عرض مشاركة واحدة
قديم 2016-05-10, 10:52 رقم المشاركة : 7
صانعة النهضة
مراقبة عامة
 
الصورة الرمزية صانعة النهضة

 

إحصائية العضو








صانعة النهضة غير متواجد حالياً


وسام التنظيم المميز السيرة 1438ه

مسابقة السيرة 5

وسام المنظمة

وسام منظم مسابقة السيرة النبوية العطرة

وسام الشخصية الفضية

وسام المشاركة في الدورة التكوينية مهارات الاتصال ا

وسام المطبخ المرتبة 1

وسام لجنة التحكيم

وسام العضو المميز

افتراضي رد: أسس وأخلاقيات البحث العلمي عند البيروني بقلم د. بركات محمد مراد


ومن هذا الكتاب ومن غيره نعرف أن البيروني قد أدرك وظيفة اللغة وعلاقتها بالفكر, وأهمية تحديد كل لغة لمفاهيمها وتحديد كل علم لمصطلحاته, وإلا اختلطت الأفكار وتداخلت المعاني, وهو ما يعيبه على لغة الهنود مثلا : (( فإنهم يسمون الشىء الواحد بأسماء كثيرة جدا, والمثال بالشمس فإنهم سموها بألف اسم على ما ذكروا كتسمية العرب الأسد بقريب من ذلك .. وهم ومن شابههم يتبجحون بذلك وهو من أعظم معايب اللغة ))(59).


ويعلل لنا البيروني ذلك حين يحدثنا عن وظيفة اللغة الأساسية التي هى : (( إيقاع اسم على كل واحد من الموجودات وآثارها بموطأة بين نفر يعرف بها بعضهم عن بعض غرضه عند اظهار ذلك الأسم بالنطق. فإذا كان الاسم بعينه واقعا على عدة مسميات دل على ضيق اللغة .. وإذا كان للشىء الواحد أسماء كثيرة ولم يكن سبب ذلك إستبداد كل قبيلة أو كل طبقة بواحد منها, وكان في الواحد منها كفاية إتصفت الباقية بالهمر والهذيان والهذر وصارت سبب التعمية والإِخفاء ))(60).


ونظراً لإِجادة البيروني للكثير من اللغات كما رأينا, فقد إهتم بالترجمة اهتماما بالغا, وأولاها الكثير من عنايته وجهده, وهو يحدثنا عن ترجمة كتب الطب إلى العربية وأسباب ذلك(61), وينبغي على المترجمين العرب حين ترجموا كتب الفلسفة والعلوم اليونانية, في نقلهم لمصطلحات المنطق الأرسطي, وأسماء كتبه بألفاظها اليونانية, وعدم تعريبها حتى لا يشمئز منها عامة المثقفين الذين يستعملون مصطلحات المنطق ويتعاملون في محاوراتهم بها يقول : ((وها نحن نراهم يستعملون في الجدل وأصول الكلام والفقه طرقه, ولكن بألفاظهم المعتادة فلا يكرهونها, فإذا ذُكر لهم إيساغوجي وقاطيغورياس وباري أرمنياس وأنولوطيقا, رأيتهم يشمئزون عنه وينظرون نظر المغشى عليه من الموت. وحق لهم, فالجناية من المترجمين, إذ لو نُقلت الأسامي إلى العربية, فقيل كتاب المدخل والمقولات والعبارة والقياس والبرهان لوجدوا متسارعين إلى قبوها غير معرضين عنها ))(62).


وقد قام البيروني بترجمة العديد من الكتب الخاصة وأنه قد تعمق الكثير من العلوم على ما رأينا في القسم الأول من البحث, وأجاد كثيرا من اللغات, وحثه على ذلك أن الوثائق في تاريخ العلوم في عصره المنسوخة والموثوق بترجمتها ونسخها قليلة (( وأن الكثير منها نجدها في بلايا ))(63), فلم يدخر وسعا من أن يتولى الترجمة بنفسه, فقام بترجمة أمهات الوثائق والكتب الهندية واليونانية, وفي مختلف الفنون والعلوم. يقول البيروني : (( وكنت نقلت إلى العربية كتابين أحدهما في مبادىء وصفة الموجودات واسمه «سلنك», والآخر في تخليص النفس من رباط البدن ويعرف «بباتنجل»))(64) وهما كتابين هنديين.


كما ترجم كتبا أخرى للهنود يقول : (( مازلت أنقل من الهند كتب الحساب والمنجمين إلى أن أقع الآن على كتب مما يدخره خواصهم في الحكمة(65). ثم يتابع قوله : (( ولبرهمر كتاب «المواليد» صغير وكبير فسره بلبهدر نقلت أنا أصغرها إلى العربي ))(66). وقد ضاعت ترجمة البيروني لكتاب ((سلنك)) أو لم يكشف عنها إلى اليوم وأما ترجمة كتاب ((باتنجل)) فقد كشف عنها الأستاذ ((لويس ماسينيون)) في إحدى المجاميع المحفوظة في مكتبة ((كوبر)) في استامبول(67).
ويتمنى البيروني إعادة ترجمة كتاب (( كليلة ودمنة )) الذى ترجمه ابن المقفع من قبل, وهو عند البيروني غير أمين حيث يشكك في ترجمته ويدلل على ذلك بقوله : (( فإنه تردد بين الفارسية والهندية ثم العربية والفارسية على ألسنة قوم ألسنة قوم لايؤمن تغييرهم أياه كعبد الله بن المقفع في زيادته باب «برزوبه» فيه قاصداً تشكيك ضعيفي العقائد في الدين, وكرههم للدعوة إلى مذهب «المنانية», وإذا كان متهما فيما زاد لم يخل عن مثله فيما نقل ))(68).


وتتضح لنا إجادة البيروني للغة الهندية حين نراه يورد المصطلحات السنسكريتية وما يقابلها بالعربية في كتابه عن الهند, مما يستنبطه على قاعدة رسمها, يقول البيروني :
(( وذكراً من الأسماء والمواضعات في لغتهم مالابد من ذكره مرة واحدة يُوجبها التعريف, ثم إن كان مُشتقا يمكن تحويله في العربية إلى معناه, لم أمل إلى غيره, إلا أن يكون بالهندية أخف في الاستعمال فنستعمله بعد غاية التوثيقة منه في الكتابة )). وهو حريص كل الحرص على التثبت والتحقق في كل ما ينقل أو يقرأ, يتشكك في صحته (( وربما وقع في خلدي من جهة أرباب الكتب والأخبار أنهم أعرضوا عن الترتيب وأقتصروا على ذكر الأسامي, وأن النسّاخ تجازفوا فإن المعبرين لىّ بالترجمة كانوا ذوى قوة على اللغة وغير معروفين بالخيانة بلا فائدة ))(69).


بل ويصل الأمر بالبيروني في إجادة لغة كالسنسكريتية, أن يشرح قواعدها ويفرق بين ساكنها ومتحركها, ويبين كيفية كتابة مشتقاتها في أفعالها وأسمائها ومصطلحاتها الخاصة, ومن يتصفح كتابه (( تحقيق ما للهند )) يجد آلاف الكلمات والتعبيرات وكيفية نطقها وتصريفها, وقد رأى كتبهم الكثيرة وقرأها فدون أساميها في كتابة هذا, وقد أربت على عشرات المؤلفات والرسائل الهندية القديمة, التي قد لا نجدها سوى في هذا الكتاب.


ويكاد أن يكون للبيروني في فلسفة اللغة نظرية متكاملة يمكن الكشف عنها, لولا أن المقام هنا لا يتسع لذلك, ولكننا تلمّح إليها فحسب. ويقول البيروني مثلا عن لغة الهنود وصعوبة النقل عنهم : (( ثم هى مركبّة من حروف لا يطابق بعضها حروف العربية والفارسية ولا تشابهها, بل لا تكاد ألسنتنا ولهواتنا تنقاد لأخراجها على حقيقة مخارجها ولا آذاننا تسمع من لغتهم بخطنا لما نضطر إليه من الإِحتيال لضبطها بتغيير النُقط والعلامات وتقييدها بإعراب إما مشهور وإما معمول, هذا مع عدم إهتمام الناسخين لها وقلة إكتراثهم بالتصحيح والمعارضة حتى يضيع الاجتهاد ويفسد الكتاب في نقل له أو نقلين ويصير ما فيه لغة جديدة لا يهتدي لها داخل أو خارج من كلتى الأمتين ))(70).


ولكى ندرك مدى المُعاناة التي كان يجتازها البيروني في ترجماته هذه ومدى الدقة التي كان يتوخاها فلنستمع إليه وهو يقول : (( ويكفيك معرّفا أنا ربما تلقفنا من أفواههم اسما واجتهدنا في التوثقة منه, فإذا أعدناه عليهم لم يكادوا يعرفونه إلا بجهد, ويجتمع في لغتهم كما يجتمع في سائر لغات العجم حرفان ساكنان وثلاثة وهى التي يسميها أصحابنا متحركات بحركة خفيفة, ويصعب علينا التفوّه بأكثر كلماتها وأسمائها لأفتتاحها بالسواكن, وكتبهم في العلوم مع ذلك منظومة بأنواع من الوزن في ذوقهم قد قصدوا بذلك إنخفاظها على حالها وتقديرها ))(71).


ولم تكن ترجمات البيروني مقتصرة على النقل من اللغات الهندية إلى العربية, وإنما قام بترجمات إلى الهندية وخاصة فيما يصل بالعلوم الرياضية والفلكية يقوب فقمت بـ (( ترجمة كتاب إقليدس والمجسطي وأمليه في صنعة الأسطرلاب عليهم حرصا على نشر العلم وأنه يقع إليهم ما ليس لهم ))(72).


وقد قام البيروني بترجمة العديد من الفصول والأبحاث في مختلف العلوم فيقول في الصيدنة : (( وفي أيدى النصارى كتاب يسمونه «بُشاق شاهمي» أى « تفسير الأسماء »ويعرف أيضا «جهرنام» بمعنى أن كل واحد مما فيه مُسمى بالرومية والسريانية والعربية والفارسية. وكنت وجدت له نسخة بالخط السوري, وليس فيه شىء من الآفات المؤدية إلى التصحيف فنقلت مما فيه أكثره ))(73).


ويحدثنا عن كتب أخرى في علم الطب والصيدنة كان دائم الرجوع إليها فيقول : (( ووجدت من كل واحد من كتاب الحشائش المنسلك بتصاويره وكاهن أورباسيوس مكتوبا عند الأدوية أساميها بالخط اليوناني. فنقلتها منها مرفوقا بها. ولو ظفرت بباقي الكتابين كذلك لتم الأمر ))(74).


والبيروني في كل ما ينقل وما يترجم حريص كل الحرص في النقل والترجمة يقول (( وجميع ما أوردتع محصّل مما ذكرت, والمتروك ما لم يحصل لي منه لئلا يحملتي الجهل به على نقله من باب إلى باب آخر ))(75). وهو في تجربة الدقة العلمية, يعلم أن تبعه وجهده لا يذهب سُدا طالما ينتهي إلى الحقائق الموضوعية التي يحاول نقلها من أجل رُقى العلم ونمو صرح المعرفة : (( فمن تحقق الحال لم يلمني على مازال أكدح فيه أو أتحمله من أعباء الإِجتهاد في النقل ))(76).


وبذلك بلغ البيروني في تحديده للمصطلح العلمي, وفي ترجمته الكتب والمؤلفات مالم يبلغة أحد من علماء عصره ومنهم ابن سينا نفسه, المعاصر له ورفيقه مدة من الزمن ليست بالقصيرة, فإنهم كانوا يتعمدون على ترجمات سريانية وعربية دون الأصول الأولى في أغلب الأحيان, بينما وصلت الدقة والضبط بالبيروني أن يعمل قائمة بأسماء الكتب والوثائق والنصوص التي ترجمها ونقلها بنفسه والتي زادت على ستة عشر مؤلفا(77).


(3) أخلاقيات العلم عند البيروني
يتبع






التوقيع

أيها المساء ...كم أنت هادئ

    رد مع اقتباس