عرض مشاركة واحدة
قديم 2016-05-04, 18:57 رقم المشاركة : 1
صانعة النهضة
مراقبة عامة
 
الصورة الرمزية صانعة النهضة

 

إحصائية العضو








صانعة النهضة غير متواجد حالياً


وسام التنظيم المميز السيرة 1438ه

مسابقة السيرة 5

وسام المنظمة

وسام منظم مسابقة السيرة النبوية العطرة

وسام الشخصية الفضية

وسام المشاركة في الدورة التكوينية مهارات الاتصال ا

وسام المطبخ المرتبة 1

وسام لجنة التحكيم

وسام العضو المميز

c1 في ذكرى رحيل المفكر محمد عابد الجابري .. عندما يغيب الكبار


في ذكرى رحيل المفكر محمد عابد الجابري .. عندما يغيب الكبار





I

حلت أمس(3ماي 2016) الذكرى السادسة على رحيله عنا، ولا يملأ الفراغ الكبير الذي تركه في الحقلين الثقافي والسياسي غير العودة إلى ما خلفه من ذخيرة فكرية ثرية تجمع بين النقد والتحليل والبحث العميق في النصوص التراثية والحديثة المعاصرة، وبين المواقف المبدئية والعقلانية والواقعية من قضايا عالمنا المعاصر بتناقضاته وتحولاته الكبرى.


الراحل محمد عابد الجابري، المثقف/السياسي، هو اليوم ذلك الغائب الحاضر دوما فينا؛ فهو مرجع في أي بحث، وفي تناول أي قضية أو مفهوم، لأنه ببساطة يشكل أحد نماذج المفكر النسقي متعدد الأبعاد.


و"لو" كان اليوم بيننا وعاش "ثورات وخيبات" ما يسمى بالربيع العربي لأضاء لنا بقراءاته الفاحصة لمسارها ومعطياتها الكثير من الزوايا المعتمة والمساحات الرمادية فيها، وجادل مختلف القوى المحركة لها والفاعلة في تحديد وجهتها دون أية مهادنة منه للاستبداد سواء كان باسم المصلحة القومية أو باسم الدفاع عن الهوية في بعدها الديني.





II
في دراسة تحت عنوان المشروع الرباعي، كتب حسن حنفي بمناسبة الذكرى الأربعينية لفقيدنا الجابري:


"العزاء يقوم على ذكر ألمآثر، والدراسة تقوم على الحوار والمناقشة (...) والمهم هو تطوير الجابري وليس تقليده، إعادة قراءته، وليس تكراره، فتح المجال لأجيال (جابرية) قادمة لمناقشة المؤسس" (مجلة الدوحة-عدد 34- غشت 2010).



وفي السياق والمناسبة نفسيهما، كتب طيب تيزيني: "إن الوفاء للمفكر الراحل الجابري يعني، ضمن ما يعينه، متابعة ما أشعله من مواقف وقضايا"، معتبرا ذلك "واجبا فكريا وأخلاقيا وقوميا...".


إنهما شهادتان معبرتان في حق الفقيد، ودعوتان لمن يرى نفسه معنيا بمشروعه الفكري التنويري النهضوي إلى عدم تحنيط هذا المشروع، أو التعاطي معه بتجزيئية "نفعية" أو انتقائية إيديولوجية، وإنما بمواصلته، اجتهادا ونقدا وتعميقا لأطروحته وتوضيحا للأفق الذي رسمه لنفسه. "فلو قلد الهيجليون الشبان"، يضيف الدكتور حنفي، "هيجل وكرروه، كما فعل اليمين الهيجلي، لمات".


إن الطبيعة النسقية للفكر "الجابري" توفر أرضية ثقافية خصبة وصلبة لحوار حقيقي حول كل القضايا والإشكاليات التي تواجه مشروع النهضة المعاق في مجتمعات التأخر التاريخي؛ بحيث لا يمكن لأي باحث أن يتناول تلك القضايا خارج "الإرث الجابري" المتنوع ومتعدد الأبعاد والمقاربات، ولكن واحد الرؤية والأفق.


III
فعلى مدى ثلاثة عقود من البحث والتأليف؛ أي منذ صدور كتاب "نحن والتراث" سنة 1980، مرورا بالمشروع الرباعي حول نقد العقل العربي، وصولا إلى مشروع قراءة القرآن الكريم، نجد أنفسنا أمام مفكر نسقي يتبنى استراتيجية فكرية أطرت مختلف حلقات مشروعه الفكري المتنوعة، إنها إستراتيجية "إعادة بناء الذات العربية من داخل التراث العربي الإسلامي"، وعبر "الانتظام فيه" بعد تفكيك مسلماته ونقد مطلقاته، لأجل تجديد العلاقة به في أفق التوظيف الخلاق له في سياق حاجيات الحاضر وتحدياته التاريخية ومتطلباته الحيوية والمصيرية، وفي مقدمتها العقلانية والحداثة والديمقراطية.


يقول فقيدنا في هذا السياق:
"مشروعنا هادف إذن، فنحن لا نمارس النقد من أجل النقد، بل من أجل التحرر مما هو ميت ومتخشب في كياننا العقلي وإرثنا الثقافي. والهدف فسح المجال للحياة كي تستأنف فينا دورتها وتعيد فينا زرعها" (بنية العقل العربي- الطبعة الأولى- ص585).



إن "الانتظام في التراث" ليس، كما ظل يوضح ذلك في مختلف أبحاثه، "استسلاما لنظامه"، وإنما إجراءا منهجيا لأجل "تجاوز مطلقاته، فهو (التراث) ليس شيئا مضى وانقضى (...) فنحن قوم لم يتجاوزوا آباءهم بعد على الصعيد الثقافي"، (مواقف عدد 28 - يونيو 2004).


إن رفض الجابري لدعوات "القطيعة مع التراث "، ودعوته إلى منهجية "الوصل معه من أجل الفصل"، فرضا على المفكر الراحل تعبئة أدوات منهجية متنوعة، تسلح بها في عملية ذهاب وإياب شاقة من الحاضر إلى الماضي، ومن الماضي إلى الحاضر فاحصا النصوص القديمة والحديثة، مستنطقا الأحداث التاريخية المرتبطة بها، ومحققا في وقائع كل حقبة تاريخية بعينها، محاورا ومنتقدا أعلام ثقافتنا العربية الإسلامية، ومتسائلا حول المفاهيم الكبرى المؤطرة للفكر العربي المعاصر بهدف استجلاء مرجعياتها. فكما يؤكد الجابري في أكثر من مكان، "لا معنى للحديث عن أي شيء لا يرتبط بمرجعية، لا يستند إلى أصل".


وهكذا وفي مختلف مفاصل مشروعه الفكري، أولى الراحل عناية كبرى بمفاهيم خطابه (وخطابات الآخرين)، فهو لا يأخذ بها كمعطى جاهز ومباشر، وإنما يسائلها ويفككها ليوضح دلالاتها المعجمية في علاقة مع معطيات الإطار التاريخي والنسق المعرفي الذي تأسست داخله وانحدرت لنا منه. بمعنى آخر، كان الجابري حريصا في إطار النقد الإبسيمولوجي على النظر إلى المفاهيم من خلال تطورها في مرجعيتها مضفيا عليها طابع التاريخية والنسبية. وبهذه المقاربة المفاهيمية لمختلف الخطابات الفكرية، قديمها وحديثها، يمثل أمامنا الجابري بوجهين متكاملين متفاعلين:


وجه الباحث المتمكن من أدواته المنهجية والمحدد بدقة لأسئلته المندرجة ضمن وحدة الإشكالية، والتي يجوب بها بمختلف أروقة نصوص الثقافة العربية الإسلامية القديمة والحديثة والمعاصرة،


ووجه البيداغوجي المحنك والديداكتيكي المجرب الحامل دوما لهاجس التبليغ الواضح من خلال التفسير والشرح الميسرين لفهم المتلقي، دونما إخلال بعمق الموضوع المبحوث وللإشكالية المؤطرة له.


لقد قادت عناية الجابري بمفاهيم الخطاب، ونظرته إليها في دينامكيتها ونسبيتها وتاريخيتها، إلى قناعة عبر عنها في أكثر من مناسبة وترجمها إلى أعمال، وهي ضرورة تبيئة المفاهيم الحديثة في ثقافتنا، وتعني التبيئة عنده، كما يقول، "ربط المفهوم بالحقل المنقول إليه ربطا عضويا، وذلك ببناء مرجعية له تمنحه المشروعية والسلطة في آن واحد"؛ أي "بناء مرجعية له داخل الحقل المنقول إليه".


وقد خصص الراحل كتاب "المثقفون في الحضارة العربية" ليكون بمثابة تطبيق لعملية التبيئة. يقول في هذا الصدد "عمدنا قصدا في تحليلنا لمفهوم المثقف إلى سلوك خطوات تطبيقية بيداغوجية الطابع"، (ص14)، والهدف من ذلك هو إزالة ما يلف هذا المفهوم في الخطاب العربي المعاصر من لبس وضبابية، لكونه- يضيف الجابري- "لا يرتبط بمرجعية واضحة في الثقافة العربية الماضية والحاضرة" (الصفحة نفسها).


إن عملية التأصيل والتبيئة للمفاهيم الحديثة (الديمقراطية العقلانية، العلمانية ... إلخ) ولقيم الحداثة المعاصرة، كما باشرها الجابري في جل أعماله، دفعت الكثير من الباحثين والمهتمين بالمشروع الفكري للجابري الى إبداء عدة ملاحظات نقدية حوله، أوجز بعضها هنا بصيغة تساؤلية:


ألا تنطوي عملية التبيئة للمفاهيم الحديثة على ثنائية الأصالة والمعاصرة التي ظلت تؤطر وتأسر الفكر العربي الحديث والمعاصر؟ وكيف يمكن تأصيل مفاهيم الحداثة العقلية والفكرية والعلمية المرتبطة بفضائها التاريخي الخاص دون الوقوع في التوفيقية الفجة ذات الخلفية الايديولوجية؟ ودون السقوط في انتقائية تصيب الفكر بالتأرجح والارتجاج "والهشاشة" في ظل الاختلاف الجذري بين فضاء الحداثة الأوروبي، وبين فضائنا التاريخي والثقافي الذي مازال مستعصيا على استيعاب أسسها (أي الحداثة) والتمثل الخلاق لنتائجها وقيمها؟


ألا يقتضي النقد الإبستيمولوجي للتراث نقدا جذريا لبديهيات العقل العربي الإسلامي ومسلماته، وللمحتوى المعرفي للفلسفة أو الميتافيزيقا التي تأسست عليها تلك البديهيات، بدل التعامل معه من زاوية التوظيف الإيديولوجي البحث، تحت ضغط حاجات الحاضر المأزوم والمتردي "للذات العربية "؟


كيف يمكن نقد الحداثة الأوروبية ومفاهيمها وقيمها من جهة، ونقد الذات التاريخية العربية الإسلامية من جهة ثانية دون السقوط في النزعة الانتقائية، كانتقاء مثلا ما يجوز تبيئته من مفاهيم الحداثة، وما لا يقبل أو لا يجوز تبيئته، فالعلمانية عند الجابري مفهوم يستحيل نقله أو إيجاد مرجعية له في ثقافتنا، لهذا دعا إلى الحاقها أو"تذويبها" في العقلانية والديمقراطية.


يقول في هذا الصدد، بوضوح ما بعده وضوح: "ما زلت أؤمن بأن العلمانية بالنسبة للحضارة العربية الإسلامية موضوع التباس، فالمفاهيم في النهاية فائدتها قائمة في إجرائيتها، ومفهوم العلمانية بدون وجود كنيسة فيه كثير من الالتباس"، ويضيف جازما بعدم صلاحية مفهوم العلمانية واستحالة استنباته في ثقافتنا وفي بناء الحداثة السياسية:


"أعتقد أن المناداة بالعلمانية في المجتمع العربي الاسلامي يشبه المناداة بالخلافة والإمامة في أوروبا" (حوار مع مجلة الآداب البيروتية-مارس 1996 ومواقف ع 28)،



وعليه فإن ما ينبغي التطلع والعمل من أجله هو عدم توظيف الدين في السياسة، حسب الجابري، أما فصل الدين عن الدولة، كما في السياق الأوروبي، فذلك، كما يقول، "لن يجد له قوته الإجرائية" (المرجع نفسه)،


أليس موقف الجابري هذا من العلمانية تعبيرا عن المآزق المعرفية والمنهجية والثقافية لدعوة "تأصيل الحداثة"؟


إذا كانت قيم الحداثة كما، يؤكد الجابري، قيما إنسانية كلية عالمية، ألا يصبح المدخل إليها هو الحداثة ذاتها، العقلية والفكرية، والتي تضم في جوفها تراث العرب والمسلمين وإنجازاته الكبرى، وفي مقدمتها العقلانية الرشدية التي تشكل مرجعية أساسية للحداثة العقلية والسياسية الأوروبية، ونقطة التقاء بين الحضارتين العربية الإسلامية والأوروبية المسيحية؟


إنها تساؤلات من بين أخرى، تؤكد أن الراحل الجابري ما زال حاضرا، ينفث روحه النقدية فينا، ويحفز على التفكير والنقد والتساؤل. وكيفما كانت قوة بعض الانتقادات التي تناولت المشروع الفكري العقلاني للراحل، سواء على المستوى المنهجي أو المعرفي والإيديولوجي، فإنها لا تنقص من قيمته ونوعية إضافاته التنويرية في التراكم الفكري والثقافي الهادف إلى ما كان يدعو إليه: "كسر بنية العقل المنحدر إلينا من عصر الانحطاط"، و"التخلي عن الفهم التراثي للتراث"، و"إعادة بناء الذات العربية والإسلامية" على أسس العقل والحرية والديمقراطية بما يصالحها مع ماضيها وحاضرها ويفتح أمامها أفقا تاريخيا جديدا.





جليل طليمات
الأربعاء 04 ماي 2016 -






التوقيع

أيها المساء ...كم أنت هادئ

    رد مع اقتباس