عرض مشاركة واحدة
قديم 2015-05-23, 05:14 رقم المشاركة : 2
بالتوفيق
مشرف منتدى التعليم الثانوي التأهيلي
 
الصورة الرمزية بالتوفيق

 

إحصائية العضو







بالتوفيق غير متواجد حالياً


وسام الرتبة الثانية  في مسابقة القرآن الكريم

المرتبة الأولى في مسابقة صور وألغاز

وسام المرتبة الأولى للمسابقة الرمضانية الكبرى 2015

بالتوفيق

افتراضي رد: غلبة الحفظ والدفتر


تتمة


منظومة تعليمية مأزومة

وأزمتها، كما نرصد ونعلم، هي أم الأزمات من حيث إنها تمس قطاعا هو بمثابة عصب التنمية ونخاعها الشوكي، إذ لا تنحصر في الحاضر وحده، بل تقبض على ناصية المستقبل المنظور وترهنه، وتؤثر سلبا على وضع الثقافة ووظائفها، وعلى مجتمع المعرفة المنشود ذاته. ومن مؤشرات ذلك في الشق الذي يعنينا هنا حصريا: غلبة "ثقافة" الدفتر والحفظ عن ظهر قلب لمضامين المقررات، من دون حرص على تجنب طرائق الاختزال والإدغام والبتر، ولا مراعاة شروط الفهم والمجادلة بالاعتماد على أمهات المراجع وكتب التيسير. وهذا واقع ممض يقر به جمهرة المدرسين عن تجربة ومعاينة. وهؤلاء لو قرأت عليهم ملاحظة بذلك المعنى لابن خلدون عن طلبة عصره لقالوا جميعا بجدتها وراهنيتها، وهي: «فنجد طلبة العلم بعد ذهاب الكثير من أعمارهم في ملازمة المجالس العلمية سكوتا لا ينطقون ولا يفاوضون، عنايتهم بالحفظ أكثر من الحاجة». ويترتب على هذا الوضع في المحصلة تخريج أفواج تلو أخرى من ضيقي الصدور والرؤى، ومن ذوي العلاقات السطحية بالثقافة والإنسانيات، والميالين إلى الانطواء على الزاد المعرفي الزهيد الأدنى، وبالتالي إلى اتخاذ مواقف الدوغمائية المتشنجة من قضايا الفكر والسياسة وأمور الحياة والدين، التي لا يطيق حملها وتدبيرها إلا أهل الدراية والمعرفة الواسعة...


وتبعا لذلك فإن نظام التعليم العمومي الذي تُرصد له الدولة أضخم ميزانياتها بمئات ملايير درهم، بات يمنح شهادات تضاءلت في الغالب عبر السنين قيمتها في سوق التوظيف والشغل، فأمسى وضع جامعاتنا بكل تخصصاتها تقريبا يشكل أبلغ تعبير تركيبي عن صعوبة تلك الحالة المستفحلة عاما تلو آخر، ساهم في تكريسها وترسيخها مسؤولون متعاقبون وأطر تدريس مقصِّرون متهاونون، وأيضا الطلبة المستسهلون والانتهازيون. فأضحينا أمام معضلة صلبةِ النشأة، معقدةِ المفاصلِ والخيوطِ، متناسلةِ الآثار والعواقب: فلا القطاع الخاص يقبل توظيف المتخرجين، ولا هؤلاء يبغون بديلا عن القطاع العمومي لكونه في ظنهم الأضمنَ والأريح، ولا الوظيفة العمومية المكتظة تستطيع ماليا استيعاب أفواجهم المتكاثرة سنويا. وهكذا فإن معضلة التعليم إن استمرت على هذه الحال من التفاقم والدوران في حلقات فاسدة، فستهدد مستقبل التنمية نفسها ورهاناتها، وتجعل مغرب الغد ومرافقه العمومية بين أيادٍ قاصرة وسواعد منكسرة، فيُحدث ذلك اطرادا في نزوح أفواج من الكفاءات إلى البلدان الغربية أو استفرادَ القطاع الخاص بما يكفيه منها.


إن المغرب المستقل جرّب عبر حكوماته ومجالسه العليا المتعاقبة كل الأوراق والخيارات، الحزبية منها والتقنوقراطية، جرب المغرب ذلك واختبر، إلا أن أم الأزمات ما زالت تراوح مكانها بل تسوء، ولا شيء في الأفق يشير إلى ما قد يخفف من وطأتها وتصاعدها. وقد أقر مؤخرا الوزير رشيد بلمختار (التقنوقراطي) نفسه بفشل منظومتنا التعليمية على إثر تقرير لمنظمة التعاون الاقتصاد والتنمية يضع المغرب في مرتبة متدنية (73 من بين 76 دولة)، وذلك بناء على مقياس الجودة ونتائج التحصيل المدرسي، وقد مسَّ حتى مواد العلوم والرياضيات. فهل نكبّر أربعا على تعليمنا؟ وهل ينفع في تدبير الأزمة إعلان حالة الطوارئ أكثر مما حصل في "الخطة الوطنية للتنمية البشرية" أو في "البرنامج الإستعجالي" المنصرمة عهدته؛ أم هل تنفع الزيادة في خوصصة القطاع (ولو ضدا على العدالة الطبقية ومن دون ضمان حصول الإنقاذ؛ أم هل يحسن تحويل وزارة التربية والتعليم كليةً إلى وزارة سيادة تأخذ على كاهلها الشأن التعليمي كيما تكون فيه اليد الطولى من باب التقرير وإنجاز الإصلاح الضروري؟
ظاهرة تردي القراءة والتحصيل، ولا يختلف على واقعها المتتبعون والمهتمون، من مؤلفين وطابعين وموزعين وباعة. ظاهرة تعبر عن فشوها وفداحتها بلاغة الأرقام وحجيتها في سوق الكتاب من كل الأصناف وفي مختلف الحقول والمواد، حتى إن حملات التحسيس التي قد تنظمها موسميا وفي مناسبات وزارات وبعض المؤسسات والجهات لتبدو هي وشعاراتها "عشق القراءة"، "خذ الكتاب بقوة" وسوى ذلك، عبارة عن صيحات في واد بلا مردودية ولا تأثير. إن تلك الظاهرة باتت إذن معطى بنيويا متناميا ينخر المشهد التعليمي والثقافي، ويستدعي دراسات ميدانية وتحليلية، نطَّلع على بعضها بين الفينة والأخرى في منابر صحافية، أو في تقارير مخصوصة، كالتي صدرت منذ مدة عن الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي fades، فتصعق بكشوفها ونتائجها أو تقابل بموقف الاستخفاف واللامبالاة. وذريعة بعض من يتبنى هذا الموقف الثاني هي أننا دخلنا زمن ما بعد المكتوب والكتاب، أي زمن الوسائطيات المتعددة من السمعي-البصري والرقمي وتكنولوجيات التواصل المتطورة. وإن كان فضل هذه الوسائطيات لا ينكر في مجال تحصيل المعلومات وتداولها في وقت سريع قياسي، فإننا لا نتثقف بها ولا ننمي الملكات من ذكاء وخيال وذاكرة وحساسية، والتي في نطاقاتها لا تعويل إلا على الكتاب، ولا غنى عنه ولا بديل. وبناء على هذا الثابت المؤسس للثقافات الإنسانية عبر كل العصور والأمكنة، لا بد لنا اليوم من أن نضع قيد التأمل والبحث مجمل العواقب المأساوية التي تتمخض عنها أزمة القراءة وتهدد على نحو سرطاني قنوات التلقين والتواصل وأنسجة الثقافة والمعرفة.





التوقيع

    رد مع اقتباس