون وهذا ما نؤكده اليوم.. جوهري لأنه قائم أينما اتجه الفكر، وتافه لأن منفعته غير واضحة لكل فرد متخصص، الخطاب موجه في ظاهره إلى المؤرخ، لكنه في العمق يستهدف كل مفكر.."[1]. هكذا يؤكد العروي على أهمية البعد الإبستمولوجي لمفهوم التاريخ بالنسبة للمفكر قبل المؤرخ ما دام التاريخ في حقيقته هو المجال المفضل للفكر والتفكير العامين.
وعموما فإن التاريخ لغة يعني تحديد الزمن، وهي كلمة مشتقة من مادة ".. أرخ يؤرخ التي تعني الشهر في اللغات السامية القديمة كاللغة الأكدية واللغة البابلية واللغة الآشورية.."[2]. "وتطلق لفظة "تاريخ تارة على الماضي البشري ذاته، وتارة على الجهد المبذول لمعرفة الماضي ورواية أخباره، أو العلم المعني بهذا الموضوع.."[3]. فنحن نرى نفس اللبس حتى في اللغات الأجنبية: Histoire الفرنسية وhistory الإنجليزية وGeschichte الألمانية تستعمل الكلمة للمعنيين على السواء إذ يراد بكل من تلك الكلمات الإفرنجية حوادث الماضي وأحيانا أخبار هذه الحوادث؛ أو العلم الذي يحققها. وقد حاول بعض الباحثين في الغرب التمييز بينها، فأطلق بعض الفرنسيين مثلا كلمة HistoireH كبرى) على الماضي وhistoire h صغرى) على العلم الذي يدرسه. واحتفظ الألمان (بعضهم) بـ Geschichte للمعنى الأول Histoire للمعنى الثاني، ولكن العادة الجارية ظلت غالبة وبقي اللبس قائما. ولعل ذلك ناشئ عن شعور أصيل في الإنسان بالارتباط الدقيق بين معرفة الماضي والماضي ذاته[4] أي بين المعرفة التاريخية والكتابة التاريخية.
أما بصدد التعاريف التي أعطيت لكلمة/مفهوم التاريخ، فإن المتصفح للكتب والمقالات المهتمة بإبستمولوجية التاريخ كعلم، سوف يجدها تعاريف متعددة ومختلفة ومتناقضة فيما بينها حينا ومتكاملة فيما بينها حينا آخرا. وكأمثلة عن تلك التعاريف نورد ما يلي:
*تعريف ابن خلدون (عبد الرحمان): فهذا العلامة المتوفي عام 1406م عرف التاريخ في مقدمته الشهيرة على أنه "...في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيام والدول والسوابق من القرون الأولى.. وفي باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق.." [5]. هنا نرى أن ابن خلدون أخذ بقواعد الجرح والتعديل المطبقة عند أهل الحديث (صرامة النقد).
*تعريف كولينغوود: Collingwood: "التاريخ هو الماضي الذي يقوم المؤرخ بدراسته، لكن هذا الماضي ليس ميتا، ولكنه بمعنى ما ماضي لا يزال يعيش في الحاضر.."[6] . وبهذا الفهم يكون كولينغوود قريب في رؤيته لعلم التاريخ من رؤية Paul Veynne للتاريخ حيث يرى أن التاريخ هو نشاط عقلي يقوم به المؤرخ، فهو ماضي يحييه المؤرخ ويستحضره.
*تعريف كروتشه Croce (الإيطالي): ".. التاريخ بأجمعه هو تاريخ معاصر بمعنى أن التاريخ يتألف بصورة أساسية من رؤية الماضي من خلال عيون الحاضر وعلى ضوء مشاكله.."[7] . هنا كروتشه يلح على أن رؤية المؤرخ للماضي لا بد وأن تنطلق من إشكاليات وتحديات عصر هذا المؤرخ أو ذاك.
*تعريف إدوارد كار Edward carr: ".. التاريخ هو عملية مستمرة من التفاعل بين المؤرخ ووقائعه، وحوار سرمدي بين الحاضر والماضي.." [8] ولماذا لا نقول مع المستقبل لأن الزمان التاريخي هو ثلاثي في طبيعته الأصلية: ماض، حاضر ومستقبل، زمن مسترسل.
*تعريف هيغل Hegel: حسب هذا الفيلسوف الموسوعي فإن التاريخ عملية عقلية منظمة وخلاقة لظهور قيم جديدة.. "لكن التاريخ هو ليس الماضي والحاضر فقط، بل إنه المستقبل أيضا، مستقبل الإنسانية الحرة.."[9].
وبهذا الطرح ربط هيغل مفهوم العقل الحر بمفهوم التاريخ ربطا وثيقا، إذ أن تاريخ الإنسان عنده هو تاريخ التقدم البشري. كما أنه يمثل مراحل نمو العقل الحر للإنسان عبر الزمان.
*تعريف Henri Berr: ".. إن التاريخ في المفهوم العلمي هو البحث عن الأسباب التي أنتجت الحضارة منذ أقدم العصور ودفعتها قدما عبر الكثير من الأزمات.."[10].
*تعريف ريمون أرون Raymond Aron: ".. إن التاريخ هو سرد أو هو قصة الأموات يحكيها الأحياء..".
«L’Histoire est le récit ou l’histoire des morts racontée par les vivants..»[11].
*تعريف فرناند بروديل Fernand Braudel: ".. إن التاريخ هو الإنسان والباقي، وأن كل شيء تاريخ: الأرض والمناخ.. التاريخ علم للإنسان، لكن شريطة أن تكون علوم الإنسان بجواره.. والتاريخ أداة لمعرفة الإنسان في الزمان عبر المكان.."[12] يؤكد هنا بروديل على "جيو.. تاريخ Géo-histoire.
*تعريف د.عبد الله العروي: ".. التاريخ من صنع المؤرخ، معناه التاريخ المحفوظ، هو ما يرويه الحافظ.. التاريخ ينتهي عند المؤرخ، معناه المؤرخ لا يعرف إلا ما حفظ، يجهل بالتعريف غير المحفوظ أكان ذلك المجهول ماضيا أو مستقبلا.."[13]. فالتاريخ حسب منظور العروي هنا هو استحضار للماضي من طرف المؤرخ. وما دام أن هذا الأخير لا يمكن استحضار كل شيء فالتاريخ انتقائي في معرفته.
*تعريف تركيبي: ماذا يمكننا أن نستخلص من كل التعاريف السابقة أعلاه؟ إنها تعاريف متنوعة ومختلفة بتنوع واختلاف مشارب ومدارس وفلسفة المعرفين أي المؤرخين وفلاسفة التاريخ. ولكن إجمالا يمكن القول إن التاريخ في العمق هو دراسة الماضي البشري انطلاقا من حس نوعي بالزمان وبإشكالات عصر الدارس، أقول الماضي البشري لأنه لا محل للحديث عن التاريخ بالنسبة لغير الإنسان، "فالإنسان بدوره تاريخي لأنه إنما يعمل في الزمان ولا تاريخ إلا بالزمان. ومن هنا ارتبطت كل نظرية في التاريخ بنظرية في الزمان.."[14].
1-2-مفهوم الحضارة: أي تعريف؟
1-2-1-التطور التاريخي للمفهوم: ظهرت كلمة "Civilisation" في اللغة الفرنسية عام 1734 (عصر الأنوار) وينحدر أصلها من صفة Civilisé (متحضر) في القرن 17. وهذه الصفة منحدرة بدورها من فعل civiliser (ق 13) المشتق من الظرف civilement (ق14) ومن صفة civil (مدني/حضري في ق 13) المأخوذة بدورها من اللغة اللاتينية civilité (ق 14) وكذلك cité (مدينة/حاضرة في ق 11) المأخوذة من civitas[15]. وهكذا منذ البداية ارتبط مفهوم الانتماء إلى المدينة، إلى جماعة منظمة تمثل الدولة أو تقوم مقامها، قلت ارتبط دلاليا بمفهوم التهذيب. فالإنسان المدني، المهذب، الحضري هو أيضا الإنسان البورجوازي.
وهكذا أصبح مفهوم الحضارة يعني خلال القرنين 18 و19 حالة التحضر. والمتحضر هو الذي يحمل جملة الصفات المكتسبة خارج الطبيعة، مجموع الصفات والظواهر المميزة للعالم المتقدم الذي يمثله الإنسان الأوربي آنذاك. وبذلك انبنى مفهوم الحضارة على المركزية الأوروبية أي على هيمنة أوروبا على العالم سياسيا وفكريا واقتصاديا وثقافيا.. وأصبح معيار التقدم التكنولوجي هو الذي على ضوئه نصنف الشعوب ونقول هذه شعوب متحضرة ذات حضارة وهذه شعوب غير متحضرة أي فاقدة لأية حضارة. مما أدى إلى ظهور التعارضات الثنائية الضدية التالية:
مركز ديناميكي: منتج وهو معقل الابتكارات (أوروبا)
*التعارض بين
أطراف جامدة: مستهلكة بدون إنتاج (العالم غير الأوربي)
مجتمعات حارة: مندمجة في مسار تطوري قائم على تراكم الخبرات والابتكارات والعطاءات.
*التعارض بين:
مجتمعات باردة: متجمدة: تحجر وتخلف في العقليات وفي التقنيات والعادات.
مجتمعات تاريخية:سمحت لها كتابتها بالتقدم وتحقيق الطفرات والوعي.
*التعارض بين[16]
مجتمعات لا تاريخية: لا كتابة لديها وبالتالي لا تاريخ لها فهي مجتمعات ما قبل تاريخية: بدائية جامدة+المشافهة.
الحضارات التاريخية: عرفت الكتابة (بلاد الرافدين+الفراعنة..)
*التعارض بين:
الحضارات غير التاريخية:جاهلة للأبجدية (في إفريقيا،آسيا..)
الإنسان المتحضر: إنسان مهذب يعيش في المدينة
*التعارض بين:
الإنسان المتوحش: إنسان همجي يعيش في الغابات والأدغال[17]
الغرب: رمز التقدم والتحضر
*التعارض بين:
الشرق: رمز التخلف والبربرية Barbarisme
وفي هذا السياق يورد R .Kipling قولته الشهيرة:
"الشرق هو الشرق، والغرب هو الغرب، ولن يلتقيا أبدا.."[18].
مجتمع الطبيعة: شعب طبيعي بدائي
*التعارض بين:
مجتمع الثقافة: شعب ثقافي = متحضر
وبهذه التعارضات الثنائية الضدية التي حاول الغرب الأوروبي في القرنين 18 و19 بثها خارج محيطه القاري معتبرا أن الحضارة مرادف للتقدم المادي والتكنولوجي للشعوب، ومتمركز حول ذاته، وذلك بالقول بأن هناك حضارة واحدة ووحيدة في العالم هي حضارة أوربا الغربية. وعلى أرضية هذا الزعم/الادعاء افتتح الغرب الأوربي عهد الزمن الإمبريالي وسمح لنفسه بقيادة حملة استعمارية واسعة ضد الشعوب التي اعتبرها هو غير متحضرة وأنه هو المسؤول الوحيد عن حمل الرسالة الحضارية إليها ولو بلغة "الحديد والنار". (التوظيف الإيديولوجي لمفهوم الحضارة)[19].
أما في القرن 20 وبسبب عدة عوامل منها:
*مرور قرنين من الزمن على استعمال/توظيف كلمتي حضارة وثقافة.
*تقدم وتطور وكثافة الأبحاث الأنثروبولوجية والإثنوغرافية والأركيولوجية والتاريخية..الخ.
*انتقال مراكز الثقل الحضاري/التقني والاقتصادي إلى جهات أخرى غير أوروبية (اليابان + U.S.A + U.R.S.S + الصين..).
قلت بفضل هذه العوامل وغيرها اتسع مفهوم الحضارة مع القرن 20 وأصبحت الكلمة لا تقاس بمدى التقدم التكنولوجي والمعرفي/العلمي للمجتمعات فقط، إذ أضحت الحضارة كمفهوم تعني كل شيء في حياة الإنسان كما أن كل شيء يعني حضارة، فهي تشمل الروح والجسد، المادة والفكر معا. وبهذا الطرح الجديد أصبح لكل مجتمع حضارة معينة خاصة به، مهما كانت درجة نموه التاريخي.
1-2-2-تعاريف مختلفة لكلمة واحدة هي الحضارة:
رغم تقدم وكثرة الدراسات والبحوث التي اهتمت بموضوعة الحضارة في القرن 20، فإن هذا المفهوم لا زال "يتضمن معنيين، فقد يعني فكرة التقدم البشري بصفة عامة، وقد يعني طريقة من طرق العيش في مجال جغرافي محدد.."[20]. كما أن "..فكرة الحضارة لا تنحصر في مضمون تمثيلي، فهي تتضمن كذلك مضمونا قيميا contenu axiologique بتوجه أخلاقي يسمح للناس بخلق مبررات لتفضيل جانب ما في الحياة البشرية عن جوانبها الأخرى.."[21].
وانطلاقا من هذا الطرح فمفهوم الحضارة تختلف دلالته حاليا باختلاف الدول والمدارس والحقول المعرفية التي توظفه. لذا نجد Norbert Elias يقول بأن كلمة "..حضارة لا تحمل نفس الدلالة عند مجموع الدول الغربية. وهنا نسجل بالخصوص الفرق الشاسع في استعمال/توظيف هذه الكلمة ما بين الإنجليز والفرنسيين من جهة والألمان من جهة أخرى.. فهي عند المجموعة الأولى (أي الفرنسيين والإنجليز) تعني شهامة وأنفة الوطن وتقدم الغرب والإنسانية بوجه عام بينما تعني عند المجموعة الثانية (الألمان) الأشياء والمظاهر ذات المنفعة القوية مثل درجة وجود الحس الإنساني في السلوك البشري.."[22].
وكدليل على مدى اختلاف التعاريف التي أعطيت لمفهوم الحضارة نسوق ما يلي:
*تعريف Franz Boas الذي يرى أن: ".. الحضارة هي الكم المتكامل للأفعال والنشاطات العقلية والطبيعية التي تميز السلوك الجماعي والفردي للأفراد الذين يكونون مجموعة اجتماعية، بالارتباط ببيئتهم الطبيعية.. وهي تحتوي أيضا على منتجات هذه النشاطات ودورها في حياة المجموعة.."[23].
*تعريف Clyde Kluckhon ".. إنها (أي الحضارة) عملية تاريخية (التقليد الاجتماعي) نمطية أو اعتيادية (القواعد والقوانين والمثل) ونفسية (التعليم + العادة..) وأصولية (الأدوات والآلات والأفكار والرموز..)"[24].
*تعريف Tylor E.B.: وهو أشهر تعريفات الحضارة وأكثر اختصارا وشمولا حيث يعرفها قائلا: ".. إنها ذلك الكل المركب الذي يحتوي على المعرفة والمعتقد والفن والخلقيات والقانون والعادات وكل قدرات واعتيادات أخرى يكتسبها الإنسان كعضو في مجتمع.."[25].
يمكن أن نخلص من التعاريف المختلفة للحضارة على أن هذه الأخيرة أصبحت في القرن 20 هي كل شيء بما فيها من المنتجات الإنسانية المادية والفكرية والمعنوية لمجتمع معين كيفما كانت درجة ارتقائه في الزمن التاريخي (تاريخي، ما قبل تاريخي، قديم، حديث أو معاصر..) مما أدى إلى الانتقال من الحديث عن الحضارة بصيغة المفرد إلى الحديث عن الحضارة بصيغة الجمع، أي من الحضارة الواحدة (ق 18 و19) إلى الحضارات المتعددة (ق20).
1-2-3-الفرق بين مفاهيم الحضارة والثقافة والمدنية:
ما دام هناك من يخلط ما بين المفاهيم الثلاثة حضارة، ثقافة، مدنية، قد يكون من الضروري الوقوف لتحديد مفهومي الثقافة والمدنية بعد أن حددنا سابقا مفهوم الحضارة.
أ-مفهوم الثقافة: ظهرت كلمة ثقافة "culture ".. "في الفرنسية بمعناها الدقيق في ق 13، وتلتها في القرن 14 كلمات مثقف/زارع Cultivateur ومزارع agriculteur لكنها لم تكتسب معناها المجازي كمعرفة، كتربية، وعلم إلا في القرن 15 انطلاقا من مشتقاتها أيضا: cultiver، cultive، Inculte، وبشكل متواز يحتفظ المعنيان (زرع، ثقف) بكامل قوتهما، ولن يتمايزا إلا بصفتي cultural (القرن 19) وculturel (القرن 20)[26].
وحاليا هناك شبه اتفاق على أن الثقافة هي نتاج تراكمي لعدة قرون وأنها تعد عملا إنسانيا جماعيا يتضمن عمليات التدخل والتفاعل والتعديل (للطبيعة وللسلوك..). ومن أبرز التعريفات التي أوردها علماء الأنثروبولوجيا للثقافة نذكر:
*تعريف Kilpatric الذي يقول بأن الثقافة "هي ما صنعته يد الإنسان وعقله من أشياء ومظاهر في البيئة الاجتماعية، أي كل ما اخترعه الإنسان أو ما اكتشفه وكان له دور في العملية الاجتماعية.."[27].
*تعريف Kluckhon جاء فيه أن الثقافة هي "..وسائل الحياة المختلفة التي توصل إليها الإنسان عبر التاريخ، الظاهر منها والضمني، العقلي واللاعقلي، التي توجد في وقت معين والتي تكون وسائل إرشاد توجه سلوك الأفراد في المجتمع.."[28].
*تعريف نيلز Nilles يقول بأن الثقافة "هي جميع طرائق الحياة التي طورها الإنسان في المجتمع"[29].
*تعريف رجال التاريخ للثقافة: فقد فسروها قائلين بأنها هي "راسب التاريخ"، إذ ينظرون لها على أنها مجموعة عمليات تاريخية الأصل، تتراكم خلال السياق التاريخي/الحضاري أو تترسب في الزمان التاريخ. فهي تنمو وتنتعش وتترقى كما أنها قد تهاجر من منطقة إلى أخرى.
نستنتج من التعاريف السابقة للثقافة بأنها، بمفهومها العام، تعني التكيف وما تكشفه الثقافة من تدخل الإنسان في تعديل الطبيعة أو تحويلها بإضافة عناصر بشرية على الوجود الطبيعي. وعليه فكل إضافة بشرية على الوجود الفيزيقي أو العالم الطبيعي هي ثقافة. الثقافة بمعنى من المعاني هي الجانب الفكري والروحي لمجتمع ما ولحضارة ما. لذا فهي مرتبطة بلغة وبشعب معينين مما يسمح لنا بالقول إن هناك ثقافة فرنسية ضمن الحضارة الأوروبية وهناك ثقافة عربية ضمن الحضارة الإسلامية، فتكون الثقافة بهذا المنظور/المثال هي الجزء والحضارة هي الكل.
ب – مفهوم المدنية: عادة يقصد بالمدنية مرحلة زمنية/تاريخية زاهرة وزاهية من مراحل تطور الحضارة، وتتكون أساسا من تراكمات كمية زائدة في كم ومحتوى الحضارة (فائض في الماديات وتعقد في المعنويات (العقيدة والفكر والحرية..)). لهذا نقول مع Odoum H.W: "إن كل مدنية حضارة وليست كل حضارة مدنية.."[30] .
وهكذا يمكن القول بالمدنية الفرعونية، المدنية البابلية، المدنية الغربية المعاصرة بينما لا يحق لنا، حسب هذا التصور، القول بالمدنية الإفريقية المعاصرة.
1-2-4-أصناف/أنواع الحضارات:
يمكن إيجاد تصنيف للحضارات، ولو بشكل مبسط، بناء على عدة أسس، لكننا نرى أن الأساس الاقتصادي هو أوضح هذه الأسس لتميزه ووضوحه مقارنة مع غيره، وكذا لتميز ووضوح الأقسام الرئيسية للنشاط الاقتصادي في صورة مراحل تاريخية مختلفة (مصطلح المرحلة هنا يوظف بمعنى مرن). وعليه فاعتمادا على الأساس الاقتصادي تقسم الحضارات الرئيسية إلى 3 أنواع كبرى وهي[31] :
أ – مجموعة الحضارات البدائية: نعتها هنا بالبدائية يعني البداية وليس بمعنى التخلف كما يشاع. وتتميز هذه الحضارات باقتصاديات الجمع والصيد (إنتاج زراعي ورعوي بسيط: الزراعة المتنقلة) وبتنظيم سياسي مبني على أساس القرابة ويبقى فيه كبار السن هم منفذو القانون ضمن نظام قبلي بالأساس.
ب – مجموعة الحضارات العليا: وتتميز هذه بمعرفتها للأبجدية وتسجيل تاريخها بها، وباقتصاديات الإنتاج البسيط: الزراعة الكثيفة + المحراث الخشبي الذي يجره الحيوان بعد استئناسه + صناعة الفخار والحديد؛ وبنظام سوسيوسياسي من بين مميزاته: تمييز اجتماعي: الطبقة الحاكمة ضد طبقات الشعب + تكوين الدولة + حياة القصور + نشوء المدن + وظائف حكومية.
ج – مجموعة الحضارات المادية: وهذا الصنف من الحضارات يتميز بتوفره على اقتصاديات الإنتاج المركب+ الفلاحة والصناعة التجاريتين + تضخم قطاع الخدمات..إلخ.
هذا التقسيم يعتمده بشكل كبير علماء الأنثروبولوجيا الذين يدرسون حاليا الحضارة بمعناها الواسع في أية صورة كانت، وعلى المستويات الزمنية الممكنة. وكان بعضهم يميل إلى دراسة الحضارات البدائية أكثر من غيرها.
1-2-5-العلم الذي يختص بدراسة الحضارة: أنثروبولوجيا أم إثنولوجيا؟
إن العلم الذي يقوم بدراسة الحضارة للمجتمعات الإنسانية يختلف اسمه كثيرا بين المدارس المتخصصة وحتى بين الدول. ولعل هذا الاختلاف راجع إلى عاملين رئيسيين وهما[32]:
أ – اختلاف إسناد العلم إلى المسند إليه: هل يسند هذا العلم المهتم بدراسة الحضارة إلى الإنسان أم يسند إلى الشعب؟ فكلمة أنثروبولوجي مستمدة من الأصل الإغريقي Anthoropos بمعنى إنسان. أما كلمة إثنولوجي فهي من الأصل اللاتيني والإغريقي Ethnos بمعنى شعب أو سلالة أو أمة. هل ننسب هذا العلم إلى الإنسان هنا بصيغة المفرد فنكون في هذه الحالة أمام الأنثروبولوجيا Anthropologie أم ننسبه إلى الإنسان بصيغة الجمع ونكون في هذه الحالة أمام الإثنولوجيا Ethnologie؟ في الواقع إن:
ـ أنثروبولوجيا: كلمة انتشرت في اللغات الأنجلو ساكسونية.
ـ إثنولوجيا: كلمة انتشرت في مجموعة اللغات الأوروبية اللاتينية والجرمانية.
ب – اختلاف مناهج المدارس المتخصصة: وهذا ما يظهر في البلدان التالية:
*في إنجلترا: إن الأنثروبولوجيين الإنجليز يستعملون مصطلح الأنثروبولوجيا الاجتماعية لتركيزهم على جوانب التنظيم الاجتماعي مثل القرابة والزواج.. الخ.
*في الولايات المتحدة الأمريكية: يستعمل الأنثروبولوجيون الأمريكان مصطلح الأنثروبولوجيا الحضارية لتركيزهم على موضوع الحضارة عامة.
*في فرنسا: يستخدم مصطلح إثنولوجيا مع تشديد قوي على الموضوعات النظرية والفلسفية في موضوع الحضارة.
*في ألمانيا: يستخدم مصطلح إثنولوجيا (علم الشعوب Voelkerkunde) ويتم الاهتمام بالخصوص بالنواحي النظرية والفلسفية والمادية في الحضارة.
*في مصر: تتنوع التسميات التي تطلق على هذا العلم، لكنها كلها مرتبطة بالمدرسة الأنجلوساكسونية: فتارة يستخدم مصطلح أنثروبولوجيا اجتماعية وتارة أخرى أنتروبولوجيا ثقافية وتارة ثالثة أنثروبولوجيا حضارية.
رغم الاختلاف في اسم العلم الذي يدرس الحضارة كما رأينا، فالمهم هو أن يتم الاتفاق بين الدارسين على أن مضمون ذلك العلم هو دراسة الحضارة بجوانبها المادية والمعنوية في ارتباط واضح بالتفاعلات الداخلية بين عناصر الحضارة وتفاعلاتها الخارجية مع الحضارات الأخرى المعاصرة لها.
1-2-6-حقول البحث الحضاري:
يمكن تصنيف الأقسام الكبرى في الدراسة الحضارية للمجتمعات إلى حقول البحث التالية[33]:
*حقل التكنولوجيا أو الحضارة المادية: يهتم هذا الحقل بدراسة الأشكال المادية للحضارة في صورة وصف وتحليل كل المنتجات المادية للمجتمعات مثل: أنواع السكن+مواد بنائه+المخازن مظاهرها وأشكلها+الغذاء وأشكاله ومصادره وطرق طهيه وتناوله+دراسة أدوات الإنتاج+دراسة أدوات الزينة واللباس+مصانع الفخار والحديد..الخ.
*حقل النظام الاقتصادي: وفيه يتم التركيز على أشكال وخصائص النشاط الاقتصادي الذي تمارسه المجتمعات من صيد بري وأنواع الزراعات ودراسة نوعية الإنتاج: هل هو للاكتفاء الذاتي أم للتسويق؟ + دراسة أنواع التبادل الإنتاجي: مقايضة أم تجارة نقدية؟..الخ.
*حقل النظام الاجتماعي: يدرس نوعية وشكل التركيب الاجتماعي: تنظيم عشائري أم تنظيم قبلي.. ودور ذلك في تحديد أنماط السلوك الاجتماعي العام: الزواج والبنوة والطلاق… + أشكال الأسرة + نظم التربية والتنشئة الاجتماعية + النحت والتلوين + الهندسة المعمارية + الموسيقى + الغناء + المسرح والفولكلور عامة..الخ.
*الحقل التطبيقي: ويعد هذا الحقل أحدث فروع الدراسة الحضارية، وقد ظهر استجابة لمحاولة تطبيق المعرفة العلمية على المجتمعات التي تمر بفترات انتقال حضارية من أنماطها التقليدية إلى أنماط الحضارة الصناعية المعاصرة، وذلك بهدف ضمان قدر معين من صحة الانتقال الحضاري دون حدوث مآسي الضياع بين القيم والمكونات الحضارية القديمة والجديدة. أي باختصار، من أجل تخفيف صدمة الحداثة: تصادم القديم مع الحديث.
هذا التشتت في الحقول والمواضيع خلق تخصصات عديدة كلها تهتم بموضوعة الحضارة، وأحدث هذه التخصصات هو تخصص الأنثروبولوجيا الاقتصادية، كما فرض كذلك تعدد المناهج والمقاربات لموضوع الحضارة كما هو الحال بالولايات المتحدة الأمريكية وغيرها. ومن الملاحظ أن المغالاة في التخصص جعل البعض يخاف، وبشكل كبير، من تشتت وحدة علم الحضارة[34].
1-3-مفهوم الجدل/الجدلية: أي تعريف؟
اعتبر هيغل Hegel أن الجدل هو قانون الوجود والطبيعة والفكر والمجتمع، وكل هذه المواضيع هي في حالة صيرورة وتغير وتحول دائم. وقد تطور هذا الجدل المثالي الهيغلي إلى الجدل المادي على يد كارل ماركس الذي "يعتبر الظروف الاقتصادية أساسا للفكر، وأن المجتمع يتطور، وأن نقيضه يتولد منه في كل طور من أطواره.."[35]. وعلى هذا الأساس فالجدل يسعى إلى الوحدة حيث أن الواقع في عمقه متناقض وممزق. وبما أن الحضارة هي أساس وموضوع علم التاريخ فإن العلاقة الجدلية بينهما تهدف بالدرجة الأولى إلى تحقيق الوحدة بين الموضوعين أو على الأقل خلق تأثير وتأثر بينهما. وتاريخيا يمكن التأكيد أنه كلما تقدمت الحضارة البشرية في الزمان إلا وانعكس ذلك إيجابا على مادة التاريخ كموضوع وكمفهوم وكعلم والعكس صحيح. وهذا هو عين العلاقة الجدلية بين التاريخ والحضارة.
2 – الأنثروبولوجيا (الحضارة) والتاريخ: أية علاقة؟
2-1-إسهامات الأنثروبولوجيا في خدمة التاريخ:
في الواقع إن مناقشة أهمية نظرية التطور بالنسبة للتاريخ والمؤرخ تؤدي بنا حتما، ومباشرة، إلى مناقشة العلاقة بين الأنثروبولوجيا وعلم التاريخ خاصة مع مدرسة الحوليات Ecole des Annales ومدرسة التاريخ الجديد. ولهذا السبب يقول ماري إلمر بارنز[36] "..إن علم الأجناس البشرية "الأنثروبولوجيا" هو التاريخ الإنساني بأكمله الذي دعمته فكرة التطور، وأقصى ما يستهدفه موضوع التاريخ هو دراسة التطور الإنساني.." وفي نفس السياق يأتي د.جفري باراكلو ويقول لنا: "..على التاريخ أن يختار أن يكون أنثروبولوجيا اجتماعية أو أن يكون لا شيء.."[37]. وبهذين القولتين يتضح لنا أن العلاقة بين الأنثروبولوجيا وعلم التاريخ هي جد وطيدة خاصة منذ بداية العقود الأخيرة. من هنا تأتي مشروعية طرح السؤال التالي: إلى أي حد تساهم الأنثربولوجيا في تطوير وتحسين المعرفة والكتابة التاريخيتين؟ فيكون جوابنا أنه من بين إسهامات الأنثروبولوجيا للتاريخ نذكر ما يلي[38]:
*إن الأنثروبولوجيا هي العلم الوحيد الذي يستطيع أن يزود المؤرخ بالمعلومات الخاصة بالتطور المبكر للإنسان، وهو الشيء الذي لا غنى عنه في أية دراسة أصيلة لما يسمى بالتاريخ القديم وإعادة صياغة حضارته (اكتشاف حقائق الحضارة الفرعونية والبابلية مثلا عن طريق البحث الأنثروبولوجي).
*عن طريق الأنثروبولوجيا أصبح بإمكان المؤرخ معرفة روح النظم البدائية وسماتها النفسية التي لم تندثر أبدا، بمعنى أنه لا يوجد نظام سوسيوسياسي وثقافي معاصر لا يرجع أصله إلى جذور بدائية، وعليه لا يمكن فهم هذا النظام، بشكل دقيق وموضوعي، إلا بمعرفة كافية لجذوره. ومن الأمثلة على ذلك:
مثال(1): نظم الدين والجنس والحكم والأخلاق الحالية نلمس في أشكالها وصيغها جزءا من التراث البدائي الموغل في القدم. وبفهمنا لهذه الحقيقة يضيق مجال التعصب الوطني ودوائر الغزو الثقافي/الحضاري لأن ذلك الفهم يجعلنا ندرك أن "التقدم التاريخي" للمجتمعات نسبي.
مثال(2): لا تخلو نفسيتنا نحن المعاصرين من بعض الصفات النفسية التي نشارك فيها "الهمج والبرابرة" مع تعديلات وتغييرات نوعية مثل الاعتقاد بالسحر والأرواح الشريرة، وهذه سمات نفسية للشعوب البدائية لا زالت تعيش بل وتعشش فينا نحن المعاصرين.





    رد مع اقتباس