عرض مشاركة واحدة
قديم 2015-07-12, 22:33 رقم المشاركة : 1
محسن الاكرمين
أستـــــاذ(ة) ذهبــــي
 
الصورة الرمزية محسن الاكرمين

 

إحصائية العضو







محسن الاكرمين غير متواجد حالياً


وسام المشارك في المطبخ

وسام المشارك

a2 صعاليك الخواسر الجدد .


صعاليك الخواسر الجدد .


صغر مساحة المنزل جعل من الأسرة ذات عدد إخوة يوسف تتقاسم مرافق المنزل بعرف وضع اليد والأسبقية العمرية . من باب الدار تظهر علامات خليط الأجيال الجدة والتي تجاوز سنها العمري المائة سنة ،والحفيد الأصغر ذو السنة الأولى . الأب يمتهن الحرف باختلافها ولا يعنيه إلا توفير دخل يغطي به مصاريف الفريق الأولمبي المنزلي .
في الزاوية الصغرى اليمنى من الغرفة الثالثة ترتكن آية جالسة ، إنها ثانية إخوتها بالترتيب . آية هو الإسم ، مع أنه يغطي مساحة ذات المسمى من حيث سحر جمالها وانسياب شعرها ،وسلطة عينيها كتاريخ وثق الكلمة لكل أزمنة شعراء الغزل . خفة روحها الخدومة جعلت منها كالعصافير التي تطير بين أركان المنزل فتبعث فيه الدفء والسكينة ، ملمحها الأملح بالحسن لا يخفي قيمة رصيدها المعرفي الثقافي فهي تعشق الفكر وتمتلك نهم القراءة والكتابة .
رفعت مسامع رأسها إلى الأم التي جاءت تستنجد بها من شغب الإخوة، إنها تلعن سياسة تكثير سواد الأمة بالإنجاب وقلة حيلة اليد .ابتسمت آية ولم تبح بأية كلمة للأم المسكينة لكي لا تزيد من طين البكاء بلة لأنه حاضر في عيونها بالدوام . استدارت الأم ولا زالت كلماتها المشفرة غير مفهومة بالتداول تعم المكان . همت آية بالنهوض واقفة ولسانها يعدد أسماء إخوتها المشاغبين من زيد إلى عَمرُ. فيما لا يزال الصياح يعلو المكان وصداه يُسترجع من الشارع .
وهي منتصبة القامة كالحرس الجامعي "الأواكس/نسبة إلى طائرات التجسس الأمريكية " تذكرت أيام الجامعة لأن إخوتها كونوا حلقة وهم صياح بترديد لازمة " بالروح ... بالدم ... نفيدك يا كوديم ... " وفي الوسط قعد المشاكس الرافض لعملية كم الأفواه من صياح البراءة الشبابية العاشقة للفريق الغريق بمدينة مكناس .
تذكرت آية الشعارات الجامعية الرنانة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية وقوة المدفع وأنها لن تركع أبدا...ابتسمت من ركعتها المعطلة بزاوية البيت الصغرى تلعب على هاتفها النقال لعبة القراصنة ... وصلت إلى محجة وسط الدار . فيما الإخوة المناضلون خوفا أو احتراما تراجعوا إلى الخلف و كلامهم المباح لا زال يسمع " كوديم ...كوديم ..." . لكن المفاجأة الكبرى أن الصغار دفعوا بها إلى حلبة النقاش التقدمي /الكروي " الحلقة " مستعملين لغة الخواسر بسيوفهم الخشبية وأعلنوا خضوعها عنوة لولاية الطاعة والانحناء ، فلم تركب آية العصيان المدني ولم تنخرط في حركة 20 فبراير، بل انخرطت طواعية بأوامر سيد القوم مادامت من الرعية المعطلة المكفوفة الأيدي والتفكير . سيد قوم الخواسر قال لها : انبطحي أرضا و" اسرطي " لسانك ، لقد طلعت لنا القردة إلى السطح من وضعية الفريق الكوديمي المتأزمة " ، هنا لم " تسرط " / تبلع آية لسانها وأعلنت الثورة على ضحك الخواسر الصغار ، صياحها هز المكان رجفة فآوى النمل الصغير إلى جحوره للإختفاء خوفا من دوس رجلي آية لهم ...
التفت آية بعينين تمسح بهما المجال العلوي السماوي وتؤثث رؤية الموضع المكاني بالحركة البطيئة دون ارتداد الطرف . لأول مرة تُشاهد الدموع تغزو العيون العسلية لآية وكأنها تعرض لقنابل الخواسر الصغار المسيلة للدموع ،لأول مرة وقع أمر الأوامر بالانبطاح أرضا ،لا ثم ألف لا . تفكيرها المعياري حلحل عليها وقع المصطلح ذو سلطة سياسة الخواسر الكبار بحجم الصعاليك الجدد . أحست بعمق وجدانها الداخلي الشبابي يهتز عرشه وكأنها تعيش لحظة موضع تحت حذاء القهر ، أحست أنها لا تساوي إلا تلك الزاوية المنغلقة بغرفتها بمساحة شراكتها بالأرجل مع أختها الرابعة عند النوم ليلا . دوخة التفكير استحضرت من خلالها بالتوالي سرعة مراحل عمرها السجينة بالعطالة الإجبارية ما بعد التخرج من الجامعة بشهادة يتيمة .
في ظل فورة تضارب الآراء الداخلية والحنق على لازمة الوضعية الاجتماعية المنكسرة ، مكنت لها أمها دون كلام أخاها الأصغر مع البكاء والعويل يعلو بالتناغم الموسيقي ويسكن المكان ، والرائحة النتنة تعطر جو المنزل ...فهمت آية القصد واتجهت بأخيها صوب الغرفة وفتحت النافذة بصغر حجمها وشرعت في تنظيف الأخ الصغيرة وهي تلعن الوضع المأزوم بمملكة الفوارق الاجتماعية .
اليوم حر، والجو العائلي صفاؤه عكره كلام الصعاليك /الخواسر الصغار. المسألة عند آية لم تنته بل أرجعتها إلى القاموس اللغوي وما ورد في شأن الانبطاح ،إنه لباس ثوب المسكنة والذل ،إنه الحركة البوليسية للصعاليك الجدد ولو بسيوفهم الخشبية والمطالبة بالاستلقاء على البطن والوجه موال للأرض ... إنه وضعية سلب الكرامة والعدل والحرية .
لم يعم السكون تفكيرها ولم يتوقف إلا بقبلة حنان من الجدة . هنا كومة الغضب بدأت تتمدد ، وبشائر الانشراح على ملمح آية تسترجع مكانها وسلطة الابتسامة سكنت الشفاه الشبابية ... ضحكت الجدة من نزق سرعة قلق الجيل الحديث لأنها كانت تتابع الأحداث ...أمسكت الجدة بيد آية وتوجهت بها صوب الصٌوان ، فتحته بعد أن بسملت بصوت خافت وأخرجت منه صندوقا خشبيا يطبعه النقش البلدي ... لأول مرة آية ستتطلع على محتويات ما بالصندوق ...عقلها طار كياسمينة /السندباد نحو الكنز الذهبي ... جلست الجدة بأمان فوق سريرها وشرعت في تفكيك قن القفل الحديدي بمفتاح معلق في رقبتها ...الوضع يزداد فرجة من طرف آية والعقدة الأساسية لصندوق الجدة لازالت قائمة ، طالبت الجدة حفيدتها بإغلاق باب الغرفة ... الأمر عند الجدة ليس في القيمة المادية لمحتويات الصندوق وإنما في دلالاتها التاريخية . وقعت الإطلالة الأولية على محتوياته ،حيث شرعت الجدة في شرح مرجعية كل تحفة تاريخية توجد به من عقد زواجها والموقع من طرف الفقيه الطاهر البعاج المرشيشي قاضي محلة مكناس المدينة ، إلى خاتم زواجها الفضي ... إلى سبحة جدتها المصنوعة من خشب العود المشرقي... إلى جلباب عرسها ولثامها . هنا توقفت الجدة بتنهيدة عن الزمن الماضي البهيج وكأنها تلقي بتغريدة "يا ليت أيام الشباب تعود يوما فأحكي لها بما فعل المشيب..." . دفعت الجدة بالجلباب واللثام إلى آية راغبة منها أن تلبسهما . ومن خلال ملمح عيون الجدة الغابرة في الماضي قبلت آية العملية بدون تردد ، إنها نوستالجيا الذات عند الجدة .
انتباه الحفيدة تشتت تركيزه قليلا ، لكن معزة الحب التي توليها لجدتها لن تقابل بالرفض لطلبها البسيط . ثم تداركت الأمر بالتساؤل : لكن جدتي أنا لا أعرف كيف أضع اللثام على وجهي و"القب " على رأسي ؟.هنا تدخلت الجدة بحلو الكلام لا عليك سأزين مشهدك .
وبعد عدة محاولات من الجدة والحفيدة استقام اللباس ، والله يشهد وكأن الجلباب قد فصلت خصيصا لآية ... هنا استرجعت آية دروس الفكر في مدرج المولى إسماعيل بكلية الآداب بمكناس ،تذكرت محاضرات الأستاذ الميلودي شغموم وكلماته المدوية لبناء مفهوم حداثة الفكر "... نحن نعيش الحياة فإننا لا نكف عن تغيير الأقنعة وتبادلها. بعض هذه الأقنعة للصدق أو الكذب، للترائي أو التخفي، *****انية أو طلب السلامة، للشجاعة أو الجبن، للأمان أو الخوف،...لكنها جميعها للتنكر، لإخفاء شيء وإظهار شيء آخر...".
صياح الخواسر الصغار بعد فتح باب غرفة الجدة هو ما أفاقها من استنجادها بالماضي وتركه قبل أن يحكم سلطته عليها بالكبس .إخوتها الخواسر الصغار تراجعوا إلى الخلف خوفا، إلا لسانهم فهو سليط بحجم فساد ألسن الصعاليك الكبار "انظروا ماما غولة ..." لا إنها " جرادة مالحة ..." خلف اللثام وفي قرار عمق نفس آية فهي تبتسم من تعليقاتهم ، لكنها أحست بسلطة اللباس اللحظية ...هنا قررت لعب دور الفزاعة وتقليم أظافر معارضة الصعاليك ولو بالتخويف والكلام "الحامض" من طينة تخاطب الخواسر الكبار بالبرلمان . خطت خطوة إلى الأمام ،وأشارت إليهم بالصمت التام ... فالتزم الجمع مكانه ، وأُغلقت الأفواه ....يا لعزة ثوب الماضي إنه يحكم الحاضر ويسكته ... تحمست آية للعبة أكثر وأمرتهم بالإنبطاح . تحقق فعل الأمر بلا تردد أو معارضة ، ثم أوحت لهم بالهرولة مقتبسة أحد مفرداتهم " تلاحو" فانفضوا في سكوت تام من حول مكان حكمها تاركين لها اليد الطولى في اتخاذ القرارات الموالية بديكتاتورية سلطة الماضي ...
رجعت آية عند جدتها بعد أن كشفت عنها حجاب اللثام ، وهي فرحة لإحكام قبضتها التامة على مجتمع البيت من خلال جلباب ولثام فقط ،ثم سألت آية جدتها عن السر الكامن وراء خوف إخوتها " الخواسر الجدد " . لم تكلف الجدة نفسها عناء التفكير ولكن أمدتها بنتف من القول يستدعي دائما التركيب ووضعكم في مرمى غايته .الحكمة يا صغيرتي هي أن الماضي سلطته ازدادت بقوة الظرفية التاريخية المصيرية ، أن الماضي سيحكمنا ولو عبر الصور المزيفة والمقنعة بالأدلجة المرحلية السائدة ...،أن الماضي يمثل الحاضر ويستمد قوته من انتكاسات المستقبل المتلاحقة .
اندهشت آية من أثر تجربة (الجلباب واللثام ) التي دفعت بها الجدة ،وكأن الأمر مسرحية سياسية معاشة . ومن دقة نتف كلام الجدة الحكيم . ثم استولى على تفكيرها العيش في ظل الماضي بجلباب الجدة ولثامها ، أم الانكشاف الواقعي على الحاضر وسطوته المعرفية وإيجاد الحلول لموقع قدم هادئ ووازن .
الآن الجلباب عصاه السحرية أسكتت الخواسر الكبار في أمكنتها رغم مرجعتهم التاريخية في لعب دور صعاليك المملكة .الآن وليس غدا قررت آية إرجاع الجلباب واللثام إلى الجدة ، وحملت على عاتقها توضيب كل أمور الماضي داخل الصندوق المنقوش وإحكام سده ، هو قرار إن وصفناه بالتاريخي فإننا نعوم كلامنا ونكذب على بعضنا البعض ... لأن الصندوق حاضر بيننا في تفكيرنا في ممارساتنا في أقوالنا . إنه العلبة السوداء التي تحكم علاقاتنا جميعا وكفى ... وإن أغلق .
عند متم باب غرفة الجدة لاحت آية لإخوتها فعم الصياح مرة ثانية وتحلقوا حولها ...عرفت مقصدهم الطفولي وراحت تلين لسانهم من كلام الخواسر الكبار ... (يتبع).



ذ محسن الأكرمين / مكناس : [email protected]






    رد مع اقتباس